أما بعد:
فيقول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
[آل عمران:130-138].
ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الآيات الكريمات -في أثناء سياق الكلام عن غزوة أحد- في ما يلزم أهل الإيمان حتى ينتصروا على أعدائهم من الانتصار على أنفسهم من داخلها، وترك ما حرم الله عز وجل عليهم، وإتيان ما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم، وعلو هممهم وإرادتهم عن هذه الدنيا وزخارفها، والتي إذا ما وقع فيها الإنسان شغلته وانهزم من داخله، فانهزمت الطائفة المؤمنة أمام عدوها.
وهذا هو وجه الارتباط -والله أعلى وأعلم- بين هذه الآيات التي قد يبدو للبعض أنها ليست مرتبطة بسياق غزوة أحد وبين باقي الآيات.
فالربا حرب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتسنى لأمة ينتشر فيها الربا بأنواع كثيرة أن تنتصر على عدوها وهي تحارب الله، وقد آذنها الله بحرب منه سبحانه وتعالى؟! كما قال عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
البقرة:278-279].
وتقوى الله سبحانه وتعالى سبب لتحصيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )).
والتقوى هي: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثوابه، وأن تجتنب معاصي الله على نور من الله تخاف عقابه.
ونلحظ من خلال هذا التعريف -الذي ذكره طلق بن حبيب أحد فضلاء التابعين رحمه الله تعالى- عمل الجوارح والقلب والعلم النافع الذي هو: (النور) أي: أن تقوى الله عز وجل: أن تعمل بالطاعة وتترك المعصية وأنت راج خائف، وأنت على نور من الله سبحانه وتعالى، وهذا هو العلم النافع الذي في القلب، والذي يُبصَّر الإنسان بما حوله من حقائق، وليس مجرد علم اللسان، وإنما على نور من الله.
فهذه الآيات قد تضمنت التحذير من النار والترغيب في الجنة، قال تعالى:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ
وهذا لكي يعرف المؤمن مدى تقواه لربه سبحانه وتعالى.
ثم ليعلم المسلم أن مفتاح هذا الخير والفلاح: أن يستحضر أمر الجنة والنار دائماً، وأن يستحضر مدى الخطر الذي ينتظره وينتظر البشرية كلها، إذا هو لم يتق الله سبحانه وتعالى، ولم يجعل لنفسه وقاية من سخط الله وعقابه.
وهذه الآية الكريمة مما استدل به أهل السنة والجماعة على أن النار والجنة مخلوقتان وموجودتان الآن، وأنهما قد أعدتا لأهلهما، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف من رآهم من أهل النار وأهل الجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار، وقد أراهما الله عز وجل من شاء من خلقه من ملائكته ومن أرواح أنبيائه.
أيها المؤمن! مهما حذرت من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الالتزام بالدين، وما سوف يترتب على ذلك من المتاعب والاضطهاد والأذى، ومن ضياع المصالح الدنيوية، فتأكد أن كل ذلك من خداع الشيطان، فإنك إنما أمرت بهذه الطاعة لترحم، قال تعالى:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
[آل عمران:132]، وطاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، ولا يتصور غير ذلك كما أخبرنا ربنا عز وجل، فهو يبتلي عبده المؤمن ليرحمه، فإذا أصابه بما يؤلمه فإنما فعل ذلك لينعمه وليكرمه وليرفع درجته، وهو سبحانه وتعالى جعل الرحمة مرتبطة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الشقاء والضنك لمن أعرض عن ذكره وعن متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
[طه:124].
فكل رحمة وصلت إلى العباد فمن أسبابها طاعة الله عز وجل، وإلا فالرحمة من الله سبحانه وتعالى أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن من أعظم أسبابها: الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، والشقاء الذي يصيبهم من أعظم أسبابه: معصية الله ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلا بد أن تستشعر بأنك في سباق، ولا بد أن تبذل كل ما عندك لكي تصل إلى الجنة، وليس فقط أن تطلبها بضعف، أو أن تطلبها وكأن الأمر قد برم لك، فأنت تسير سيراً متمهلاً لا يقلقك ولا يزعجك فوات وضياع هذا الذي تريد، لا، بل إنما ترجو طلب الخير وتخاف أن يفوتك، ولذا فأنت تسارع في الخير، وفي نفس الوقت تسابق غيرك.
وليست هذه المسابقة فقط بأن تنظر إلى من حولك من المطيعين، بل انظر إلى من حولك ممن سبقك، وهذه هي المنافسة عبر العصور التي يستحضرها أهل الإيمان الكمل.
فهذا موسى عليه السلام يبكي حينما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقه، فقال: (غلام أرسلته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي!) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث -وإن كان فيه مقال-: (للعابد في أيام الفتن أجر خمسين، قالوا: خمسون منا أو منهم؟ فقال: بل منكم).
فانظر إلى هذه المنافسة والمسابقة العجيبة! رغم أنهم لم يأتوا بعد، ومع ذلك فهم يريدون ألا يكون أحد أسبق إلى الخير منهم، قال تعالى:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
.
وهذه المسارعة إلى المغفرة وإلى الجنة لابد أن تظهر في سلوك كل مسارع، فلا يترك خيراً يفوته أبداً، ولذا فسرها السلف رضوان الله عليهم بتفسيرات رائعة جميلة:
قال أنس رضي الله تعالى عنه كما حكى القرطبي عنه في تفسير قوله:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: إلى تكبيرة الإحرام.
وقال غيره: إلى الجهاد، وقال آخر: إلى النفقة في سبيل الله، وكل منهم يذكر شيئاً ينبغي أن يسارع الإنسان فيه، ويذكرون ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فإن كل عمل من أعمال الخير لابد أن تسارع فيه وتسابق غيرك.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يمشي مع بعض الصحابة، فلا يلمح مسلماً آتياً إلا ابتدره بالسلام قبل أن يسبقه فيسلم عليه، ثم قال للصحابي الذي يمشي معه: ما لي أراك يسبقك الناس إلى الخير؟! فانظر إلى هذه المسابقة منه رضي الله عنه! وهو السابق من هذه الأمة، ومع ذلك يسابق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرص على أن يبتدر من يلقاه بالسلام قبل أن يبتدره الآخر، فهو يريد الحصول على الفضيلة.
فانظر إلى نفسك هل تجد في نفسك هذا الحرص، وأنت تلحظ هذه المسابقة والمسارعة في أمر يسير جداً يقع في حياة المسلم كل يوم مرات عديدة؟ إن المسابق والمسارع هو الذي يستشعر مدى خطر تعرضه لعقاب الله، وخطر فوات الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، فيسارع في كل خير ويبادر إليه، لذا فلا ينبغي أن نكون دائماً من المتأخرين عن حضور صلاة الجماعة حتى تفوتنا تكبيرة الإحرام، أو أن نصلي جماعة ثانية، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التبكير والتهجير، فقال: (لو يعلم الناس ما في التهجير والعتمة لأتوهما ولو حبواً).
والتهجير: أن يأتي في الهاجرة قبل الزوال ليحضر صلاة الظهر، والوقت الذي بين الأذان والإقامة من أوله، فانظر إلى هذا الخير العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ونسأل الله ألا يؤخرنا عن طاعته، لكن الإنسان صاحب الهمة العالية يسارع إلى مغفرة الله عز وجل، ويبحث عن كل حسنة يتقرب بها إلى الله، فيسارع إلى طلب العلم، ويسارع إلى النفقة في سبيل الله، ويسارع إلى الجهاد في سبيل الله، ويسارع إلى حضور الجماعة في أولها، ويسارع إلى الجمعة، ويسارع إلى كل أبواب الخير، ولا يرضى بأن يسبقه إلى الله عز وجل أحد.
فهذا أحد التابعين عندما رأى رؤية فقصها على أحد السلف -وأظنه مالك بن دينار- فقال: رأيت أن منادياً قد نادى: هلموا إلى الجنة، فلم يقم إلا محمد بن واسع ، فغشي على مالك بن دينار أو غيره عندما سمع هذه الرؤيا؛ خوفاً من أن يكون غيره قد سبقه إلى الله عز وجل، فهو يريد أن يكون هو السابق إلى الله.
والمسابقة والمسارعة تؤدي إلى مزيد من الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، فهي ليست كالمسابقة والمنافسة على الدنيا التي تؤدي إلى التباغض والحسد والضغينة، وإنما تؤدي إلى مزيد من الحب والود، كما كان حال أبي بكر وعمر وهما يتنافسان في طاعة الله عز وجل، ومع ذلك كان كل منهما شديد الحب لصاحبه.
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى الخير، ومع ذلك يزدادون حباً لبعضهم البعض، فإذا وجدت مسابقة ما أو مسارعة ما، ثم يعقبها نوع من الحسد والضغينة والبغضاء فتأكد أن الدنيا من وراء ذلك، وليست هي المسارعة إلى الآخرة؛ لأن المسارعة إلى الآخرة تزيد من الإيمان والحب في الله، ومعنى الحب: أنك تحب أخاك لأنه يطيع الله عز وجل، فإذا علمت أنه يسارع مثلك إلى طاعة الله، ويسابقك إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ازددت له حباً؛ لأن الله جبل قلوب أهل الإيمان على محبة من يطيع الله عز وجل، كلما ازداد الإيمان ازداد الحب في الله، والإيمان يزداد بالطاعة فتزداد المحبة، وتقل المحبة لقلة المنافسة على الخير، وإن أخذ صورة في الظاهر أنه يسارع إلى الخير ولا يوجد من يسابقه، ولو كان كذلك لأدى إلى زيادة المحبة بإذن الله تبارك وتعالى.
لكن لماذا يقع التنافس المذموم؟ ولماذا يقع التحاسد والتباغض والتفرق؟ بسبب دخول الدنيا تحت ستار المسارعة إلى الخير، فلا بد أن ننظر في هذه المسألة جيداً، وننظر في همتنا، فإن الله لم يأمرنا فقط بطلب المغفرة بل أمرنا بالمسارعة إليها، ولم يأمرنا فقط بطلب الجنة بل بالمسارعة والمسابقة إليها، قال تعالى:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
[آل عمران:133].
وانظر وتأمل في كيف كان حال أهل الإسلام في غزواتهم الكبرى التي أدت إلى حصول النصر العظيم؟! من المسابقة والمنافسة على الخير، فقد تنافس الناس بالأذان وتسابقوا فيه، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فخرجت القرعة لأحدهم فأذن، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو يعلم الناس ما في الأذان ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) وبالفعل لم يكن هناك وسيلة لتحديد من يؤذن إلا الاستهام، فأقرع بينهم سعد فخرجت قرعة أحدهم فأذن.
فلننظر في أحوالنا لماذا تأخرنا رغم أننا نؤدي ما ينبغي علينا أن نؤديه؟ أم لأننا فعلاً نسارع إلى أنواع من نعيم الدنيا ولذاتها ورغباتها، ونترك غيرنا يسبقنا إلى الله عز وجل، فننفق الأوقات الطوال في غير منفعة، وفي غير مسارعة إلى الجنة وإلى المغفرة من الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
والنفقة في السراء والضراء علامة على بذل الإنسان لنفسه وماله في سبيل الله، وعلامة على حبه الصادق لله عز وجل، وليس فقط يعبد الله على حال واحده، ويترك العبادة على الحال الآخر، بل إنه ينفق في كل الأحوال، ويعبد الله سبحانه وتعالى بكل أنواع العبادة، فلا يحجزه حاجز عن التعبد لله سبحانه وتعالى، وليس هناك إطار محدد لا يستطيع أن يعبد الله خارجه، لا، بل هو يعبد الله بكل ما تيسر له من أنواع العبادة وعلى أي حال.
قوله:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
والنفقة في الضراء أعظم ثواباً عند الله من النفقة في السراء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان فتصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها) فسبق الدرهم مائة ألف درهم، وذلك أنه أنفقه في الضراء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وبالفعل فقد تصدق بعض أصحابه رضي الله عنهم بشق تمرة، ولم يكن عندهم غيرها، وذلك لشدة حرصهم على الخير، وكان أصحاب الصفة رضي الله عنهم يحاملون على ظهورهم بالنهار، ثم يتصدقون ويكفون أنفسهم عن السؤال، ويقومون بالقرآن في الليل.
فلذلك سبقوا إلى الله سبحانه وتعالى هذا السبق العظيم، ولم يكن عندهم مسكن ولا أهل ولا مال، ومع ذلك كانوا يعملون حمالين، وتخيَّل إنساناً لا يجد عملاً إلا أن يحمل على ظهره، كأن يسقي الماء مثلاً، أو يحمل أثقال الناس على ظهره، وهو من قراء القرآن الذين يقومون بالليل، ثم يجهدون بالنهار لكي يتصدقوا وهم فقراء.
وهذه شربة لبن يصف أبو هريرة رضي الله عنه حاجته إليها، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أصحاب الصفة جميعاً ليشربوا من شربة لبن -سبعين أو ثمانين رجلاً- فشربوا جميعاً من شربة واحدة؛ لأنه لم يكن عندهم شيء، ومع ذلك يحرصون على الصدقة.
وقد جاء بعض الصحابة بصاع من شعير ليتصدق به، فكانوا يجتهدون في النفقة في سبيل الله على كل حال، فلا ينفقون في السراء دون الضراء، وإنما ينفقون في السراء والضراء، وأقل من ذلك من ينفق في السراء، ويمسك في الضراء، وأسوأ الأحوال من يمسك في السراء والضراء والعياذ بالله! وذلك أنه في الضراء في هم الفقر والحاجة، وفي السراء في بخل الغنى والحرص على المزيد، وأكثر الناس كذلك، أكثر الناس كما وصف الله:
إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ
[المعارج:19-22]، فلابد أن يعود الإنسان نفسه على النفقة، وأن ينفق ولو شيئاً يسيراً.
وقد كان بعض السلف يتصدق بأي شيء كل يوم، ولو لم يجد إلا بصله، فكان يجعلها في كمه ويقول: يا الله! لم أجد غيرها، فيأتي فيجعلها في كف المسكين، وما أيسر أن يتصدق الإنسان بهذا الشيء، ولكن الشيء العظيم أن يعود الإنسان نفسه على البذل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي) أي: يفرغ من إنائه الذي هو ملآن شيئاً يسيراً، لكنه شيء يؤدي إلى الحب والود، ويعود الإنسان على البذل والعطاء، ويؤكد صدق حبه لله عز وجل، فهذه سلوكيات مهمة جداً لا بد أن نهتم بها ونسعى إليها.
وفي الحقيقة أن النفقة في سبيل الله تحرر الإنسان من أسر الناس، وتحرره من شح النفس، وتعبده لله وحده لا شريك له، وترفعه فوق روابط الأرض وجاذبيتها التي تمنع روحه من الانطلاق، فإذا تصدقت وأنفقت وكنت محتاجاً فهذه أفضل الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل: من ليس معه مال ومع ذلك يبذل جهده في أن ينفق في سبيل الله.
ومن ينظر في وسط المجتمعات الإسلامية يرى العجب مما يفعله الغضب والغيظ في أصحابه، وما يؤدي إلى المفاسد العظيمة التي تدمر المجتمع، وليس مجتمع الملتزمين بخال من ذلك، بل ما أكثر ما يقع -كما ذكرت- داخل المنازل من الخلافات الزوجية، وهذا أمر لا بد أن يكظم الإنسان فيه غيظه، فالأهل أولى الناس بحسن الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فليس كل خطأ تراه في البيت يفجر عندك بركان الغضب والغيظ، بل لا بد أن تكظم غيظك، وكذا الأولاد والمربون، فلو استعملنا الحلم لزال عنا كثيراً من المنازعات والخصومات، وما يترتب على هذه الخصومات من ضياع هائل للأوقات، ومفاسد عظيمة تجر إلى غليان القلب -على الأقل- بأنواع الإرادات الفاسدة والعياذ بالله!
قوله تعالى:
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
دخل عيينة بن حصن -وكان من المؤلفة قلوبهم- على عمر رضي الله عنه، وكان الحر بن قيس ابن أخيه من القراء، ومن أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه: يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، وبراً بعمه استأذن له الحر بن قيس رضي الله تعالى عنهم، فأذن له، فدخل عليه عيينة فقال: هيه يا ابن الخطاب ! والله ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل والعياذ بالله!
فغضب عمر رضي الله تعالى عنه، فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يقول:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
[الأعراف:199] وهذا من الجاهلين، فما تجاوزها عمر رضي الله تعالى عنه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
فتأمل هذا الغيظ الذي كظمه عمر وعفا عنه ولم يؤدبه! وقارن بين هذا الموقف وبين موقف أي شخص من كبراء أهل زماننا، ومن له سلطان على غيره دون سلطان أمير المؤمنين، أو دون سلطان رئيس الدولة بمراحل، وهل كان سيسمح بمثل هذا أو يعفو عمن فعل ذلك؟!
ويكظم عمر غيظه في هذا المقام أمام الناس، وابن عيينةيقول له: هيه يا ابن الخطاب ! فيقول لنفسه: يا ابن الخطاب ! تصغيراً لـعمر ، وأمير المؤمنين لا يخاطب بهذا، ومن يحكم بالعدل إن لم يحكم به عمر رضي الله تعالى عنه؟! ومن يعطي بالجزل إن لم يعط عمر وقد فتحت الفتوحات العظيمة في زمنه؟!
فهذا الأمر: كظم الغيظ والعفو عن الناس من صفات أهل الإيمان العظيمة التي يسهل بسببها التعامل معهم، ويقترب منهم الناس، وتفتح لهم قلوب الخلق، فيدخل فيها الإيمان بإذن الله تبارك وتعالى من خلال هذا السلوك الرائع، العفو عن الناس، ومن عفا عفا الله عز وجل عنه، كما قال تعالى:
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
[النور:22].
إن الأخلاق الإنسانية مرآة عقيدة القلب، والأخلاق السوية التي أمر الله عز وجل أن نتعامل بها فيما بيننا مرآة تكميل عبوديتنا لله حتى كأننا نراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا هو الإحسان الذي يملأ القلب غنىً بالله عز وجل، ومع ذلك فإن القلب مفتقر فقراً شديداً إلى عبودية الله عز وجل، وإلى الحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والشكر، والصبر، وسائر أنواع العبودية، فإذا عبد الله كأنه يراه اكتملت في القلب أو زادت واقتربت من الكمال أنواع العبودية، فحصل غنىً لهذا القلب؛ لأن طاقة القلب هي العبودية التي لا يسدها أي شيء آخر، إلا أن يكمل عبوديته لله، فكلما ازداد عبودية لله عز وجل واستحضاراً لعظمة الله عز وجل في قلبه ازداد قلبه غنىً، وعند ذلك سهل عليه أن يتعامل بهذا الإحسان، بأن يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه.
فهذه هي الأخلاق العظيمة التي لا بد أن يتخلق بها المؤمن عموماً، والداعي إلى الله عز وجل خصوصاً، قال تعالى: (( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) وهذا من أعظم الترغيب في الإحسان إلى خلق الله، وهو ثمرة الإحسان في عبادة الله عز وجل؛ لأن الغني يسهل عليه أن يسامح في حقه، بل ويبذل ويجود، ويعطي إلى من أساء إليه؛ لأنه غني.
وهذا مثل رجل مليونير حصلت بينه وبين الناس مشاجرة على ربع جنيه، فالناس يريدون أخذه منه وهو ملكه، فماذا يعمل؟ يتركه لهم، لأنه عيب أن يتضارب مع الناس من أجل ربع جنيه. وهكذا هو حقك الدنيوي، فلو كنت غنياً بالله عز وجل لسهل عليك أن تتنازل عنه، ولا تقل: فلان قصر في حقي، بل أنت لا ترى لنفسك حقاً على الناس أصلاً، لأنهم لو أحسنوا إليك فذلك كرم منهم، وفي الحقيقة إنما يحصل ذلك لمن انشغل بما هو أعلى من ذلك، وإنما يذهل عن التفكير في الحجر والخشبة من انشغل بنظره وقلبه بملك الجوهرة، أما من امتلأ قلبه بحب الله عز وجل هان عليه كل ما يقصر في حقه، بل هو لا يرى لنفسه حقاً، ولا يخاطب إلا في حق الله عز وجل.
وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فأعظم ترغيب في خصلة الإسلام هو قوله تعالى: (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) فالمؤمن يبحث عما يحبه الله عز وجل، وهذا هو الذي يجعل قلبه يرتجف توقاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتوقاً إلى حبه، وهذا هو الذي يدفع المؤمن أعظم من طلبه الجنة، فهو يطلب أن يحبه الله سبحانه وتعالى أعظم من أي شيء، قال تعالى: (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )).
إن المعاصي والذنوب والفواحش إنما هي دلالات على انحراف في داخل الإنسان أدى إلى ظهور خلل في العمل؛ لأن هناك تلازماً وارتباطاً مثيلاً بين الظاهر والباطن.
ولذلك فالمؤمن دائماً يفتش في نفسه، ويبحث عن أمراضه، ولا يسير في هذه الدنيا تائهاً لا يدري فيما عقل، ولا يدري فيما أطلق، بل دائماً يحاسب نفسه، قال تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فالذكر يؤدي إلى مراجعة النفس في الفواحش، وإلى مراجعة النفس في ظلمها لنفسها، وفي ظلم العبد لنفسه، قال تعالى:
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وإذا كانت الصلاة ذكراً لله فإنها تذهب السيئات، فلماذا لا تثمر هذه الصلاة عند أكثرنا إن لم يكن عندنا جميعاً هذا الأثر؟!
لأنها خلت من ذكر الله، والذكر هو: حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وليس تحريك اللسان فقط، لذلك فذكر الله عز وجل يؤدي إلى توبة الإنسان الدائمة، قال تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
.
فلا بد أن تراجع نفسك وتحاسبها، وتفتش عن أمراضها وتبادر بعلاجها، ولا تترك الأمراض تستشري فتقع في أنواع المفاسد والبلايا وتسلط العدو، لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه المعاني وبين الهزيمة من الأعداء، لذا كانت هذه الآيات في أثناء سياق غزوة أحد، فمن الأهمية بمكان أن ننتبه لهذا المعنى، وهذه الصفات والمعاني عندما توجد فينا عندها ننتصر على عدونا، قال تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
[آل عمران:135] فهو يعلم صفات ربه عز وجل، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو سبحانه وتعالى، وأنه يأخذ بالذنب؛ وهذا يدفعه إلى الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والاستغفار إذا أطلق فالمقصود به المقترن بالتوبة؛ لأن الاستغفار بغير توبة ناقص، وإذا وجد استغفار باللسان مع استهتار القلب بالذنب فهذا ذنب يضاف إلى ذنبه، كما قال بعض السلف: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. وقال بعضهم: المستغفر وهو مصر على ذنبه كالمستهزئ بربه. وهذا كمثل إنسان تقول له: اتق الله ودع هذا الفعل المحرم، فيتناوله ويقول لك: سوف نستغفر الله، فهو يرى أنه قد أدى حق الله عليه وزيادة؛ لأنه قال: سوف أستغفر الله، وهذا حال الجاهل الذي يمن بالقبيح والناقص، قال تعالى:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا
[الحجرات:17] فهو إسلام ظاهر بلا إيمان باطن ويمنون به! وأهل الإيمان الكمل يعرفون كيف يشكرون نعمة الله، ولا يمنون بها أبداً، لكن هذا حال الجاهل الضال، إما لزوال الإيمان أو لنقصه في قلبه، فيرى أنه لو استغفر الله فقد أدى ما عليه وزيادة، ولذلك هذا الاستغفار يحتاج إلى استغفار، لأنه كالمستهزئ بربه عز وجل.
وكثير منهم يستغفر أثناء ممارسة الذنب، لا على سبيل طلب المغفرة بل على سبيل السخرية ممن يأمره بالاستغفار، فهذا بلا شك استهزاء والعياذ بالله!
أما أهل الإيمان فهم يستغفرون الله عز وجل لذنوبهم، مع اقتران ذلك الاستغفار بالتوبة إلى الله عز وجل، ولذا ذكر كل واحد منهما كما في قوله تعالى:
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
[هود:90] فالاستغفار لما مضى، والتوبة للعزم والثبات على الطاعة في المستقبل، وعلى ترك المعصية في المستقبل، أو قد يقال: إن التوبة عمل القلب، والاستغفار عمل اللسان، فالاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: الوقاية من أثر الذنب، فيطلب أن يستره الله فلا يفضحه، ومن ستره الله عز وجل في الدنيا ولم يفضحه فذلك من علامات إرادة الله بالعبد خيراً في الآخرة، وأن يغفر له ذنوبه.
وهذه الآية فيها ذكر عدم الإصرار، فدل على أن هذا مصطلح شرعي قرآني، فلابد من العزم على ألا يعود إلى الذنب، والله قد نفى عن المؤمنين الإصرار.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وهذا القول عليه أكثر أهل العلم، فالإصرار على الصغيرة يلحقها بالكبيرة؛ لأن الله وصف أهل الإيمان بأنهم لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
والإصرار غير الاستحلال والإباء والتكرار، فكثير من الناس تختلط عليه هذه المصطلحات، لأن بعضها مصطلحات وردت في الكتاب والسنة، وبعضها مصطلحات استعملها أهل العلم كالاستحلال مثلاً، فالاستحلال لفظ استعمله أهل العلم استنباطاً من الكتاب والسنة، وهو: اعتقاد العبد حل الذنب مع بلوغه الحجة، وهذا الاستحلال -حتى ولو لم يفعل الإنسان ذنباً مكفراً- يجعل العبد يخرج من الملة، فإذا استحل ما قامت عليه به الحجة بأن الله حرمه، أو استحل ترك ما بلغته الحجة أن الله أوجبه، فهذا والعياذ بالله كفر.
والإباء مصطلح شرعي، قال عز وجل:
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
[البقرة:34] وهو: رد الحق ورفض الانقياد القلبي له والعياذ بالله! فهو يرده ولا يقبله، ولا يخضع لأمر الله عز وجل، فهو قد علم أمر الله ولكنه لا يقبل أن ينقاد له، فهو ليس عنده قبول وانقياد باطن، وهذا مثله كمثل إبليس الذي قد علم أن الله أمره بالسجود لآدم، كما في قوله:
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ
[الإسراء:62]، فهو يعلم أن الله قد كرم آدم عليه، وأمره بالسجود له، ومع ذلك
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ
[الحجر:33]، فرفض شرع الله وأمره، وما أكثر من يرى أن أمر الله لا يلزمه حتى ولو علمه!
فالإباء يكون مع علم القلب، والاستحلال يكون مع زوال علم القلب، أي: أنه لا يصدق أن الله حرم كذا، أو أوجب كذا، مع قيام الحجة عليه، وإعراضه كان هو سبب استحلاله للحرام، أو استحلاله لترك الواجب الذي قد بلغته حجة وجوبه، فهذا يزول معه علم القلب وتصديقه بأن الله أوجب كذا أو حرم كذا، أما الإباء فيكون معه علم بأن الله عز وجل أوجب، وأن الله عز وجل حرم، ثم يرى أن أمر الله لا يلزمه نعوذ بالله من ذلك، كإبليس وغيره من الرافضين لشرع الله سبحانه وتعالى، الآبين المستكبرين، والاستحلال والإباء كفر والعياذ بالله.
أما الإصرار فليس بكفر إذا لم يكن الذنب مكفراً، فهو ليس له علاقة بالكفر ابتداءً، لكن يزيد في العقوبة، وليس هو الذي يجعل الذنب مكفراً، والإصرار معناه:العزم على ألا يتوب، وهذا الإصرار يعرفه الإنسان من نفسه أولاً، بأن يعزم أن يرجع إلى الذنب متى ما قدر عليه حتى ولو كان لا يباشره الآن، بل ربما لم يفعله من قبل، ولكنه عازم عليه، فهو كالحريص على قتل صاحبه، فهو في النار عقوبة له على عزمه الأكيد، وأخذه بالأسباب التي يقدر عليها في قتل أخيه، ولذلك يعاقب معاقبة القاتل وكأنه قتل، وإن كان ربما أقل منه في الدرجة، إلا أنه معه في النار والعياذ بالله، وكأصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون، فهذا إصرار على معصية؛ لأنه عزم عزماً أكيداً، ولا يحدث نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل.
والإصرار يجعل المصر الذي تقول له: تب إلى الله، فيقول: أنا لا أستطيع أن أمتنع عن الذنب، وسوف أظل على هذا الذنب، وأنا عاجز عن التخلص منه، وهو ليس بعاجز، فهو قادر على أن يتوب ويقلع عما هو فيه؛ لأنه مكلف به، أو يقول: لن أتوب الآن، وحتى ولو قال: إلى أن أموت، فهذا ليس بكافر، خلافاً لأهل البدع الذين قالوا: من عزم في قلبه على أن يظل مصراً على الذنب إلى أن يموت فهو كافر والعياذ بالله، ومخلد في النار، وهذه من ضلالات المعتزلة والخوارج وأشباههم ممن سار على طريقتهم.
وقد يكون إصراره مع تكرار الذنب، وقد يكون مع عدم تكراره، فالذي يعزم أن يعود إلى الذنب فإنه مهما أمكنه ذلك ولو كان الآن مقلعاً عنه فهو مصر.
ومن تكرر منه الذنب وهو عازم على أن يعود فهو مصر، لكن إن تكرر منه الذنب وهو يتوب بين الذنب والآخر، فهذا متكرر منه الذنب، فهذا ليس بمصر طالما أنه يجدد التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
والدليل على عدم تكفير المصر على المعصية ولو كانت كبيرة إلا أن تكون كفراً قول الله عز وجل:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
[النساء:48] فعلَّق المغفرة فيما دون الشرك على المشيئة.
ولو كان الأمر متعلقاً بالإصرار وعدم التوبة لما كان التائب من الشرك مغفوراً له، لو قلنا: إن معنى الآية
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
أي: لمن تاب، ولكان معنى الآية: إن الشرك لا يغفر نهائياً ولو تاب؛ لأنه قسم إلى: شرك وما دون ذلك، إذاً: الشرك لا يغفر، وما دون ذلك يغفر الله لمن يشاء.
وعلى هذا فالتعليق على المشيئة في قوله:
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
هل هي في التائب أو في غير التائب؟
في غير التائب، والآية نص في الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون المصر على السيئة، وهذا هو الفرق بين أهل السنة وبين المبتدعة من الخوارج والمعتزلة، إذ أن الخلاف ليس فقط في ارتكاب الذنب، وإنما الخلاف والنزاع فيمن مات مصراً، وإلا فإن الخوارج يقولون: إن التائب من الذنب والكبيرة مسلم وقد يغفر له، والمعتزلة يقولون ذلك، فلا أحد يشك في التائب، وإنما المنازعة فيمن مات مصراً، ولذلك فإن هناك فرقاً بين الإصرار وبين الاستحلال؛ لأن البعض يحصل عنده خلط في ذلك، فيرى أن الذي تقول له: تب إلى الله، ويقول لك: لا، لن أتوب الآن، فأنا لا أقدر على ترك الذنب، وأنا مستمر على ما أنا عليه، ودعك مني أجعلت علي رقيباً؟! فيتجرأ ليكفره فيقع في الضلال، الذي هو شر من ضلال الإصرار على الذنب، فإن البدعة شر والعياذ بالله أشد من المعصية.
والمجاهرة كذلك ليست استحلالاً ولا إباءً، ولا يلزم منها ذلك، بل هي مصطلح آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) وهو: الذي يفعل الذنب علناً أمام الناس، فهذا توعد بالعقاب، لكن لا يلزم أن يكون مستحلاً، ولا يلزم أن يكون آبياً، فهذه المصطلحات لا بد أن نعرف الفرق بينها حتى لا نقع في الخطأ.
قوله سبحانه وتعالى:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
[آل عمران:137] قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين. ولهذا قال تعالى:
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
.
ثم قال تعالى:
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ
أي: أن القرآن فيه بيان الأمور وتجليتها، وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم.
قوله تعالى:
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
أي: أن القرآن فيه خبر من قبلكم، وهدى لقلوبكم.
قوله:
وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
أي: زاجر عن المحارم والمآثم.
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
[آل عمران:139] أي: العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
[آل عمران:140] أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتلت منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم مثل ذلك كما حصل يوم بدر، فقد قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون.
قال تعالى:
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
[آل عمران:140] أي: نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة.
ولهذا قال تعالى:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
[آل عمران:140] قال ابن عباس : (ليعلم) أي: لنرى وليبين أنه ليس علماً مستأنفاً جديداً لم يكن معلوماً من قبل، بل هذا علم مشاهدة بعد أن كان علم غيب، والله عالم الغيب والشهادة، يعلم ما في غد، فإذا وقع وشهده سبحانه وتعالى واقعاً علمه واقعاً، لهذا قال ابن عباس في مثل هذه الآيات: لنرى من يصبر على منازلة الأعداء.
قوله:
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
[آل عمران:140] أي: يقتلون في سبيلي، ويبذلون مهجهم في مرضاتي.
قوله:
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
[آل عمران:140-141] أي: يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما هو فيهم.
قوله:
وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
[آل عمران:141] أي: إنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، نسأل الله أن يمحق الكافرين.
ثم قال تعالى:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
[آل عمران:142] أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
[البقرة:214].
وقال تعالى:
الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
[العنكبوت:1-3].
فلهذا قال هاهنا:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
[آل عمران:142] أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيلي، والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقوله:
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
[آل عمران:143] أي: قد كنتم أيها المؤمنون! قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتتحرقون عليهم، وتودون أن لو تنالوا منهم، فقد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا واصبروا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
فلهذا قال تعالى:
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
أي: الموت، وشاهدتموه وقت لمعان السيوف، وحد الأسنة، واختلاس الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، يتخيل الموت أمامه! وهو: مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكلب وعداوة الذئب، أي: تحس بها وتدركها بهذا النوع من التخييل.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر