www.islamweb.net/ar/

سرعة الرحيل للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن انقضاء رمضان وسرعة رحيله ليذكرنا بالقدوم على الله عز وجل، وسرعة رحيل هذه الدنيا التي من عمرها بذكره سبحانه فقد فاز بالآخرة، ومن خربها فقد خرب آخرته، فعلى الإنسان أن يستعد للرحيل، ويتصف بصفات المتقين من التزود والاستعداد ليوم شديد الأهوال، فلا نجاة للعبد إلا بالعمل الصالح، ولا فوز له إلا بطلب رضاه سبحانه وتعالى.

    وقفات رمضانية

    الاستعداد للقاء الله والرحيل الأكبر

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ما أسرع مرور الأيام! ها هو شهر رمضان قد أصبح مرتحلاً، ولم يبق منه إلا هذه الأيام المعدودات، فلنتذكر من ذلك سرعة رحيلنا عن هذه الحياة، وغروب شمس بقائنا على ظهر هذه الأرض، كما قال عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه: (إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم).

    ومعنى: (إن الدنيا قد آذنت بصرم) أي: قد أعلمت بالانقضاء، وذلك كما قال عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، وكما قال عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] .

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في خطبته محذراً الناس: (بعثت بين يدي الساعة) ، وقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعه السبابة والوسطى يقول: وإن كادت لتسبقني) .

    فما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى منها إلا كما يشرب الإنسان من كوب أو نحوه، فتبقى قطرة بعد أن يشرب، فيريد أن ينهي ما بقي فيصب هذه القطرة في فمه.

    وهذا معنى قول عتبة: (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها) أي: يحتاج إلى أن يميل الإناء ليفرغ هذه القطرة في فمه.

    عباد الله! هذه هي حقيقة الدنيا، فمنذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتربت الساعة، وقد آذنت الدنيا بالانقضاء.

    وهذا معنى قول عتبة: (وولت حذاء) أي: مسرعة، وهذا حق فما أسرع مرور الأيام خصوصاً مع تقارب الزمان! فإن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان حتى تصير السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، فما أسرع ما يمر بنا الزمان!

    عباد الله! كما أوشك رمضان أن يرتحل، فقد ارتحل أناس قبلنا، كانوا معنا في العام الماضي وصاروا الآن أحاديث: كان فلان.. وفعل فلان رحمه الله، ويوشك أحدنا أن يكون كذلك بعد حين، فاستحضر نفسك وقد نزل بك ملك الموت من السماء مع أعوان ملك الموت، ووقف منك مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول للنفس المؤمنة: اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، ويقول للكافر والمنافق: اخرجي أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث كنت تعمرينه، يقول للمؤمن: اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان! ويقول للكافر والمنافق: اخرجي إلى سخط من الله وغضب.. إلى سموم وحميم وظل من يحموم.

    فاستحضر هذه اللحظات فإنها ليست ببعيدة، فقد مرت بملايين من البشر قبلنا، وإلا لما وجدنا وما بقينا على ظهر هذه الأرض قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-س17].

    وقال عز وجل: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [الأنعام:133] .

    فكل من كان بيننا وبين أبينا آدم عليه السلام قد انتهوا إلا من له أب أو جد وعلى أقصى التقدير أن يكون أبو جده حياً، وإلا فأكثرنا ليس بينه وبين أبيه آدم أب حي، كلهم قد رحلوا.

    فلنتذكر هذه اللحظات حتى لا تغرنا الدنيا، ولا تشغلنا زخارفها، فالله سبحانه وتعالى قد حذرنا من غرورها فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5-6].

    هل استعددنا لهذا اليوم حتى يكون يوم عيد كما نستعد الآن للعيد؟!

    الناس اليوم يستعدون للعيد بلبس الجديد، ويستعدون له بإعداد النفقات، والأطعمة المناسبة لهذا اليوم الذي هو يوم فرحة، فهل تعد حتى يكون يوم رحيلك عن هذه الحياة هو يوم عيد لك ويوم فرحة، وإن حزن الناس على هذا الفراق لكنك تكون فرحاً بلقاء الأحبة، فهل تعد لهذا اليوم عدته؟

    وهل تريد أن يكون عيد لقائك بالرسل الكرام وبأصحابهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فتلقى الله سبحانه وتعالى وهو عنك راض؟

    إن رمضان فرصة عظيمة لهذا الاستعداد، فرصة عظيمة إذا أحسنا استغلالها، وقد بقي منه أيام، ولله عز وجل في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النيران، فهناك من يعتق في الليلة القادمة، وهناك من يعتق في التي تليها وهكذا، فهناك آلاف من المعتقين، فهل نكون نحن من هؤلاء؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

    الغاية التي شرع لها الصيام

    عباد الله! من أراد أن يعلم هل قبل صومه وقيامه، وتلاوته للقرآن أم لا، فلينظر هل حقق الغاية التي شرع الله من أجلها الصيام؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فهل صرت أتقى لله سبحانه وتعالى من ذي قبل؟! وهل صرت أكثر خوفاً من الله عز وجل؟!

    فلابد أن تستحضر موقفك بين يديه سبحانه وتعالى، وتستحضر هول السؤال وخطر الحساب، فلو أن الناس لم يكن بين أيديهم من خطر إلا فزع الموقف في القيامة لكفى به فزعاً وهولاً، فهل استشعرت الخوف من الله عز وجل؟!

    لو لم يكن من خطر إلا أن تظن أنك هالك حين تعرض سيئاتك على الله عز وجل، ويعرفك بها، كما في حديث ابن عمر لما سئل: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في النجوى شيئاً؟ فقال سمعته يقول: (يدني الرب سبحانه وتعالى عبده المؤمن يوم القيامة، ويلقي عليه كنفه -أي: ستره- فيقول: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ فيعرض عليه ذنوبه، حتى إذا رأى أنه قد هلك يقول: سترتها لك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، قال عتبة رضي الله عنه في هذه الخطبة التي خطبها: إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولقد أخبرنا أن الحجر يهوي من شفير جهنم، فيظل يهوي فيها سبعين خريفاً حتى يصل إلى قعرها، والله لتملأن.

    (حتى إذا رأى أنه قد هلك، أي هلاك هذا عباد الله؟! أي حبس هذا الذي يظنه المؤمن؟ أي خوف يقع فيه في تلك اللحظة الرهيبة؟ (يقول الله عز وجل: إني سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم، فيؤتى صحيفة أعماله بيمينه) فيعود إلى أصحابه فيقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، فهذا في الناجي يا عباد الله! هذا في الذي حسابه العرض، تمر عليه هذه اللحظة الهائلة التي يظن أنه قد هلك فيها، ويظن أنه داخل فيها النار نسأل الله العافية!

    شروط التمكين في الأرض

    عباد الله! وعد الله سبحانه وتعالى بالإسكان في الأرض والتمكين فيها لمن خاف وعيده عز وجل، قال الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14]، فإن أكثر الظالمون من الإفساد في الأرض، وانتهاك الحرمات، فوعد الله عز وجل لا يخلف، فهل نحن الذين حققنا هذه الصفات؟!

    فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13]، فإن الله سبحانه وتعالى يهلك الظالمين لأجل عباده المؤمنين الذين يخافون مقامه ووعيده، فإذا استفتح الظالمون خابوا عند استفتاحهم وعند دعائهم، وعند طلبهم من ربهم أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق وهو خير الفاتحين كما قال تعالى: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15]، فهل حققنا عباد الله هاتين الصفتين -أي: الخوف من مقام الله ومن وعيده- وهل أخذنا من رمضان عدة حتى نتهيأ لهذه الصفات؟

    ومعنى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي [إبراهيم:14]، أي: لمن خاف مقامه بين يدي الله، ولو لم يكن إلا العرض لكفى به خوفاً، فكيف وأنت لا تدري ما شأنك غداً يا عبد الله؟! كيف وأحدنا لا يدري أيناقش الحساب فيعذب، ويكون ممن يقول: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]؟!

    فهذا الذي ينبغي أن تخاف منه خوفاً يذعن له القلب عن ورطة وسنة الغفلة، ويوقظه للرحيل عن هذه الدنيا، ويخاف وعيد الله عز وجل، يخاف النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

    فهذه عباد الله هي أهم صفات المتقي: الخوف من الجليل، فهو يخاف من الله عز وجل، وهي من أهم صفات الممكنين في الأرض، إن الله سبحانه وتعالى إنما يمكن لعباده المؤمنين ليعبدوه عز وجل وليعبدوا غيرهم له، لا ليستعلوا على الناس، ولا ليطلبوا الملك والرئاسة، فهذا قد فعله غيرهم من أهل الدنيا، وعندما يكونون كذلك يمكن الله لهم، ويهلك عدوهم من أجلهم، ويسكنهم الأرض من بعدهم؛ لكي يعبدوه سبحانه وتعالى، ولا يحصل ذلك إلا بالخوف منه عز وجل، وخوف مقامه ووعيده قال تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ .

    أأدركتم عباد الله مفتاح النصر على الأعداء؟! إن المسلمين في مواجهة أعدائهم، وقد مكروا مكراً تزول منه الجبال، وأحاطوا بهم من كل جانب، فلهم مفاتيح دنيوية للنصر، وسيخيب عند وجود أسباب التمكين كل الجبارين المتكبرين الذين أرواحهم وأنفسهم ونواصيهم بيده سبحانه وتعالى.

    فيري الله العباد آياته، وأن البشر لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ففي لحظة يزول الإنسان عن هذه الحياة، فلا نطلب الفتح إلا إذا كنا قد حققنا الخوف من الله عز وجل، فعند ذلك يخيب الجبارون والمتكبرون والمعاندون، قال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17]، فيأتيهم الموت الذي يفر الناس ويفزعون منه الآن، وهو بالنسبة إليهم أعظم المصائب، وهو الرعب الذي لا يوجد مثله، ترونه أمنية الكافر في النار، فأمنيتهم أن يموتوا، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] ، نعوذ بالله من النار!

    الخوف من الله عز وجل أحد أهم صفات المتقين، ولا تظفر برحمته سبحانه وتعالى، حتى تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتجتنب معاصي الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، فهذه التقوى.

    فالتقوى كما عرفها بعضهم هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، وكل هذه تعريفات متلازمة، فانظر إلى حال قلبك أثناء رمضان أولاً، وبعد رمضان ثانياً، لتعرف هل قبل صومك أم لا؟ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، أقول قولي هذا أستغفر الله لي ولكم.

    أحكام صدقة الفطر

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15] ، ومن ضمن ما يكون في عموم التزكية التي ذكرها الله عز وجل الزكاة الواجبة، ومن ضمنها صدقة الفطر، فلقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، أي: قبل صلاة العيد، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.

    وصدقة الفطر فرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً أقط، وهذا يدل على أن القيمة ليست معتبرة؛ لأنه لو كانت معتبرة لقيمت هذه الأشياء ليس بالصاع وإنما بما يساويه قدر معين من كل منها، فإن صاع الزبيب يختلف عن صاع الشعير، وقد قدر النبي صلى الله عليه وسلم قدراً واحداً منهما وهو الصاع رغم اختلاف قيمة هذا عن هذا، فدل ذلك على أن المعتبر هو القدر المثيل لا القيمة المادية، وذلك أنها فرضت طعمة للمساكين.

    والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن زكاة الفطر لا بد أن يخرجها صاحبها طعاماً، أي: لا بد أن يخرج صاعاً من طعام كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، وقد كانت بأيديهم الدراهم والدنانير سيما بعد أن وسع الله عز وجل عليهم، ومع ذلك فما زالوا يخرجونها طعاماً، وظلوا يخرجونها كما كانوا يخرجونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، كما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.

    ولقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، فيجب على كل واحد أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإخراج عن الحر والعبد دليل على ذلك دلالة واضحة؛ فإن العبد لا يملك مالاً في حال من الأحوال ومع ذلك وجبت زكاة فطره على سيده، فدل ذلك على أن الصغير كذلك حتى ولو لم يكن له مال، وكذلك الأنثى سواء كانت زوجة أو بنتاً، فكل إنسان عليه أن يخرج صدقة الفطر، وهي صدقة وزكاة واجبة، وليست بمعنى صدقة التطوع، فيخرج المسلم صدقة الفطر عمن تلزمه نفقته من أهله وأولاده وأقاربه.

    وهذه الزكاة شرعت طعمة للمساكين في العيد، ولذا جاء في الصحيح: أنها لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وكانوا يجمعونها قبل العيد كما في حديث أبي هريرة في قصة الشيطان الذي جاء يسرق من صدقة الفطر التي جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها، حتى أمسكه أبو هريرة ولم يتركه إلا بعد أن علمه آية إذا قرأها عند نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وهي قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .. [البقرة:255] آية الكرسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب) .

    والحديث في أوله أن أبا هريرة جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر، فدل ذلك على أنها تجمع قبل ذلك، فتصل إلى المساكين قبل العيد بيوم أو يومين، وعلى حديث ابن عمر إلى صلاة العيد، ومن أخرها عن صلاة العيد فقد أساء، ويجب عليه أن يخرجها إلى غروب الشمس من يوم العيد، وإلا فقد بخل بالزكاة الواجبة، وهو آثم إثماً عظيماً، فمن الكبائر تأخير زكاة الفطر عن غروب الشمس من يوم العيد، ويلزمه قضاؤها بعد ذلك أيضاً؛ لأنها حق معلوم للسائل والمحروم، ولو فرط عدة سنين في زكاة الفطر فإنه يلزمه قضاؤها الآن فوراً، فإن هذا الحق للمساكين لا يجوز أن يؤخر عنهم.

    فإن زكاة الفطر لرمضان الذي هو فيه تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، فمن بقي حياً أو وجد في هذا الوقت فقد وجبت عليه زكاة الفطر، وأما من مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان أو ولد بعد غروبها فلا تجب زكاة الفطر عليه، وإن استحب بعض السلف إخراجها عن الجنين لكنها ليست واجبة، وإنما هي صدقة تطوع لمن أحب.

    وهذه الزكاة مصرفها مصرف الزكاة، وإن كان الأولى أن تكون للفقراء والمساكين، حتى يغنوا عن السؤال في هذا اليوم.

    والتوكيل في إخراجها جائز، فيجوز أن توكل غيرك ممن هو أعلم بالمساكين، ولكن يجب التنبه إلى أنه يجب إخراجها بتحديد عدد الصاعات؛ لأنها واجبة على كل واحد من المسلمين، فلا يجوز أن تدفع مثلاً قدراً من المال إلى وكيل دون أن تحدد له العدد الذي يخرج عنه، فإنه ربما أخرج من صنف لا يكفي المال الذي دفعته لصاع عن كل واحد ممن تخرج الزكاة عنه، والأفضل -بل عند كثير من العلماء هو الواجب- أن يكون من غالب قوت البلد، وغالب قوت أهل بلدنا هو الأرز، فالأولى أن يكون من غالب قوت البلد؛ لأنه أنفع للناس، وإن كان الصحيح أنه يجزئ غير ذلك كالتمر مثلاً، وإن كان عندنا بمنزلة الفاكهة لا بمنزلة القوت الذي لا يستغني الناس عنه، فهذه بعض الأحكام في زكاة الفطر التي يجب أن نؤديها كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زكاة للإنسان وطهرة له.

    فالصدقة المقصود منها: أن يتطهر القلب من الشح والبخل، قال الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وهي تشعر المسلم بحاجة إخوانه من المسلمين، فهذه القضية العظيمة التي يجب أن تظل حية في نفوسنا أي: قضية الجسد الواحد حتى نستشعر انتماءنا لهذا الجسد الواحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتماسكهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) .

    عباد الله! ما أكثر شكوى المسلمين! ما أكثر آلامهم! فهل نرحمهم، وندعو لهم، ونتألم لألمهم، ونفرح لفرحهم، وندعوا على أعدائهم أن يكف الله سبحانه أيديهم عنهم؟!

    هل نستشعر آلام المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان؟!

    في مشارق الأرض ومغاربها آلام كثيرة!

    عباد الله! سيمر علينا العيد فتذكروا أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يكون العيد عليهم ألماً وحزناً لما فقدوه ولما حرموا منه ظلماً وعدواناً، من قريب قد مات.. وعائل قد فقد.. وأب قد حبس.. وأسير قد أسر.. يمر عليهم العيد في آلام تقتضي منك شفقة ورحمة، ورأفة ورقة، ودعاءً وتضرعاً لله عز وجل أن يفرج كرب المكروبين، وأن يفك أسر المأسورين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن يرحم ضعفاء المسلمين، وأن ينجيهم من عدوهم، وأن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين!

    اللهم من ولي أمراً من أمور المسلمين فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمراً من أمور المسلمين فرفق بهم فارفق به!

    اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار!

    اللهم ول أمور المسلمين خيارهم، ولا تول أمورهم شرارهم، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا!

    اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا!

    اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر سبلنا، وانصرنا على من بغى علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وقربنا ولا تبعدنا!

    اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا!

    اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا!

    اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.