قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
[آل عمران:149-155].
قال ابن كثير رحمه الله: [ وقوله تعالى
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
قال ابن إسحاق : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، -أحد بني عبيد بن النجار- قال انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنهم ].
إنه موقف عظيم القدر من أنس بن النضر رضي الله عنه، وكلمات أغلى من الذهب قالها: (فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه)، وهي منهج لحياة المؤمن، فهو ظل يجاهد في سبيل الله حتى يموت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قيلت في سياق الجهاد والقتال إلا أنها أعم من ذلك، وهي في كل مواقف المسلم.
وتدل هذه القصة -رغم أنها مرسلة- على شدة الحال الذي وصل إليه الصحابة رضي الله عنهم، الذي يجعل أناساً من المبشرين بالجنة يجلسون ويتركون القتال لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل، إلا أن هذه الكلمات من أنس أثرت فيهم أعظم تأثير، فقاموا وقاتلوا ودافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أشد الناس في هذا الموقف عطاءً وبذلاً وتضحية رضي الله عنهم، كحال طلحة عند أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت بضربة من سيف.
وروى البخاري عن أنس بن مالك : أن عمه -يعني: أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: مشهداً- ليرين الله ما أصنع، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -أي: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -أي: المشركون- فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه أو بشامة، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم، هذا لفظ البخاري ، وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه.
وهذا الموقف من أعظم فضائله، وهو الذي أنزل الله فيه:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
[الأحزاب:23] هذا هو الصدق مع الله عز وجل، فـأنس بن النضر غاب عن غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوعب النفير فيها، وإنما خرج على عجالة يريد إدراك القافلة، فتأسف رضي الله عنه عن غيابه عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، وهكذا هو حال المؤمن دائماً يحزن على فوات الخير، وعلى فوات بعض العبادة، فهو يريد أن يكون سباقاً إلى طاعة الله عز وجل.
يقول: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع.
هاب أن يقول غير ذلك حتى لا يكون مزكياً لنفسه ولا يفي، ولكن كان في نيته أن يجاهد أعظم الجهاد ووفى بعهده مع الله، وقضى نحبه كما قال الله:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
[الأحزاب:23] أي: عهده ونذره، فهو قد عاهد الله بهذه الكلمة: (ليرين الله ما أصنع) أي: من الجهاد والقتال في سبيله، فقد صدق مع الله عز وجل، وقضى نحبه وعهده، فقاتل حتى قتل فلقي يوم أحد العدو فهُزم الناس، أي: المسلمون، وانصرف أناس من المعركة، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وهذا موقف المسلم دائماً يعرف الفرق بين المسلم والكافر، فهو وإن كان الفرار كبيرة من الكبائر لكن المسلم يعتذر عنه؛ لأصل إيمانه، بخلاف الكافر فإنه يتبرأ منه، لذا نجد أنساً يبرأ إلى الله عز وجل من الكافر ومما جاء به، فإنهم جاءوا للصد عن سبيل الله، والمسلم وإن ارتكب المعاصي فإنه يعتذر عنه؛ لأن أصل إيمانه لا بد أن يراعى ويحب لأجله، بخلاف المنافقين فإنهم كما وصفهم الله عز وجل يسلقون المؤمنين بألسنة حداد، وتجدهم بحاثين عن عوراتهم، همازين لمازين، ويعيبون المؤمنين بما ليس من صفاتهم، وإنما يدعون عليهم صفات السوء ليعيبوهم بها، وفي نفس الوقت يتولون المشركين.
فأما المؤمن الصادق يعتذر إلى الله عز وجل عن إخوانه المسلمين، ويدعو الله عز وجل أن يغفر لهم، وحبه لإخوانه في الله يجعله يريد دائماً أن يرحمهم الله وأن يغفر لهم؛ ولذا يعتذر عنهم، وأما بغضه للكافرين فمستقر ثابت، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، أي: المشركون، وهكذا موقف المؤمن فهو يتبرأ من الشرك وأهله ومما جاءوا به، وأما الزنادقة المنافقون فهم أولياء المشركين: يؤيدونهم، ويطيعونهم، ويعاونونهم على أهل الإسلام.
ومن فضائله رضي الله عنه: أنه لقي سيد الأنصار سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بقدومه، والذي مناديله في الجنة خير من الحرير رضي الله تعالى عنه، وهو أفضل الأنصار ومع ذلك كان قد جلس ضمن الجالسين فشجعه أنس بن النضر وثبته، وأمره بمواصلة الجهاد رضي الله تعالى عنه، فقال: (أين يا سعد ؟) يعني: أين تذهب.. أين تترك المعركة؟ وهذه اللحظات التي مرت على هؤلاء الأفاضل تجعل المؤمن لا ييئس إذا أصابه شيء من التقصير ومن النقص، ولكن يبادر ولا يدع مدة الفتور تستمر معه، هذه اللحظات تطول وتقصر مع الناس تفاوتاً كبيراً.
فكثير من الصحابة جلس تاركاً للقتال في ميدان المعركة ثم عاد إليها قبل أن ينصرف.
وهذا طلحة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) وكذا أبو بكر وعمر لم يتركا النبي صلى الله عليه وسلم حين رأياه بعد ذلك، وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم، وكان منهم سعد بن معاذ وغيره فكانت هذه اللحظات التي تصيب الإنسان من فتور أو من يأس، أو من شبهة أوقات محدودة، ودقائق معدودة تزول بسرعة عند تذكر معاني الإيمان، وبوجود ناصح صادق مثل أنس رضي الله عنه، فكان موقفه هذا من أعظم العوامل والأسباب التي أدت إلى ثباتهم، وارتفعوا مراتب عالية بعد توقفهم هذه اللحظات.
فالخطر أن يستمر الفتور، فالفتور وترك الطاعة واليأس أمر عظيم الخطر، وهذه اللحظات ربما مرت على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لكنها كانت كالبرق الخاطف، أعني: أنها لحظات يسيرة جداً تمر ثم ترحل سريعاً، فيشكون فيها إلى الله عز وجل ضعف القوة، وقلة الحيلة، وهوانهم على الناس وهم الأعزة عنده عز وجل، ويشكون إليه سبحانه وتعالى أنهم مغلوبون، ويستنصرون به.
فعند الرسل تكون كالبرق، وعند أصحابهم ربما كالدقائق المعدودة، وربما تطول مع البعض، وهذا الذي يجب أن نقاومه ولا نترك أنفسنا لهذا اليأس ليفترس قلوبنا ويغترس معاني الإيمان فيها، وذلك بحسن الظن بالله وبالثبات، وباليقين بوعد الله عز وجل.
وانظر إلى يقين أنس وهذه الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها، قال: (أين يا
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
[السجدة:24].
وتجد في مقولته المنقولة -والتي ذكرها ابن إسحاق - لـعمر وطلحة : قوموا فموتوا على ما مات عليه، فهيأ الثبات والصبر، وفي قوله في الحديث الذي في البخاري : (إني لأجد ريح الجنة دون أحد) تجد فيها اليقين.
قال تعالى:
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
[السجدة:24] ولذا امتدحهم الله عز وجل بهذا المدح العظيم، فكلما ضاقت عليك الدنيا بأسرها فتذكر لقاء الله عز وجل، وتذكر الجنة والنار، والقيامة والأهوال فهذا الذي يهون عليك مصائب الدنيا ويعينك عليها، ويجعلك تقدم متوكلاً على الله موقناً بوعده سبحانه وتعالى.
قال أنس : (إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل) رضي الله تعالى عنه، مضى يقاتل ولم يعبأ ببضع وثمانين جرحاً أصابه، ولم يسقط إلا بعدها رضي الله تعالى عنه، وهي ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورميه بسهم، كل هذا أصابه وهو ما زال ينزف يقاتل، والله! إن هذا لموقف عظيم هائل لا يقدر، فما عرفته إلا أخته بعلامة أصبعه، أو بشامة فيها لون مختلف من شدة ما غير معالم وجهه كثرة الضرب وكثرة الجراح، فما عرفوا أن هذا هو أنس من كثرة الجراح رضي الله تعالى عنه.
هذا الموقف كان فيه ابتلاء للصحابة رضي الله عنهم، وثبت ونجح فيه وصبر فيه هؤلاء الصحابة أعظم الصبر رضي الله عنهم.
صفات عجيبة تظهر من بعض البشر فهو يبحث عن الأخطاء حتى التي ليست موجودة، وبتر للوقائع والأحداث كما يبترون الكلمات؛ ليعيبوا أهل الإيمان، قوله: فكبر، يعني صاح قائلاً: الله أكبر، يستحق أن يقتل، يستحق أن يخرج عليه، ولا يناسب أن يكون أمير المؤمنين ويكبر، أنظر الشيء العجيب؟! إنه يكبر؛ لأنه سمع سلبيات عثمان رضي الله عنه.
وفي آخر الأمر تبين له أن السلبيات التي كبَّر عليها ليست كذلك، ونسي الأعمال العظيمة التي قام بها عثمان، ولا يذكرها من باب: ولا تقربوا الصلاة، ويترك: وأنتم سكارى، والعياذ بالله.
قال: [ (فقال
لأن الله عز وجل قد قال:
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
فقد عفا الله عز وجل عنه؛ لأنه صدق وتاب توبة نصوحاً، ثم وجد قلباً نادماً عازماً على الثبات في سبيل الله بعد ذلك، بالإضافة إلى الخيرات الأخرى، فكأن هذا الذنب لم يكن.
إننا نقول: هذه فيها فائدة مهمة: عثمان رضي الله عنه ثالث الأربعة الخلفاء الراشدين، وسادس أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي باتفاق أهل السنة.
وكان هناك خلاف قديم على تفضيل علي على عثمان لكن اتفقت كلمة أهل السنة على تقديم عثمان كما قدمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبايعوه كلهم بالخلافة، ووقع منه هذا الأمر، وقع منه الفرار يوم أحد وغفر الله عز وجل له.
فائدة: في هذا أننا لا نبتئس إذا وقع منا تخاذل، ولا نيأس من رحمة الله عز وجل ولا من عفوه، بل نرجوا عفو الله عز وجل ونبادر بالرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولنا في الصحابة الأسوة الحسنة، ولنا في عفو الله الرجاء العظيم، ولنا في سعة رحمته الرغبة لأن نثق برحمته سبحانه وتعالى لا بأعمالنا، وأن الأمور عنده سبحانه وتعالى بموازنة الحسنات والسيئات، أعني: أن هذه الكبيرة التي اُرتكبت ليست تحبط الأعمال الصالحة العظيمة التي قام بها هؤلاء الأفاضل رضي الله تعالى عنهم.
ويؤلمك هذا الأمر، وهو أن الهول كان شديداً حتى جعل هؤلاء الأفاضل يفرون من المعركة، وعوتبوا فيه ورُبوا وهذبوا حتى صلحوا لقيادة العالم؛ فعاتبهم الله بقوله:
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
[آل عمران:143].
فالكلام سهل، والأماني تغر صاحبها أحياناً ويظن أنه صادق في الطلب، فإذا كان قد وقع من هؤلاء الأفاضل أنهم حين رأوا الموت لم يتحملوا الثبات هذه اللحظات وهم من هم في المنازل العالية؟ فكيف بغيرهم؟ فإياك أن تغرك نفسك، وإياك أن تكون أحلامك وأمانيك عندك كأنها حقائق، فإنها لا تصبح كذلك إلا إذا نزلت على أرض الواقع، ومورست هذه الأعمال الإيمانية فعلاً بالصدق واليقين.
قال ابن عمر: [(أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)].
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن له الأجر في الآخرة، فهو ممن شهد بدراً بالمعنى؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استبقاه لرعاية ابنته التي كان يمكن أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لأجلها، وهذا من فضائل عثمان رضي الله تعالى عنه.
قال: [ (وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعز ببطن مكة من
وبيعة الرضوان كانت بسبب إشاعة قتل عثمان، فالعجب من هؤلاء الخارجين الذين يطعنون في أهل الإيمان ولا ينظرون إلى فضائلهم.
قال ابن عمر : [ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد قال: اذهب بها الآن معك
وهكذا يصنع القوم إشاعات من أجل أن يبيحوا الخروج على عثمان وقتله رضي الله عنه.
والشاهد من هذا: أن من ضمن من صِرفوا إناساً من أفاضل وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكنها كانت درساً عظيماً للصحابة رضي الله عنهم استفادوا منه في حياتهم بعد ذلك، وفي جهادهم في سبيل الله، وفيما قاموا به من نشر الإسلام في كل المواطن، فاختلفت مواقفهم بعد أحد، فقد صاروا أكثر إيماناً، وأكثر قرباً من الله بعفوه وفضله ورحمته.
ثم قال ابن كثير: [ وقوله تعالى:
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد
أي: صرفكم عنهم، (إذ تصعدون) يعني: حين (إذ تصعدون) أي: في الجبل هاربين من أعدائكم، وقرأ الحسن وقتادة : (إذ تَصْعَدون) أي: في الجبل.
(ولا تلوون على أحد) أي: وأنتم لا تلوون على أحد، (لا تلوون) لا يلوي: لا يلتفت، لا ينظر إلى أحد من الدهش والخوف والرعب مواقف شديدة ].
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
أي: وهو وقد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة ].
وأحياناً: كأن النفس تقول: يعني هو كلام على كبار الصحابة لماذا هم هكذا؟ نحن لا نريد أن نتصور صورة مثالية غير واقعية لا تكون في واقع الحياة، وأن هؤلاء الناس ما كان عندهم أخطاء أبداً، وإلا فمن السهل جداً أن يحصل انتصار، ونحن لا نشبههم، ونحن غيرهم تماماً، وحينها نظن أن هؤلاء ليس لهم مثيل، وهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذن لا أحد مثلهم.
وكان الهدف من جود هذه الأمور: أن تبين لك كيف تعالج نفسك إذا حصل خطأ، وإذا كان الخطأ قد وقع من هؤلاء فلا بد أن يعالج الإنسان مثل هذا الأمر، وهذا الأمر يحصل عند الشدائد.
هناك نوعيتين، أو مرضين خطيرين في مثل هذه الأمور:
أن البعض يجعلها سبباً للطعن في عثمان رضي الله عنه، ولا يزال إلى زمننا هذا يتعرض للطعن رضي الله تعالى عنه، مع أن فضائله رفعته إلى أعلى المنازل كما ذكرنا، وهو بعد أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يظن أنهم معصومون حتى لا نفوت على أنفسنا المصلحة العظيمة بعلاج الأمراض التي تقع في القلوب، وهي التي في واقع الحياة كما عالجها القرآن، وكما شفاهم الله عز وجل بالشفاء لما في الصدور بهذه الآيات العظيمة.
قال ابن كثير رحمه الله: [ قال السدي : لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ]. وتفاوتوا في شدة الفرار: منهم من فر إلى المدينة -مسافة طويلة- ومنهم من فر إلى أعلى الجبل؛ يقف ينظر ما الذي يحصل في المعركة-.
قال: [ فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: (إلي عباد الله!. إلي عباد الله!.) فذكر الله صعودهم إلى الجبل، ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: (( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ )) وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد وقال عبد الله بن الزبعري -يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها-:
يا غراب البين! أسمعت فقل إنما تنطق شيئاً قد فعل
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل ].
فهذا المشرك يقول: إن للخير وللشر مدى، يعني: يريد أن يقول: شر المسلمين يأتي له آخر، وقد انتهى، وكان آخره هزيمة أحد، وهي كانت آخر الشر إلى أن هداه الله بعد ذلك.
قال ابن كثير: [ إلى أن قال:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل ].
يقول: يا ليت الذين قتلوا في بدر يرون جزع الخزرج من وقع السيوف عليهم، طبعاً الذي قتل المشركين في غزوة بدر أكثرهم من الأنصار، فقد كان أكثر الجيش المسلم من الأنصار، قال:
[ حين حكت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خفوا عند ذاكم رقصاً رقص الحفان يعلو في الجبل ].
وهذا الشاهد منها، خفوا عند ذاكم، يعني: صعدوا يسعون.
رقصاً: يشبههم في شدة جريهم بالذي يرقص.
رقص الحفان يعلو في الجبل.
[ فقتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل.
والحفان: صغار النعم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلاً من أصحابه.
نساء المشركين هند وصاحباتها قد رفعن عن سوقهن لتستطعن الجري.
وهذه كانت إرادة الدنيا التي محصهم الله عز وجل بها، فقال:
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا
.
والجيش كان ألفاً، ثلاثمائة عادوا من منتصف الطريق، وأثناء المعركة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم من خلاصة الخلاصة اثنا عشر رجلاً، وهذا أمر عظيم وهائل، فأكثر الصحابة ليسوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هزيمة ولولا أن الله عز وجل عفا عنهم لاستُؤصِلُوا، وهذا من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: أن اثني عشر رجلاً وسط ثلاثة آلاف شخص فلا بد أن يقتلوه، فيمنعه الله عز وجل ويحفظه صلى الله عليه وسلم، وبطولات الصحابة رضي الله عنهم الاثني عشر خصوصاً، سبعة منهم من الأنصار على الأقل غير خافية.
فسأل عن هؤلاء الثلاثة؛ لأن عليهم قيام الدين، مع أنه يوجد أناس أشد من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في القتال، لكن قوام الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي بكر وعمر .
فالدفاع على العقيدة مأمور به، وإغاظة المشركين جائز ومباح، والانتصار للنفس منهي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال أولاً عندما سأل أبو سفيان عنه: (لا تجيبوه)؛ لأن في السكوت عنه كانت المصلحة وعندما بدأ يفتخر بنفسه فكان أمر إغاظته مسكوت عنه فانتهز الفرصة عمر وأجابه، وفي الثالثة لما ذكر الثلاثة مجموعين وقال: (أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم) لم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أذن لـعمر في الانتصار للنفس. وقال لهم: أجيبوه لما افتخر بإلهه وقال: (اعل هبل، فقال: ألا تجيبوه؟!) فعندما يُطعن في الدين لا بد أن يجاب عن الطعن، ولا بد أن يرد على الطاعن، وعندما يكون الطعن في أشخاصنا فيمكن أن نسكت، وممكن أن نرد.
وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصراً، ورواه بأبسط من هذا أيضاً ].
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعده للساعة الشديدة رضي الله عنه، فقد قاتل قتال أحد عشر رجلاً من الأنصار، وهو الذي ردهم رضي الله عنه.
[ وأصيبت أنامله فقال: حس حس -صوت التألم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك، حتى تلج بك في جو السماء) ].
وهنا تتجلى أهمية التربية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه وهو في شدة المعمعة أن يقول: باسم الله، وهذا دليل على أنه ليس هناك شيء يشغل عن ذكر ربنا، فإن القتال كان هائلاً جداً، والناس يقتلون بين أيديهم، وهو يقاتل قتال الأحد عشر رجلاً رضي الله عنه، فعندما قال: حس، وهي مثل قولنا: أي، متألماً من الجرح فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لو قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة).
قال: [ ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون ].
فالذي رد المشركين هو طلحة رضي الله تعالى عنه.
قال: [ وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد
شلت يده رضي الله عنه؛ لأنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقى بها النبي ضربة ليس لها واق إلا يد طلحة رضي الله عنه.
والإنسان عنده رد فعل في الجسم البشري طبيعي وهو أنه عندما يأتي عليه شيء مؤلم يبتعد عنه، وهذه كرامة عظيمة لـطلحة ، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن السيف يراد به ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما تأتي الضربة لشخص يرفع يده تلقائياً رغماً عنه من غير شعور في حينه، فهو من غير شعور حرك يده ناحية النبي صلى الله عليه وسلم ليقي بها النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه من جراء الضربة.
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش قال: من يردهم عنا وله الجنة -أو وهو رفيقي في الجنة- فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً -أي: أوشكوا أن يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) -أي: أصحابنا الذين فروا ما أنصفونا حين تركونا في هذا العدد القليل وسط المشركين- وفي رواية: (ما أنصَفْنا أصحابنا) رواه مسلم .
وقال الحسن بن عرفة : وفي رواية حدثنا مروان بن معاوية عن هشام بن هشام الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ارم فداك أبي وأمي) ].
يعني: نثرها صلى الله عليه وسلم، وأخرج له جعبة السهام؛ ليرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفداه بأبيه وأمه، وهذه منقبة عظيمة لـسعد .
[ وأخرجه البخاري أيضاً.
وروى محمد بن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد : (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به) ].
يعني: يرمي بأي شيء موجود حتى يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: (رأيت يوم أحد رجلين يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني: جبريل وميكائيل عليهما السلام) ].
الحديث متفق على صحته، وهو من معجزات النبوة الظاهرة.
[ وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت بن أنس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما أرهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو وهو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً، فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) رواه مسلم ].
قوله: (ما أنصفنا أصحابنا) يعني: المهاجرين ما أنصفوا الأنصار إذ قتل سبعة منهم، لكن الرواية الأولى أشهر، (ما أنصفنا أصحابنا) أي: الذين فروا عنا.
وهو في الحديد، وليس هناك شيء ظاهر منه، من ذا الذي يقتله، ولكن مصعب ضحى بنفسه وليس عليه إلا نمرة فقط، وليس عنده ثياب، وليس عليه شيء من الحديد، ولما أرادوا تكفينه فإن غُطي بنمرته رأسه ظهرت قدماه، وإن غطيت قدماه ظهر رأسه رضي الله تعالى عنه، فقاتل شخصاً في الحديد وقاية للنبي عليه الصلاة والسلام، مصعب رضي الله عنه هو سفير الإسلام، الذي دخل أهل المدينة الإسلام على يديه رضي الله تعالى عنه، الذي يقول عنه عبد الرحمن بن عوف : قتل مصعب وهو أفضل مني رضي الله تعالى عنهم.
قال: [ (فقتل
يعني: البيضة المغطية على الرأس، والدرع المغطي على الصدر، فهناك بقعة ما بين عظمة الترقوة فقط بقعة من جلد أغلبه من غير عظم.
قال: [ (وطعنه فيها بحربته) ].
- فالنبي صلى الله عليه وسلم طعن أبي في البقعة الضيقة هذه.
[ (فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم) ].
فالمكان ضيق جداً فالأمر لا يزيد عن الخدش.
لماذا أنت خائف؟ فالحربة لم تدخل في المسافة ما بين البيضة والدرع!
قال: [ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنا أقتل أبيـاً) ].
فخوفه كله من أن الرسول قال ذلك، وهو يعلم أنه صادق.
قال: [ (والذي نفسي بيده! لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين) ].
معناه: أن السوق الكبير في الحج لو توزع عليهم ضربة النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي لماتوا من الألم، قال الله عز وجل:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
[الأنعام:33] أي: إنهم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك عندما قال: (بل أنا أقتل
قال: [ (فمات إلى النار) -والعياذ بالله-
فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ
[الملك:11].
وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وذكر محمد بن إسحاق قال: (لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه
أي: هزها الرسول بشدة تركت الصحابة يبتعدوا من شدة النفضة.
قال: [ (ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها -أي: سقط منها- عن فرسه مراراً) وذكر الواقدي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك.
وقال الواقدي : وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ ].
أي: بينما هو عائد إلى مكة مات بسبب هذا الجرح في الطريق، في رابغ وهو مكان بين مكة والمدينة.
قال ابن عمر : [ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأجج فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش ].
أي: رجل خارج من النار يشد على نفسه بسلسلة ويقول: العطش العطش.
[ وإذا رجل يقول: لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف ] - نعوذ بالله-
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، - أي: سن النبي صلى الله عليه وسلم التي كسرت- واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) وأخرجه البخاري عن ابن عباس قال: (اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله، واشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].
ومعنى: أدموه ودموه أي: جعلوا الدم يسيل من وجهه عليه الصلاة والسلام، وذلك حين جرحوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
[ وقال محمد بن إسحاق : (أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجنته وكلمت شفته) ].
كلمت أي: جرحت شفة النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت سنه الرباعية اليمنى السفلى، وجرحت وجنته عليه الصلاة والسلام، وهشمت البيضة فوق رأسه، وهو رسول صلى الله عليه وسلم، والذي فعل به ذلك هم من اشتد غضب الله عليهم.
لنعلم حقيقة التوحيد، وأن الله بيده الأمر كله، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان غاضباً من ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يقاوم المشركين ومع ذلك قدر الله أن يقع ذلك ليكون ما جرى على سيد البشر صلى الله عليه وسلم وسادات الأولياء من بعده من الجرح والألم والقتل من أدلة التوحيد، ولنعلم أن هذا الأمر قدره الله عز وجل ليبتلي عباده المؤمنين، وكذلك ليكونوا أسوة لعباد الله عبر العصور في الصبر والثبات والتضحية والتحمل في سبيل الله عز وجل.
و عتبة بن أبي وقاص مات كافراً، ولنا في الولاء والبراء درس عظيم فـسعد حرص أعظم الحرص على قتل أخيه؛ لأنه كان كافراً ولأنه دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى ثمرة البغضاء التي وقعت لهذا الرجل في قول سعد: إنه كان سيء الخلق مبغضاً في قومه؛ لأن الله أبغضه واشتد غضبه عليه؛ لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كريهاً مكروهاً والعياذ بالله.
قال: [ وروى عبد الرزاق : عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: (اللهم! لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً) فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار.
الذي هو عم الإمام محمد بن شهاب الزهري .
[ يقول يومئذ: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد -واقف بجانبه وهو يقول: دلوني عليه- ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان -يقول له: كان واقف بجانبك- فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي : والذي ثبت عندنا أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص .
قال ابن كثير: [وقال أبو داود الطيالسي : عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد أي: قال: ذاك يوم كله لـطلحة ، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد -أول من رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام- فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، وأراه قال حمية فقال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه ].
طلحة أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه، لكن هو يعرف أن طلحة هو الذي يقدر أن يدافع على النبي عليه الصلاة والسلام، فتمنى أن يكون طلحة وبدا أنه ليس هو الذي كان يقاتل في ذلك الموقف، يقول: [ لو كان رجلاً من قومي أحب إلي ] من أن يكون من بلد آخر، كأن يكون واحداً من الأنصار مثلاً أو من غيرهم.
قوله: [ وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفاً لا أخطئه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح].
معنى: [ خطفاً لا أخطئه ]. يعني: خطفاً لا أعرفه، وفي رواية: لا أحفظه.
قال: [ فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكما صاحبكما) يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت الآن أنزع ذلك من وجهه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني، فتركته ] وحديثه هذا فيه ضعف.
قال: [ فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة ].
سن أبي عبيدة بن الجراح وقعت مع حلقة المغفر، وهذه قصة ثابتة مشهورة؛ لأن اللفظ الذي هو غريب منكر هو قوله: أقسمت عليك بحقي، فإن الحلف بغير الله لا يجوز.
قال: [ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة أحسن الناس هتماً ].
الأهتم هو من تكسرت ثناياه من أصلها.
[ فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفر فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه ].
فأبقاه الله عز وجل لقتال المشركين والكفار بعد ذلك في الوقائع العظمى رضي الله عنه.
[ ورواه الهيثم بن كليب والطبراني، وعند الهيثم قال أبو عبيدة : أنشدك الله يا أبا بكر ! إلا تركتني؟ ].
ولعل هذا هو الأقرب.
[ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي، وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم.
وروى ابن وهب عن عمر بن السائب : أنه بلغه أن مالكاً أبا سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه -أي: من الدم- ولاح أبيض فقيل له: مجه - أي: اتفل الدم- فقال: لا والله! لا أمجه أبداً ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد) ].
وهذا أيضاً ضعيف، فلا يستدل به على طهارة الدم، وبعضهم يقول: طهارة دم النبي صلى الله عليه وسلم وفضلاته خصوصية، وليس على هذا دليل.
[ وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن ].
وضع الماء في الترس؛ لأنه ليس عندهم أدوات.
[ فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ].
هذا فيه مشروعية المداواة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى من جرحه.
الجواب: الأفضل أن لا ندعو على المعين، والرواية المذكورة مرسلة، وهناك أشياء في السيرة تذكر بأسانيد فيها مقال، وهي تذكر لمعرفة الوقائع، أما إذا كان سيترتب عليها أحكام، مثل لفظة: (أقسمت عليك بحقي)؛ فإننا نبين ضعفه، وكذلك حديث: (اللهم! لا تمر عليه الحول حتى يموت كافراً) فهو حديث ضعيف، وإن صح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه يموت كافراً، فدعا عليه أن يموت في ذلك العام.
الجواب: حين هنئونا بعيدنا هنئونا بحق فلا يجوز أن نهنئهم بباطل، فلا شك أن أعياد المسلمين أعياد تستحق أن يُهنئوا عليها؛ لأنهم أتموا طاعات لله عز وجل: فقد أتموا صيام رمضان، وعبدوا الله في الأيام العشر، وضحوا لله عز وجل بالأضحية، وصلوا صلاة العيدين، وفعلوا طاعات فالتهنئة بها تهنئة على خير.
أما هم فهم يسبون الله سبحانه وتعالى، وهذا بنص الحديث في الصحيحين: يقول الله عز وجل فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً) فهل تهنئوهم على شتم الرب سبحانه وتعالى.. وعده؟ وهل يتصور مسلم ذلك؟ بمعنى: لو أن إنساناً سب أباك أو أمك، فأتيت في موعد السب من كل عام وقلت له: كل سنة وأنت طيب، والعياذ بالله، فهم يسبون الله عز وجل بقولهم:
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا
[البقرة:116] نعوذ بالله، أيُهنَئون على ذلك؟ ونقول: إن هذا من باب المجاملة، فما أسوأ هذه المجاملات.
إنما يمكن أن يُهنَئوا بما كان من خير لو أرادوا به طاعة الله، مثل الزواج فإنه عفة، فيجوز تهنئتهم بالزواج، وقد يهنأ أحدهم بأمر دنيوي كمولود يحصل له، أما أن يهنأ على كفر على باطل على شرك، أو يهنأ على رئاسة كفرية، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
وهذا من متابعتهم على باطلهم، فما أصاب المسلمين هذا إلا بسبب مثل هذه المجاملات بالباطل، حتى وصل الأمر إلى أن يقال للناس: إن من حق الكفار أن يسنوا ما شاءوا، وأن ذلك دبلوماسية أو مجاملة، فالكفر هكذا يجعل الباطل حقاً والحق باطلاً.
والإنسان عندما يداهن الكفار، يزعم أنه يكون من حقه أن يخالف صريح القرآن، فيرى أن من حق الإنسان أن يكفر بالله عز وجل، وأن يحارب دينه، نعم يكون هذا من حقه؛ لأنه كفر أول مرة، كما يقول الله سبحانه وتعالى:
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
[القلم:37-38].
فكوننا نجامل على حساب الدين هذا من المداهنة بالباطل، ومن الركون إلى الذين ظلموا والعياذ بالله!
الجواب: هذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف نص القرآن، قال عز وجل:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
[الزمر:30] فالذين يقولون: إنه سوف يموت، نقول لهم: قد قال أبو بكر رضي الله عنه في محضر الصحابة: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات) وهذا متفق على صحته، والذي يشكك في ذلك كاذب ضال مضل.
وأما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي عند ربه، فهذا الذي نعتقده، وحياته أكمل من حياة الشهداء، فهو يعيش حياة برزخية لا تنافي الموت، وكما أن الشهداء لا يعاملون معاملة الأحياء في الدنيا، وقل كما قال الله عز وجل، بأن الرسول حي عند ربه وهو أكمل من حياة الشهداء بلا شك، ولكن عند ربه ليس في الدنيا، فإن الشهداء -بإجماع المسلمين- يورثون ويدفنون، ويجوز التزوج بنسائهم، وكل الأحكام الشرعية والدنيوية، وكل العقلاء يقولون: إن هؤلاء قد ماتوا وهم أحياء، لكن حياة لا تنافي الموت الدنيوي، ولا تنافي الموت على الأرض؛ لأنها حياة عند الله وليست حياة على وجه الأرض، وكذلك هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: هذا كلام باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
وقد نقل الاتفاق على منع بيع هذه الأربعة غير واحد من أهل العلم، والحديث في ذلك صحيح متفق على صحته، وقد سمع أن بعض المشايخ أيضاً يفتي بذلك بشرط أن لا يتجاوز حاجة المسلم الذي يبيع ذلك، وهذا باطل والمال مال محرم، فلا يجوز بيعه لمسلم ولا لكافر فإن الله سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء، بل لعن من باعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم جملوه -يعني: أسالوه- فباعوه وأكلوا ثمنه) وقال: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم أكل ثمنه) .
الجواب: لا شك أن هذه أحد الصور، لكن إذا أمكنه أن يدفعه بلسانه أولاً فعل، كأن يحذره، وقد ذكر الله ذلك في الصائل، فإن لم يندفع بقوله دفعه بفعله، فإن لم يمكن القول؛ لأنه يعلم أنه سوف يبادر إلى قتله، أو مثلاً: يختطف امرأة وهو شاهر السلاح، ولو كلمه لأخذها وهرب، فيجب هنا أن يغير بيده؛ لأنه عجز عن التغيير باللسان في تلك اللحظة، وهذا هو الترتيب الشرعي.
الجواب: لا، لا يلزمك أن تقول ذلك، لكن إن سألك فتجيبه؛ لأن مسألة قضاء الفوائت مسألة خلافية، فإذا رأيت شخصاً يقضي الفوائت واستفتاك فيلزمك أن تقول ما تعتقد إن كنت طالب علم مميز، أو تنقل ترجيح من ترى من أهل العلم، لكن لا يلزمك ذلك، فالمسألة فيها خلاف، والذي يفعله هذا الرجل هو قول جمهور العلماء، وإن كنا نرى خلافه، لكن لا يلزم في المسائل التي فيها اجتهاد وخلاف سائغ أن تغير مذهب الآخرين، ولا ينبغي أن تنكر عليهم في مسألة فيها خلاف سائغ.
الجواب: عليك أن تعرف يوم ملك النصاب، وفرض على كل أحد معه مال بلغ النصاب أن يعرف تاريخ ملكه للنصاب، ونصاب الفضة 595 جراماً، فهذا اليوم يتم حفظه، وفي كل سنة هجرية من هذا اليوم عليه أن يجرد البضاعة التي عنده، والمال السائل الذي معه، ويخرج على الموجود بقيمة البضاعة، إضافة إلى المال السائل التي هي سعرها يوم حساب الزكاة، ثم يخرج 2.5% من المجموع، ويخصم منها الديون التي عليه إذا كان عليه ديون لأحد، وإذا كان له ديون على أناس فهو مخير بين أن يخرج زكاتها مقدماً 2.5% أو عندما يقبضها يخرج منها فوراً 2.5% لما مضى من السنوات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر