www.islamweb.net/ar/

الرفق في الدعوة إلى الله للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه وتعالى جعل إبراهيم إماماً للناس، وأوجب عليهم اتباع ملته، ووصفه بأنه أمة، وليس ذلك لشيء إلا لأنه قد وفى مراتب العبودية لله عز وجل. ولذا يجب على أهل الإسلام التأمل في سيرته ومواقفه لأخذ الدروس منها، فتعامله مثلاً مع والده الذي ما زال في شركه، كان يظهر فيه أوضح وأرقى صور الأدب والشفقة، وهذا درس عظيم جداً للدعاة، أي: أن يرفقوا بالمدعوين ويشفقوا عليهم. وكذا كان إبراهيم في صبره وتجلده في دعوته آية من الآيات، وكذا في ثباته على دينه وإعلانه العداوة والبغضاء لمن حادوا عن دربه السوي.

    تكريم الله عز وجل لإبراهيم، وتشريفه له

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله ألله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسله، صلى الله عليه وآله وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل إبراهيم عليه السلام كما قال الله: أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:120-121] فقد جعله سبحانه وتعالى إمام الحنفاء، وكرمه وشرفه بأن جعله باني بيت الله الحرام، الذي أوجب الله عز وجل على المكلفين حجه وقصده تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وإرادةً لوجهه، وجعل سبحانه وتعالى ملة إبراهيم هي الملة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123].

    وجعل الله عز وجل له الثناء والذكر الحسن في الأمم كلها، فالكل ينتسب إليه، كما دعا بذلك عليه السلام فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]. وإن كان أتباعه حقاً إنما هم أتباع ملته الحنيفية التي بعث بها، وبعث بها كل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    وحين يذهب الحجاج إلى بيت الله الحرام يذهبون معظمين لهذا البيت لبانيه، وكل ذلك عبودية منهم لله سبحانه وتعالى، مرددين نداء الرحمن على لسان الخليل عليه السلام، الذي أذن في الناس بالحج، فلباه من في أصلاب الرجال، ومن في أرحام النساء إلى يوم القيامة، حتى أذن الله عز وجل لهذه البقعة أن تعمر بذكره، وذلك حين تعمر بحجاج بيت الله الحرام.

    ونتذكر دعوة إبراهيم عليه السلام وسيرته التي ذكرت في القرآن العظيم مرات عديدة؛ حتى نعي منها دروساً وعبراً، وحتى نعرف حقيقة التوحيد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والبراءة من الشرك وأهله، والتضحية في سبيل الله.

    عند أن تظهر لنا معان عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى التي قص لنا فيها أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومواقفه المختلفة؛ نعرف لماذا اتخذه الله عز وجل خليلاً، كما قال عز وجل: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، والخلة: شدة المحبة، فهو حبيب إلى الله عز وجل، شديد الحب له سبحانه وتعالى.

    والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بمنزلته عند الله وهي مقترنة بذكر منزلة إبراهيم عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً).

    والنبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا خير البرية! فقال: (ذاك إبراهيم عليه السلام)، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً، أو قاله قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد الخلق أجمعين.

    وأما إبراهيم عليه السلام فهو أفضل الخلائق على الإطلاق بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل من الملائكة المقربين، وأفضل من سائر الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهو خير الخليقة على الإطلاق، بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمواقفه العظيمة وإقامته لأمر الله سبحانه وتعالى، وقيامه بدعوة الحق، حتى صار من يعبد الله عز وجل في الأرض من بعده ينتسب إليه.

    وأعلى أمر هؤلاء العباد أن يكونوا متبعين لملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    أثر دعوة إبراهيم عليه السلام مع قلة المستجيبين

    ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه موافق إبراهيم العظيمة في الدعوة إلى الله وتوحيده، وإقامة أمره ودينه. مع قلة من استجاب له من قومه؛ فإنه لم يستجب له إلا رجل واحد، وامرأة واحدة، فاستجاب له لوط، كما قال عز وجل: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] وأخبر سبحانه وتعالى أن امرأته كانت معه، فامرأته سارة وابن أخيه لوط هم ثمرة هذه الدعوة في زمنه، وإن كانت ثمرة هذه الدعوة لا تقاس في زمن الداعي فقط، وإنما تُرى آثارها في الأرض، وأنت إذا رأيت هذه البقعة التي لا زرع فيها ولا نبت ولا ماء ولا شيء يذكر، وإنما هي بين صخور صماء، ومع ذلك تجدها أكثر بقعة في الأرض يؤمها الناس؛ فإنه يؤمها ملايين من البشر في كل ليل ونهار، فضلاً عن وجوه مئات الملايين التي تتوجه إليها، إذا رأيت ذلك علمت ثمرة الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف تكون؟ وعلمت أن دعوة صادقة تغير وجه الحياة على ظهر الأرض، كما دعا إبراهيم فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

    فسبحان الله! تجد هذه البقعة التي لا ثروات فيها بوجه من الوجوه؛ فلا أرض تزرع، ولا معادن ينقب عنها، ولا سماء تمطر عليها، إلا في النزر اليسير، فلا أنهار تجري، ولا عيون تنبع، إلا عين زمزم التي إنما تفي بالشرب لا للزرع، ومع ذلك تجد هذه البقعة أكثر البقع -بحمد الله تبارك وتعالى- تهفو إليها القلوب، وتحن إليها، ولا يرى أحد أنه قد قضى منها وطراً، بل هي أمل الملايين من المسلمين، ولو علم الكفار ما في الراحة والسعادة في التوجه إلى هذه البقعة، وفي التواجد فيها، وفي عبادة الله عز وجل على أرضها، لما عدلوا عن الإسلام بديلاً، ولما رضوا بغير هذا الدين؛ لأن الله جعل هذا البيت هدى للعالمين، ولما لم يذوقوا طعم العبادة في هذا المكان رضوا بأن يتوجهوا إلى غيره، فقلوبهم مفطورة على أن تتوجه إلى هذه البقعة، لولا ما عفا عليها من الشرك والتبديل والتحريف، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    ولقد ذكر الله عز وجل دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، وبين لنا الأسوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام. فقال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:42-50] .

    يخبر الله عز وجل عن إبراهيم أنه كان صديقاً، ومقام الصديقية جزء من مقام النبوة، وذلك أن الصديق عظيم التصديق، كثير اليقين، فهو يوقن بما أخبر الله عز وجل به من الغيب، ويصدق بكل ما أخبره الله عز وجل به.

    ومن كان كذلك فقد وصل إلى مراتب الإيمان العليا، وإبراهيم عليه السلام أراد أعلى المراتب، ولذا سأل ربه فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260]. علم إبراهيم أن المخبر ليس كالمعاين، فأراد المعاينة لهذا الأمر الغيبي، وهو كيفية إحياء الموتى، وليس ذلك شكاً منه عليه السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فإبراهيم لم يشك، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشك، بل آمن كل منهما، ولكن أراد إبراهيم أن يرى بعينه، وذلك أن رؤية العين أكمل في حصول اليقين، ولذلك منَّ الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم في آياته الكبرى يوم المعراج كما قال عز وجل: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:12-18]. فرأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها، ورأى الجنة والنار، ورأى سدرة المنتهى يغشاها ألوان لا يقدر على أن يصفها من حسنها، وغشيها فراش من ذهب، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعينيه، ورُفع إلى مستوى يسمع صريف الأقلام، وهذه منزلة عالية له عليه الصلاة والسلام.

    أهمية البدء بدعوة الأقربين

    كان إبراهيم عليه السلام صديقاً عظيم التصديق، وكان نبياً، وكذلك كان رسولاً إلى قومه، وبدأ عليه السلام دعوته بدعوة أبيه، كما قال عز وجل: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].

    وهكذا ينبغي أن يبدأ الداعي بعشيرته الأقربين، كما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] يعني: رهطك منهم المخلصين. فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته قومه، ودعا أهل بيته عليه الصلاة والسلام، فآمن به من آمن، ورد دعوته من رد، وهكذا ينبغي على كل أحد أن يكون تأثيره أو دعوته أولاً لأهل بيته، والمقربين إليه من أقاربه وجيرانه وزملائه، وهذا أمر عظيم الأهمية، فليست القضية برسوم معينة لا نستطيع الدعوة إلا من خلالها، أو أشكال معينة لا تقوم الدعوة إلا بها، إنما الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تكون بالقول، والعمل، والسلوك، وفي مخالطة الإنسان لمن حوله، ولو كان الإنسان صادقاً فإن الله عز وجل لا يجعل عمله هباءً منثوراً، خصوصاً في أقاربه وأهل بيته ومن يخالطه، فإن الله يضع للمؤمن القبول في الأرض، ولا نعني بذلك أنه لا بد أن يهتدي كل من تدعوهم من أهل بيتك، ولكن لا بد أن تبذل معهم الجهد الكبير مقدماً إياهم على غيرهم، لا أن تتركهم فريسة للشياطين التي تريد أن تفتك بهم.

    وهكذا كان أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يدعون أهل بيوتهم، وهكذا كان الدعاة إلى الله عز وجل يهتمون دائماً بالمقربين منهم، ولا يعني ذلك أن تترك دعوة الأباعد والغرباء، ولكن ابدأ بأهل بيتك، واسع في إصلاح أسرتك: (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فتدعو الكبير والصغير، وتدعو آباءك وأجدادك، وتدعو أبناءك وأحفادك، وتدعو إخوانك وأقاربك، وتدعو كل من حولك إلى الله سبحانه وتعالى.

    أهمية الرفق في الدعوة إلى الله

    ولتكن الدعوة بالأسلوب الرفيق الراقي الشفيق كأسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوته، قال الله عنه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، فناداه بقوله: (يا أبت!) ليذكره بالعلاقة بينه وبينه، والتي تقتضي كمال الشفقة، فذكره بلفظ الأبوة مضافاً إليه حرف التاء، وهذه الصيغة من أرق الصيغ التي تؤثر في نفس من شاء الله عز وجل هدايته، وهذه الكسرة التي في حرف التاء تشعر الأب بانكسار ابنه له، وهذا الانكسار من الرحمة، كما قال عز وجل: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وهذا الانكسار للوالدين لا يقع من كثير من الأبناء، فيترتب على ذلك من العقوق والقطيعة للأرحام ما لا يرضاه الله عز وجل.

    فالله عز وجل فرض على الابن أن يرفق بأبيه وأمه، وأمه مقدمة على أبيه في البر والإحسان وحسن الصحبة والرفق واللين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصولة).

    فينبغي أن تكون في أتم الحرص على إظهار هذا الرفق واللين، وإذا كان الله عز وجل قد أمر موسى وهارون أن يقولا لـفرعون الطاغية قولاً ليناً، كما قال عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فأولى الناس بالرفق والقول اللين أهل بيتك، وأقاربك، خصوصاً والديك، وكن كما قال سبحانه وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]، وأنت ليس عليك هدى أحد، ولكن عليك أن تحسن الأسلوب؛ فإن الفظاظة وغلظة القلب -خصوصاً مع الأقارب والآباء والأمهات- من أعظم أسباب نفرة الناس عن الالتزام بالكتاب والسنة، ومن أعظم أسباب سوء الفهم الذي يقع للكثيرين، فيصدقون وسائل الإفساد التي تشوه صورة الالتزام؛ لأنهم يجدون في سلوك أبنائهم البعيد عن الشرع مبرراً لتصديق ما يروجه أهل الباطل عن دعوة الحق، فلا بد أن تكون رفيقاً شفيقاً في دعوتك، فإن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).

    ولا نعني بذلك المداهنة وقول الباطل والسكوت عن الحق، وإنما نعني الأسلوب الطيب في توصيل كلمة الحق، وإظهارها، ولقد قال إبراهيم لأبيه وقومه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26]، وقال: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقال عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]. وليس هذا من باب السب والطعن، ولكن من باب بيان الحق، فلا نقول عن الحق: إنه باطل. فما أكثر ما يشتبه الأمر على الناس! فيصفون الباطل بأنه حق، وأنه لا بأس به، ويقولون: أسلوب حسن، ودبلوماسية في الدعوة! نعوذ بالله! فهذا هو الضلال، وهذا هو الذي يحصل به الانحراف.

    وإنما الأمر يكون في طريقة العرض، وفي استغلال العلاقة الأسرية، وعلاقة البنوة والأبوة والأخوة والقرابة في بيان الحق، وإظهار الشفقة، وإظهار إرادة الرحمة، والخير بمن تدعوه، وفي نفس الوقت تبين له الحق البيان الكافي والشافي، لا أن نتركه من دون بيان، ولا بد من أن يشعر منك بصدق مشاعرك في إرادة الخير له، وفي حب الخير له، فأنت بمحبتك له تحب له الخير، وتحبه ذلك الحب الفطري، فإذا لم يكن على الهدى تحب هدايته وإرادة الخير له، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (لإسلام أبي طالب كان أحب إلي من إسلام أبي قحافة ؛ لأن إسلامه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهو يحب إسلام أبيه، وقد حقق الله عز وجل له ذلك.

    فالغرض المقصود أن تكون محباً لهداية أهلك وأقاربك، مؤثراً فيهم بحسن العشرة، والسلوك الطيب، والخلق الحسن، الذي يجعلهم يحبونك رغماً عنهم، ويصدقون كلامك وإن أظهروا التكذيب، والرد؛ فأنت ببرك لوالديك وصلتك لرحمك وإحسانك إلى جيرانك تكون قد سلكت سلوكاً مباركاً في الدعوة إلى الله، إما إذا عققت والديك وقطعت رحمك وأسأت إلى جيرانك فتكون بفعلك قد قمت بأعظم أسباب الصد عن سبيل الله. وإن كنت مظهراً أنك تدعو إلى الله، وإن كنت مظهراً أنك ملتزم بحقيقة الالتزام والدين والطاعة، فلا بد أن تكون مجتهداً في إظهار الإحسان إلى الخلق.

    بيان ضعف وعجز الآلهة التي تدعى من دون الله عز وجل

    قال الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، وفي هذا بيان لعجز كل ما يعبد من دون الله، وفقره وحاجته، وأنه لا يغني عن نفسه شيئاً، فكيف يغني عن غيره وهو لا يسمع ولا يبصر؟! وهذه متضمنة لإثبات صفة الكمال لله سبحانه وتعالى، فهو عز وجل السميع البصير، الغني الحميد سبحانه وتعالى.

    فأنت تبين أن ما يعبد من دون الله لا يملك شيئاً، فلا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابديه شيئاً. فالبشر الذين يعيشون مدة يسمعون ويبصرون، وليس سمعهم بالسمع المحيط، ولا بصرهم بالبصر المحيط، ثم هم كذلك يموتون فيذهب سمعهم، ويذهب بصرهم، وكانوا قبل ذلك في العدم، ولذا فإن من يعتقد في الأموات السمع والبصر المحيط ويسألهم على ذلك، ويعتقد أنهم يرونه ويجيبونه ويغنون عنه شيئاً، فهو -والعياذ بالله- مشرك بالله العظيم. فيقال له: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . فالذي يعبد القبور وأصحابها، ويعبد الجن، ويعبد من يعبد من هذه الأوثان التي وضعت لترمز إلى هذه الآلهة الباطلة، فيقال له نفس الحجة: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا .

    بيان شرف العلم وعلو منزلة صاحبه

    قال عز وجل عن إبراهيم: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:42-43] .

    شرف العلم عظيم، به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع العبد درجات بالعلم، كما قال عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]. فالله عز وجل يرفع الدرجات بالعلم.

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي ، هذا علاج لمرض ينتشر في كثير من الناس، وهو أنه لا يقبل الحق من الصغير، ولا يقبل الحق ممن دونه في السن أو دونه في المنزلة عند الناس، فإبراهيم يذكر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأته، فليست العبرة بطول العمر، ولا بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس، وهذا أمر يستفيد المؤمن منه في دعوته إلى الله عز وجل، إذ يبين للناس أن العبرة باتباع من جاءه العلم من عند الله، والعلم من عند الله هو العلم بالوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده من العلم شيء فينبغي اتباعه، سواء أكان كبيراً في السن أم صغيراً.

    كما وكان عمر رضي الله عنه يدني القراء، وكانوا في عهده رضي الله تعالى عنه أصحاب مجلسه ومشورته، كهولاً كانوا أو شباناً؛ فكان القراء الحافظون لكتاب الله هم أصحاب مجلس عمر ، وكان منهم الحر بن قيس .

    ولم يكن رضي الله تعالى عنه يقدم أي أحد لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأكبرهم سناً).

    فالإنسان إنما تكون له المنزلة بالسن إذا استوى في غيره من الفضائل مع غيره، وأما أن يحترم الكبير فنعم، ولكن لا يلزم من هذا الاحترام أن يكون متبعاً على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه). ولكن هذا الاحترام وهذا التوقير ليس معناه قبول كل ما يقوله الكبير.

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]. أهدك بمعنى: أبين لك، وإلا فهداية القلب لا يملكها إلا الله، وهو سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل هدايته، وحيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، فإنه يضع الهدى في مواضعه، كما قال عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] فهو سبحانه يعلم من يستحق الهدى، ومن يناسبه، ومن يقبل الهدى فينبت أنواع الطاعات ونور الخيرات في قلبه؛ لأن الأرض، والمحل قابل لهذا الخير.

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]. أي: مستقيماً معتدلاً قصداً، وهو الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى.

    النهي عن عبادة الشيطان

    وقوله: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44].

    أكثر الخلق يعبدون الشيطان، وإن كانوا لا يظهرون ذلك، وربما لا يشعرون بذلك، فلا يوجد إلا قلة هي أقرب إلى المجانين لا بل إلى البهائم بل أسوأ من ذلك ممن يقرون بعبادة الشيطان صراحة! ولكن أكثر أهل الأرض يعبدون الشيطان بطاعته في الكفر، وبعبادة ما يأمرهم بعبادته من الأوثان، والأشخاص والآلهة الباطلة من دون الله، أو مع الله عز وجل تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً.

    فقوله: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ يعني: بطاعته في دعوته إلى الكفر، وكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان في الحقيقة؛ قال عز وجل: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ .. [النساء:117-118] فهم عبدوا الشيطان حين أطاعوه فيما شرع لهم من الكفر والشرك، وكل عابد لغير الله ومكذب لأنبيائه الله ورسله وكتبه فهو عابد للشيطان؛ إذ هو الذي أمر بعبادة غير الله، وأمر بتكذيب الرسل، ولذلك كان كل كافر مشركاً، وكل مشرك كافراً؛ لأنه غير فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، فهناك تلازم بين الشرك والكفر، والله سبحانه وتعالى حذر بني آدم من عبادة الشيطان، ألا يعبدوه بقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60-62] .

    نسأل الله أن يعيذنا من عبادة الشيطان. فكثير من الناس يسبه ويلعنه، ولكنه مطيع له وعابد.

    كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ربما ينفون عن أنفسهم ذلك -أي: عبادة أهوائهم-، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر كان ذلك عبادة له، كما قال عز وجل: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، وهذا كحال من يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة مع أنهم يذمون طالب الرياسة، ويجعلونها مذمة، كما ذم قوم فرعون موسى وهارون بالباطل حين قالوا لهما: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ [يونس:78] ، فهما بزعمهم يريدان الكبرياء، وهذه مذمة، مع أن قوم فرعون هم الذين يريدون الكبرياء.

    وأهل الرياسة والملك هم الذين يريدون الملك والرياسة ويقتتلون من أجل ذلك، ومع ذلك يذمون من يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، ومن أجل أن يحافظوا على الطريقة المثلى، ووالله! ما هي بمثلى، ولكن هذا شأن هؤلاء القوم الذين يعبدون الشياطين، وفي نفس الوقت يذمونها.

    ويعبدون الأهواء، ويزعمون التبرؤ من الهوى. ويعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة ويذمون من يريد ذلك، ويقولون: هذا إنسان تابع للمال، ويشترى بالمال، ويذمون المال، ويقولون: نحن لا نحبه، مع أنهم يقتتلون من أجله، فهؤلاء لا يغني تبرؤهم عنهم شيئاً.

    وكونهم لا يسمونها عبادة مع كونها عبادة لا يغني عنهم شيئاً، ولذا كان من يعبد غير الله من الأموات وإن لم يسم فعله عبادة يعبد عابداً لهم، كما أن من يعبد غير الله من الكبراء والأحبار والرهبان ممن يقبل تشريعهم من دون الله وإن لم يسم فعله عبادة فقد عبدهم، ولا ينفعه ذلك بعد بلوغ الحجة، ووصولها إليه؛ لأن هذه عبادة له من دون الله.

    وقوله: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44].

    انظر إلى هذا التعليل، وتأمل وتدبر كيف أنه جعل طاعة الشيطان لا تجوز، ولا تنبغي؛ لأنه عاص للرحمن.

    سبب النهي عن عبادة الشيطان واختيار اسم الرحمن

    وذكر الله باسمه الرحمن المتضمن صفة الرحمة الظاهرة في الكون ظهوراً واضحاً جلياً بيناً لكل من يتأمل.

    وتظهر آثار هذه الرحمة العامة فيما خلق من البشر، وخلق في قلوبهم من أنواع الشفقة والرحمة على ذويهم، وأولادهم، وجعلها كذلك في الدواب، وآثار رحمة الله عز وجل لأهل الأرض بالمطر وبالأنهار وبالليل والنهار، وبأنواع الرحمات، وهذا أمر ظاهر، لا يخطئه متأمل.

    فذكره بأن الرحمن يريد بنا الرحمة، ويريد أن يرحمنا، والشيطان عصي له، فلا تعبده بطاعته في الوقوع في الكفر والعياذ بالله!

    ولذا كانت هذه العلة مقتضية بأن كل من كان للرحمن عصياً لا تجوز طاعته، ولا متابعته.

    وقوله: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ))، الشيطان عصي للرحمن، وشياطين الإنس كذلك عصاة للرحمن، وكل من عصى الله فلا يطاع في معصية الله عز وجل، ولا يتابع، وإلا كان ذلك من عبادته، أو مؤدياً إليها، نعوذ بالله من ذلك.

    فالإنسان لا بد أن يعلم لمن تكون طاعته ومتابعته، فلا يتابع إلا الحق، ومن يأمر به، من يدعو إلى عبادة الله، وأما من يطيع غيره ممن عصى الله عز وجل فإنما يصل إلى الشقاء، ويُمنع من الرحمة. نسأل الله العافية من ذلك.

    طاعة العصاة سبب الشقاء

    والشقاء في هذا العالم إنما هو بسبب طاعة من كان للرحمن عصياً، وأعظمهم إبليس، ولهذا قال: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44].

    فلا تجوز طاعة الأثمة والكفرة، قال عز وجل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24].

    وقال سبحانه وتعالى لإبراهيم: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ، فالظالمون ليس لهم إمامة للناس، كما قال عز وجل: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]. فليس الظالمون داخلين فيمن أمرنا باتباعهم وطاعتهم، ولذا ولاية الناس يجب أن تكون فيمن اتقى الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يولى على الناس من يأمرهم بعبادة غير الله، وبمخالفة شر عه، فكيف يقال للناس: إنه يلزمكم أن تطيعوا طالما أنكم في سلطان الكفرة الذين ينهونكم عن طاعة الله عز وجل، وهذا هو حقهم عليكم طالما كانوا كفاراً؟! نعوذ بالله من الظلال والطمس على القلوب؛ إذ كيف يكون الباطل سبباً لرد الحق، ولإحقاق الباطل، وكيف يكون الكفر -والعياذ بالله- سبباً لأن يكون الإنسان من حقه أن ينهى غيره عن عبادة الله.

    فهل الأرض أرض الكفرة والظلمة والمجرمين أم هي أرض الله، والعباد عباده؟ فلا بد أن يطيعوا ربهم عز وجل.

    بل نقول لكل مؤمن ومؤمنة في كل مكان في الأرض: لا تطيعوا من يعصي الرحمن؛ ولا تطيعوا من يأمر بمخالفة شرعه سبحانه وتعالى، وإن غلب الإنسان على أمر، فلا بد مع الإكراه من طمأنينة القلب بالإيمان، وليس لمجرد المصالح الوقتية الدنيوية التي يستغني الإنسان عنها، وإنما يكون الإنسان عند المخمصة والمهلكة، والضرورة التي تعجزه عن الحياة أو تفقده حياته وضروراته.

    أما لمجرد نيل شيء من حطام الدنيا عند الناس، فلتذهب الدنيا بأهلها إن كانت في معصية الله. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب، ويرضى.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    من صفات الداعي إلى الله عز وجل

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    أما بعد:

    قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:44-45] .

    فينبغي على الداعي إلى عز وجل أن يظهر الشفقة والخوف على من يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وهكذا كانت الرسل دائماً يخافون على أقوامهم، ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الحسنة التي يريد الشيطان أن لا يشعر الإنسان بها، حتى لا تستجيب الفطرة السليمة لها، وهي العلاقة الطيبة التي يستجيب بها هذا الأب لابنه ويظهر أنه مشفق عليه.

    وقد قال المؤمن الذي من آل فرعون نفس هذه الكلمة، قال الله سبحانه وتعالى عنه في دعوته لقومه: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:30-32] .

    فلا بد أيها الداعي إلى الله من أن تكون خائفاً على الناس، لا تريد أن يدخلوا النار، أو يحكم عليهم بها، أو يحكم عليهم بأنواع العقاب، وإنما عليك أن تحب لهم الخير، تريد لهم النجاة. فتخاف وتشفق عليهم فعلاً؛ لأن الدعاة إلى الله عز وجل هم أتباع الأنبياء، فيخافون عليهم كالأنبياء.

    وهذه الشفقة تحيي في قلوبهم الفطرة السليمة في اتباع من هذا شأنه، والله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، فأنت إذا أظهرت صفات الرب سبحانه وتعالى كان ذلك من أسباب قبول الخير من هذا العبد وإظهار شفقتك على الناس له أساليب بأنواع مختلفة بحسب حال الداعي والمدعو.

    دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه ورحمته به

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ تأمل في هذه الألفاظ، فمجرد مسيس عذاب يخاف على أبيه منه فهو لا يخاف فقط أن يلقى في النار، وإنما يخاف أن تمسه النار، فهو يظهر له مدى شفقته، وأن مجرد أدنى مس للعذاب يخاف عليه منه، فتأمل ذلك! فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى وما شاء فعل.

    ولكن إنما ذلك ليكون أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، في الصبر والاحتمال، حتى ولو لم ير أثراً لذلك.

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ، فإذا عذبك الرحمن فمن يرحمك إذاً؟ فالرحمن الذي صفته الدائمة اللازمة له الرحمة إذا عذب فمن يرحم؟ فالله سبحانه إذا لم يرحم عبده فلن يرحمه أحد، فهو الرحمن وحده. وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واجترمه، وليس لأن الله عز وجل لم يرحمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يحرمه ما يستحق. وإنما هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الرحمن.

    أما الرب سبحانه فالرحمة أحب إليه من العذاب والعقاب، ورحمته سبحانه تغلب غضبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي، أو: إن رحمتي تسبق غضبي) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالله قد كتب على نفسه الرحمة، كما قال عز وجل: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، فإذا عذب فقد أخرج الإنسان من رحمته وأي رحمة، ولذا لا ترحمه الملائكة، ولا المؤمنون، ولا شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحد، بل لا ترحمه نفسه، فيمقت نفسه ويبغضها، فينادي مع أهل النار. مالكاً: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77].

    ولهم نداء آخر ذكره الله بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:49-50]، ويسترحمون المؤمنين بقولهم كما أخبر الله عنهم: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]. نعوذ بالله من ذلك، فإذا كان الإنسان قد خرج عن رحمة الرحمن الرحيم، فلن يقع في رحمة أحد، ولن يرحمه أحد.

    نعيم القرب من الرحمن وشقاء القرب من الشيطان

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45]. أي: فتكون من أولياء الشيطان، ومن المقربين منه. فتشقى شقاء لا نعيم بعده أبداً.

    وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، ويتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقربون إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما النعيم أصلاً في القرب منه.

    وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وإن كان لا يمكنه أن يتقرب ببدنه وإنما يتقرب بروحه، قال عز وجل: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ . ولذلك يسعد المقربون من الله، ويسعد من تقرب إليه سبحانه، والله يقترب منهم رحمة وإثابة منه سبحانه وتعالى؛ لتقربهم إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيه هرولة). فمن قرب إلى الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي.

    وقوله: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45] النار إنما هي بعد وعذاب، ولذا كانت اللعنة بعداً؛ لأن فيها الطرد والرجم، وصف الشيطان بالرجيم أي: المطرود المبعد، كما قال عز وجل: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]. أي: عليه الإبعاد، فهو مبعد من رحمة الله.

    والبعد عن الله عز وجل أعظم شقاء للإنسان، والمعاصي من أسباب البعد، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله سبحانه وتعالى، وقرب من الشيطان. فالشياطين إنما تأوي إلى كل قبيح، ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن والجلوس معهم في مجالس الفسوق والعصيان عذاب للإنسان، نعوذ بالله من ذلك. ونعوذ بالله من ولاية الشيطان، ومن القرب منه، ومن طاعته، وكلها متلازمة، فإن من أطاع الشيطان واتبع أمره وقرب منه صار عدواً للرحمن، وولياً للشيطان، فكان -والعياذ بالله- معذباً في دنياه قبل أخراه، نسأل الله عز وجل أن يبعدنا عن الشيطان، وعن سبله، وأن يقربنا منه سبحانه وتعالى، وأن يرزقنا القرب منه في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين!

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

    اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.

    اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.

    اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

    اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.