www.islamweb.net/ar/

موانع الالتزام للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • كما أن للجنة دعاة فللنار دعاة، وفي كل السبيلين سالكون، وشتان بين مشرق ومغرب، ومن عزم على سلوك الجنة فسيجد دعاة النار من حوله يعيقونه، وقد يؤذونه، ولكن الكيس تهون أمامه كل الموانع والعقبات، ويستسهل كل صعب، ويبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إلى مطلوبه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

    أهمية الالتزام

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    الالتزام هو مفتاح حل مشاكل الأمة، إذ الأمة في محنة عظيمة وخطيرة وفي مفترق طرق، وعدوها يتربص بها من كل جانب، ويمكر بها لصرفها عن دينها، ولأخذ ثرواتها، وتدنيس مقدساتها، وتفريق جمعها، ولإضلال رجالها ونسائها وشبابها، فما هو المخرج؟

    إن الالتزام قضية يجب أن تكون محور اهتمام كل واحد منا؛ لأنه في الحقيقة ليس باباً يفتح ثم يجلس الإنسان بجواره، بل عمل مستمر دائم، فأنت تطلب من الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم سبع عشرة مرة، وقد أسلمت بحمد الله، فدل ذلك على حاجتك الماسة إلى سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم علماً تفصيلياً بحدوده، وحباً لسلوكه، وامتثالاً وانقياداً وسيراً فعلياً على ذلك، وثباتاً عليه إلى أن تلقى الله سبحانه وتعالى.

    إن قضية الالتزام بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالكتاب والسنة قضية عظيمة لابد أن تكون لدى كل واحد منا هي الهدف الأول في حياته؛ لأنها تحقيق العبودية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    موانع الالتزام

    الشيطان العدو الأول

    عدوك اللدود يقف لك بالمرصاد، ويريد أن يصدك عن الالتزام بطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشيطان الرجيم، فإذا علمت أن عدوك هذا يريد أن يسرق منك هذا الكنز العظيم فلابد أن تدرك قيمة هذا الكنز، ولابد أن تحرص عليه، وتسبق إليه، وتحوطه وتحميه، وإذا لم تكن قد وصلت إليه بعد فسارع قبل أن يفوتك، وإذا علمت أن عدوك اللدود يقف لك بالمرصاد فيضع الحواجز والعقبات ليمنعك من الالتزام، فتحرم من الفوز بهذا الكنز العظيم:كنز الاقتراب من الله عز وجل، وحبه سبحانه وتعالى، ومخافته والشوق إليه، وعبادته بكل أنواع العبادة، فلا بد من الاجتهاد في مدافعته؛ لأنه لا يتركك، بل يحاول معك من داخلك ومن خارجك، يحاول معك جاهداً أن يبعدك عن حقيقة الالتزام، فيستغل ما فطرت عليه من رغبات وإرادات وشهوات، لكي يدفعك لترتكب الحرام وإن كنت في ظاهرك أو في قناعتك قد التزمت، فغايته أن يبعدك، ولذا يسلط عليك أولياءه وأعوانه لينالوا منك أنواع الأذى إن لم يستطيعوا أن يأخذوك بعيداً عن الكنز الذي يريد أن يسرقه منك؛ لأنه حرم هذا الكنز، فقد رُفع في الملأ الأعلى، ثم طرد وأبعد وأهبط وصغِّر وحُقِّر لما تكبّر وأبى، ورد أمرَ الله سبحانه بما وقع في قلبه من الحقد، والحسد، وكل ذلك أدى به إلى الكفر -والعياذ بالله- فهو يحسدك -أيها المسلم- على ما من الله عز وجل عليك به من هذا الدين، وما يرزقك ربك سبحانه وتعالى من معرفته، ومحبته، فهو لشدة غيظه يكاد يموت لولا أن الله كتب له البقاء إلى يوم يبعثون.

    فإنه إذا شاهد إنساناً قد سلك طريق الالتزام والقرب من الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، زاد حنقه وجزعه، ولذا لابد أن تعلم أنك في حرب ضروس، فتستشعر خطورة هذه الحرب، وبالتالي تقف على كل الصفوف، وتدافع عن نفسك، فقلبك هو أرض المعركة الذي يراد أن يلقى في سجن الشهوات والرغبات المحرمة وسجن الشبهات المضلة والأفكار والتصورات الردية التي تهلك الإنسان، فأنت أرض المعركة، وأنت من يريدون أن يأخذوه بعيداً عن أن يقترب من الله عز وجل، وأن يحب الله سبحانه وتعالى.

    من هنا نقول: هذا السؤال ليس موجهاً إلى غير الملتزمين فقط، بل هو موجه إلى الملتزمين أيضاً؛ لأن الالتزام -كما ذكرنا- بحاجة إلى رعاية وحراسة، وإلى ازدياد؛ لأنه إذا لم يزدد نقص، وإذا توقف أدركه الأعداء قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله، قال الله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فلابد أن تدرك هذه العداوة وتعد للحرب عدتها.

    تصور أن دولة يُعِدُ الأعداء العدة لحربها وقادتها ومن فيها يلهون ويلعبون ولا يفكرون بالحرب، ولا بإعداد العدة، ولا بوضع الخطط، ولا بتحصين الثغور، ماذا تكون النتيجة؟!

    لذلك نقول: إن أول موانع الالتزام هو الشيطان، وإن مما تقاوم به شيطانك أن تستشعر عداوته، ولم يكتف ربنا سبحانه وتعالى بأن أخبرنا بعداوته لنا بل قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، لأنك بمجرد أن تقول لإنسان: فلان عدو لك، فإنه تلقائياً إذا صدق الخبر أخذ منه موقف العداء، لكن الله سبحانه قال: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وهذا تأكيد، لماذا؟ لأن كثيراً من الناس يعلم أنه عدوه وفي نفس الوقت يتخذه ولياً والعياذ بالله فيطيعه ولا يستحضر عداوته، وينسى تلك العداوة بعد حين، بل يجعله راعيه كمن جعل الذئب راعي للغنم، ويجعل من همه وإرادته إضلاله وتوصيله إلى السعير ولياً له! قال عز وجل: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].

    فإنهم تولوه حين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون. ولذا لا بد أن تعلم أن الشيطان يجري منك مجرى الدم، وهذا يقتضي منا حراسة الثغور، وأكثر الناس يؤتون من قبل عدم أخذ العدة، فيتركون الثغور التي ينفذ منها الشيطان إلى القلب، فيترتب على ذلك الامتناع عن الالتزام، وأن يدخل العدو إلى القلب، فهناك ثغر العين، وهناك ثغر الأذن، وهناك ثغر الفم، وهناك ثغر البطن، وهناك ثغر الفرج، وهناك ثغر اليدين والرجلين، فكلها ثغور إن لم يكن عليها حراسة دخل العدو إلى الأرض، فاستباح الحرمات، وأسر الملك، وصرّف هذه الجوارح في غير مرضاة الله سبحانه وتعالى، صرفها في غير مصلحتها، واستعمر المكان يعني استخربه في الحقيقة، وألقى القلب في السجن، وأمَّرَ النفس الأمارة بالسوء، وهذا كما نرى في الدول فعلاً، عندما يحتل الأعداء البلد يأتون بعملاء، ثم يوجهونهم ويأمرونهم، وهم ينفذون لهم خططهم، فهو يؤمِّر النفس الأمارة بالسوء؛ لتتصرف في الجوارح، ولتجعل كل الثغور مستغلة لمصلحة العدو والعياذ بالله.

    كثير من الناس بدل أن ينظر إلى آيات الله سبحانه وتعالى بعينه فيتفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في آيات الله المكتوبة فينظر في المصحف، وينظر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتب العلم؛ تجده ينظر ليل نهار فيما حرم الله عز وجل عليه، ينظر إلى العورات المكشوفة، ينظر إلى ما يهيج عليه شهواته، وسائر المفاسد متعلقة بثغر العين وهي كثيرة جداً، فلا بد أن تقف بالمرصاد لتحرس هذا الثغر وتمنع وصول مدد الأعداء إليه، فتغض بصرك عما حرم الله عز وجل، كما قال عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، فهذا من أعظم موانع الالتزام، أعني ترك ثغر العين مفتوحاً بلا حراسة، وعدم تحقيق غض البصر، وإطلاقه إلى العورات المكشوفة في الطرقات وفي وسائل الإعلام من فيديو، وتلفزيون، ومجلات، ودش، والبحث عما حرم الله سبحانه وتعالى من ذلك، كل ذلك من أعظم أسباب الانحراف؛ لأنه أقصر المداخل إلى القلب، فالعين إذا لم تحرسها وتدفعها من النظر إلى الحرام دخل الشيطان بأسهل طريق إلى القلب وسيطر عليه وقذف فيه حب الشهوات، والشهوة الجنسية من أقوى الشهوات الإنسانية، حتى لقد قال الزنادقة والكفرة: إن الشهوة الجنسية هي المحرك الأساسي لعالم البشر، وإنها هي التي تدور حولها كل رغباتهم وإراداتهم، وكذبوا في ذلك، فالإنسان أعلى قدراً من هذا، ولكن قلوبهم المطموسة وأفكارهم المنكوسة هي التي أدت بهم إلى أن يقولوا: إن الشهوة الجنسية هي المحرك الحقيقي لكل رغبات الإنسان، لكنها بلا شك من أقوى الشهوات، ولا يمل الناس منها، فهل وقف الغرب عند حد في أمر الشهوة الجنسية؟! هل توقفوا وزهدوا في هذه الشهوة؟! هل زهدوا في هذه المناظر مع أنهم يرون ليل نهار أنواعاً من الفتن والمضلات؟! لا.

    لذلك نقول: لابد أن تحرص على غض البصر، فهذه الشهوة تجر شهوات بعدها، فشهوة الفرج مبنية على شهوة العين في المقام الأول، وكم يأتي الصيف بأنواع المصائب، وإن كان الصيف والشتاء في زماننا قد صار مليئاً بالمصائب بهذه الملابس الضيقة وهذه العورات المكشوفة وهذا التبرج والسفور المنكر الذي حرمه الله عز وجل وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من الكبائر، قال عز وجل: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فالله سبحانه وتعالى حرم الجنة على هؤلاء المتبرجات، (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، وإني لأعجب لماذا تفتح على نفسك باب الشهوات من خلال النظر؟! بل كثير من الشباب من موانع التزامه الحقيقي أنه يستسلم للشهوة الجنسية، إما بأن يسير مع الفتيات المنحلات، وإما بأن يرتكب العادة السيئة المعروفة بالعادة السرية (الاستمناء)، وإما بأن ينظر إلى الصور العارية، وذلك يفتح عليه أبواب الفتنة، التي لو سدها من أول الطريق لكان ذلك من أعظم ما يعينه على الالتزام.

    كما أن حراسة الخواطر من أهم الأبواب وأعظمها؛ ولا شك أن ثغر العين هو المفتاح، والصورة المحرمة تشمل الشكل الحي وتشمل أيضاً الصورة المرسومة أو المجسمة أو المتحركة التي تراها في وسائل الإعلام، بل كلام العلماء من السلف على عشق الصور مقصودهم به: الصورة الحسية كالنساء والولدان وغير ذلك، فمثل هذا الأمر لابد من الحذر منه، أن يحرس الخواطر عن التفكير حتى يبتعد عن هذه الشهوة المحرمة، فعليه أن يتقي الله عز وجل في تفكيره في تلك اللحظات التي يقضيها بمفرده غارقاً في أحلام يقظته، فالخواطر من أعظم الأسباب الجالبة للمنكر، ومثال ذلك إنسان يمشي بسيارته على أسرع ما يمكن، وهو يريد أن يوقفها بعد عدة أمتار عند حاجز معين، فيظل يزيد من سرعة السيارة، ويجعلها تنطلق بأقصى سرعة، فلا يمكنه ذلك لزيادة السرعة، وكان عليه وهو يريد أن يقف عند حد معين أن يهدئ السرعة بالتدريج حتى يقف عند الحد المطلوب، أما أن يسير بأقصى سرعة ومِن ثم يوقفها مرة واحدة فهذا غير ممكن.

    وكذلك الإنسان الذي يداوم على استحضار الأفكار ويتخيل أنه سوف يفعل كذا وكذا وكذا، مستحضراً للصورة في ذهنه، خصوصاً قبل النوم، أو في أماكن الخلاء كالحمام وغيره، فإذا ظل يفكر في هذه الشهوة، فإنه ولا شك سوف يعجز عن أن يوقف هذه الشهوة عند حدها، وسوف يمارس العادة السيئة، أو يسعى في نيل الحرام والعياذ بالله.

    وأهل الباطل يزينون لكثير من الشباب أن بعض العلاقات تخفف الشهوة، فيدعون إلى الصداقة البريئة -كما يزعمون- مع الفتيات، ويبيحون الاختلاط، بحجة أن هذه الأمور تهدئ الشهوة الجنسية، وإليك ما قاله علماء الغرب، والحكمة تؤخذ من كل قائل لها، وأبلغ ما يكون ذلك من الأعداء الذين ابتدعوا هذا الاختلاط، فهذا خبر منشور في الجرائد وعلى النت، وهو أن الهيئات التعليمية الأمريكية أعدت مشروعاً للموافقة عليه ويؤيده الرئيس الأمريكي، وفيه منع الاختلاط في المدارس من سن البلوغ بين الشبان والفتيات، وهذا ليس من منطلق ديني قطعاً، فهؤلاء قوم عندهم من الكفر والإباحية ما عندهم، لكن من منطلق أن مستوى الطلاب والطالبات في المدارس المختلطة أقل من مستواهم العلمي في المدارس غير المختلطة؛ وذاك لشدة اهتمام كل من الطرفين بالآخر في المدارس المختلطة مما يشغل فكر الطالب والطالبة بالتهيؤ والاستعداد الشكلي أمام الآخرين، وبذلك قرروا أن توجد مدارس منفصلة بين كلا الجنسين بدلاً من المدارس المختلطة الموجودة.

    وأهل الباطل والضلال يقولون: إن هذه العلاقات تخفف الشهوة، والصواب أنها تزيدها، فالإنسان إذا غض بصره ملك فرجه، واستطاع أن يمنع نفسه من الحرام، وإذا أطلق لنفسه العنان فلن يستطيع أن يحفظ فرجه، وكما ذكرنا فهذه الشهوة لا يملها الإنسان طالما بقيت فيه إلى أن يصل إلى السن الذي لا يجد فيه هذه الرغبة، لكن سوف يظل مع الشيطان يستغله إلى آخر لحظة.

    المجتمعات الغربية لم يكن فيها هذا العري منذ نحو مائة سنة، بل إلى يومنا هذا في دينهم أن غض البصر واجب، ومع ذلك هم لا يلتزمون بدينهم، فقد قد ألقوه وراءهم ظهرياً، فعندهم أن المسيح قال: وأما أنا فأقول لكم: من نظر بعينه فقد زنا. فالأنبياء جاءوا بدعوة واحدة، فيها غض البصر، وحفظ الفرج، وستر العورات، وعدم التعري، فالشيطان هو الذي يريد كشف العورة، وهذا من خططه الخبيثة الماكرة كما قال سبحانه وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].

    فالشيطان هو الذي يريد كشف العورة؛ لكي يتوصل بذلك إلى نيل الحرام، وغالباً ما تقترن مجالس الاختلاط بكثير من المنكرات، ودائماً يصفونها بأنها سهرات حمراء، ولا بد فيها من الشهوة الجنسية، كما لا بد معها من شهوة المسكر والعياذ بالله؛ والإنسان لا شك أن قلبه يتألم من مخالفة شرع الله، وهو لا يدري من أين يأتيه الألم، بل إن كثيراً من الناس لا يدرون من أين يأتيهم الشقاء، والحقيقة أن سبب الشقاء هو البعد عن دين الله سبحانه وتعالى، ومخالفة شرع الله عز وجل، وهم حين يشعرون بذلك يريدون أن تغيب عقولهم لكي تتخيل السعادة المفقودة، فإذا غابت العقول تخيلوا الوهم حقيقة، وتصوروا أن ما بخيالهم المريض هو الذي يجدونه بالفعل؛ ولذا يتعاطون شرب المسكر من الخمر والمخدرات التي تملأ السهل والوادي في العالم، فهي من أربح التجارات ومن أخسرها كذلك، من أربح التجارات فيما يظنون في الدنيا، ولكنها من أعظم الأشياء تدميراً للدين والدنيا والآخرة والعياذ بالله، وكل ذلك بابه الشهوة الجنسية، فكثير من الناس إنما يشربون الخمر -والعياذ بالله- لأجل أن يستمتعوا بالشهوة الوهمية في أمر الجنس، ولذا لا بد من الحذر الشديد، فالخمر مفتاح الشر، والوسيلة الأساسية للشيطان لكي ينام القلب ولا يتألم لأنواع المعاصي والشهوات التي تؤلمه في الحقيقة، فالخمر يعمل عمل المخدر لمريضٍ قرر له جراحةٍ ما، فالمريض لو شعر بالألم أثناء الجراحة لصرخ، ولما مكنهم من ذلك، فيعطونه المخدر، كذلك الشيطان يريد أن يقطع القلب إرباً، ويريد أن يمزقه، فكيف يتمكن من ذلك؟ بالمخدرات، والشهوات المسكرة، ومن أعظمها خطراً المخدرات المعروفة والمسكرات من خمر وبيرة وأقراص وغير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).

    وإذا علم العبد أن هذه المخدرات وهذه الخمر من أسباب غضب الله عز وجل عليه، ومن مات مدمناً للخمر كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال عصارة أهل النار -نعوذ بالله من ذلك-، ومن مات وهو مدمن الخمر لم يشربها في الآخرة والعياذ بالله، وربما مات كافراً إذا ترك الصلاة، وربما استحل أنواع الكفر وفعلها أثناء سكره والعياذ بالله، فإذا مات على تلك الحال كان غير معذور، ومات كافراً كما يقول ذلك بعض أهل العلم.

    وعلى كلٍ فالشهوات كلها تدخل من خلال هذا الباب، وهذا من أعظم أسباب الفساد، ومن أعظم أسباب موانع الالتزام، والمدخل لهاتين الشهوتين هي الشهوة الجنسية، فإنها محرك كبير جداً، والخمر مطلوبة لتسكين ألم القلب؛ وإيهامه بأنه سعيد وهو في الحقيقة تعيس، وإيهامه بأنه يتلذذ وهو في الحقيقة يتألم.

    والشيطان يفسد الإنسان من خلال قرناء السوء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).

    فقرناء السوء من أعظم أسباب فساد المجتمعات، ومن أعظم أسباب فساد الرجال والنساء، فلو سألت أحد المدخنين مثلاً: ما الذي جعلك تدخن؟ فسوف تجد من وراء ذلك صديقاً أعطاه (سيجارة) في يوم من الأيام، ولو سألت من أدمن على المخدرات أو على الخمر: ما الذي جعلك تدمن؟ فسوف تجد من وراء ذلك صديق سوءٍ قال له: جرب هذا ففيه اللذة وفيه السعادة وفيه كذا وكذا والعياذ بالله من ذلك، فمن أعظم أسباب موانع الالتزام قرناء السوء، فعليك أن تبحث لنفسك عن جليس صالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) فنافخ الكير مثل الحداد، إما أن يكون محرقاً لثيابك مدمراً لك، وإن ابتعدت عنه وجدت منه الريح الخبيثة، أما حامل المسك فهو الجليس الصالح الذي إما أن يكون أفضل منك فيحذيك أي: يعطيك مجاناً من غير أن يأخذ منك مالاً فهو بحاجة إليك، ولكن أنت في حاجة إليه، وإما أن يكون مثلك تتعاون معه على طاعة الله فتبتاع منه وتتبادلان النصح ويساعد كل منكما الآخر ويتفقده، وحتى لو كان أقل منك فلن تجد منه إلا الريح الطيبة، فإنك إن صحبت هذا النوع تجد فيه الطهر، والبعد عن الفحش، والبعد عن الفساد، وتجد منه ذكر الله سبحانه وتعالى.

    وتأمل أخي في قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أراد الله عز وجل أن يهديه، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل راهب فأتاه فسأله هل له من توبة؟ فقال: لا؛ فقتله فكمل به المائة؛ لأنه يأسه من رحمة الله، وقال: لا توبة لك؛ فقتله غلظاً منه؛ لأنه تعود على القتل واستخف بدماء الناس، ولكن إرادة الله في الهداية سابقة، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه فسأله فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟! فقد كان الرجل فقيهاً عالماً، يعلم أن مجتمع السوء وأصحاب السوء تركوه يقتل مائة نفس ولم ينهه أحد ولم يزجره أحد ولم يمنعه أحد، فلا يمكن أن يلتزم طالما بقي في وسطهم، ولأن الرجل كان فقيهاً يعلم لوازم التوبة فقد قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، وهو بذلك يبعده عن البيئة الخبيثة، وعن أصحاب السوء الذين سكتوا عنه على الأقل، وأرشده إلى أن يبحث عن بيئة صالحة.

    فلا بد للمسلم أن يكون له أصدقاء صالحون، ولن تجد أفضل من المسجد تبحث فيه عن أصدقاء صالحين، ولن تجد أفضل من حلق العلم، وقراءة القرآن وتلاوة الحديث وسماعة وشرحه وتدارس كتاب الله عز وجل، فإن أصدقاء المسجد قرناء الخير تجتمع معهم على ذكر الله ولا تشقى بهم؛ لأنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فلربما هديت بجلوسك معهم، فنسأل الله الجنة ونعوذ من النار.

    فضل حلق الذكر

    أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل حلق الذكر فقال: (إن لله عز وجل ملائكة سيارة يتتبعون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقة من حلق الذكر تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، -جعل الله فيهم رغبة في أن يتتبعوا حلق الذكر- فيحفونهم إلى السماء الدنيا، ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيقولون: يا رب! أتينا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، فيقول الله عز وجل: وهل رأوني؟ فيقولون: لا يا رب! لم يروك، فيقول الرب سبحانه وتعالى: كيف لو رأوني؟ فتقول الملائكة: كانوا لك أشد تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً، فيقول الله عز وجل: ماذا يسألونني؟ فيقول الملائكة: يسألونك الجنة، فيقول الله عز وجل: وهل رأوها؟ فتقول الملائكة: لا يا رب! لم يروها، والله عز وجل أعلم -وإنما يسأل الملائكة تكريماً لعباده المؤمنين وإظهاراً لفضلهم- فتقول الملائكة: لا يا رب لم يروها، فيقول الله: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: كانوا أشد لها طلباً، فيقول: ومم يستعيذون بي؟ فيقولون: يستعيذون بك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب! لم يروها، فيقول: وكيف لو رأوها؟ قالوا: كانوا أشد منها هرباً، فيقول الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول أحد الملائكة: يا رب! فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جلس لحاجة، -أي جلس لمصلحة كان يريد أن يقضيها- فيقول الله عز وجل: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

    وأقص عليكم قصة أحد الإخوة في سبب التزامه، حكى لي هذه القصة فذكر أنه كان أكره شيءٍ إليه الملتزمين، كان طالباً معهم يراهم في الكلية ويبتعد منهم، يراهم أسخف الناس، ولا يقبل شيئاً من كلامهم أبداً، وفي مرة من المرات كان يحتاج إلى تجهيز شيءٍ في الشقة، وكان منهم أحد الصناع الذين يحتاج إليهم، حاول الوصول إليه لكنه وكان يعلم أنه يصلي في مسجد الفتح، فاضطر لكي يلقاه أن يذهب إلى المسجد في يوم جمعة في رمضان، فقال: أذهب أنام الساعة إلا ربع التي يخطب فيها الخطيب إلى أن يحين وقت الصلاة، وبعدما نصلي أقابله وأطلب منه أن يأتي معي فأنا لا أريد أن أسمع كلام السنيين هؤلاء، فذهب إلى المسجد، فخطب أحد الإخوة، وكان الخطيب ليس من الإخوة الخطباء الرسميين في المسجد، وكان يتلو آيات من القرآن ويبكي، فإذا بالرجل يشاهد الناس يبكون، فاستيقظ مرة واحدة، وأخذ يسأل نفسه: ما هذا الذي يحصل؟! لماذا لا تبكي يا فلان؟ وكانت بداية الهداية، فقد هداه الله عز وجل من بعد ذلك، كان يريد أن ينام وقت الخطبة ثم يصلي من أجل أن يقابل الرجل، ثم جلس لحاجة فغفر الله له وهداه الله سبحانه وتعالى في هذا المجلس، فسبحان الله! (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فربما غفر للإنسان بمجرد وجوده مع أهل الصلاح والخير.

    فضل مصاحبة الأخيار

    إن من أعظم أسباب الالتزام القرناء الصالحون، ولذلك نقول: الصالحون تجدهم في المساجد وفي حلق الذكر ومجالس العلم، أما الفاسدون فأين تجدهم؟ تجدهم على القهوة أو على ساحل البحر أو في مشاهدة فيلم، وتجدهم في أماكن تجمعات الشباب الضائع على الأرصفة على أفواه الأزقة يبحثون عن الذاهبة والراجعة، وينظرون إلى العورات المكشوفة، وأحياناً تجدهم حول وسائل الإفساد المحرمة؛ كالطاولة والكتشينة والشطرنج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) أي: كأنه يضع يده في لحم خنزير ودمه، والضمنة مثل الطاولة؛ لأنه بدل ما هي مكعبة أصبحت مفرودة، فالكتشينة بدل ما هي من واحد إلى ستة أصبحت من واحد إلى عشرة، مع الصور المرسومة الأخرى المحرمة مثل الولد والشيبة والبنت والجوكر، أما الشطرنج فإنه عند جمهور العلماء محرم بالقياس على النرد بالإضافة إلى ما فيه من تماثيل وكذب، فتجد اللاعب يقول: كش ملك أي مات الملك، وهل يحصل هذا بالفعل؟! أليس هذا كله كذباً؟! فضلاً عما فيه من الآثار المدمرة للنفس، من تعظيم النفس لها وللعقل، وأنه يفهم كل شيء، لأنه يعرف كيف يلعب الشطرنج، ومن الممكن أنه لا يعرف شيئاً، فهل صاحب الشطرنج استطاع أن يخترع شيئاً جديداً؟! لا، بل حتى لا يعرف أن يخترع ألعاباً جديدة، ومن العجيب أن تسمع من يقول لك: ملوك شطرنج العالم يلعبون المباراة لساعات طويلة تصل إلى شهور وأيام، يجلسون يلعبون، فهل هؤلاء أنتجوا شيئاً لمجتمعهم؟ بل إن أوقاتهم صرفت إلى هذا اللغو الفارغ، قال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وقال عز وجل: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وقال سبحانه وتعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72].

    فقد مدح الله المار الكريم الذي لا يشارك في اللغو فينبغي أن يكون الإنسان على حذر من هذه الأماكن؛ لأن فيها قرناء السوء، كما أنها أماكن يكثر فيها السب واللعن والبذاءة، والشتم للآباء والأمهات، وسب الدين والسكوت على ذلك، بل والضحك منه، فلو أن جماعةً مجتمعين وقام أحدهم يسب الدين وضحك الباقون فإن هذا مخرج من الملة لهم جميعاً؛ لأن هذا الذي سب دين الله سبحانه وتعالى يعلم أن الدين هو الملة، وليس في لغتنا أن الدين هو الخلق، حتى يقال: إنه إذا كان يقصد الملة كفر، وإذا كان يقصد الخلق لم يكفر؛ لأن كلمة الدين ليست مستعملة عندنا إلا بمعنى الملة، فأنت عندما تسأل: فلان هذا ما دينه؟! فهل سيقال لك: هو صادق أو كاذب؟ لا، بل يقال لك: هو يهودي أو نصراني أو مسلم، فالدين بمعنى الملة، وكذا الديانة التي يدين بها الإنسان، ولا تستعمل بمعنى الأخلاق، أو صادق الحديث، أو كاذب، أو مؤدب؛ أو غير مؤدب، أما الذين ضحكوا على ذلك فقد رضوا بهذا الكفر والعياذ بالله، وفرحوا به فخرجوا من الملة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).

    كما أن هذه المجالس موجود فيها أنواع من المنكرات غالباً، ففيها شهوات النظر، وفيها شهوات الاختلاط، وفيها شهوات المخدرات، وأهونها السجائر ونحوها، فإن هذا من أعظم أسباب تدرج الشيطان بالإنسان، فالسجائر والشيشة ونحوها من أعظم المضار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157].

    ولا خلاف أن التدخين والشيشة ونحوها من الخبائث، وأسباب الوقوع في ذلك قرناء السوء، فابتعد عنهم، وأنا على يقين أن المسلم لن يلتزم التزماً حقيقاً إلا إذا فارق قرناء السوء، فإما أن يلتزموا وإما أن تبتعد عنهم، إما أن تساعدوا بعضكم بعضاً على الالتزام، وتجروا بعضكم بعضاً إلى المسجد، وإما أن تفارقهم وتعتزلهم، قال سبحانه وتعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16].

    فإذا لم يكن هناك وسيلة للنجاة بالنفس إلا اعتزال أهل الشر وجب اعتزالهم ولو إلى كهف، فلا يجوز لك أن تختلط بالمنكر وأنت تراه، وتسكت عليه، فإما أن تسعى في إزالته وإما أن تزول أنت عنه.

    الموسيقى من أعظم موانع الالتزام

    من أعظم أسباب موانع الالتزام سماع الموسيقى المحرمة والأغاني المحرمة، فذلك يمنع فعلاً من الالتزام، وما يسمعه الناس اليوم لا نزاع في حرمته حتى بين من يجيز سماع الآلات، فـابن حزم يقول بجواز سماع الموسيقى، وقوله باطل مخالف للحديث، ومع ذلك فهو لا ينازع في أنه إذا أدت ذلك الغناء امرأة متبرجة كاشفة عن عورتها وكان الكلام يدعو إلى الفساد والفحش وذكر الحب والغرام والهيام، وكان ذلك بالخضوع بالقول في حضرة الرجال أن ذلك محرم ممنوع، فما ترون في أغاني اليوم؟! حتى أغاني الرجال صارت كذلك! وهذا المذهب -في حقيقته وهو جواز سماع الموسيقى- باطل مخالف لنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فجعل المعازف مقرونة بالخمر والحرير على الرجال، والحر أي الزنا، فدل ذلك على أنها من المحرمات بلا شك، وهو نص في موطن النزاع، والحديث صححه العلماء، والبخاري قد ذكره معلقاً مجزوماً به، وذكره غيره موصولاً، فهو حديث صحيح بلا شك.

    وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند نعمة، ورنة عند مصيبة) وهي النياحة، فذكر النهي عن هذين معاً، والنياحة معلوم أنها من الكبائر، فالصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء المحرم، واللهو المحرم داخل في الأصوات المنهي عنها، وهو صوت الشيطان الذي قال الله عز وجل عنه: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64].

    لذلك تجد هذه المجالس كلها فساد -والعياذ بالله-، ولا يختلف العلماء في تحريمها، فابتعد عن هذه الأماكن، وأنت ترى تعظيم هذه الأماكن في وسائل الإفساد من الأفلام والتمثيليات حتى يكون أمل الشباب أن يكون له مال ليذهب إلى هذه الأماكن ليفسد فيها، فيرتكب المحرمات، وربما سرق، أو تاجر في المخدرات، أو اغتصب، أو فعل المنكرات كلها من أجل أن ينال حظاً مما يراه في هذه الأماكن، فترى كل الأفلام الأجنبية لابد من مشهد البار والخمر والملهى الليلي الذي لابد أن ينالوا منه شيئاً.

    فليحذر الإنسان من فتح الباب لثغر العين وثغر الأذن بالإضافة إلى ثغر الكلام؛ فاللسان قد يتكلم بالباطل ويسب ويغتاب وينم ويكذب، ويفتخر بالمنكرات والعياذ بالله، ويتحدث بها بعد أن ستره الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، فاليد والرجل من مداخل الشيطان، وشهوة البطن كذلك، فلا بد أن تأكل الحلال وتجتنب الحرام، ولا تلمس بيدك ولا تبطش ولا تتناول ما حرم الله عز وجل عليك.

    حب المال من موانع الالتزام

    إن حب المال من أعظم أسباب الفساد، والحاجة إلى المال لا بد أن تكون مقيدة بما أحل الله عز وجل، واعلم أن لك رزقاً إما أن تطلبه من حلال وإما أن تطلبه من حرام، ولن يزيد طلبك للحرام رزقاً لك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم).

    والمعنى: اطلبوا الرزق طلباً جميلاً، فخذ ما أحل الله لك، وابتعد عما حرم الله عز وجل عليك، واعلم أنه إذا كانت الآخرة هي النية فسوف تأتي الدنيا راغمة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصبح والآخرة نيته جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، فلا بد إذاً أن يبتعد الإنسان عن أسباب الفتنة التي تجذبه بعيداً عن طاعة الله سبحانه وتعالى.

    الخوف من غير الله تعالى من موانع الالتزام

    من أعظم موانع الالتزام لدى الكثيرين: الخوف من غير الله سبحانه وتعالى؛ وذلك أن العالم كله يتهم الملتزمين بأنهم متطرفون وإرهابيون، ويشيعون ذلك، ويصورون حياتهم على أنها شقاء وتعاسة فضلاً عما يعدون لهم من كيد ومكر، فيصورون لك أنك إذا أقدمت على الالتزام فلا بد أن تكون يوماً من الأيام من المسجونين أو من المعذبين المضطهدين، أو تصاب بأنواع البلايا والمحن التي يتعرض لها أهل الالتزام، كما أنك لن تجد عملاً ولن تجد مالاً فضلاً عن الشقاء الذي تشقي به نفسك، فتأكد أن هذا كله من الحواجز الوهمية، وعليك أن تعمق الخوف من الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الدنيا كلها كطيف أو حلم يأتيك في المنام توشك أن تستيقظ منه، فالدنيا والآخرة هي اليوم الآخر، وأنت نصيبك من الدنيا سنوات معدودة، هي من أولها إلى آخرها يوم، فكم بقي للناس على وجه الأرض؟ قد يكون الآلاف من السنين، لكن نصيبك منها ستون، أو سبعون، أو ثمانون سنة، على أن الواحد منا لو بقي إلى هذا العمر لبقي ضعيف البدن، تعتريه الأمراض، أفمن أجل هذه الدنيا تخاف الناس ولا تخاف الله عز وجل؟!

    قال عز وجل: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

    ثم تأكد أن الالتزام فيه الراحة والسكون والطمأنينة، ولو كنت حبيساً بين جدران ضيقة ففيه السعة قال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] فالانشراح في الصدر يغنيك عن ضيق المكان، كما أن الرضا بالله سبحانه وتعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً يذيقك حلاوة الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يجعل لك فرجاً ومخرجاً من كل ضيق وهم، قال ابن تيمية رحمه الله: ما يفعل بي أعدائي؟! أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله، سبحان الله! وما ذاك إلا لأن الله سبحانه وتعالى جعل السعادة في طاعته، وجعل الشقاء في معصيته، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، وهو سبحانه يحفظك ويحوطك ويحميك ويدفع عنك الأذى، ووالله كم جرب المؤمنون من دفع الله سبحانه الله تعالى عنهم وحمايته لهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) فإذا حفظت حدود الله حفظك الله عز وجل، ونفعك ورزقك من فضله، فالأرزاق بيد الله لا بيد الناس، وإذا اتقيت الله جعل لك مخرجاً، قال الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3]، وقال سبحانه في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً).

    إذاً: ما يخوفونك به من دون الله تذكر له قول الله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36].

    واعلم أن من خاف غير الله فقد أضله الله، فلا تخف غير الله، فالخلق لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، فالسعادة كل السعادة في طاعة الله، والرزق في تقواه، والسعة والسكينة في ذكره عز وجل، قال الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    فهذه أمور في كتاب الله مجربة بالفعل، فسعادة الإنسان حين يقترب من الله عز وجل لا تدانيها سعادة، فتأكد من ذلك، وأقدم فقد سبقك سابقون إلى الله عز وجل، ومضوا، فادع الله أن يجعلك معهم.

    اللهم اهدينا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت.

    من موانع الالتزام نهي الوالدين عنه

    من موانع الالتزام عند الكثيرين: من يأمره بعدم الالتزام ممن له عليه حق الطاعة، كالأب والأم وأقاربه، وأساتذته، فكل من حوله يقول له: لا تلتزم، سوف تضيع، ابتعد عن هؤلاء، ومن العجيب عندهم أنه لو ذهب إلى أماكن الفساد والفجور، لو زنى، أو شرب الخمر؛ لكان أهون عليهم من أن يذهب إلى المسجد! وهذا من انتكاس القلوب والعياذ بالله، ومن فساد التصور، ومن العقيدة المضلة التي أضلهم بها إبليس.

    فنقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال عز وجل عن الوالدين وهما من أعظم الناس حقاً على الإنسان بعد ربه عز وجل وبعد النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].

    وهذا هو السبيل الذي يجب أن تسلكه، فأحسن إليهما في غير معصية الله، واقض لهما حاجتهما في غير معصية الله، حتى تكون أحب إليهما من كل أحد غيرك، ووالله أن ذلك سوف يخفف من مقاومتهما لالتزامك، وليكن قصة غلام أصحاب الأخدود أسوة حسنة لك، فقد كان يضربه الساحر إذا تأخر عند الراهب، وإذا تأخر في طريق عودته ضربه أهله، فقال له الراهب حلاً للمشكلة: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، على أنه كان حريصاً على طلب العلم والذهاب إلى الرفقة الصالحة، مع أنه يضرب ويؤذى ويعذب، ومع ذلك كله كان حريصاً على الالتزام والسير في طريق الخير.

    فأحسن إلى من حولك من الوالدين والجيران والأقارب، وسوف تكون أحب إليهم من كل أحد، واعلم أن المحبة بيد الله عز وجل، فإذا أحبك الله أحبك أهل السماء وأحبك أهل الأرض بتوفيقه عز وجل، وأنا أعلم والله رجالاً ونساء كانوا يشتكون من أبنائهم أو بناتهم الذين يلتزمون، فلا يريدون أن تنتقب الفتاة، ولا أن يلتحي الولد، ولا أن يسلكوا طريق الالتزام، فيقولون لهم: كفاكم أنكم تصلون، وأنا لا أقول لك: لا تصل، ولا تصم، بل صم وصل، ولكن ابتعد عن هؤلاء، وهم عندما يأتون يتصورون أن طاعة الأب والأم مقدمة على طاعة الله عز وجل، فيظنون أني سآمرهم: أن يحلقوا لحاهم مثلاً، أو أن تترك المرأة حجابها، فيستفتون في ذلك، فآخذ الأب أو الأم بعيداً عن هذا الولد، بعد أن أنصحه بمزيد البر فيما لا يخالف الالتزام، فأقول: للأب: أي أولادك أحب إليك؟ فيقول: فلان أو فلانة، الولد الملتزم أو البنت الملتزمة، فإذا هو أكثر محبة له على الرغم من أنه يشدد عليه وعليها أكثر من باقي الإخوة والأخوات؛ لأن المحبة بيد الله، وفي الحديث (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فلا تجعل المنزل حجة، بل اجتهد في أن تكسب هذا المنزل، وأكثر من الدعاء لهم والتضرع لله سبحانه وتعالى.

    فهذه بعض المعاني التي أحببنا أن نشير إليها من موانع الالتزام عند الكثيرين، ونسأل الله عز وجل أن يغفر لنا تقصيرنا وذنوبنا.