www.islamweb.net/ar/

القلب السليم للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • صلاح القلب وسلامته هو الأساس لصلاح الفرد والمجتمع، والقلب السليم يعد من أسباب النجاة يوم القيامة، بل لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان له هذا القلب. والقلب السليم هو سبب للتمكين في الأرض، فإن سنة الله في الأرض أن لا يمكَّن لأناسٍ مرضى القلوب؛ حتى لا يسلب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً، فيجب على المسلم الاهتمام بقلبه، وأن يتجرَّد لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يعمل العمل يبتغي به وجه الله، فلا يلتفت إلى الناس ولا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، وهذا هو الإخلاص الذي هو علامة سلامة القلب.

    وجوب الحرص على سلامة القلب وتزكية النفس

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    يقول سبحانه وتعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ *بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ *وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:1-45].

    عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه وتعالى وعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة فقال (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها مما أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟

    واعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].

    فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا بسلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه، من سائر الأمراض التي كرهها الله عز وجل وأمر العباد أن يعالجوها في أنفسهم، وأن يداووها حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلوب من إيمان، والشرك من أعظم الأمراض خطراً، وكذلك الكبر، والعجب، والغرور، وسائر أمراض النفس التي تنشأ منها أنواع البلايا والعياذ بالله .. تنشأ منها صراعات الناس فيما بينهم على هذه الدنيا، وينشأ منها الشرك والعناد والكفر والنفاق؛ كل هذا بسبب أن الإنسان لم يداو نفسه، ولم يسع إلى علاج جهلها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول، إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى وجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل، فهو سبحانه وتعالى يعلَّم عباده بوحيه ويأمرهم أن يداووا أنفسهم، مع أنه أخبرهم أنه سبحانه هو الذي يشفي هذه القلوب ويحييها بعد موتها، ليعلمهم أنه سبحانه يفعل ذلك بأسباب كما في كل قضاء قدَّره؛ فإنه يتم من خلال الأسباب، ولذا أمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأمرهم أن يداووا أمراضهم، وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وتعالى، ولذا كان واجباً علينا أن نسعى في الأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى، مع اليقين بأن فضل الله أسبق، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، فهو خير من زكاها، ولذا كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).

    فالله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسى الله نفسه، وإن كانت التزكية أو التدسية التي تكون إنما هي عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه ينال أهله الذين أهَّلهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.

    سلامة القلب سبب التمكين في الأرض

    إن سلامة القلوب وصلاحها لا يكون إلا بفضل الله، والعون منه سبحانه وتعالى، لكن علينا أن نسعى إلى سلامة قلوبنا وصلاحها؛ لأن تسليم القلوب لله عز وجل وسلامتها وصحتها من الأمراض سبب لنجاة العبد يوم القيامة، وسبب لتمكين الله للطائفة المؤمنة في الأرض، فإن الله عز وجل إنما يغير موازين الكون وسننه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة القليلة المستضعفة، التي ليس عندها من أسباب القوة أو العدد والعدة ما تفوق به غيرها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا سلمت قلوبها لله تعالى، فإن الله عز وجل سوف يعطيهم رقاب العباد والبلاد، فإذا كانت النفوس لم تتزكَّ بعد ولم تنطرح ولم تسلم، فإنها إذا تمكنت أوشكت أن تجعل العباد عبيداً لها من دون الله، والله عز وجل لا يقبل من السعي إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأما ما كان من عجب وغرور وكبر وعمل لغير الله سبحانه وتعالى فإنه مضمحل باطل لا يقبله الله سبحانه، فإذا تمكنت هذه النفوس وهي لا تزال تتعلق بالدنيا، وبنصيبها وبرؤية الناس لها، فهذا أمر لا يحصل معه الخير ولا تحصل معه الغاية من تمكين المؤمنين، والتي هي كما قال ربعي : (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).

    الإخلاص علامة لسلامة القلب

    إن الغاية المقصودة أن يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك كان الإخلاص لله عز وجل علامة لسلامة القلب، وهو الذي أُمرت به الأمم من قبلنا، قال الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:14-15]، والإخلاص عزيز نادر فلا بد على الإنسان أن يحرص عليه، وفي نفس الوقت يعلم أنه لا يناله إلا بالمجاهدة المستمرة، ولا يناله إلا بمراقبة نفسه ونيته، فلا يتركها هكذا بغير مراقبة؛ فإن من أيسر الأمور على الشيطان الدخول على النية، وأيسر شيء عليه هو أن يغير الأمر بعد استقراره، وهذا أمر عظيم الخطر، لا بد للإنسان أن يراقب نفسه على الدوام، ومن هنا فاز السابقون وانتصر المجاهدون على أنفسهم، وكان لهم عند الله سبحانه وتعالى المنازل العالية بالمراقبة الدائمة والمحاسبة للنفس.

    كما أمر الله عز وجل بالمحاسبة والمراقبة والنظر إلى العمل بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19]، ونسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى أن يراقب الناس، وأن يحاسب نفسه على ما يقتضيه موقفه عند الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد للمسلم أن يعمل العمل وهو متصوّر لهذا العمل والغاية منه وما موقفه بين يدي الله عز وجل من هذا العمل، وماذا سوف يجيب ربه سبحانه وتعالى عندما يسأله، نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عُذِّب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

    النظر إلى مدح الناس وذمهم سبب الهلاك والخسران

    إن العبد الذي يكون مع الله سبحانه وتعالى هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس، ولا فيما يقوله الناس ويظنونه به، هذا هو الذي ينجو بإذن الله تبارك وتعالى، أي: من يكون مع الله سبحانه وتعالى بلا نظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك، فقول الناس وما يظنونه دفع أناساً إلى الحسد وإلى الكفر وإلى العناد رغم علمهم بالحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ذلك بسبب ما يقوله الناس: إن بني هاشم سبقوا وقالوا: منا نبي فمن أين لهم أن يكون منهم نبي وليس منا نبي؟! ولذلك قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] فكلام الناس هو الذي يخافون منه، وهذا من أعظم الخطر.

    ألم يكن سبب كفر فرعون هذا الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف وأحقر النفوس، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاومه أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها الشيطان به من أنه هو الأفضل وهو الأحسن وهو الأعلى فهذا هو الذي يغلبه شيطانه، ففرعون قال لقومه: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:51-52].

    فإن هذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي اعتقاده بأنه أفضل من موسى، فالعقدة في نفسه هل موسى أفضل منه أم هو أفضل من موسى؟ ولذلك يوازن عند قومه بينه وبين موسى، فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وهذا هو الذي أدى إلى كفر إبليس والعياذ بالله، قال تعالى حاكياً عنه: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

    خطورة النظر إلى النفس بعين الكمال

    النظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، كيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل والأحسن وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق على الإطلاق وأعلاهم عند الله منزلةً يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت) ومع كل هذا الأمر يقول في خاتمة دعائه: (وما أنت أعلم به مني)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر النقص والذنب والخطيئة فيما قدم وفيما أخر، وبعد كل هذا يقول: (أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)، إذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو عليه الصلاة والسلام المعصوم من الذنب، وهو الذي لا يتعمَّد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام إنما هو خطأ أو نسيان أو ترك لبعض الأَولى أو فتور عن ذكر مستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن دونه؟!

    وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه؛ بأن يرى نفسه هالكاً إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، لسان حاله يقول في خطابه لربه: وجئنا ببضاعة مزجاة، فما الذي جعل إخوة يوسف يطلبون منه هذا الطلب ويطمعون فيه مقابل البضاعة المزجاةٍ، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، وبسبب طمعهم في كرمه قالوا له: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88]، فهم يرجون منه الإكرام وأن يوفي لهم الكيل مع أن بضاعتهم مزجاة، وهكذا لسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل يرى نفسه المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكن طمعه في فضل الله ورحمته يجعله يتقرب إلى الله بهذا العمل اليسير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).

    فانظروا فيم كان الرجاء؟ وعلام كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل! مع كونه عليه الصلاة والسلام في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد حقق ما ينبغي أن يكون عليه العبد من الذل والاستكانة والانكسار بين يدي الله؛ وما ذلك إلا لكمال هذه العبودية عنده، فهو نظر إلى النقص والتقصير ولم ينظر إلى الكمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.

    ضرورة معالجة أمراض القلوب

    لا شك أن القلوب تحتاج دائماً إلى مداواة لأمراضها؛ وهذا ينبني عليه تذكر الموقف بين يدي الله، وتذكر الآخرة، ومعرفة صفات الله سبحانه وتعالى على وجه الكمال، ومعرفة عجز البشر ونقصهم وضعفهم وخطيئتهم وذنوبهم، وأنه مهما كان حال العبد فإنه لا يمكن أن يصل إلى ما ينبغي أن يكون عليه، فإن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم.

    نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    النظر إلى النفس بعين التقصير من علامات الكمال

    الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإن الله عز جل أغنى الأغنياء عن الشرك، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ولذا كان العمل الذي فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله تعالى، فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له)، فهذا الرجل قاتل من أجل شيئين: الأجر من الله، والذكر من الناس، بأن يذكره الناس ويعرفوا مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجه، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون نظر إلى الناس، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه بعين التقصير والنقص فإنه سوف يكون في معاملته مع الناس كذلك؛ لا يرى حقاً لنفسه، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس وأنها استغنت بالله عز وجل، فينبغي أن يكون الإنسان في معاملته للناس ألا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، فإن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته، فكيف يطلبه منهم؟! ولذلك يكون عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضيعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] بل جعل أصحابه يتسابقون إلى معرفة قدره وإلى تعظيم حقه، وإلى مراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: لم يكن عليه الصلاة والسلام ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم، فالإنسان الذي قد جاد بحقه، ولا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قُصِّر في حقه؛ هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخلق بلا نفس يراعي حظها، ويراعي نصيبها، فهو لم يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، وكان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، كان يعامل الناس وكان يداينهم فكان يقول لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر أو ضعوا عن المعسر، فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، لم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    وهذه قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتحريضاً عليه، مع أنه كان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ابن عمه، فلما فتح الله على نبيه مكة وأسلم أبو سفيان بن الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لما كان من أذاه له ومن شدته عليه، فاشتكى أبو سفيان بن الحارث إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ائته من قبل وجهه وقل له: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92])، فهكذا كان عليه الصلاة والسلام أحسن قولاً ورداً كما كان يوسف عليه السلام أحسن قولاً ورداً؛ لأنه استغنى بالله عز وجل، والغنى بالله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان في غير حاجة إلى ما عند الناس، ولا إلى ما يقولون أو يفعلون معه، ولا يلتفت هل أدوا إليه حقه أم لا؟ فإنه استغنى عن ذلك بالله عز وجل، استغنى بعبوديته لله سبحانه فاضمحل ما في أيدي الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً له فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء نحوه لم يشعر بهذا التقصير، ولم يلتفت إليه، فكان هذا الأمر من أخلاق النبيين. فكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك، ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه.

    الاستغناء بالله تعالى عما سواه

    إذاً: فالإنسان الذي يستغني بالله عز وجل بافتقاره إليه دون من سواه، فإن الله عز وجل يغنيه عن كل ما سواه، ويجعل نفسه كريمة، فيها الجود وفيها السماحة، وفيها سهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى من الحسد والتباغض، ومن التنافس على الدنيا، ومن حب الشهرة والرئاسة على الخلق، ومن حب الملك والسلطان، وما ترون في العالم كله من السعي إلى الدمار والهلاك والحرب والتنافس، وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك.

    كذلك من افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن وجد فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه سيستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق، فإنه لا يزال في فقر، ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت وأخلصت لله عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت له وانكسرت بين يديه سبحانه.

    ومن أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى للعبد هو انكساره بين يدي ربه، وأن يرى نعمه عليه ويرى عجزه وضعفه، وبذلك ينال درجة المحبوبية، وما العبودية إلا حب وانكسار وذل، بذلك يرتفع الإنسان ويعلو شأنه، وبذلك يكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك به شيئاً، فيستحق التمكين، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء، وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم.

    اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين.

    اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها.

    اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين!

    اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في بورما، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً.

    اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.

    ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.