www.islamweb.net/ar/

منطلقات الدعوة للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تقوم على أسس ومنطلقات لا بد للداعية أن يكون على علم بها، ليطبقها في دعوته، حتى تؤتي هذه الدعوة ثمارها المرجوة. وهذه المنطلقات هي: العلم والحلم والصبر، فعلم يسبق الدعوة، وحلم يكون أثناءها، وصبر يكون بعد القيام والبدء بها، ولا يعني هذا بقاء الصبر فقط في آخر المطاف، وانتهاء كل من العلم والحلم، بل إن هذا للترتيب فقط، فإن ما كان أولاً يجب أن يستمر آخراً.

    منطلقات الدعوة: أهميتها وتعدادها

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإن الله عز وجل قد بعث رسله مبشرين ومنذرين، فأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الرسل أشرف المهمات، وهي مهمة إرشاد الخلق إلى طريق الحق، مهمة تذكير الناس بربهم وتعريفهم بحقوقه سبحانه وتعالى، وتذكيرهم بلقائه عز وجل.

    ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبيين وخاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نبي بعده فقد ورثت أمته من بعده هذه المهمة العظيمة، فكانت وظيفتها هي وظيفة أنبياء الله سبحانه وتعالى في التذكير بآيات الله وتعليم الناس الكتاب والسنة، وفرض الله عز وجل عليها أن تكون معلمة للأمم كلها وشاهدة عليهم، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فالله عز وجل جعل مهمة الأمة الشهادة على الأمم، كما إن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد عليهم، إنما كان شهيداً عليهم بما علمهم وبلغهم وذكرهم وأمرهم به من المعروف ونهاهم عنه من المنكر، وهم كذلك من باب أولى، أي: إنما يكونون شهداء على الناس إذا قاموا بهذه المهمة، أما إذا لم يقوموا بها فكيف يشهدون على الناس وهم لم يبلغوهم ولم يذكروهم ولم يأمروهم ولم ينهوهم؟ ولذلك نقول: إن وسطية هذه الأمة -ومعنى الوسطية الخيرية- إنما هي مرتبطة بقيامها بهذه الوظيفة؛ وظيفة الدعوة إلى الله، قال عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وليس بمستغرب أن يبدأ في هذه الآية الكريمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يعقب ذلك بالإيمان بالله، مع أن الإيمان بالله أعظم أهمية في نجاة الإنسان، وأعظم واجب عليه في وجوده كله، ولكن لأجل أن هذا المقام مقام بيان وجه خيرية هذه الأمة، على سائر الأمم؛ لأن خيرية هذه الأمة على الأمم إنما يظهر من خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يكون ذلك بدون الإيمان، فإن الدعوة بدون الإيمان شجرة خبيثة لا حقيقة لها ولا ثبات ولا استقرار، وإنما قدر الدعوة إلى الله وثمارها على قدر الإيمان الذي يكون في القلوب، ولكن يظهر للناس أثر الإيمان من خلال الدعوة إلى الله، ومن خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لابد لهذه الأمة أن يكون فيها هذا الواجب الذي لا يسعهم تركه جملة، بل لو تركوه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما بين ذلك أهل العلم، وهذا معنى فرض الكفاية.

    وقد ذكرنا قبل أن فرض الكفاية في هذا المقام معناه أن يوجد المعروف الواجب وأن يزول المنكر المحرم في الناس، فإذا حصل ذلك حصل القدر الواجب، وإلا أثم كل قادر بحسب قدرته.

    والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لها منطلقات ثلاث لابد لكل داع إلى الله عز وجل أن يحصلها، وأن تكون من صفاته الأساسية في أخلاقه ومعاملاته مع الناس؛ وذلك لأن نجاح الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مرتبط بصفات معينة.

    المنطلق الأول: في قول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    المنطلق الثاني: في قوله سبحانه وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].

    المنطلق الثالث: في قوله سبحانه وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:125-128].

    وحقيقة هذه المنطلقات: أن الآية الأولى دلت على وجوب العلم والبصيرة؛ وذلك أن الداعي إلى الله لابد أن يكون داعياً إليه على بصيرة وأساسها العلم.

    ونأخذ من الآية الثانية: أن يكون الداعية حليماً، وإلا فسيفشل في دعوته.

    أما الآيات الأخيرة: ففيها الأمر بالصبر، فلابد أن يكون الداعية صابراً، فالعلم قبل الدعوة، والحلم معها والصبر بعدها، ولا شك أن ما كان قبل يمتد بعد ذلك، فليس العلم منزلة تتركها، بل تبقى معك إلى نهاية الطريق.

    المنطلق الأول للدعوة: العلم

    فأما الأمر الأول: فهو العلم ولا نعني به مجرد إدراك أو فهم المسائل، ولكنه ما ذكر الله عز وجل في قوله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

    إذاً: فلابد أن يكون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، على بصيرة، ولكن -كما ذكرنا- أساس البصيرة العلم، والبصيرة بالنسبة للقلب كالبصر بالنسبة للعين، فالإنسان يبصر بالعلم الحقَّ من الباطل، والسنةَ من البدعة، والهدى من الضلال، فبدون العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وحقوقه تفقد الدعوة روحها وحقيقتها، وبدونه تكون الدعوة دعوة مفرغة من مضمونها ومن حقيقتها، فلابد أن يكون الداعي إلى الله عز وجل على علم، قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقال عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، فبدأ بنفسه سبحانه وتعالى، ثم ثنى بالملائكة ثم ثلث بأولي العلم، ولا شك أن في ذلك دليلاً على علو شأنهم وارتفاع قدرهم.

    وقد ذكر الله تعالى بأن العلماء هم الذين يخشونه من بين عباده، قال عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فالعلم هو الخشية، فكفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً، وقال سبحانه وتعالى في ذم الذين لا يفقهون: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]، وقال عز وجل: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:6]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الروم:56]، فذكر عز وجل أن انعدام العلم والفقه في الدين هو صفة الكفرة والمنافقين، وهذا من أعظم المنفرات من إهمال طلب العلم ومن تضييعه وعدم الحرص عليه؛ فإن الجهل يعتبر من الأمراض التي تقتل القلوب وتميتها والعياذ بالله، بل وتدمر الأمم، فهي علامة على قرب خراب الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يكثر الجهل ويقل العلم) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (اللهم فقه في الدين وعلمه الكتاب).

    فكان يدعو لمن يحب عليه الصلاة والسلام بالفقه والعلم، وهذا يقتضي منا مزيد اهتمام بمداواة هذا الداء العضال الذي ينتشر انتشار النار في الهشيم؛ داء الجهل بدين الله عز وجل، حتى وجد الكفر أحياناً والناس تظنه إيماناً وهدى.

    وإن كنا كثيراً ما نتكلم عن العذر بالجهل، فذلك لا يعني فضيلة الجهل حتى يكون الإنسان حريصاً على بقائه، بل هذا الجهل الذي يكون العذر فيه هو الناشئ عن عدم البلاغ، ويكون عذراً في عدم التكفير فقط، ولا يعني أنه يكون عذراً في عدم الإثم، بل إنه يأثم بجهله إذا كان العلم قد وجب عليه، فإن الإنسان إذا وجب عليه عمل معين، فإنه يلزمه أن يتعلم العلم الذي يصح به هذا العمل، وإلا أثم بترك طلب العلم، فمن بلغ وهو عاقل فقد وجب عليه أن يتعلم فقه الطهارة والصلاة والصيام، وإذا كان له مال وجب عليه أن يتعلم فقه الزكاة، وكذا الحج إذا وجب عليه، ومن تزوج وجب عليه أن يتعلم فقه الزواج، ومن طلق وجب عليه أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يؤدي كل امرئ الحقوق التي عليه، ولذلك نقول: إن الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحجة ليس بعذر، وكذا التقصير في طلب العلم ليس بعذر في وقوع الإثم، بل إن الإنسان يأثم بما ترك من العلم الواجب عليه بالإضافة إلى تركه العمل الذي لزمه، فإن ترك العلم من أجل ترك العمل ليس بعذر.

    وكثير من الناس يرى أنه ينبغي أن يُترك جاهلاً، فيقول لك: لا تخبرني بهذا الأمر؛ لأنك إذا أخبرتني لزمني، والأمر ليس كذلك، فإنه لازم له حتى ولو لم تخبره؛ لأنه قادر ومتمكن من العلم، والتمكن من العلم يجعل الإنسان آثماً إذا ترك الواجب الذي عليه من ذلك، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وليس المقصود به العلم الدنيوي؛ لأن العلوم الدنيوية بلا علم شرعي كلا علم، قال عز وجل: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7].

    فلما كان علمهم مقتصراً على الدنيا وصفهم الله بأنهم ليس عندهم علم، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فعلم الدنيا بلا علم الآخرة كعدم العلم، ولذلك لا يجوز أن نطلق على الكفرة أنهم علماء، بل لابد أن تقيد بأنهم علماء دنيا أو علماء في الباب الفلاني، فلا يصح الإطلاق فيهم؛ لأنهم أجهل من الدواب، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    ومن هنا نقول: إن أمر العلم لابد أن يكون أحد المنطلقات الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يحرص عليه الكبير والصغير، ولا يتوقف عند مرحلة معينة من عمر الإنسان، بل كما قال الإمام أحمد : مع المحبرة إلى المقبرة، فيبقى الإنسان طالباً للعلم ولو مع كبر سنه، أو تقدم عمره، أو ضعف جسده، فكل ذلك فيه الثواب العظيم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرحلون في طلب العلم أشهراً رغم كبر سنهم وسبق منزلتهم، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أحد أكابر الأنصار وممن شهد المواقع الكبرى، وهو في سنه الكبير يسمع أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يشافهه النبي صلى الله عليه وسلم به، فيشتري بعيراً ويضع عليه رحلاً ويرحل إلى الشام شهراً، يسير ذهاباً شهراً وإياباً شهراً؛ ليسمع حديث القصاص، الذي جاء فيه: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها)، ويرجع من يومه الذي وصل فيه، فقد سافر شهرين متتابعين؛ لأجل أن يسمع حديثاً واحداً، رغم كبر السن وعظم المنزلة.

    وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يخبره الله عز وجل أن هناك عبداً هو أعلم منه، وهو في الحقيقة أعلم منه ببعض المسائل وليس مطلقاً، ولكن الله عز وجل أطلق ذلك لأجل أن يعلم موسى، ولأجل أن يجعله متواضعاً لله سبحانه وتعالى، بل قد قال الخضر : يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، ثم وقف عصفور على حرف السفينة فقال: وما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، فكان الخضر أعلم نسبياً، يعني: أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام في بعض المسائل، قص القرآن علينا منها ثلاث مسائل.

    فانظر كيف أن رحلة طويلة قضاها موسى صلى الله عليه وسلم وجد فيها ما وجد من التعب والنصب؛ وذلك ليطلب ثلاث مسائل، وهذا يدلنا على أن الإنسان مهما بلغ من القرب من الله، فإن عليه أن يزداد من طلب العلم وإن وجد ما وجد من المتاعب والمشاق في سبيل تحصيله، ويدلنا كذلك على شرف طلب العلم وأهمية الحرص عليه، ولو كان لمسألة واحدة يسافر الإنسان إليها.

    ولهذا فالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وصول العلم الشرعي إلينا يرجع إلى علماء الحديث والآثار، وما بذلوا من جهد في طلب الحديث، فقد كان الواحد منهم يسافر البلاد البعيدة من أجل حديث واحد، فلولا هؤلاء بعد الله سبحانه وتعالى لما اجتمعت لدينا هذه الكتب العظيمة التي فيها درة الإسلام وبيان كلام الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أنواع العلم

    العلم المطلوب في الدعوة نوعان: علم بخطاب الشرع وعلم بالواقع:

    والعلم المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل نوعان:

    علم بخطاب الشارع، والعلم بالواقع الذي يعيشه الإنسان؛ ليطبق هذا الخطاب على الواقع.

    فمثلاً: لابد أن يعلم أن الشرع قد حرم الخمر، ثم بعد ذلك لابد أن يعلم أن الذي في هذا الإناء خمر، حتى يمكنه إراقته، ليغير المنكر ويدعو إلى الله عز وجل أو ينكر على من يشربه، وأما إذا لم يعلم الواقع سيترتب عليه إما أن يضيع واجباً أو أن يأتي محرماً، فربما كان هذا الإناء على سبيل المثال فيه شراب محترم، أي: شراب نافع، فهو مال لأخيه المسلم فقد يريقه بدون معرفة.

    ولذلك نقول: إنه لابد من الأمرين معاً، العلم بخطاب الشرع، والعلم بالواقع، وكم من أمور مبناها على معرفة الواقع، ولكن هذا لا يعني أن نغالي في ذلك كما قد يغالي فيه البعض، فيجعل همة الناس في معرفة ما يجري من أخبار وما قاله الساسة، ومعرفة التفاصيل التي يخرف بها المفكرون والمتكلمون والصحفيون.. وغير ذلك.

    إنما المطلوب من علم الواقع هو ما يدرك به الحكم الشرعي على هذا الواقع: أما التفاصيل الكثيرة فهي أكثر من أن تحصى، وعمر الإنسان لا يتسع لذلك، فلا يطلب منك أن تكون على بينة بكل كلمة يقولها الأعداء، أو كل شبهة وضلالة تطلق في الدنيا، وإنما تعرف من ذلك ما يضر وما يحتاج منك إلى أمر وموقف وبيان ونحو ذلك، وتعرف حقيقة من توالي ومن تعادي، فلابد أن تعرف هذه الأمور جيداً من خلال العلم بالواقع، أما أن يكون الإنسان تاركاً للعلم الشرعي الذي يلزمه، وفي نفس الوقت يكون منشغلاً بنشرات الأخبار ليل نهار، يسمع عشر نشرات في نصف اليوم ربما، ويقرأ عشرات الجرائد مع أن جريدة واحدة مختصرة أو ربما بعض أخبارها تكفيه، فهذا خلل يحدث عند الكثيرين، وبالتالي تجده يحسن أن يخبر عما جرى وعما وقع، ولا يحسن أن يخبر عن حكم الشرع في ذلك؛ لأنه أهمل الجانب الأهم، وهو العلم بالشرع.

    ولا شك أن العلم بالشرع مطلوب لذاته، والعلم بالواقع مطلوب لغيره، فأنت لا تثاب على معرفة تفاصيل ما يجري إلا أن يكون لذلك تعلق بالعمل الشرعي والعلم الشرعي، بينما لو تعلمت الشرع فأنت تثاب على ذلك حتى ولو لم تكن من أهل تطبيقه، فلو أن إنساناً ما قسم ميراثاً في حياته، ولكنه تعلم فقه المواريث لكان مثاباً على ذلك؛ لأن هذا من العلم بما شرع الله، وهو مقتضى العلم بكلامه عز وجل وبما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم أي التصديق به، وهذا يثاب عليه.

    وأما تصديقك أنه قد حدث في البلد الفلاني كذا وأنه وقع في الحادثة الفلانية بالكيفية الفلانية، فهذا لا تثاب عليه ولا تذم على تكذيبه أو الشك فيه، إلا أن يترتب على ذلك حق لعباد الله، أو يترتب عليه موقف للدين لابد أن تتخذه، فهنا ينبغي عليك أن تتحرى حتى تؤدي ما عليك، وإلا فالجهل بالحال بالتأكيد يؤدي إلى ترك الواجب في كثير من الأحيان، فلو أن الناس مثلاً جهلوا حقيقة أعدائهم من اليهود أو النصارى أو المشركين وقالوا: إن هؤلاء ليسوا بكفار أو ليسوا بأعداء، ترتب على ذلك الاستسلام والخضوع لهم، وترتب على ذلك أحياناً ترك معاونة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، وترك ما لزم الإنسان من البذل والدعاء والتضحية وغير ذلك، بل ربما وصل الأمر إلى أكبر من ذلك، فقد يستجيب الإنسان لدعاة على أبواب جهنم لجهله بحالهم، وربما جروه إلى النار وهو لا يشعر، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشر بعد الخير الذي فيه دخن، فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: قلت يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس).

    ولذلك نقول: إن كثيراً من الناس عندما لا يعلم الواقع ويظن أن العلم به أمر لا فائدة منه، فإنه يترتب على ذلك أن يمدح أهل الزندقة والنفاق، وأن يسوغ للناس طاعتهم ومتابعتهم والاستجابة لهم، ويذم أهل الإيمان والتقوى بما يروج عنهم من أباطيل، وبما يذكر عنهم من أكاذيب، فيترتب على ذلك خلط للأمور.

    لكن نقول: لابد من تحقيق التوازن بين الشقين المطلوبين للداعي إلى الله عز وجل، أي: لابد من تحقيق التوازن بين العلم بالشرع وهو كما ذكرنا المقصود لذاته والمقصود الأصلي، وهذا بأن تتعلم كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وشروح ذلك من كلام أهل العلم، والعلم بالواقع، وهو واقع الحال؛ حتى تستطيع أن تطبق الشرع على الواقع الذي تعيشه، ولا يختلط عليك الأمر فيما تواجهه من مشكلات، فهذا أمر ضروري لا شك فيه.

    - لا يشترط في الداعية إلى الله أن يكون في منزلة المجتهدين:

    وبناء على ذلك هل نقول: لا يجوز لغير العلماء أن يدعوا إلى الله سبحانه وتعالى؟ هذا قد يفهمه بعضهم فهماً غير سليم؛ وذلك لظنهم أن العلم المشترط في الدعوة إلى الله هو أن يحصل الإنسان مراتب المجتهدين، وهذا أمر غير صحيح؛ لأن الأمور تنقسم إلى قسمين: قسم معلوم من الدين بالضرورة، وهو ما اشترك في العلم به العالم والجاهل والخاص والعام، فهذا كل المسلمين علماء به، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحرمة الزنا، وشرب الخمر، وحرمة الربا والميسر.. ونحو ذلك مما لا يتنازع المسلمون فيه إجمالاً، فكل المسلمين علماء بذلك.

    ولذلك وجب على كل المسلمين أن يأمروا وينهوا في هذا الباب، وأن يدعوا إلى الله عز وجل، وهذا مما يستهين به الكثيرون، وقد يظن بعضهم أن هذا ليس في دائرة الدعوة، مع أن جزءاً كبيراً من هذا العلم هو في دائرة الدعوة الأهم، فكم من الناس يترك الصلوات الواجبة! ويترك الصوم الواجب، فيفطر في رمضان علناً! وكم من الناس يفعل الفواحش! فهل يعقل أن أحداً من المسلمين يجهل مثلاً أن تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية محرم؟! والله هذا مما لا يجهله أحد، فالبلاء الذي وجد في الأمة من انتشار الفواحش وتكشف النساء حتى قد شوهد في بعض بلاد المسلمين من يقبل النساء في الشوارع، نسأل الله العافية والسلامة، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تكاد تصدق، فهل هذا كله يحدث بسبب الجهل بأحكام هذه الأمور؟ لا والله! فكل الناس يعرفون أن هذه الأمور محرمة بلا شك، ولكن كل واحد منهم يؤثر السلامة، فليس عنده عزيمة على التغيير ولو بكلمة واحدة، فإن كل واحد منا لو قال هذه الكلمة لكان لذلك أثر عظيم وكبير، فلو أن كل متبرجة سمعت وهي تمشي أن الحجاب فرض، أو سمعت: اتقي الله، حرام، فإنها ستتغير في يوم من الأيام، لكنها ربما قد تسمع كلمات الإعجاب أضعاف كلمات الإنكار والعياذ بالله، فهذا الأمر ليس مرده إلى الجهل، وإنما مرده إلى تقاعس الناس وتعودهم على عدم الإنكار؛ وذلك راجع إلى أسباب كثيرة أهمها:

    التعود المفرط على متابعة القنوات الفضائية وما تبثه من سموم فتاكة، من تعليم للقتل والسرقة والفاحشة، فيعتاد الناس ذلك وتنتشر هذه الأمور في المجتمع، هذا أحدهم ينقل لي إحصائية يقول فيها: في الفترة الصباحية: عدد المشاهدين للتلفزيون خمسة وثلاثون مليون شخص، وا مصيبتاه! خمسة وثلاثون مليون شخص يشاهد التلفزيون في الصباح! فكم سيكون العدد بعد العودة من العمل؟! وهذا العدد غير مستغرب، فإننا لو سألنا: هل يوجد بيت في هذه الأيام ليس فيه تلفزيون؟! بل إنه قد انتقل من البيوت إلى المحلات، وفوق ذلك أصبح في السيارات، إذاً: فالأرقام هذه غير مستغربة، بل هي من الحقيقة بمكان.

    فالأمر كما قلنا: لا يعني انتشار هذه المعاصي أن الناس يجهلون حكمها، بل كل واحد منهم يعلم حكمها الشرعي، ولذلك يجب عليه أن يدعوا إلى الله وأن يأمر وينهي في هذه الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وليس الأمر متروكاً للعلماء فقط في مثل هذه المسائل.

    العلم الذي يسوغ الإنكار فيه والذي لا يسوغ

    والعلم ينقسم إلى قسمين:

    علم انتشر بين المسلمين، وعلم لم ينتشر، والعلم الذي لم ينتشر إنما يأمر فيه وينهى العلماء، أو من أخُبر من قبَلهم أن هذا مما يشرع فيه الإنكار، أو أنه أمر مجمع عليه، أو أمر لا يسوغ فيه الخلاف، وبالتالي عليه أن يدعو ويأمر وينهي في هذا الأمر حتى ولو لم يكن منتشراً.

    إذاً: فهذان شرطان أساسيان يجب توفرهما إذا أراد العامي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما لم ينتشر علمه وسط المسلمين.

    فالعامي لا يأمر ولا ينهى إلا فيما يعرفه الصغير والكبير؛ لأن كل الناس يعرفون وجوب الصلوات الخمس، وكثير من الناس لا يصلون فيتركونها حتى يخرج وقتها، وينامون عن صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، نسأل الله العفو والعافية، بل إن كثيراً من الناس الذين يقولون: نحن نصلي، تجد أحدهم يصلي آخر النهار كل الصلوات مع بعضها، ويترك ما أوجب الله عليه من الصلاة في وقتها، وربما يجمع صلاتين مع بعضهما، وهذا أمر معتاد لدى الكثيرين من الناس، ولا حول ولا قوة بالله.

    وأيضاً لا بد أن يسمع العامي فتوى العلماء في حكم هذا الأمر الذي ينكره، ويسمع الدليل على ذلك، ويعرف أن المسألة ليس فيها خلاف سائغ، أو ليس فيها خلاف أصلاً، ففي مثل هذا يسوغ للعامي أو الذي لم يبلغ مراتب العلماء أن يأمر وينهى، فضلاً عن طالب العلم المميز، الذي هو في الحقيقة قد جمع كثيراً من المسائل وعرف الراجح من أقوال العلماء بأدلتها، وعرف ما يسوغ الخلاف فيه وما لا يسوغ، فهو في هذه المسائل التي قد جمع أدلتها ملحق بالعلماء، والتي لم يجمع أدلتها هو فيها ملحق بالعوام، فينظر فيما أفتاه به العالم، ولكن الشرط -كما ذكرنا- أن يفتي العالم ليس فقط بأن هذا الأمر واجب أو هذا الأمر محرم، بل لابد أن يفتي أيضاً بأن هذا الأمر مما يسع فيه الإنكار ولا يسوغ فيه الخلاف، أو إنه مما أجمعت عليه الأمة فلا عبرة بمن يخالف في ذلك.

    وأما ما فيه خلاف سائغ وهو ما لا يصادم البينات، أي: لا يخالف النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع القديم أو القياس الجلي، فإن هذا يجب التوقف عن الإنكار فيه؛ لأنه يسع فيه الخلاف، فلا ينكر إلا بمجرد المناظرة العلمية ولا يسمى إنكاراً في الاصطلاح.

    وأما إذا صادم الخلاف نصاً من كتاب أو سنة، أو صادم إجماعاً قديماً أو قياساً جلياً فإن الإنكار على من فعله واجب، كمن رأيته مثلاً يبيع الأرز بالأرز مع التفاضل، فهذا نوع من الربا، وقول الظاهرية في جوازه غير معتبر؛ لأن قياس الأرز على القمح قياس جلي واضح، ولو وجدت إنساناً مثلاً يزرع أرزاً ولا يخرج الزكاة، ويقول: الزكاة وردت في القمح والشعير والزبيب والتمر، ولم ترد في الأرز، فلن أخرج الزكاة فيه، فلا شك في أنه ينكر عليه إنكاراً شديداً، ويؤمر بإخراج الزكاة.

    ولو وجدت إنساناً لا يخرج زكاة الأوراق النقدية، ويقول: الزكاة في الذهب والفضة، فلا أخرجها في الأوراق النقدية ولا في عروض التجارة، وهو تاجر بالملايين، ولكن البضاعة عبارة عن سلع وأوراق مالية، وليس عنده ذهب ولا فضة، فلو حدث هذا، لأنكر عليه أغلظ الإنكار، بل ربما ضُلل وفُسق بسبب هذا؛ لأن هذا القياس من أجلى أنواع القياس؛ فإن هذه الأوراق المالية هي بمنزلة الذهب والفضة، وأما عروض التجارة فهي رءوس أموال الناس في التجارة، فهذا ينكر عليه لأنه خالف القياس الجلي، ومن باب أولى إذا خالف الإجماع.

    مثلاً: إذا ثبت إجماع قديم كإجماع السلف على عدم تأويل الصفات، فالذي يؤول الصفات بعد أن يعلم هذا الإجماع يبدع، ولذلك ينكر عليه أن يقول بذلك، وهكذا من يخالف إجماع أهل السنة في أي مسألة من مسائل الاعتقاد الكبرى؛ كتكفير المصر على الكبيرة مثلاً أو تكفير مرتكب الكبيرة، أو كونه مثلاً يجعل الإيمان قول بلا عمل، أو اعتقاد بلا عمل، وغير ذلك مما اتفق عليه السلف الصالح، فخالفهم في ذلك فيعد مخطئاً وخلافه باطل.

    وأما مصادمة الخلاف للنص فمثاله: عندما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فلو قيل: البيرة ليست حرام؛ لأنها مصنوعة من عصير الشعير، وإنما الخمر تكون من العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، فنقول: هذا أمر ينكر على قائله، بل ويحد شارب البيرة شرعاً؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر وكل خمر حرام)، وقال عليه الصلاة والسلام: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة، فذكروا أصنافاً).

    إذاً: فالخمر ليست فقط عصير عنب، بل من ضمنها الشعير وغيره، وقد وردت النصوص الصريحة الواضحة في أن الخمر كل ما أسكر، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، فلا عبرة بقول بعض العلماء المتقدمين ممن لم يبلغهم الحديث صحيحاً؛ في أن غير عصير العنب جائز الشرب إذا كان قليلاً ولم يسكر، فهذا كلام باطل.

    مثالاً آخر: ابن حزم يجوز الموسيقى والغناء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - كما سبق معنا- أنه قال: (ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فالمعازف محرمة بهذا، واستحلال الخمر بتسميتها بيرة خلاف غير معتبر، واستحلال المعازف أو القول بأنها لم يرد فيها نص كلام غير معتبر؛ لورود النص بذلك وضعف قول من يحتج بجوازه مثلاً بغناء بعاث؛ لأنه كان بغير آله، واستحلال الحر الذي هو الفرج بنوع شبهة؛ باطل باتفاق العلماء، وهذا يفعله كثير من الشباب اليوم في قضية الزواج العرفي، بأن يتزوج بغير ولي وربما بغير شهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنحاكها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)، والقول بأن هذا الأمر فيه خلاف، لأن بعض المشايخ المتقدمين أفتى بأن الزواج يقاس على البيع والشراء فيجوز أن تنكح المرأة بلا ولي طالما كان هناك شهود، فهذا القول باطل لا عبرة به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (نكاحها باطل)، فلا عبرة بمن يخالف، وإن كان هذا قد يمنع إقامة الحد لوجود الشبهة، خصوصاً مع انتشار الجهل، لكن من علم بطلان هذا النوع من الزواج وأقدم عليه، فالصحيح أنه يقام عليه الحد شرعاً؛ لأنه يعلم أنه يقدم على زنا والعياذ بالله من ذلك.

    إذاً: فإذا صادم الخلافُ النصَّ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي فلا عبرة بالمخالف، ولذلك يشرع الإنكار، والعلم بفتوى عالم لابد أن تتضمن ذلك، والعالم نفسه لا يجوز له أن ينكر إلا ما خالف البينات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، فذم الخلاف بعد البينات، وأما قبل البينات فهو خلاف معتبر، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم، وكما ذكر الله عز وجل قبل ذلك اختلاف سليمان وداود فقال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79].

    فهذا هو المنطلق الأول وهو منطلق العلم، ويعتبر من أعظم المنطلقات للدعوة إلى الله.

    المنطلق الثاني: الحلم

    أما المنطلق الثاني فهو منطلق الحلم، معناه: أن يكون الإنسان رحيماً شفيقاً يدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، يعلم أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).

    فالأصل في الدعوة إلى الله الرفق والعنف طارئ، فالعنف إنما يستعمل عند الضرورة ولا ننفيه بالكلية، فإن نفي العنف بالكلية يؤدي إلى ترك الجهاد، لكنه ليس هو البداية الأصل، ولا يصح أن نقول: لا عنف في الإسلام مطلقاً، ولكن الأحب إلى الله عز وجل الرفق، والعنف يستعمل في موضعه وبالضوابط الشرعية كما ذكرنا، مثل الجهاد في سبيل الله، وتغيير المنكر باليد، وغير ذلك بضوابطه الشرعية، وليس أن الدين مطلقاً ليس فيه عنف ولا شدة، فمثلاً: الأب إذا رأى ابنته مع شاب! فلا شك أنه يبدأ المعالجة بالرفق واللين، لكن لابد من وجود نوع من العقاب في كثير من الحالات، وليس أن الأمر دائماً يتوقف بلا عنف، ولذلك نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الرءوف الرحيم بالمؤمنين، ومع ذلك جلد في الحدود، ورجم صلى الله عليه وسلم، وقطع الأيدي، وجاهد في سبيل الله عز وجل، كل ذلك في موضعه، قال الله عنه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    إذاً: فلابد أن نكون رفقاء في الدعوة إلى الله عز وجل ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، وما دام الأمر -كما ذكرنا- في بدايته فلابد أن يكون الرفق هو الأصل، ونعلم أن من صفات المؤمن التي يحبها الله عز وجل الحلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس : (إن فيك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة)، أي أنه يتأنى، ولا يقدم على الأمر مباشرة من غير بحث ومعرفة وتمهل، فلابد من هذه الأمور.

    المنطلق الثالث: الصبر

    وأما المنطلق الثالث فهو منطلق الصبر؛ لأن الإنسان لابد وأن يصيبه في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى أنواع من الأذى، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، فإن هناك من الأمور التي إذا أخذ الإنسان بها فقد أخذ بعزيمة عظيمة، وهذا من العزم الواجب؛ لأن الإنسان لابد أن يصيبه من أذى الناس، وسعة صدر المؤمن وانشراحه يقتضي أن يتحمل أذاهم ويكف أذاه عنهم؛ وذلك من البر بالخلق، وهو من أسباب نجاح الدعوة، أي: أن تواجه كل العقبات بالصبر، ولا تواجه السيئة بالسيئة.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من وصفه في التوراة أنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح، فقد قرأ عبد الله بن عمرو بن العاص في التوراة: محمد نبي أرسلته حرزاً للأميين، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به الله قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وعيوناً عمياً، أو كما قال ربنا عز وجل في الكتب السابقة.

    الغرض المقصود: أن الصبر يقتضي الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل، فلا تترك الدعوة بمجرد أن يصيبك بلاء أو فتنة، وكأنك لا تعلم أن من سلك هذا الطريق فإنه سوف يطارد ويمتحن ويصاب، كما قال عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء:52]، فعندما تعلم أنك متبع، وأنه ستكون هنالك مشاكل، فلابد أن تصبر إذاً، أما إذا كان الإنسان ينسحب من الدعوة بمجرد أن يصيبه شيء، فهذا لم يصبر ولا يصلح في الدعوة إلى الله.

    والصبر على فتنة السراء أهم من الصبر على فتنة الضراء، فإن الإنسان قد تفتح عليه الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، وقال الله عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، إذاً: فالخير فيه فتنة، وهو أن الإنسان تفتح عليه الدنيا ومطالبها الكثيرة، ولا يزال ينتقل من مطلب إلى مطلب ولا يزال يجره الشغل إلى أشغال حتى يترك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فتكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه.

    هذا من أعظم المخاطر على الإنسان، ولذلك فالصبر أنواع: صبر على البلاء، وعن المعاصي وعن الدنيا المنفتحة، التي تشغل الإنسان وتجره إلى أعماق أمواجها التي قد تغرقه بعد حين، نسأل الله العفو والعافية.

    فالصبر من أهم الأمور التي لابد أن يحرص المرء على أن يتصف بها، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، وقال سبحانه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، فأنت تصبر بالله مستعينا، وتصبر لله عز وجل مخلصاً، وتصبر مع الله عز وجل دائراً مع أوامره الشرعية، فتعمل ما أمرت به؛ لأن الصبر قد يكون بعيداً عن أوامر الشرع، كما يفعل أصحاب المعاصي والملاهي في صبرهم واستمرارهم في أعمالهم مع بعدها عن الحكمة التي خلقوا من أجلها، فصاحب الحق أولى بالصبر منهم.

    إذاً: فالصبر يكون في دائرة أوامر الله، فتصبر مع الله، وتصبر بالله، قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ، أي: تستعين بالله، وتعلم أنك لن تصبر إلا أن يصبرك الله سبحانه وتعالى، وتصبر لله مخلصاً، لا تصبر من أجل أن يقال عنك قوي متحمل جلد، بل تصبر لكي تأخذ الأجر من رب العباد سبحانه وتعالى، فتصبر مع الله، أي: تدور مع أوامره شرعاً، فتترك ما أمرت بتركه، وتفعل ما أمرت بفعله، ولا يلزم أن تعذب نفسك بما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا وأستغفر الله.

    الأسئلة

    حكم حضور سرادقات العزاء

    السؤال: يعتزل الإخوة ما يجتمع عليه عامة الناس في سرادقات العزاء، مما يؤدي إلى الجفو بينهم وبين الناس فما البديل؟

    الإجابة: البديل: أن الإخوة يحضرون الجنازة ويعزون أهل الميت هناك، وإذا فاتهم ذلك فيذهبون إلى بيت الميت للعزاء بعد أن ينصرف الناس من الاجتماع على التعزية؛ لأن الاجتماع هذا يعتبر من النياحة، فلا يجوز أن يحضروا هذه السرادقات، إلاّ للإنكار، ولكن لا يبقوا بعد ذلك معهم، ولا يقولوا الكلمة ضمن ديكور أصحاب السرادق.

    حكم اغتسال المرأة الحائض

    السؤال: امرأة اغتسلت وهي حائض، هل عليها إثم؟

    الجواب: لا ليس عليها إثم، ويصح ذلك.

    حكم بيع البصل الأخضر من أجل عيد شم النسيم

    السؤال: ما حكم بيع البصل الأخضر وغيره في عيد شم النسيم؟

    الجواب: مشاركة الناس في الأعياد الباطلة المحرمة كشم النسيم لا تجوز شرعاً، فالذي يبيع البصل وغيره من أجل أن يأكل الناس في ذلك العيد؛ فهذا لا يجوز له ذلك، بل على صاحب البصل أن يحضر كمية مثل الكمية التي يحضرها كل يوم، حتى إذا نفدت فلا يأت بثانية؛ لأن الاحتفال بشم النسيم هذا احتفال باطل ومنكر ومحرم، فهو أشد وأضل والعياذ بالله من أعياد الفراعنة؛ لأن الفراعنة مشركين وعباد أوثان فقط، أما هؤلاء فكل شيء عندهم له إله وآلهة، إله للربيع وإله للخطب وإله للحب وإله للسماء، هكذا كل شيء له إله عندهم، فهذا الاحتفال عادة فاجرة والعياذ بالله، والأقرب: أن شم النسيم هذا مرتبط بعيد القيامة المزعوم عند النصارى، وهو أن الرب قد قام من الأموات! تعالى الله عن قولهم، علواً كبيراً، أي أنهم يرون أن الله مات ثم قام! فكيف يجوز لمسلم أن يهنئ أو يشارك في هذا العيد أو حتى يأخذ إجازة! فإن حصل وأعطى إنسان إجازة، فيحاول أن ينشغل بأي عمل، ولا يجوز تخصيص هذا اليوم بعبادة، إذاً: فالمشاركة في شم النسيم لا تجوز بلا شك.

    التوقف في نبوة الخضر من عدمها

    السؤال: الخضر هل هو نبي أم ولي؟

    الجواب: الراجح فيه التوقف؛ لأننا لا ندري، فهناك أدلة محتملة، وليس هناك دليل صريح في النفي ولا في الإثبات، فهو عبد صالح، والله أعلم هل وصل إلى درجة الأنبياء أم لا.

    حكم استخدام أسطح المساجد للإجارة وغيرها

    السؤال: ما حكم استخدام أسطح المساجد في عمل مستشفى أو مستوصف أو غير ذلك؟

    الجواب: إن كان هذا العمل عملاً خيراً يستفيد منه الفقراء، وعائده يعود على المسجد فمحتمل، أما إذا كان للإجارة والربح فلا يجوز.

    حكم أخذ المال على الحجاج وأصحاب العمرة من قبل مكاتب السفر

    السؤال: بعض الناس يعملون في مكاتب سفر لإخراج الحجاج والمعتمرين فما حكم المال الذي يأخذونه منهم؟

    الجواب: هذا الأمر جائز بشرط عدم أخذ عمولة على التأشيرة، فلا يجوز أن يأخذ ثمن التأشيرة؛ لأن هذه تأشيرة دخول مجاناً، بل له أن يأخذ أجرة عمله ومجهوده فقط، مثل قيامه بتأجير المواصلات وتنظيم الرحلات وقطع التذاكر وغير ذلك.

    أنواع البدعة

    السؤال: سمعت عالماً يقول: البدعة هي التي ليس لها نص في الشرع ولا أصل في الدين، أما التي لها أصل فليست بدعة، مثل المصافحة بعد الصلاة، فما رأيكم؟

    الجواب: لا، فإن البدعة نوعان: بدعة لا أصل لها وهي البدعة الحقيقة، وبدعة لها أصل لكن الكيفية مبتدعة ومحدثة، وهذه تسمى البدعة الإضافية، مثل أن يكون الشرع قد حدد عدد معين للتسبيح فيخترع إنسان عدداً آخر، فالوارد شرعاً ثلاثة وثلاثون بعد الصلاة، فيأتي أحدهم ويقول أنا أسبح بعد الصلاة أربعين مرة، ويأتي آخر ويقول: أنا أسبح مائة مرة وهكذا، فمع أن التسبيح وارد، لكن هذه بدعة في الكيفية.

    ويراجع في ذلك كتاب الإمام الشاطبي رحمه الله المسمى بـ: الاعتصام.

    وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.