يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد جعل الله عز وجل الإيمان بالأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين شرطاً في الإيمان بالله، فلا يقبل الله سبحانه وتعالى من عبد إيمانه بالله إلا إذا آمن بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وخاصة خاتمهم صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله عز وجل سراجاً منيراً، وكذلك جعل كلاً من هؤلاء الأنبياء سراجاً ينير للناس الطريق، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من قصصهم ما ثبت به فؤاده، وجعلها موعظة وذكرى للمؤمنين، فقد كانت سيرتهم سبباً لثبات المؤمنين على الحق، وسبباً لصبرهم، وسبباً لاستبصارهم سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه.
وحب الأنبياء فرض على كل مؤمن، فلا يحصل الإيمان للإنسان إلا بتصديقهم ومحبتهم، وهذا هو أعظم دافع للاقتداء بهم، والسير على طريقهم، فحبهم جميعاً فرض متلازم، ولا يصح حب واحد منهم حباً شرعياً مقبولاً إلا بحب جميعهم، والمؤمنون أولى بكل الأنبياء من كل الأمم، فهم أقرب إلى الأنبياء بصفاتهم وأعمالهم، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء، فلما علم أن اليهود تصومه لأنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه قال: (نحن أولى بموسى منهم) ، فصامه وأمر الناس بصيامه، وكان فريضة في أول الإسلام شكراً لنعمة الله سبحانه وتعالى على نجاة موسى، وهلاك فرعون بفضله عز وجل.
فالمؤمنون أمة واحدة، تاريخهم تاريخ واحد، وربهم سبحانه وتعالى رب واحد، ولذا يفرحون بانتصار المؤمنين رغم تباعد الأزمنة والأمكنة، ورغم اختلاف الأجناس واللغات، ورغم اختلاف الأنساب والهيئات لكنهم على دين واحد، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى).
فقوله: ( إخوة لعلات ) هذا تشبيه لهم بالإخوة من أب واحد وأمهات مختلفة، وذلك أن الشرائع قد تختلف بعض الاختلاف، ولكن الملة واحدة، والدين واحد، والعقيدة واحدة، وهذه الأمة الواحدة لا بد أن تستحضر في كل وقت وحدتها زماناً ومكاناً؛ وذلك لأن الأعداء يتربصون بنا إرادة تمزيق وحدة الأمة، وتفريق أبنائها؛ لكي يتمكنوا منها، ولا يحصل الخير لأهل الإسلام إلا بتذكر معنى الاجتماع على دين الله سبحانه وتعالى.
فرغم اختلاف الألوان والألسن، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فنحن أولى بموسى، وحين نصوم عاشوراء فإننا نصومه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاءً للأجر عند الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صوم يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية) وهو يوم العاشر من محرم، ونحن حين نصومه امتثالاً وابتغاءً للثواب نتذكر أولويتنا بموسى عليه السلام ولا شك أننا أولى بموسى من اليهود؛ فإن اليهود برآء من موسى وعيسى ومن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما هم عليهم من الكفر والعناد، ونحن أولى بموسى منهم وأقرب، ولكن نريد أن نقترب بالصفات والأخلاق والدعوة إلى الله، وفهم سنة هؤلاء الأنبياء، كما ذكرها الله عز وجل في القرآن.
ونتذكر كذلك معنى الانفصال عن الكفار ومفارقتهم في كيفية أداء العبادة حتى وإن كان أصلها مشروعاً.
فموسى هو الذي سن ذلك الصيام، ونحن نصومه، ولكننا نخالفهم من أجل استقلال شخصية المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) وأمر صلى الله عليه وسلم استحباباً بصيام يوم قبله أو يوم بعده، وفي بعض الروايات: (أمر بصيام يوم قبله ويوم بعده) بالواو، حتى يكون هذا أكمل في المخالفة، وتحصيل الثواب، وتذكر نعمة الله عز وجل.
ومن أعظم أسباب زوال الهم عن المؤمن وحصول الفرح له تلاوته لآيات الله التي تحكي انتصار الأنبياء، وانتصار دعوة الحق، وهلاك دعوة الباطل، حيث إن الباطل في عهد موسى بقي مدة طويلة، فقد بقي فرعون سنين طويلة وهو يصد عن سبيل الله، ويبارز الله بالمحاربة، ولكن أين فرعون الآن؟ وكيف كانت نهايته بعد طول المدة؟ فقد صار حديثاً يذكر، وجعل الله عز وجل فرعون وهامان وجنودهما وسائر الأمم المكذبة أحاديث، وبقي الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأشرقت أنوار قلوبهم على البشرية بفضل الله عز وجل عبر العصور، فيصل من نور هذه القلوب بما أفاض الله عليها لكل إنسان آمن بهم على قدر إيمانه، وعلى قدر معرفته بكتاب الله، فيزول عنه الغم والهم، وحين يعيش الإنسان مع القرآن يعيش كأنه يحضر تلك اللحظات التي انتصر فيها الحق، والتي زهق فيها الباطل وحزبه وانقلبوا فيها صاغرين، وآلوا إلى المآل الذي قدره الله لهم خاسئين، وصاروا أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وذلك وحده سبب مفرح لقلب المؤمن، وهذا من فضل الله ورحمته، كما قال الله عز وجل:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
[يونس:58]، وحين تستحضر قصص أنبياء الله، وتستحضر ظهورهم وانتصارهم وهلاك الباطل، ترى أن مدة بقاء الظالمين وجيزة توشك أن تنتهي كما انتهى فرعون وجنده، وكما انتهى كل ظالم قبل ذلك، وبقي الحق بفضل الله، وخصوصاً إذا تأملت طريقة القرآن في بيان تلك اللحظات بمساحة واسعة في القرآن العظيم، فلحظات انتصار الحق تبجل وتفخم وتذكر بالتفصيل التام بفضل الله عز وجل؛ لتستحضر تلك اللحظات وكأنها تشهدها، وحين تسمع مواعظ القرآن تنتفع أعظم الانتفاع بها، والله المستعان.
وقصة موسى صلى الله عليه وسلم هي أكثر قصة ذكرت في القرآن على الإطلاق، فقد كررت في مواضع مختلفة، وفي أجزاء متعددة وسور مختلفة، وفي كل منها مواقف مختلفة يذكر الله عز وجل فيها خلجات النفوس، والخواطر والأحاسيس المختلفة، والتقلبات التي تتقلب فيها القلوب بأسلوب لا نظير له على الإطلاق، وبتكرار عجيب الشأن يجعل العبد ينتبه إلى أدق التفاصيل، ويجعله يتدبر حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا تدبر الإنسان القرآن وجده شفاءً لما في الصدور، وسبباً لفرحها وذهاب غمومها وأحزانها، وسبباً للصبر والثبات، وللاتعاظ والتذكر، فزيادة الإيمان تكون بحب الأنبياء واتباعهم صلوات وسلامه عليهم أجمعين.
إن الله سبحانه وتعالى قد جمع في قلب محمد صلى الله عليه وسلم أنواع الأعمال والصفات الرائعة الجميلة، التي هي في الحقيقة خلاصة أخلاق الأنبياء جميعاً، وأفاض سبحانه وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم وهذا النور؛ لكي يستضيء به أهل الإسلام، ويعرفوا نعمة ربهم بهذا القرآن العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى المعجزة الكبرى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معجزة باقية خالدة لكل من تدبرها وتأملها، فلا يوجد كتاب في الوجود مثله بفضل الله سبحانه وتعالى.
فيخبر الله سبحانه وتعالى أنه بعث موسى عليه السلام من بعد الأمم الذين أرسل إليهم أنبياءه فكذبوهم فأهلكهم الله، فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى قوم نوح، وذكر سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله السابقين في سور مختلفة، بين عز وجل أنه أرسل موسى وأخاه هارون بآياته المقروءة المسموعة وآياته المرئية المبصرة المحسوسة، وأرسله الله بالآيات العقلية الواضحة والآيات النقلية الدامغة، ومن لم ينتفع بالآيات المقروءة التي تتضمن أحسن الآيات العقلية والحجج الواضحة لم ينتفع بالآيات المحسوسة والمعجزات الباهرة الظاهرة؛ وذلك لأن التكذيب داء في المستكبرين، لا ينفع معه إلا أن يتركوا إعجابهم بأنفسهم؛ وتكبرهم على الحق، فإن لم يأخذوا بالدواء فلن ينتفعوا بالآيات، قال تعالى:
وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
[يونس:101] .
ومرض الكبر من أخطر الأمراض، فمثقال ذرة منه على الخلق يمنع من دخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فإذا كان مثقال ذرة منه يعد كبيرة من الكبائر، فكيف إذا تكبر على أمر الله عز وجل وشرعه وأبى أن يقبله ويمتثل له؟! فالإباء والاستكبار على شرع الله كفر والعياذ بالله وردة عن الإيمان لو كان موجوداً قبل ذلك، ولذلك كان هذا المرض مرضاً عضالاً والعياذ بالله، خصوصاً إذا تمكن من القلب واستشرى في الملأ.
وسبب الكبر: هو النظر إلى كمالات النفس الموهومة، حيث يتوهم أنه خير من غيره، قال الله عن فرعون:
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ
[الزخرف:52] وسببه: الغفلة عن عيوب النفس وأمراضها التي تمتلئ بها.
وعلم خير أصحابه وخير أمته أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، وهو الذي يثني عليه ويقول: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت
وهكذا المؤمن فهو يبتعد دائماً عن أن يفكر في كمالات نفسه، حتى لو أن الله هو الذي ذكره بذلك، وهذا لا يعني أنه لا يشهد ما أنعم الله به عليه، بل يشهده محض فضل منه عز وجل، وتشهده نعمة منه سبحانه وتعالى ليس لنفسه شيء من ذلك، وما بها من خير وكمال فمن الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بك وإليك)، فبالله عز وجل وصل إلى ما وصل من المراتب العالية؛ فكيف بمن لم يذكره الله عز وجل؟ وكيف بمن لم يزكه نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف بمن وقع في الصفات المذمومة؟
فكل منا لابد أن يحذر على نفسه من أن يعجب بها أو ينظر إلى كمالاتها، أو يتوهم لها كمالات وخيرية على غيره، مما يؤدي إلى ذلك المرض الذي يبدأ أولاً على الناس ثم يصل بالإنسان إلى أن يتكبر على أمر الله، فالكبر المعصية ذريعة إلى الكبر الذي هو كفر وشرك بالله عز وجل، وأكثر الأمم أشركوا بسبب الكبر الذي بدأ صغيراً في القلوب، -وما هو بصغير- ثم تحول إلى الأكبر وهو الكفر والعياذ بالله،
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ
[الأعراف:133] والإجرام هنا: يتحصل بالإفساد في الأرض والصد عن سبيل الله، وإن كان فرعون يزعم أنه مصلح كما قال عن موسى:
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ
[غافر:26].
فالقوم يتعاطون السحر، والسحرة عندهم مقربون مقدمون، ولذلك وجد فرعون السبيل -فيما يظن- إلى معارضة ما جاء به موسى بأن يأتي بسحر مثله، ووعد السحرة بالأجرة، بل كان يكرههم على تعلم السحر، كما في قوله عز وجل عن السحرة:
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
[طه:73]، ولا شك أن هذا الأمر منهم -وهو اتهام موسى عليه السلام بأن ما جاء به من الحق سحر مبين- يدل على انقلاب فطرتهم، فهم يعلمون أن السحر أمر مذموم، ومع ذلك يستعملونه ويكرهون الناس عليه.
وهم يتهمون موسى بأنه ساحر، وأن ما جاء به سحر؛ مع ما في قلوبهم من أن السحر أمر مذموم وقبيح، كما قالوا عنه:
سَاحِرٌ كَذَّابٌ
[غافر:24] فيتهمونه بالكذب وهم أكذب الناس، ولم يعرف أكذب من فرعون فقد ادعى أنه الرب الإله، بل قال:
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي
[القصص:38] ومع أن الكذب في قلوب البشر قبيح إلا أن أكثرهم يستعمله، فتجد عجباً في نفوس البشر يعرفون الحق ويعرضون عنه إعراضاً تاماً، ويعرفون الباطل ويستعملونه بكل طاقة لهم، وهذا دليل على أنهم ما انتفعوا بما بقي في فطرتهم؛ لانطماس نور البصيرة عندهم، حتى استعملوا الأدواء القاتلة، والأمراض المهلكة، وخاضوا بالباطل وهم يعلمون أنه باطل، قال عز وجل:
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا
[يونس:76-77]، أي: أتقولون للحق لما جاءكم: سحر؟!
وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
[يونس:77].
والحق أن كل منافق له نصيب من هذه الآية: (( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ))، إذا استعمل الخفية في إبطال الحق وإحقاق الباطل، أو استعمل سحره وبيانه في أن يلبس على الناس حتى يبعدهم عن الإسلام والالتزام بدين الله عز وجل تحت أي مسمى من المسميات. وأكثر الناس يقبلون السحر، فكان في الماضي بالحبال والعصي، وأما في زماننا فهو أخطر، فقد ظهر بوسائل تغيير العقول عن طريق تعليمها الباطل وغرس حبه في القلوب، وأن تعيش في هذه الدنيا حياة البهائم السائمة لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أشرب من هواها، وأنت ترى آثار السحر المعاصر في المشارق والمغارب تملأ السهل والوادي، حتى صارت أكثر البشرية لا تعرف من الدنيا إلا الطعام والشراب والشهوة، وإلا الكبر والعلو في الأرض والفساد، نعوذ بالله من ذلك، وكل ذلك بسبب هذا السحر الخفي، ولكن لا بد لهم أن ينالوا نصيبهم من هذه القاعدة الكلية: (( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ))، فلا بد أن يخيبوا ويخسروا، وكلما ساروا في طريق حصلت لهم عكس النتائج المرجوة، فمدة من الزمن يظهرون، ثم بعد ذلك يخفت سلطانهم ويذهب باطلهم هباءً منثوراً؛ لأن الله قضى قضية عدل: (( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ))، فقضى بحكمه سبحانه وهو العليم الحكيم أن الزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا من شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
أما بعد:
فقد قال الله عز وجل:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
[يونس:79]، فلو كان فرعون يبتغي الحق -كما يزعم- فلماذا يستعمل الباطل الذي يتهم موسى به، وصار يأتي بالسحرة من كل أرجاء مملكته، فأتته رسله وأتوه بكل سحار عليم.
فالسحار: هو المبالغ في السحر، فأتوه بكل من يحسن السحر، بالسحرة المبالغين والأساتذة الكبار الذين يحسنون أنواعاً لا يحسنها غيرهم، وبالتلاميذ كذلك، وبالدرجة الثانية من السحرة طالما كان عندهم علم، فأتوا بالألوف لمواجهة رجلين اثنين أحدهما تبع للآخر، وموسى عليه السلام هو الذي يستعمل آيات الله عز وجل ويلقيها على الناس.
قال عز وجل:
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ
[يونس:80] أي: حين جمع الناس يوم الزينة ضحى، واجتمع الآلاف من القوم ينظرون، جاء فرعون في ملئه وأبهته ومعه آلاف السحرة من حوله، وواجههم موسى عليه السلام بعد أن نصحهم وذكرهم بالله عز وجل وقال:
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى
[طه:61-63] .
فبين سبحانه وتعالى أن موسى عليه السلام قال لهم:
أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ
وذلك بعد أن ذكر سبحانه وتعالى من شبهات قوم فرعون. كما في قوله سبحانه وتعالى:
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
[يونس:78] وكانت هذه من شبهاتهم الباطلة، فهم يزعمون أنهم على الحق.
وقال سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ:
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ
[النمل:43].
وكان سبب هلاك أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره على الكفر هذه الشبهة، إذ قال له أبو جهل وعبد الله بن أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله مع علمه بأنها الحق، لكن التقليد الأعمى من أعظم أسباب هلاك الأمم. وهذه تهمة لا ينفيها أهل الإسلام حين يتهمون بها ولا يقولون: نحن لا نريد أن نبدل الأديان الباطلة التي أنتم عليها، بل يقولون: نحن نريد أن نبدل أديان الباطل، ونريد أن نصرف الناس عما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والشرك، ولذلك لم تجد أن موسى صلى الله عليه وسلم رد هذه التهمة التي ليست بتهمة أصلاً، وإنما هي إثبات نزاهته وطهارة دعوته ونقائها بحمد الله تبارك وتعالى، وأما التهم الأخرى فهي التي ردها موسى كما رد تهمة السحر والكذب، وكذا تهمة التكبر،
وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ
فهم يظنون أن الناس كلهم مثلهم، والحقيقة أنهم هم الذين يريدون الكبرياء في الأرض، ومع ذلك يتهمون موسى بذلك، فلو كان هذا أمراً منكراً -وهو كذلك- فلماذا تقبلونه على أنفسكم؟ ولماذا تريدون أنتم الكبرياء في الأرض؟! فأنتم تتهمون موسى بأنه يريد الرئاسة، وبأنه يحب الكبر في الأرض، وهذه تهمة يتهم بها الأنبياء والدعاة إلى الله عز وجل والعلماء، فيقول عنهم أهل الكبر: أنتم تريدون الكبر، وأنتم تريدون الرئاسة على الناس، وتحبون الشهرة، وهذا في الحقيقة من دائهم وجهلهم، وهم يعلمون أن هذا أمر قبيح ومع ذلك يستعملونه، ويصرون على الملك والرئاسة، ولا يقبلون أن ينازعهم أحد ذرة في كبريائهم وملكهم ورئاستهم، مع أنهم يعلمون أنه منكر.
سبحان الله! كيف يقول هؤلاء: إن موسى عليه السلام يريد الرئاسة والملك، وموسى عليه السلام ما طلب منهم أن يتركوا ملكهم ورئاستهم وإنما دعاهم إلى الإيمان وأن يتركوا بني إسرائيل؟! فكيف يتهم بذلك؟! فهذه تهمة إذا اتهم بها أهل الإيمان لم يحزنهم ذلك، لكن لهم أن يردوها ويقولون: إننا لا نريد علواً في الأرض ولا فساداً، ولا نريد أن نكون الكبراء والملوك والرؤساء وإنما نريد أن يعبد الناس ربهم، وأن نعبد الله عز وجل وندعو إليه، فمن خلى بيننا وبين ذلك فهذا سبيلنا الذي نسلكه ولا نريد غير ذلك، ولا نريد إلا أن يعلو الإسلام، فمن أعلى كلمة الإسلام فنحن تبع له، فلا نشترط أن تكون لنا الكبرياء أو الرئاسة، ولا نريدها أصلاً، وإنما يفر منها أهل الإيمان ويرونها ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة الإمارة، ومن سأل الإمارة وطلبها لم يجب إليها ولم يعن عليها وكانت وبالاً عليه، فهم لا يطلبون ذلك، ويبرءون أنفسهم من ذلك، بل ويحذرون على أنفسهم من ذلك.
قال سبحانه:
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ
[الشعراء:44] ولم ينسوا أن ينسبوا أمرهم إلى فرعون وتوجيهاته وأمره وعزته التي سوف يغلبون بها، وكما قال الله عز وجل حين ألقوا:
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
[الأعراف:116]، فوصفه الله بأنه سحر عظيم، وموسى عليه السلام من ضمن من وقع في عينيه ذلك السحر، قال سبحانه وتعالى في ذكر ما وقع لموسى عليه السلام:
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى
[طه:66] ، فخيل إلى موسى أنها تسعى بالفعل، فكان تأثير السحر هائلاً على أعين الناس بمن فيهم موسى عليه السلام، حتى وقع في نفس موسى ما يقع في نفس البشر، وأوجس في نفسه خيفة موسى لحظة لا تتجاوز ثواني معدودة أو أقل من ذلك، لكنها سرعان ما تزول بالتوكل على الله وتثبيته سبحانه وتعالى، قال عز وجل:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى
[طه:67-68]، وهذه الخواطر كالبرق تقع وتذهب بسرعة في قلوب الأنبياء، وربما طالت في قلوب بعض الأولياء مدة هذه الهواجس، وربما طالت في قلوب المقصرين مدة أطول من الوساوس، وإن كان الكل يدفع ذلك باللجوء إلى الله، وباستحضار آيات الله، فمن معه آيات الله فهو الأعلى، ويذهب الله عز وجل ما في قلبه.
لقد خشي موسى أن يلتبس الأمر على الناس، وأن يقبلوا ذلك الباطل كما قال تعالى:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
[طه:67-69]، هنا تغير ما في نفس موسى، فقد بين الله في سورة (طه) هذه الخلجات النفسية، وبين في سورة يونس قبل أن يلقي ما قاله بعد أن ثبته الله، فقال عز وجل:
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
[يونس:81-82] .
وبين في سورة الأعراف ما تلا ذلك من إلقاء موسى، من ذهول السحرة وفرعون وملئه عندما وجدوا عصا موسى قد تحولت إلى الثعبان العظيم، قال عز وجل:
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
[الأعراف:117-122] .
قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ
أي: ما جئتم به هو السحر،
إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ
أي: يبطل الله كل سحر وباطل، وهذا أمر الله يثبت به أهل الإيمان، فكلما رأوا الباطل منتفشاً منتشراً تيقنوا بأن الله هو الذي يتولى إبطاله،
إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ
؛ لأنه فساد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وهناك قضايا كلية ليست مرتبطة بزمان ولا مكان ولا أشخاص، منها: أن كل مفسد لابد أن يحبط الله عمله، ولا يصلحه أبداً، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
. فعلى أهل الإيمان أن يطمئنوا ويستبشروا لكل هذه المؤشرات من كلام موسى عليه السلام، فإن الله لا يصلح عمل المفسدين، وكل مفسد في الأرض لابد أن ينتهي مكرهاً إلى بوار، قال تعالى:
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
، وكلما كانت معنا كلمات الله المقروءة المسموعة فهي أعظم أثراً من المحسوسة، وهي أشمل وأنفع للعباد من الآيات والمعجزات الحسية، فكلما كانت معنا كلمات الله كان انتصار الحق أقرب بإذن الله، كما أن الله يحق الحق بكلماته الكونية، قال عز وجل:
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس:82] فيضمحل الباطل:
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
[الإسراء:81] ،
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
، فالمجرمون يكرهون الحق، ويكرهون ظهوره، ويعدون العدد لإبطاله ومحقه، لكن الله عز وجل مظهر دينه ولو كرهوا ظهور هذا الدين، فهذه كلها بشارات لأهل الإسلام، وقد وقع ذلك في الأنبياء السابقين، ووقع عبر التاريخ في مواطن مختلفة، ويقع بإذن الله في المستقبل، فيظهر الله دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بكلماته، وما أمره سبحانه إلا واحدة كلمح بالبصر، كما قال عز وجل:
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ
[القمر:50] أي: مرة واحدة،
كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
[القمر:50]، لا تحتاج إلى تثنية، فلا يقول الله: كن مثلاً للأمر، كما يحتاج العبد أن يكرر الأمر لينفذ أو يكرر التجربة لتتم، بل أمر الله مرة واحدة، إذا أمر نفذ، فبأمره تعالى خرجت أرواح، واستقرت أرواح أخرى، علت أقوام، وانخفضت أقوام أخرى، بطلت كلمات، وبقيت كلمات أخرى.. وهكذا بكلمة (كن) فيكون سبحانه وبحمده.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر