يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71] أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فقال الله سبحانه وتعالى:
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
[يونس:88-92].
لقد دعا موسى وأمن هارون عليهما السلام، والدعاء هو سلاح المؤمن الذي ينبغي أن يستعمله على الدوام، فهو لا يستغني عنه في وقت من الأوقات.
وقد استجاب الله عز وجل دعوة موسى وهارون عليهما السلام فقال عز وجل موحياً إليهما:
قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا
. وذكر غير واحد من المفسرين: أنه كان بين دعاء موسى وإيحاء الله سبحانه وتعالى لهما بذلك وبين تحقق إجابة الدعوة سنوات.
والله أعلم كم كان بينهما من السنين، وقد ذكر بعضهم أنها أربعون سنة، والمهم أنها مضت بين ذلك مدة، بدليل ما أمر الله عز وجل به من الاستقامة وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون، ثم ذكر مجاوزته سبحانه ببني إسرائيل البحر بعد ذلك، وفي هذا دليل على عدم الاستعجال، وأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب للعبد ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي، ويدع الدعاء) .
فلا ينبغي للعبد أن يحدد وقتاً معيناً لإجابة دعوته؛ فالله عز وجل نهانا عن الاستعجال، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجل على المشركين فقال:
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
[مريم:84]، وإذا استبطأ المؤمنون إجابة الدعاء فهذا علامة على أن الأمر قد اقترب بإذن الله تبارك وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة كما وعد أنبياءه ورسله، قال الله عز وجل:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
[غافر:60]، وقال سبحانه:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
[البقرة:186]، وقال:
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
[الشورى:26]، فاستجابته سبحانه وتعالى لدعائهم تكون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، وهو عز وجل الذي يقدر متى تقع استجابته ومتى تكون، وليس لنا أن نقول: متى، وإنما يكون هذا بعلم الله عز وجل وحكمته، والذي علينا هو أن نوقن بوعده، وأن نثق بقوله سبحانه وتعالى؛ فهو عز وجل لا يخلف الميعاد، وكمال اليقين: أن يوقن الإنسان بتحقق وعد الله وإن كانت كل الأسباب تتجه في طريق آخر.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ فقال: قل آمنت بالله، ثم استقم) .
وذلك أن الفتن قد تجعل العبد بسبب ضغطها وشدتها وآلامها، يبحث عن طريق آخر غير الطريق الذي بدأ منه، ويبحث عن سبيل للتخلص من متاعب هذه الحياة، وذلك بموافقة أهلها ممن يريد إبعاده عن سبيل الله عز وجل ولو في بعض الأمر، فكان لابد هنا من الاستقامة.
والاستقامة: أن يبقى الإنسان على ما أعلنه من معاني الإيمان -وذلك أصل الاستقامة- أن يثبت على حقائق الإيمان، وأن يوحد الله سبحانه وتعالى.
ثم الاستقامة على الأمر والنهي تكون بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه سبحانه وتعالى، والاستقامة على طريق الآخرة تكون بتعظيم الرغبة فيما عند الله، والزهد في الدنيا، والرهبة مما عند الله سبحانه وتعالى.
والاستقامة هي التي يقدر الله عز وجل بسببها ثبات الطائفة المؤمنة التي يهيئها سبحانه وتعالى للمنازل العالية عنده في الدنيا والآخرة، ويهيئها الله سبحانه وتعالى لأن تكون خليفة الأرض، فيمكن الله عز وجل لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
والاستقامة أمر ضروري للمؤمن في جميع أوقات حياته، فلا بد له أن يظل مستقيماً على طريق الله الذي يوصله إليه سبحانه وتعالى، ولابد لتحقيق هذه الاستقامة من علم، فعلى الداعي إلى الله والمؤمنين عموماً أن يكونوا على علم بشرع الله سبحانه وتعالى؛ حتى لا يحرفوا ولا يبدلوا، وإن كان الداعي قد لا يستطيع مع نفسه أن ينحرف عن الدين صراحة، لكنه قد يؤول ويحرف ما أنزل الله عز وجل موافقة للناس.
إذاً: لابد من العلم؛ حتى لا يقع ذلك التبديل والتحريف والتأويل.
إن العلم بأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه شرط في تحقق الاستقامة، فلابد أن نتعلم ما يلزمنا، نتعلم الإيمان والإسلام والإحسان، ونتعلم ما أنزله الله عز وجل من الكتاب والحكمة، وهذا لابد منه للدعاة إلى الله عز وجل، وللمجاهدين، والعاملين، والعُباد؛ فإن العلم إمام العمل والعمل تابعه، وإذا عمل الإنسان بغير علم أفسد أكثر مما يصلح.
ومن أخطر ما يتعرض له العاملون في الساحات الإسلامية أن يعملوا على جهل، أو أن يكون الناس مقلدين دون بصيرة، فدين الله عز وجل لابد أن يكون الإنسان فيه على بصيرة، قال تعالى:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
[يوسف:108].
فإذا كان أمر العلم بهذه المنزلة فلابد أن يكون من يقود أهل الإسلام ومن يعمل من أجل دين الله عز وجل على علم، والخطر عظيم إن اتبع من لا يعلم، فلابد من تجنب توسيد الأمر إلى غير أهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وقد حذر الله أنبياءه ورسله الكرام من اتباع سبيل الذين لا يعلمون، وهم لديهم من العلم بالله عز وجل ما يبين لهم الطريق، ومع ذلك حذرهم من اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فكيف بمن دونهم ممن قد يكون عنده من الجهل وعدم المعرفة ونقص العلم ما لا يستبصر به السبل المختلفة المفترقة؟!
إن اتباع سبيل الذين لا يعلمون ضياع للدين والدنيا، وهو ضلال وهلاك للناس والعياذ بالله؛ لذا لا يكون الجاهل إماماً للناس، ولا يقود غيره؛ لأنه لا يدري، والتقليد لا ينفع أحداً، والذي ينفع هو العلم بآيات الله والحكمة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
[آل عمران:164] ، هكذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فلابد من علم الكتاب والحكمة وهي: السنة، أو أن السنة سميت بالحكمة لاشتمالها عليها، وتكون الحكمة في الكتاب والسنة معاً.
فقد افترض الله سبحانه وتعالى على الناس أن يرجعوا إلى أهل العلم منهم وأن يتبعوهم؛ لأنهم هم الذين يقودون الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مصالح دينهم ودنياهم.
إن اتباع أهل العلم سبيل للنجاة، ويكون المتعلم على سبيل النجاة باتباعه لسبيل أهل العلم، وأما اتباع سبيل الذين لا يعلمون، واتباع كل ناعق فهذا يؤدي إلى الضياع والهلاك.
ولقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام بالاستقامة وعدم قبول التنازلات عن الحق تحت ضغط الفتنة وشدتها، وأمرهم باجتناب سبيل الذين لا يعلمون، وهذا متضمن قطعاً بالأولى أن يكونوا هم من العلماء بأمر الله عز وجل، وأن يتبعوا سبيل من سبقهم من الأنبياء.
فقوله:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ
، فيه: كأنهم محمولون، والله عز وجل يذكر فضله على عباده المؤمنين بذكر أفعاله بهم، فليس للمؤمن أن يرى لنفسه الفضل، أو أنه هو الذي أنجى نفسه بتدبيره أو عمله أو سعيه، فلابد أن يشهد بالفضل لله عز وجل.
ومعنى:
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ
أي: فلق الله عز وجل البحر لموسى، وهذا سبب آخر لذكر المجاوزة كفعل من أفعال الله سبحانه وتعالى ببني إسرائيل، فالله الذي جاوز بهم؛ لأنهم ما كانت لهم قدرة ولا طاقة بأن يتجاوزوا ذلك البحر إلا بما فعله الله لهم من فلق البحر بعصا موسى، وقد ذكر الله عز وجل تفاصيل هذا الانفلاق العظيم في موضع آخر من كتابه في قوله سبحانه في سورة الشعراء:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
[الشعراء:52-68].
سنة من الله عز وجل ماضية أن البلاء يصل إلى غايته، وعند ذلك يأتي الفرج.
أمر الله موسى صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي أن يسري ببني إسرائيل، وأن يسير بهم ليلاً، واجتمع بنو إسرائيل جميعاً على طاعة موسى، وخرجوا في تلك الليلة حتى وصلوا إلى ساحل البحر، وفي الليل أدركهم فرعون وملأه، ولا شك أنهم مدركون ما وقع من بني إسرائيل، وأنهم قد رحلوا من مصر كلها، وفرعون متربص بهم، ويوجد من يخبره بخبرهم، فأعلن التعبئة بأسرع ما يمكن، وأرسل للجنود حاشرين في مدائن مصر كلها، وخرج الجنود بالفعل وهم جميع على حذر، مجتمعون على طاعة فرعون رغم ما رأوا من آيات كذبه وبطلانه، ورغم ما رأوا من آيات صدق موسى، وأنه جاء بالحق، ومع ذلك قال تعالى:
فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
[هود:97]، وذلك لأنهم كانوا قوماً فاسقين، فالفسق يؤدي إلى العمى، وانعدام البصيرة، حتى يتبع الإنسان الباطل علناً جهاراً، كما قال عز وجل:
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
[الزخرف:54].
ولقد كان موسى يعلم أن السرى بالليل لن يغني عنه من متابعة فرعون، بل لابد أن يتبعه فرعون وجنوده، وأن المشي ليلاً والإسراع إلى ساحل البحر لن يغير من الأمر شيئاً، وإن كان بنو إسرائيل قد تعلقوا بهذه الأسباب، وظنوا أنهم سوف يفوتون فرعون بالخروج ليلاً، والإسراع سراً، وما ذاك بحاصل، وإنما ينجون برحمة الله، وخرجت جموع جنود فرعون واجتمعت وحفزهم فرعون بأنواع التحفيز، فقال لهم: إن بني إسرائيل قلة قليلة، وإنهم يغيظون فرعون وملأه، وهذا عندهم من أعظم الجرائم، فإغاظة فرعون تقتضي الإعدام والتقتيل والتذبيح وغير ذلك، فإنهم إذا أغاظوا فرعون فلابد من الانتقام، هكذا ربي هؤلاء الجنود، واتبعوا إمامهم إلى النار والعياذ بالله فقالوا كما أخبر الله:
إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
[الشعراء:54-56] فهم قد أخذوا العدة بكل أنواعها، اجتمعوا وهم ألوفٌ مؤلفة.
قال عز وجل مبيناً حقيقة الأمر:
فَأَخْرَجْنَاهُمْ
فكان الأمر، أن الله هو الذي قدر ذلك ليخرجهم، وفعل الله عز وجل ذلك بهم عدلاً منه وحكمة، وأراد سبحانه وتعالى أن يخرجهم مما كان متعهم به من الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، والنعمة التي كانوا فيها فاكهين، أخرجهم سبحانه وتعالى بقدرته، وقد كانوا في سعة، ولو تركوا بني إسرائيل لكانوا في سعة، ومع ذلك خرجوا إلى مصيرهم وهم يظنون أنهم ينتقمون من عدوهم، وما كانوا يظنونها إلا فسحة أو نزهة، فإن بني إسرائيل ما قاموا لهم قط، ولا كان في قدرتهم أن يقوموا في وجوههم، ولكن يقدر الله بسنته الماضية المتكررة أن الفرج لا يأتي في أول الأمر، فوصل فرعون بالفعل إلى بني إسرائيل، كما قال الله:
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ
[الشعراء:60] فعند شروق الشمس وصل فرعون بالفعل إلى ساحل البحر.
قال عز وجل:
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا
[الشعراء:61-62] هذا هو اليقين بوعد الله عز وجل ومعيته، ثم قال:
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
هذه المعية التي سببها: كثرة الذكر، واستحضار أسماء الله وصفاته، واستشعار معانيها وآثارها، والقرب من الله عز وجل بأنواع العبادة التي يهدي الله عز وجل بها من شاء من عباده، فقوله: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي ) أي: معي في النصرة والتأييد.
وأمر الله موسى عند ذلك بما يفعله، وذكره عز وجل باسمه دون الضمير فقال:
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
، فذكره الله باسمه تشريفاً له، وهو جدير بالتشريف عليه الصلاة والسلام، وهو في هذا المقام لا يعبأ بالجنود، ويأمره عز وجل أن يأخذ بسبب عجيب ليس من الأسباب المعهودة، وإنما نتعلم منه أن نتمثل أمره سبحانه وتعالى، وأن نأخذ بما أمرنا به من الأسباب وإن كانت عجيبة في تسبيبها.
لما أمر الله سبحانه وتعالى موسى أن يضرب البحر بالعصا: فقال:
أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ
ففعل، وليس هذا بسبب ظاهر، وإنما هو امتثال للأمر، فضرب موسى البحر بأمر الله عز وجل بعصاه،
فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
وأمر الله الأرض فيبست حتى لا يشق الأمر على بني إسرائيل، كما قال سبحانه:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى
[طه:77].
رأى فرعون وجنوده الآية، وانفلق البحر على قدر أسباط بني إسرائيل، اثني عشر طريقاً، وذكر المفسرون وأهل السير: أنه قد جعلت بين الطرق المختلفة شبابيك أو طاقات في الماء، حتى يرى بعضهم بعضاً، ويأنس بعضهم ببعض، وأن إخوانهم ينجون كنجاتهم، آية من آيات الله، ونعمة من نعمه سبحانه وتعالى على المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن أعظم نعم الله عز وجل ما من به على بني إسرائيل من النجاة؛ وذلك علامة على ما يفعله الله بأوليائه دائماً، فهو ينجيهم سبحانه وتعالى بقدرته وآياته، وعليهم أن يمتثلوا أمره؛ لأن امتثال أمر الله: سبب النجاة، وإن كنا لا ندري كيف يقع ذلك، فهذا البحر الهائل كان ينتظر الأمر من الله، بضربة موسى، وانكف الماء بنفسه بقدرة الله سبحانه وتعالى، دون أن يكون هناك حاجز يحجزه إلا ما أمره الله عز وجل به أن ينحجز، وسار بنو إسرائيل، ورأى فرعون الآية، ورأها جنوده، ومع ذلك انطمست البصائر، وحصل العمى، وكان البغي والعدوان هو الصفة المحركة لفرعون وجنوده جميعا،ً قال عز وجل:
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا
فذكر الله فعل فرعون وقومه، ولم يقل مثلاً: وجعلناهم يتبعونهم، كما ذكره في سورة الشعراء، ولكنه ذكر فعلهم، ففرعون هو الفاعل، وجنوده مشاركون، وذكر في سورة طه قوله:
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
[طه:78] ليدل على تبعيتهم المهينة، وحقارة أمرهم في كونهم كالآلة مجرورين أو كالدواب مجرورين بأمر فرعون دون وعي أو إدراك.
وذكر في سورة الشعراء قوله:
وَأَزْلَفْنَا
أي: قربنا،
ثَمَّ
أي: هناك في البحر،
الآخَرِينَ
أي: جعل فرعون وجنده بإرادتهم المخلوقة يتبعون موسى، ولا عذر لهم أن الله هو الذي فعل بهم ذلك؛ لأن الله سبحانه جعلهم يفعلون ذلك باختيارهم بغياً وعدواناً، وهذه عاقبة البغي.
ومعنى:
بَغْيًا وَعَدْوًا
أي: تعدياً وتجاوزاً، ففرعون إلى آخر لحظاته معتد باغ، وإلى آخر يوم في عمره ساع إلى الإفساد في الأرض، وقومه وجنوده متبعون له على الباطل إلى آخر لحظة.
فيرون الآيات تلو الآيات، وآخرها هذه الآية، ومع ذلك يتبعونه، ما هذه الطاعة العمياء؟ طاعة تكاد أن لا يوجد لها نظير إلا في أمثالهم ممن ساروا على طريقهم، ممن يتبع الباطل مهما كان بطلانه واضحاً، ومهما كان الحق جلياً، فهو قد تربى على أن يسمع ويطيع أمر فرعون مهما كان هذا الأمر معرضاً له للمخاطر في دينه ودنياه.
وإذا بفرعون يزعم أن البحر قد انفلق له من أجل أن يدرك عبيده الآبقين، ويسير ويسير جنوده، وينتصف سير فرعون في وسط البحر، وآخر واحد من بني إسرائيل قد خرج، وكل جيش فرعون في وسط البحر، فيأمر الله عز وجل البحر أن ينغلق عليهم مرة ثانية، فسبحان الله! تغيرت الموازين في لحظةٍ! تفكر وتأمل كيف كان حال فرعون وهو يسير ويظن هو وجنوده أن البحر سيظل على تلك الحال منفلقاً حتى يدرك بني إسرائيل في الناحية الأخرى؟ عجب والله شأن فرعون! وعجب شأن جنوده! تتغير الموازين في لحظة، وينقلب الحال؛ فينجو آخر رجل من بني إسرائيل، وفرعون وجنوده في وسط البحر، فينغلق البحر عليهم، فيدركه الغرق.
قال عز وجل:
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا
ذكر عز وجل فعلهم؛ ليبين أنه عدل معهم سبحانه وما ظلمهم، فالبغي والعدوان لابد أن تكون عاقبته الهلاك.
هذه اللحظات تحصل لكل كافر وظالم وباغ، وهي: لحظة الموت، لحظة مفارقة الحياة، فماذا يغني الأعوان والجنود؟ أو المال والسلطان؟ أو الملك والعز الذي كان ظاهراً؟ ماذا يستطيع الناس في تلك أن يفعلوا اللحظات لمن يحتضر أو لمن يصيبه أمر الله عز وجل؟
ما أحوجنا إلى أن نتذكر هذه اللحظات التي سيمر كل واحد منا بها، لحظة مفارقة الدنيا فرداً، كما قال عز وجل:
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
[مريم:88-95].
كما أنك ترحل عن الدنيا فرداً فستأتي الله يوم القيامة فرداً، قال عز وجل:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
[الأنعام:94].
تقطعت الأسباب، والروابط، والصلات، وهلك فرعون، وأدركه الغرق، وحينها قال:
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ
ذل وهوان، حتى أنه يريد أن يتابع بني إسرائيل فلم يقل: لا إله إلا الله، وإنما كان يقول:
لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ
فكأنه يريد أن يقول: أنا تابع لبني إسرائيل، أنا أريد أن أكون في ذيلهم، ذل وهوان عجيب، هذه اللحظة لحظة يسيرة لكنها على فرعون طويلة، أضاعت كل مجده وسلطانه وكل عزه وهيلمانه، أضاعت كل ما كان له، وبقيت عليه لحظات أطول، وعذاب أشد.
يقول جبريل عليه السلام كما في الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة) أي: بسبب هذه الكلمة: كلمة لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين، وجبريل عليه السلام يبغض فرعون بغضاً عظيماً، ولكنه يعلم فضل الكلمة التي قالها فرعون، ويخشى من كثرة قول فرعون لها أن تدركه رحمة الله، وهو يريد أن يهلك فرعون على الكفر؛ لينال عقابه، فجعل يأخذ من طين البحر ويجعله في فم فرعون ليسكت.
كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة، لابد أن نقدر لها قدرها، كما كان جبريل يقدر لها قدرها من فرعون، ويخشى أن تكون سبباً لرحمة الله، والله عز وجل عليم حكيم، وهو سبحانه وتعالى لا يقبل التوبة من الناس عند رؤيتهم العذاب، كما قال تعالى:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
[غافر:85].
ثم قال له الله عز وجل:
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
[يونس:91] أي: آلآن تؤمن، ولا يقبل الإيمان، ولا ينفع نزول العذاب، نسأل الله العافية، ونعوذ به من سخطه وعقابه، ونسأله نصره وتأييده، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
قال الله عز وجل:
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ * وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ
[يونس:90-93]
أي: أنزلهم الله منزل صدق.
تدل الآيات أولاً: على أن دعوة موسى عليه السلام هي الإسلام، وأن المؤمنين من بني إسرائيل الذين أنجاهم الله عز وجل كانوا مسلمين، ففرعون يريد أن يقول: أنا تابع لموسى، وتابع لبني إسرائيل، فقال:
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فدل ذلك على أن موسى جاء بالإسلام، وعلى أن إنجاء الله لبني إسرائيل كان عندما كانوا مسلمين، وأن ولايته لهم وكذلك ولاية المؤمنين لهم عبر التاريخ إنما كان عندما كانوا مسلمين، فأما إذا كفروا وتركوا الإسلام فهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، وهذه قضية عظيمة الأهمية، فإن الولاية والعداوة مبناها على التزام هذا الدين، ووعد الله عز وجل بالتمكين في الأرض لبني إسرائيل ليس مرتبطاً بنسبهم، وإنما هو مرتبط بإسلامهم، فعندما كانوا مسلمين أهلك الله فرعون وجنده من أجلهم، وعندما كفروا بالله صاروا أعداء له سبحانه، أعداء لرسله، ومكن الله عز وجل منهم المسلمين بفضله سبحانه وتعالى.
فلا بد أن نفهم القضية جيداً، فليس وعد الله لبني إسرائيل في الأرض المقدسة، وفي المنزل الصدق، والمبوأ الطيب الذي أنزلهم الله إياه مرتبطاً بمجرد أنهم أبناء يعقوب عليه السلام، بل ذلك مرتبط بإسلامهم، ولذا لما كفروا سلط الله عليهم أعداءهم فأخذوا ما بأيديهم، كما قال سبحانه:
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا
[الإسراء:7] ولما أفسدوا في الأرض بالشرك والبدع سلط الله عليهم من هو شر منهم من المشركين، فالله عز وجل يفعل ما يشاء، وهو سبحانه وتعالى بحكمته وعدله يضع الأمور في مواضعها.
والمؤمنون الآن وفي كل زمان يحبون موسى ومن معه، ويتولونهم ولو كانوا من غير نسبهم، من غير قومهم، ويتبرءون من فرعون وجنده ولو كانوا من أهل بلدهم، فنحن نبرأ إلى الله عز وجل من فرعون ولو كان مصرياً، ونتولى موسى عليه السلام ومن معه من المسلمين ولو كانوا من بني إسرائيل، وحين يؤمن أهل مصر فإننا نتولاهم ونحبهم، وحين يكفر بنو إسرائيل فإننا نبغضهم ونعاديهم، وذلك لأنه ليس بين الله وبين الناس نسب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) .
فالحب في الله والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فليس عداؤنا لليهود لأجل الأرض أو الوطن أو القومية أو غير ذلك، وإنما لأنهم كفروا بالله وتركوا الإسلام.
وكذلك عداؤنا لفرعون وإن كان ينتسب إلى بلدنا؛ فنحن نعاديه ونبغضه ونكرهه ونحمد الله على هلاكه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
قال عز وجل:
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
[يونس:91] أي: آلآن تؤمن، وقد أفسدت في الأرض أعظم الإفساد بالصد عن سبيل الله، وادعاء الربوبية والألوهية، ودعوة الناس إلى عبادتك، إبعادك إياهم عن توحيد الله عز وجل، فلا يقبل الإيمان في تلك اللحظة، فقد غرغر فرعون، وأدركه الغرق، ونزل به العذاب هو وقومه، ومع ذلك فقد جعل الله بدنه آية، فقال عز وجل:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
أي: لم ينج هو، وإنما نجا بدنه، وذلك أن بني إسرائيل ما كانوا يتصورون فرعون جثة هامدة، فما تخيلوه إلا آمراً ناهياً متسلطاً باغياً قتالاً سفاكاً للدماء، فشكوا في موته، فأمر الله البحر أن يخرج جثته، وتلقى ظاهرة أمام أعينهم حتى رأوا فرعون -الذي كان يأمر وينهى، ويغضب ويسخط ويرضى، ويعطي ويمنع في ظن الناس- جثة هامدة؛ ليكون لمن خلفه آية، لمن شهدوه ولمن يأتي بعده، وذلك دليل على بقاء جثته ليراها ويتعظ بها من بعده من الأقوام، فسبحان الله! ولا يهمنا أي فرعون كان هو، أعني: ما اسمه؟ وأي واحد هو من هذه الجيف الموجودة المحفوظة؟ فكلهم كانوا على الشرك والكفر، إلا من لا نعلم ممن رحمهم الله، لكنهم كانوا على الكفر والشرك، وعبادة غير الله كما سجلوا ذلك في معابدهم ومقابرهم، وكلهم آيات من آيات الله عز وجل، كلهم كانوا يأمرون وينهون، وكان لهم من الملك والسلطان ما لهم، فماذا يفعل بهم الآن؟
يطاف بهم في البلاد، آية من آيات الله، دالة على عجز الإنسان وضعفه، وعلى أن الله هو الذي يقلب الأمور، وهو سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، فقد أتى بعد فرعون فراعنة كثيرون، فأهلكهم الله كلهم كهلاكه.
ثم قال تعالى:
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
[يونس:92] وكل واحد منهم آية من آيات الله، والملك لا يبقى لأحد، والسلطان لا يستمر لإنسان، وإنما هي أدوار وحلقات يأخذ كل جيل دوره على ظهر الأرض، إما في طاعة وإما في معصية، إما في دعوة إلى الخير، وإما في صد عن سبيل الله، فمن من الله عز وجل عليه بأن ثبته على الهدى، واستقام على الصراط المستقيم، وهدى قلبه إليه، وأخذ بناصيته إليه، فليحمد الله سبحانه وتعالى، فما هي إلا لحظات وينتهي هذا الذي نصب على وجه الأرض لهذا الجيل من أنواع الحياة والممالك والصراعات، ونرحل كما رحل السابقون، بخيرهم وشرهم، بمؤمنهم وكافرهم، ويأتي دور جديدٌ كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله:
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
[إبراهيم:19-20].
فهكذا يأخذ كل إنسان دوره على ظهر الأرض، ثم يرحل إلى بطنها، فهي التي تجمعنا أحياء وأمواتاً قال تعالى:
أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا
[المرسلات:25-26] فهي جامعة للبشر في حياتهم وموتهم، فهل من متعظ؟
فهذه قصة عظيمة، وآية من آيات الله كبيرة عظيمة توقظ النفوس، وتحيي القلوب، وتذكر بأمر الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهدِ قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر