يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول سبحانه وتعالى:
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ *بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ *وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ
[ق:1-45].
عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه وتعالى وعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة فقال (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها مما أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟
واعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه:
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
[الشعراء:87-89].
فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا بسلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه، من سائر الأمراض التي كرهها الله عز وجل وأمر العباد أن يعالجوها في أنفسهم، وأن يداووها حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلوب من إيمان، والشرك من أعظم الأمراض خطراً، وكذلك الكبر، والعجب، والغرور، وسائر أمراض النفس التي تنشأ منها أنواع البلايا والعياذ بالله .. تنشأ منها صراعات الناس فيما بينهم على هذه الدنيا، وينشأ منها الشرك والعناد والكفر والنفاق؛ كل هذا بسبب أن الإنسان لم يداو نفسه، ولم يسع إلى علاج جهلها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول، إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى وجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل، فهو سبحانه وتعالى يعلَّم عباده بوحيه ويأمرهم أن يداووا أنفسهم، مع أنه أخبرهم أنه سبحانه هو الذي يشفي هذه القلوب ويحييها بعد موتها، ليعلمهم أنه سبحانه يفعل ذلك بأسباب كما في كل قضاء قدَّره؛ فإنه يتم من خلال الأسباب، ولذا أمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأمرهم أن يداووا أمراضهم، وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وتعالى، ولذا كان واجباً علينا أن نسعى في الأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى، مع اليقين بأن فضل الله أسبق، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، فهو خير من زكاها، ولذا كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
فالله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسى الله نفسه، وإن كانت التزكية أو التدسية التي تكون إنما هي عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه ينال أهله الذين أهَّلهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.
كما أمر الله عز وجل بالمحاسبة والمراقبة والنظر إلى العمل بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
[الحشر:18-19]، ونسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى أن يراقب الناس، وأن يحاسب نفسه على ما يقتضيه موقفه عند الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد للمسلم أن يعمل العمل وهو متصوّر لهذا العمل والغاية منه وما موقفه بين يدي الله عز وجل من هذا العمل، وماذا سوف يجيب ربه سبحانه وتعالى عندما يسأله، نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عُذِّب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ألم يكن سبب كفر فرعون هذا الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف وأحقر النفوس، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاومه أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها الشيطان به من أنه هو الأفضل وهو الأحسن وهو الأعلى فهذا هو الذي يغلبه شيطانه، ففرعون قال لقومه:
يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ
[الزخرف:51-52].
فإن هذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي اعتقاده بأنه أفضل من موسى، فالعقدة في نفسه هل موسى أفضل منه أم هو أفضل من موسى؟ ولذلك يوازن عند قومه بينه وبين موسى، فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وهذا هو الذي أدى إلى كفر إبليس والعياذ بالله، قال تعالى حاكياً عنه:
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
[الأعراف:12].
وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه؛ بأن يرى نفسه هالكاً إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، لسان حاله يقول في خطابه لربه: وجئنا ببضاعة مزجاة، فما الذي جعل إخوة يوسف يطلبون منه هذا الطلب ويطمعون فيه مقابل البضاعة المزجاةٍ، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، وبسبب طمعهم في كرمه قالوا له:
يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
[يوسف:88]، فهم يرجون منه الإكرام وأن يوفي لهم الكيل مع أن بضاعتهم مزجاة، وهكذا لسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل يرى نفسه المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكن طمعه في فضل الله ورحمته يجعله يتقرب إلى الله بهذا العمل اليسير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فانظروا فيم كان الرجاء؟ وعلام كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل! مع كونه عليه الصلاة والسلام في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد حقق ما ينبغي أن يكون عليه العبد من الذل والاستكانة والانكسار بين يدي الله؛ وما ذلك إلا لكمال هذه العبودية عنده، فهو نظر إلى النقص والتقصير ولم ينظر إلى الكمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد:
فإن الله عز جل أغنى الأغنياء عن الشرك، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ولذا كان العمل الذي فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله تعالى، فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له)، فهذا الرجل قاتل من أجل شيئين: الأجر من الله، والذكر من الناس، بأن يذكره الناس ويعرفوا مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجه، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون نظر إلى الناس، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه بعين التقصير والنقص فإنه سوف يكون في معاملته مع الناس كذلك؛ لا يرى حقاً لنفسه، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس وأنها استغنت بالله عز وجل، فينبغي أن يكون الإنسان في معاملته للناس ألا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، فإن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته، فكيف يطلبه منهم؟! ولذلك يكون عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضيعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، قال تعالى:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
[المائدة:67] بل جعل أصحابه يتسابقون إلى معرفة قدره وإلى تعظيم حقه، وإلى مراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام.
إذاً: لم يكن عليه الصلاة والسلام ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم، فالإنسان الذي قد جاد بحقه، ولا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قُصِّر في حقه؛ هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخلق بلا نفس يراعي حظها، ويراعي نصيبها، فهو لم يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، وكان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، كان يعامل الناس وكان يداينهم فكان يقول لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر أو ضعوا عن المعسر، فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، لم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتحريضاً عليه، مع أنه كان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ابن عمه، فلما فتح الله على نبيه مكة وأسلم أبو سفيان بن الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لما كان من أذاه له ومن شدته عليه، فاشتكى أبو سفيان بن الحارث إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ائته من قبل وجهه وقل له:
تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ
[يوسف:91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له:
تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ
[يوسف:91] فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال:
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
[يوسف:92])، فهكذا كان عليه الصلاة والسلام أحسن قولاً ورداً كما كان يوسف عليه السلام أحسن قولاً ورداً؛ لأنه استغنى بالله عز وجل، والغنى بالله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان في غير حاجة إلى ما عند الناس، ولا إلى ما يقولون أو يفعلون معه، ولا يلتفت هل أدوا إليه حقه أم لا؟ فإنه استغنى عن ذلك بالله عز وجل، استغنى بعبوديته لله سبحانه فاضمحل ما في أيدي الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً له فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء نحوه لم يشعر بهذا التقصير، ولم يلتفت إليه، فكان هذا الأمر من أخلاق النبيين. فكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك، ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه.
كذلك من افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن وجد فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه سيستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق، فإنه لا يزال في فقر، ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت وأخلصت لله عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت له وانكسرت بين يديه سبحانه.
ومن أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى للعبد هو انكساره بين يدي ربه، وأن يرى نعمه عليه ويرى عجزه وضعفه، وبذلك ينال درجة المحبوبية، وما العبودية إلا حب وانكسار وذل، بذلك يرتفع الإنسان ويعلو شأنه، وبذلك يكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك به شيئاً، فيستحق التمكين، كما قال تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا
[النور:55].
فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء، وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين!
اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في بورما، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً.
اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر