أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن من أهم ما يواجه العمل الإسلامي والمسلمين كأفراد وكأمة مسألة تنشئة أفرادها وأبنائها وبناتها ورجالها ونسائها على دين الله سبحانه وتعالى، وتهيئتهم علماً وعملاً، ودعوتهم للالتزام بهذا الدين، وهو ما اصطلح عليه المعاصرون بمصطلح: (التربية) فقضية التربية قضية عظيمة الأهمية في حياة الفرد والأمة، وهي واجب شرعي، ولأهميتها ذكر الله سبحانه وتعالى وصية رجل حكيم، وذكره سبحانه وتعالى باسمه مخلِّداً هذا الاسم، وهذا الرجل هو لقمان ، وهو عند جمهور أهل العلم ليس بنبي؛ إذ لم يذكر مع الأنبياء في أي حال ذكروا فيها، ولكن ذكر الله عز وجل اسمه ووصيته لابنه وهو يعظه؛ لتكون قدوة وأسوة حسنة للآباء والأمهات، والأساتذة والمعلمين، ولكل من ولاه الله عز وجل أمر غيره من المسلمين في التهيئة والإعداد، والتنشئة على مرضاة الله سبحانه وتعالى.
فإعداد المنافقين الذي يتقنه جيداً أعداء الإسلام، ومن أجله وضعوا مناهجَ تعليم، ومناهج إعلام، ومناهج اقتصادية واجتماعية متعددة، تفرض على الناس نمطاً معيناً من أنماط الحياة، والتي يترتب عليها نشوء أجيال لا تعرف شيئاً عن دينها، بل تعرف ما يضاده وما يخالفه، وعند ذلك تتقبله وترتضيه.
وآخر الأمثلة شيوعاً -وإلا فالذي لا يشيع في الناس أضعاف مضاعفة- قصة ذلك الكتاب الذي يدرس في الجامعة الأمريكية عبر سنوات، وهذه الجامعة تخرج منها أجيال تلو أجيال ممن يعدون لأرفع المناصب وأكثرها حساسية، وفي ذلك الكتاب سب صريح لرسول صلى الله عليه وسلم، وطعن عظيم في القرآن، وهذا الكتاب لأقبح المستشرقين كذباً وتزويراً وحقداً وحسداً للإسلام والمسلمين، ومع ذلك يفرض على هؤلاء الأبناء -الذين هم دائماً كما يسمونهم أبناء الصفوة- أن يحفظوه ويلخصوه ويمتحنوا فيه ويجيبوا بما يطعن في الإسلام صراحة كما يريد مدرس الكتاب، وكأن هذه الأجيال المتعاقبة التي دخلت ثم خرجت تعتبر ذلك أمراً طبيعياً وعادياً عندها، فلا غرابة إذاً أن نجد منهم من يحارب القرآن ويحارب سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعتبر الإسلام أمراضاً نفسية أو عقداً داخلية، أو غير ذلك مما يتقيأه ذلك المستشرق عليهم والعياذ بالله، فإذا بهم يصيرون هم العدو كما وصف الله عز وجل المنافقين.
ومن شواهد أصحاب المناهج المنحرفة على نشرها: ما جاء في قصة أصحاب الأخدود، وذلك في قول الساحر الكافر الذي لا يعرف آخرة ولا بعثاً، بل إنه يعلم الناس أن ملكهم هو ربهم والعياذ بالله، وأنه لا إله لهم غيره ولا رب لهم سواه، أضف إلى ذلك أنه حريص على استمرار الشر والفساد من بعده، فيقول للملك: ابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فينتقي له غلاماً فطناً ليعلمه السحر، وكان في المقابل لهذا الغلام تربية أخرى وتوجيه آخر، وتلقى هذا الغلام تعليماً مزدوجاً كما يقال، تربية الساحر وتربية الراهب المنعزل الموحد لله عز وجل، والراهب لم يكن له اختلاط بالناس، ولكنه نجح بفضل الله سبحانه وتعالى في أن يلقن هذا الغلام منهج العقيدة الصحيح، وأن يلقنه دين الله سبحانه وتعالى، فتغيرت أمة من الأمم بواحدٍ فقط، ونجت به من عذاب الله سبحانه وتعالى، وتغير منهاج حياتها حتى ضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وآمنوا بالله عز وجل؛ بسبب فرد واحد، لذا كان إحسان التربية يؤدي إلى نجاة أمة، وإساءة التربية وسوء المناهج المنحرفة فيها يؤدي إلى هلاكها ودمارها والعياذ بالله.
لذا كان لابد أن نهتم جداً بهذه المسألة، فهي فرض عين في أكثر المواطن والمواضع على معظم الأشخاص ممن لهم أبناء وبنات، وكل من ولاهم الله عز وجل أمرهم، فيجب عليهم أن يعلموهم ويؤدبوهم؛ لقول الله عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
[التحريم:6].
ولن يتحقق ذلك إلا بفهمنا وعملنا ودعوتنا لما تضمنته آيات الكتاب؛ وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الباب باب عظيم الأهمية، ولن نجد وصية أجمع لأصول التربية الإيمانية، والعبادية العملية، والخلقية، وفي المعاملات، والدعوة إلى الله عز وجل، من وصية لقمان لابنه وهو يعظه، وحول معانيها نسير ونرجو الله أن يوفقنا للانتفاع بها علماً وعملاً.
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
[لقمان:13-19] .
وقبل أن نبدأ في بيان أجزاء هذه الوصية وفوائدها، نحب أن نبين أنها ليست خاصة بالصغار؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ تربية أصحابه وكثير منهم قد جاوز سن الصغر، ومع ذلك صاروا خير أمة أخرجت للناس، ونحن نحتاجها لتربية أنفسنا وإن بلغنا ما بلغنا من السن، فاحتياج الإنسان إلى التعود على الخير ليس مقصوراً على سن معين، وإن كان في صغره أقرب إلى الإجابة، وأقرب إلى قبول التعود والإعداد، لكن الجميع ملزم بهذه الوصايا، فليست هذه الوصية خاصة بمن له ابن يربيه، أو متعلم يتعلم منه، بل هي لكل إنسان يربي بها نفسه كما يؤدب بها غيره.
وهذه الوسيلة الحوارية لا تغني عنها الوسائل الأخرى، كوسائل المدارس العامة، أو الدروس المطلقة العامة، ولا تجدي عنها الوسائل المعاصرة كالكتاب أو الشريط أو الخطبة، وإن كانت هذه الوسائل مؤثرة وضرورية ونافعة أيضاً، لكنها لا تغني عن هذه الوسيلة؛ لأن هذه الجلسة الخاصة يبث فيها المربي موعظته ونصيحته، ويسمع كذلك ممن يربيه ما في نفسه، وهذا يعد من أهم الوسائل في التربية.
وبقيت هذه المسألة في قلب يوسف عليه السلام، فعندما حقق الله عز وجل رؤياه، وجعلها ربه حقاً، قال عما فعله إخوته به بأسلوب رفيع:
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي
[يوسف:100] ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا، فهو يعلم أن الشيطان هو العدو، وقد علمه أبوه ذلك، فأخبرونا من مِن أبنائنا يعرف الشيطان، ويعرف عداوته البينة للإنسان، وليس مجرد أنه يخاف من العفريت إذا هددته أمه أو أبوه بأنه سوف يخرج له ليظل مرعوباً من العفاريت ومن الجن؟ نسأل الله العفو والعافية.
ولولا وجود هذا الأثر السيئ في النفوس من الجن، والخوف منها؛ لما وجدنا هذا الكم الهائل من الحالات التي يظن الناس أنها ممسوسة؛ أو مصروعة أو غير ذلك؛ فإن هذا تعظيم لشأن الجن أضعافاً مضاعفة عما يستحقه ويناسبه، وعما هو الواقع في الحقيقة.
وفي هذه الجلسة علم يعقوب يوسف أن الله هو الذي يمن، وأنه هو الذي يجتبي، وأنه هو الذي يعلم، وأنه هو الذي يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فأثرت هذه الكلمات المضيئة من يعقوب عليه السلام حين قال:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ
[يوسف:6]، فلم يقل له: سوف تكون أنت فوق إخوتك، أو سوف تكون أنت الأعلى، وسوف تكون عالماً بتأويل الرؤى، ولكن حرص تمام الحرص أن يقول له:
وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
[يوسف:6] .
وقد أحسن يوسف التلقي، فقال عندما ذكر أباه بأمر الرؤيا بعد أن سجدوا له أبواه وإخوته،
وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
[يوسف:100]، ولم يقل: قد تحققت، وإنما قال:
قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
ونسب النعمة إلى الله، فقال:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
[يوسف:100]، والمعتاد منا أننا نحن الذين ندعي القدرة، فيقول أحدنا: خرجت من السجن، ولا يحاول أحدنا أن يستحضر أن الله أخرجه من السجن، أو من الأزمة الفلانية، أو من المرض الفلاني، فربما يقول البعض شُفيت، فينسبها هكذا للمجهول أو نحو ذلك، ولكن يوسف حرص أن ينسب الفضل لله والنعمة لله، فقال:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
، ولم يقل: وجئتم من البدو، وإنما قال:
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ
، ثم علمه أبوه الأسماء والصفات في قوله:
إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[يوسف:6] وهذان الاسمان ختم بهما يوسف عليه السلام خطابه لأبيه بعد هذه السنين الطويلة حين قال:
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
[يوسف:100]، فمعرفة أسماء الله وصفاته يتلقاها الابن عن أبيه اليوم على طريقة المتكلمين السخيفة المدمرة، والتي لا يعي الناس منها شيئاً، وإنما قد أثمرت آثاراً عجيبة لا يعيها الناس ولا يدركونها، وبالتالي يتركون هذا العلم من أصله.
ولقد سمعت اليوم عجباً: بينما أنا في صباح هذا اليوم أمشي، إذ رأيت أباً مع ابنه، والابن في حدود الثالثة أو الثالثة والنصف، ويتكلم بصعوبة لصغره، وأبوه رجل كبير قد شاب بعض شعره، فبمجرد نزولي من السيارة سمعت الولد يقول لأبيه: يا بابا! ربنا فوق، قال له: ربنا في كل مكان يا ابني! فقلت له: والله إن ابنك أعلم منك، سبحان الله! الابن على الفطرة السليمة، فلما قلت له ذلك، وبينت له أنه ليس في كل مكان، وأنه ليس بداخلنا ولا داخل هذه الأماكن كلها، وإنما ربنا فوق العرش، ضحك الرجل وقال لي: شكراً جزاك الله خيراً، قلت: ربنا يبارك لك فيه.
فانظروا الولد على الفطرة السليمة، والأب يعلم ولده أن الله في كل مكان، وكان المفروض أن الأب يعلم ابنه أسماء الله عز وجل وصفاته؛ لأن هذا أصل التوحيد.
فسيدنا يوسف عليه السلام ذكر كل ما تعلمه من أبيه، فتلك الكلمات كلها مما ذكره له أبوه، فقال:
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
ثم قال:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
[يوسف:101]؛ لأن أباه علمه أن أباه وجده وجده الأعلى كلهم غارقون في نعم الله سبحانه وتعالى، فهو يطلب النعمة من الله والثبات عليها.
كذلك علي رضي الله تعالى عنه أسلم عندما رأى ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة يصليان، وتلقى منه الدين في هذا البيت بينه وبينه، وهذه هي التربية.
كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل على ميمونة فسألها عن ابن عباس فقال: (أصلى الغلام؟) ثم بعد أن استيقظ ابن عباس رضي الله عنهما صلى معه.
كذلك في تربية عظيمة قال لـابن عباس : (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا الحديث وصية عظيمة تتضمن أصول التربية، وكذلك الاعتقادية والعملية والعبادية وغيرها.
وكذلك تأمل في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ عندما يقول معاذ : (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا
والآخر: الفقر المنسي، والنظام الربوي اليهودي، والنظام الرأسمالي من أهدافه أن يزداد الغني غنى؛ لأن أصل هذا النظام مبني على الظلم والاحتكار والتسلط بالأموال الربوية على الآخرين؛ فهم أرادوا أن يكون الناس في الفقر المنسي، وهذا يثمر في الحقيقة الثمار المرة فينا، وليس معنى ذلك أن أطلب من الناس أن يتوقفوا عن الكسب ويتركوا الأعمال، لا والله، ولكن البركة في الوقت من الله عز وجل، كما أن البركة في المال والبركة في الصحة من الله عز وجل.
وهذا الأمر أعني: مخططات الأعداء في ذلك تثمر في ألا يجد الإنسان وقتاً نهائياً، وتظهر آثاره السلبية فيمن هو بعيد عن الله، وفيمن لم يتق الله، وأما العلاج لذلك فهو تقوى الله:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
[الطلاق:2-3].
فغياب الإنسان وعدم جلوسه مع من يربيه إنما هي بسبب قلة التقوى، وبسبب البعد عن الله، فتجد الإنسان كسبه إما بين هذا وذاك، فلا يجد الكفاية التي تكفيه إلا أن يكون منشغلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تتباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).
أي: أن التباعد عن الله يكون سبباً في ملء القلب فقراً، ولو أنهم فرغوا بالهم وإرادتهم ونيتهم كانت عبادة لله عز وجل -وإن سعى الإنسان في أمور الدنيا بما أحل الله عز وجل- فلن تكون هذه الفتنة التي تجعل الإنسان لا يعي ولا يدري ما يدور حوله، وإنما يسير في ساقية مثل ثور وضعوه في ساقية لا يدري أين يذهب، وربما تعب من كثرة المشاوير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه بالضبط حياة الناس اليوم، وربما أمريكا واليابان والشرق والغرب كلها لا تجد فيها غير ذلك، إنسان موضوع في ساقية يعمل ويكد ويتعب ليصل إلى أقصى درجة التعب، ليرجع منهكاً يقضي أوقاته الباقية كما يقضيها الناس، وذلك في مشاهدة أجهزة الإفساد، ولا أجد مقهى إلا وهي ممتلئة في جميع الأوقات، فأنت كلما مررت وجدت شخصاً يلعب الطاولة، وآخر يتفرج على التلفاز وأفلام الفيديو، والسينمات كذلك مليئة، ومن أنشط المحلات تجارياً محلات الفيديو؛ فإنها تؤجر الشرائط بما لا حصر له، فماذا يبقى إذاً للتربية؟ ماذا يبقى للجلسة الخاصة؟ هذا هو الذي يريده الأعداء، تدمير رهيب جداً، فتجد الأب فيما تبقى من الوقت يشاهد فيه التلفاز هو وأولاده كالبله تماماً، يتشربون كل ما يلقى عليهم من أنواع الفساد، نعوذ بالله من ذلك.
ونجد نحن ضغطاً رهيباً على أبنائنا عند نصحهم؛ لأنهم يريدون أن يلعبوا كما يلعب الناس، وأن يتفرجوا كما يتفرج الناس، فالمسألة خطيرة بلا شك، ولكن والله إن بتقوى الله سبحانه وتعالى تحل هذه المشكلة، فمزيد من القرب من الله والتوجه إليه والتفرغ لعبادته سوف يحل هذا الإشكال بإذن الله، ويجد الإنسان وقتاً يجلس فيه مع من يربيه، وهذه الوسيلة أطلت فيها الكلام؛ لأنها وسيلة ضرورية، ولا بد أن توجد فينا سواء على المستوى الشخصي في الأسرة أو على المستوى الدعوي في المسجد، وعلى مستوى التعليم في من هو مسئول عن غيره، لا بد أن يوجد مثل هذا الحوار، ولا بد أن توجد مثل هذه الجلسة التي يتكلم الناس فيها مع بعضهم، مع من يربونه، يتكلمون فيها بقلب مفتوح، ويتلقون فيها الوعظ والتذكير بالله عز وجل.
الابن في هذه المرحلة يتلقى من الأسرة أكثر مما يتلقى من الشارع، لو أنه سمع أنواع السباب في الشارع ولكنّ أباه وأمه لم يتلفظا قط إلا بالألفاظ الطيبة، فتأثره بالشارع -رغم سوئه- أقل بكثير من تأثره بالألفاظ التي يستعملها أبواه، خصوصاً إذا نهياه عن ذلك وأشعراه بالحب والشفقة والمحبة والمودة، وهذه الكلمة: (يا بني) تصغير ابني، فتشعره بالعلاقة الطيبة التي بينه وبين ولده، وتشعره أنه يحبه، وأنه ينصحه، وليس لأنه يصدر أوامر عسكرية لا بد أن ينفذها، وهذا يطالب به الأمهات كما يطالب به الآباء؛ فإن كثيراً مما نراه ونسمعه من الأوامر التي تصدر كأنها أوامر عسكرية، تكون دائماً بالنهر وبالغلظة وبالشدة، وغالباً ما تكون في أمور يسيرة تافهة، لبس، خلع، أكل، شرب ونحو ذلك، فهذه الحدة دائماً لا تثمر الثمرة المرجوة لها؛ لذلك لا بد من هذه الكلمة الطيبة.
فقوله:
لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
، أي: أن كلمة الشرك ينبغي أن يعرفها الأبناء، ولو سألنا أبناء المسلمين ما الشرك؟ لو سألنا آباءهم وأمهاتهم، ولو سألنا الكبار، ولو سألنا الإخوة والأخوات عن الشرك، وأنواعه المنتشرة في وسط الناس؛ ليحذروا منها، لوجدنا في ذلك خللاً كبيراً، ولوجدنا معظم الأبناء لم يسمعوا هذه الكلمة ولم يستعملوها، ولو ذكرت لهم فإنما تذكر على سبيل الاستحياء، والشرك عند القوم الذين تركنا لهم أبناءنا يعلمونهم ويربونهم ليس له وجود أصلاً، لا يعرفون شيئاً هو شرك، حتى من يعبد الأوثان عندهم يرون أنه صاحب دين وأنه ليس بمشرك ولا بكافر والعياذ بالله.
أما اليهود والنصارى فيجب أن تتأكد من الكتب التي يلزم الآباء والأمهات والمعلمين أن ينظروا فيها؛ لأنها تغرس العقيدة الباطلة في نفوس الأبناء، فبعضها بالطرق المباشرة بالتصريح بصحة الملل الثلاث، وبعضها بتصحيح كل ملة، كما أخبرنا الإخوة بأنهم كانوا يقولون: إن الكافر هو الذي لا يدين بدين الإسلام، فإذا بهم اليوم يقولون: لا، هذا غلط بل الكافر هو: الذي ليس له دين، معناه: أي واحد له دين فليس بكافر، وهذه الألفاظ أصلاً لا تستعمل ولا وجود لها في الواقع؛ لأن اليهود والنصارى والمسلمين سواء والعياذ بالله، وهذه الكلمات لا يمكن أن تطبق في واقع الناس اليوم؛ لأنه ما من أحد إلا ويحترم ويجل حتى لو كان بلا دين، ألم يظل الناس سنين طويلة يعرفون أن الشيوعيين رفقاء وإخوان، وأنهم يستقبلون أعظم الاستقبال وإلى يومنا هذا، فهل يقال عن عباد البقر وعن عباد الصلبان وعن عباد الفئران: أنهم أصحاب أديان، وأن كل دين محترم والعياذ بالله؟!
وقال سبحانه:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
[آل عمران:85].
وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
[النساء:150-151].
وقال سبحانه:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ
[المائدة:73] .
وقال تعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
[المائدة:17] .
وقال عز وجل:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
[التوبة:30-31].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).
وقال الله عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
[البينة:6] .
والآيات أكثر من ذلك في تأصيل عقيدة راسخة وهي: أن الشرك ظلم عظيم، وأن الإسلام هو الحق، وأن ما دونه باطل وكفر، والولاء والبراء أصل لا بد أن يؤصل في نفس كل مسلم ومسلمة، وإلا لا يصح له دينه ابتداء، فمن لم يتبرأ من الشرك والكفر، وصحح مذهباً وديناً غير دين الإسلام، وجوز ملةً غير الملة الحنيفية وملة التوحيد، فإنه لا يكون موحداً ولا يكون مسلماً والعياذ بالله؛ لذلك نقول: إن هذا من أعظم الخطر أن يعلموا الطفل من أول نشأته أنه ليس بيننا وبين الكفار من اليهود والنصارى عداوة.
كذلك الآن يقولون: محمد وسمعان، واسم سمعان يدرسونه في سنة ثانية ابتدائي، و(سمعان) هو: اسم منتشر عند النصارى وعند اليهود، كذلك هناك أعياد دينية، والأعياد الدينية التي تشتمل أعياداً إسلامية أو أعياداً مسيحية، والأعياد الإسلامية اثنان، والأعياد المسيحية اثنان أيضاً، الأعياد الإسلامية: عيد الفطر، والأضحى، والأعياد المسيحية: عيد الميلاد، وعيد القيام المجيد، وغير هذا كثير والعياذ بالله.
كذلك حذف جميع الغزوات التي فيها حرب بين المسلمين وبين اليهود وبين النصارى، فلا يوجد أحد يعرف غزوة مؤتة من الأبناء أبداً، ولا غزوة تبوك، ولا غزوة خيبر، فكل هذه الغزوات حذفت باسم التطبيع مع اليهود والنصارى، وغير ذلك كثير.
كذلك شرك من يعتقد أنه حر مع أوامر الله، مع أن من معاني الربوبية: أن الرب هو المالك والعبد مملوك، فمن إذا قيل له مثلاً: أقم الصلاة، آت الزكاة، اترك الزنا، فيقول: أنا حر، فكلمة أنا حر تقولها مع العبد مثلك، أما أن تقول: أنا حر مع أوامر الله عز وجل فهذا من الكفر بالربوبية والعياذ بالله؛ لأنك لست حراً مع أوامر الله عز وجل.
وهذه هي القضية الأساسية التي يُنادى بها في العالم، وهي قضية الحرية بما فيها حرية الكفر والسب والطعن في دين الله عز وجل، وكثير من الناس عندما يتكلم عن أي شيء تجدهم يقولون: أول شيء أننا لا نتعرض لقضية الحرية؛ لأن قضية الحرية مقدسة عندهم، فأي رجل هو حر عندهم يفعل ما يشاء، ويعتقد ما يريد، ويكفر بما يشتهي، ولذلك كثير جداً من الناس يقع في هذا الضلال والكفر والعياذ بالله، مع أن هذا الشرك هو شرك إبليس، فهو لم يقل: رب ما أمرتني، بل قال: لا أسجد، وهذا يقول لك: أنا لا يلزمني كلام ربنا، أو كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فربنا يعاقب بما يشاء، ونحن نأخذ منه الذي نريده، ونترك الذي نريده والعياذ بالله.
وتجد أناساً يصومون ويصلون ويزعمون أنهم مسلمون، ويقررون ذلك أوضح تقرير، كما ذكرنا مثالاً من قبل فيمن ألزم الناس بالربا، وقال: إنه دستوري؛ لأن النص لم يتعرض للإلغاء لما قبل صدور هذا النص، أي: أن النص الدستوري بأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع لم يتعرض للإلغاء لما قبل ذلك، فالذي قبله مشروع لا بد أن يطبق ويلزم الناس به ومنه الربا، ولاشك أنه يسميه بغير اسمه، ولم يقل: هذا ربا، قال: هذه عمولة أو فائدة أو استثمار، مع أنه ربا صريح، ولا نزاع عنده أنه فائدة ربوية محرمة، ولكن النص لم يلغيه، ولذلك لا بد من اعتباره، وهذه قاعدة خطيرة جداً والعياذ بالله، وهي من أخطر ما يهدد العقيدة في أن الله وحده هو الرب الحاكم.
فالإنسان لا يضع ربه في غير موضعه؛ فإن الله عز وجل فوق عرشه، وهو إله العالمين ورب العالمين، ومهما عبد المشركون غيره فذلك لا يغير من الأمر في حقيقته من شيء؛ فإن الله ليس معه من إله كما قال عز وجل:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ
[الأنبياء:22].
وقال تعالى:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
أي: كون الإنسان يشرك بالله فقد وقع في الظلم الأكبر لنفسه، وليس معنى ذلك أنه يظلم الله كما قد يظن البعض ذلك، فهذا خطأٌ، فالعبد لا يظلم ربه، قال عز وجل:
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[البقرة:57]. فإن الله سبحانه وتعالى لا يقدر العباد على ظلمه، ولا يتصور ذلك منهم، ومهما صنعوا فهم في قبضته، بل ما وقع منهم ذلك الشرك إلا بمشيئته وقدره، وإن كان هو عز وجل حرمه عليهم، وإنما قدره لحكمة بالغة، فالله سبحانه وتعالى جعل الشرك أعظم الظلم، فهذه هي التربية الإيمانية.
ونلاحظ في ثنايا الوصية تعليم الأسماء والصفات كما ذكرناه في قصة يوسف، وهذه تجدها كذلك في قوله هنا:
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
[لقمان:16] فقوله:
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
هذه تربية إيمانية على تعريف الابن المربى أسماء الله وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى سوف يأتي بعملك.
قوله:
إِنَّهَا إِنْ تَكُ
أي: إن تكن الفعلة التي فعلتها أو المعصية التي فعلتها،
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
مهما كانت قليلة،
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ
، ولو كانت مغلقة عليك، فيربيه على المراقبة لله عز وجل أن الله يبصره، وأنه يعلم ذلك، وأنه خبير بما يفعل، وأنه لطيف سوف يأتي بما دق وقل، وسوف يحاسبه عليه، فيربي فيهم المراقبة والمحاسبة، وهي عبادات قلبية وهي أساس الإيمان، وربط ذلك بالأسماء والصفات كما نجدها واضحة في وصية يعقوب ليوسف عليه السلام كما ذكرنا.
وهذه الأمور من أهم ما يلزم كما ذكرنا في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) .
وهذا تعليم للقضاء والقدر بأوضح عبارة، مع تجنب الفلسفة الكلامية، والعبارات الغامضة، والمباحث السخيفة التي أهلكت الناس والعياذ بالله، وإنما بين له النبي عليه الصلاة والسلام مراتب القدر واضحة جلية، وعلمه أن يستعين بالله وحده، وأن يسأل الله عز وجل وحده ولا يدعو سواه، وأن يحفظ الله عز وجل ويراقبه، وذلك بأن يحفظ سمعه وبصره ويده ورجله، وبين له أن الله يحفظه بذلك، وأنه سوف يجازيه على ذلك، بأن يجده عند الشدة معيناً له، كما قال: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
أنا لا أقول ذلك تزهيداً في حفظ المتون، وإنما لا أُسَرُّ عندما أسمع ابني يكرر العقيدة الطحاوية مع علمي أنه لا يفقه منها شيئاً، فلذلك نقول: ليس هذا هو الكافي، لا تظن أنه بذلك قد صار يفهم التوحيد أو يعلم العقيدة، وكذا من حفظ متن معارج القبول أو درسه جيداً وأتقن كل مسائله، فمسائل الاعتقاد أعمق من ذلك، مسائل الإيمان يتأصل القلب بها، ويصلح بها، وليس مجرد أن يعرف علماً مجرداً، أو كيف يرد على الشبهات.
إن مسائل الاعتقاد لا بد فيها من أمرين اثنين: أن يعرف الإنسان كيف يقول، وكيف يحب وكيف يخاف، وكيف يرجو، وكيف يراقب الرب سبحانه وتعالى، وكيف يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله عز وجل، وكيف يعرف أسماء الله وصفاته ويتأثر بها ويتعبد لله عز وجل بها، فكما يعرف الشرك ويتركه يعرف التوحيد ويأتيه، ويتعبد لله عز وجل بأنه الرب الإله المعبود الذي له كل معاني الكمال، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ )) وهذا لا بد أن يتفكر فيه الكبير قبل الصغير، وأن يدرك الجميع كم تعبت الأم في حملها ورضاعها لطفلها، وذلك سبب لوجوب شكر هذه النعمة التي أولتها له الأم بفضل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (( وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ )) أي: ضعفاً على ضعف.
(( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ )) أي: فطامه في عامين.
قال عز وجل: (( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ )) والشكر هو: الاعتراف بالنعمة، وقدم الشكر لله؛ لأنه هو الذي خلق هذه النعمة، وهو الذي أوجدها، وهو الذي هيأ الأب والأم وقذف في قلبيهما الرحمة والشفقة والحب لولدهما، وهو عز وجل الذي جعلهما يتحملان كل ذلك بفضله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر