أما بعد:
فقد فطر الله عز وجل عباده على توحيده وحده لا شريك له، قال الله تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
[الروم:30].
والحنيف هو: المائل إلى الله، المعرض عن غيره، فهم بفطرتهم يميلون إلى ربهم، ويشتاقون إليه، لا يقر لهم قرار إلا بمعرفته وتوحيده ومحبته وطاعته، ولا يجدون سعادة في هذه الدنيا إلا إذا توجهت قلوبهم وجوارحهم إلى خالقها وبارئها دون من سواه، وإنما الشقاء في هذا العالم يرجع إلى توجه القلوب والوجوه إلى وجهة أخرى غير ما فطرت عليه، ويرجع ذلك إلى إعراضها عن ذكر ربها. قال تعالى:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى
[طه:124-126].
ولهذا كان أعظم نعيم في هذه الدنيا حب الله وعبادته، والأنس به والشوق إليه، كما أن أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. قال تعالى:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
[القيامة:22-23]. وقد جمع بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه فقال: (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).
فالشوق إلى لقاء الله هو نعيم الدنيا، والنظر إلى وجه الله هو نعيم الآخرة.
فتبين بهذا ما يجب على الدعاة إلى الله من البدء بالدعوة إلى التوحيد وبيانه للناس، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون ربهم؛ لأن أهل الكتاب يقرون بوجود الله، فمعرفة الله هي التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (فإذا هم عرفوا الله) أي: إذا هم وحدوه.
إذاً: الذي يدعي أنه يعرف وجود الله أو حتى يدعي التوحيد وهو لا يوحده حقيقة لا يعرف الله. فإذاً: لا بد أن يدعى إلى معرفة الله، وإلى توحيد الله.
ولذلك نقول: إن أولى الأولويات في الدعوة إلى الله عز وجل هو الدعوة إلى التوحيد، وليس بالمناهج الكلامية ولا بالطرق الفلسفية، ولا بمعرفة محاذير الشرك فقط، بل بالتوحيد الذي هو أول واجب، والذي هو فرض على العباد أن يأتوا به، وأن يتركوا عبادة غير الله، وأن يحبوا الله ويرجوه ويخافوه ويرغبوا إليه ويتوكلوا عليه، ونحو ذلك من أعمال القلوب.
فأول وأولى الأولويات بدء الدعوة بالتوحيد، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون ربهم، ولكنهم في الحقيقة يشركون به، فالمعلوم أن أهل الكتاب يقرون بوجود الله، ويزعمون توحيده ومعرفته، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أن يدعوهم إلى توحيد الله، فقال له: (فإذا هم عرفوا الله)، فدل ذلك على أن من لم يوحد الله لم يعرفه، وإن أقر بوجوده، وأقر ببعض أسمائه وصفاته.
فالسلوك ارتبط بالطرق الصوفية، مما أدى بالبعض إلى الظن أن مسائل العقيدة هي مسائل الترف العقلي، كما ظنوا أن التقليد هو الفقه، فقالوا: نحرق كتب المذاهب، وكما قال البعض: التصوف كله باطل، فأهمل التهذيب، وأهمل إصلاح القلوب.
فكل هذا انحرف أدى إلى خلل كبير جداً في الأمة الإسلامية، فما الدين إلا الإيمان والإسلام والإحسان، والرسول صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان والإحسان، والإسلام العمل، والإيمان الاعتقاد، والإحسان عمل القلوب.
والقول بأن الكلام في العقيدة ترف عقلي قول كان يقوله الغزالي قديماً، واليوم أيضاً يقول يوسف القرضاوي : الكلام في العقيدة وفي التوحيد ترف عقلي، يجب أن تصان عنه الدعوة الإسلامية خاصة في مسيرة الصحوة الحاضرة! وكم سمعنا ذلك من الاتجاهات الإخوانية؛ خصوصاً أيام مجاهدة الأفغان، والثمرة معلومة، إنها الثمرة التي بدأت بمنهج آخر غير منهج الأنبياء، فحصل فيه تقصير شديد أدى إلى انحراف الناس بعدما حصل التوحيد، فلم يحصل قيام دولة الإسلام المرجوة، وإنما حصل التقاتل المذموم، فالبعض يقول: إن أهم شيء الآن أننا لا نكلم الناس ولا نتكلم حول العقيدة؛ لأن الأفغان عندهم شركيات كثيرة، وعندهم بدع، وعندهم تصوف، فيقول لك: لا أحد يتكلم في هذه الأمور، ونفس الأمر يحدث في مواطن عديدة.
فالمسلمون بلا شك في خطر من جراء هذه الطريقة من التفكير؛ لأنها علاج الخطأ بخطأ أكبر وأعظم وأخطر، صحيح أن علم الكلام مفسدة، وصحيح أن التقليد مفسدة، وأن التصوف مفسدة، لكن علاجه ذلك ليس بإهمال الجانب كله وإهمال الأمر كله. يعني: لا نقول: إن دعوة الإسلام لا تقوم أبداً بدون عقيدة التوحيد، لكن الواجب على المسلمين أن يتعلموا هذه القضية بنفس الطريقة التي تعلم بها الصحابة، ومن بعدهم من أئمة العلم، بأدلة الكتاب والسنة الصحيحة، كما فهمها سلفنا الصالح من أهل السنة والجماعة، وهي تشمل أوضح الأدلة العقلية والسمعية معاً.
وللجواب عن هذا الشبهة نقول: إن الله قد قضى بعدله وحكمته أن الفرقة والاختلاف في التزام البدع، وأن الوحدة والائتلاف في التزام السنة، فمنهجنا في ذلك تحقيق كلمة التوحيد، ليحقق الله لنا وحدة الكلمة؛ فبتحقيق كلمة التوحيد منا يحقق الله لنا وحدة الكلمة.
وأما من سعى إلى توحيد الصفوف مع السكوت عن البدع، أو موافقتها فلعل هذه أخطر قضية نختلف فيها مع منهج الإخوان، أو كثير من المناهج الأخرى التي تتبنى نفس الموقف، فمثلاً: جماعة التبليغ تقول: لا تكلموا الناس في العقيدة؛ لأن هذا سيؤدي إلى التفرق، وسيؤدي إلى نفرة الناس، وإنما كلموا الناس في الصلاة، وفي فضائل الأعمال الكثيرة. فلن يفلح من سعى إلى توحيد الصفوف بهذه الطريقة، سواء بالسكوت على البدع، أو بموافقتها، فمن أجل أن يتقرب منهم يقوم بمشاركتهم، مثل الذي يقول: إننا ينبغي أن ننصب خيامنا في الموالد، ونقول أشعارنا وإنشادنا الذي يخالف إنشاد الصوفية قليلاً، فقد أوجدنا لهم البديل، ونحو ذلك.
وإن القريبين من الاتجاهات السلفية من الإخوان لا يعملون هذا، لكن هناك اتجاهات كثيرة يعملون هذا، فلو ضعف الاتجاه السلفي، ولم يصبح يُعمل له حساب، فإن هذه الانحرافات ستظهر بقوة شديدة جداً؛ إذ إنها موجودة في أصل المنهج، فقوة المنهج السلفي في مكان ما يجعل أصحاب البدع يستحيون من أنهم يعلنون بدعتهم بصراحة، فلن يقولوا الكفر البواح الذي يعتقدونه في كثير من المواقف، فهم سيخافون أن يقال عنهم: إنهم يدعون غير الله لكن قد يقولون: يجوز لنا أن نقول: يا سيدي فلان ادع الله لي، لكن لا يقول: ارحمني واغفر لي وأغثني.
والمعتزلة كانوا سبباً في إسلام كثير من المتفلسفة؛ لأنهم ردوا عليهم بقوة في الدفاع عن الإسلام، وكذلك الأشاعرة، لكن من يسعى إلى مخالفة منهج السلف فلن يزيد سعيه للمسلمين إلا فرقة واختلافاً، لكونه لم يسلك القاعدة النبوية عند الاختلاف، وإن سلك ما أسماه بالقاعدة الذهبية، لكن القاعدة الذهبية النبوية السلفية هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة).
وكلمة: (لا إله إلا الله) أمر الله بالعلم بها فقال تعالى:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
[محمد:19]. قال البخاري : بدأ بالعلم قبل العمل. وبوب على هذه الآية: باب العلم قبل العمل، فبوب بهذه الآية، وترجم لهذه الآية، فإنه قبل ما يقول له: (استغفر)، قال: (فاعلم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). وقال تعالى:
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
[الزخرف:86]، والاستثناء هنا منقطع، يعني: لكن من شهد بالحق وهم يعلمون ينجون عند الله، أو يشفعون.
أما جنس الشفاعة فلله عز وجل، كما قال عز وجل:
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ
. فلا يملك الشفاعة إلا الله، لكن الذين يشفعون هم الذين استثناهم بقوله:
مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: وهم يعلمون أن لا إله إلا الله، والبعض قال: هم ممن يدعى، مثل الأنبياء والصالحين، والآية عامة، ومن ضمنهم عيسى والملائكة، فهؤلاء يشفعون عند الله عز وجل، لكن الراجح أن الاستثناء منقطع، يعني: أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
ومن أمثلة الاستثناء المنقطع قوله تعالى:
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى
[الدخان:56]. فإن الموتة الأولى كانت في الدنيا، وليست في الجنة.
فقوله:
إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: شهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم معناها، ويعلم حقيقتها، وهو موحد، فهؤلاء يشفعون، وإن كانوا لا يملكون الشفاعة، بل يستأذنون الله عز وجل.
فالعلم بمعنى هذه الكلمة العظيمة شرط في نفع صاحبها في الآخرة، ودخوله الجنة؛ ولم نقل: إنها شرط في نفع صاحبها في الدنيا لأن العلم هذا عمل في القلب، فهذا التصديق القلبي عمل قلبي، ونحن لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، فالظاهر أن العربي إذا قال: لا إله إلا الله فهو يعلم معناها على الأقل، فهذا العلم إذاً مرده في حكمه عند الله عز وجل في الآخرة، فأحياناً ينتفع به صاحبه فيدخل به الجنة لأول وهلة، وذلك إذا كان يعلم معناها ويعمل بمقتضاها كذلك. ولكن العلم يتفاوت ومراتبه تختلف، فإن أصل العلم بمعنى كلمة التوحيد من إثبات الألوهية لله وحده ونفيها عن دونه ركن من أركان الإيمان الباطن الذي لا يثبت بدونه، أما ظاهراً فيجب إثبات الإسلام بنطقها، وحمل أمر من ينطقها على السلامة حتى يتبين منه ما يناقضها.
إذاً: الأصل في أي واحد ينطق الشهادة أنه مسلم، وأنه عارف معناها، ولسنا مأمورين أن نبحث عن معرفته لمعناها، وإنما يوضح له معناها ضمن دعوته إليها. مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) وقوله تعالى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
[آل عمران:64]. والرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أمور الدين إجمالاً.
وأنا أذكر هذا الكلام لغرض مهم جداً وهو أن أناساً كثيرين لما نقلوا ووجدوا في كتب علماء كثر: أن العلم بمعناها والعمل بمقتضاها شرط في حصول التوحيد، دفعهم ذلك إلى أنهم يقولون: كل الناس يقولون: لا إله إلا اله، ولكن لا يعلمون معنى لا إله إلا الله، فأدى ذلك إلى انتشار جبهة التكفير أو التوقف، أو غيرها من البدع التي من هذا النوع. وذلك بسبب الخلط في قضية العلم بمعنى لا إله إلا الله بين الإجمال وبين التفصيل، وبين الظاهر وبين الباطل.
فلو تبين لنا أنه نطقها ظاهراً من غير أن يدري نهائياً أي معنى لها، كمثل شخص رصت له حروف بلغته اللاتينية مثل: لا إله إلا الله، وقيل له: قل هكذا، فنطق حروف لا يعرف معناها نهائياً، فلا يثبت إسلامه، ولو قالها بالإنجليزية ولا يعرف أن يقولها بالعربية وهو يعرف معناها يثبت إسلامه. وأما إذا امتنع منها لأنها شعار، ولو قال: أسلمت لله، وهو يعرف أن المطلوب منه قول: لا إله إلا الله، فلا يكفي، وذلك مثل الأسير الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إني مسلم، فقال له: لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت وأنجحت). ومثل نصارى نجران لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أسلمنا، فقال: (يمنعكم من ذلك عبادتكم للصليب، ويمنعكم من ذلك ادعاؤكم لله عز وجل ولداً وقولكم: المسيح ابن الله)، فكونه يقول: أنا أمسلم، وهو عارف أن المطلوب أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكفي. أما الذي لا يعرف أن يقولها، فقال: صبئنا، صبئنا، فإنها تقبل منه. فالذي لا يعرف أن يقولها، وذلك بأن كانت صعبة عليه، فهو يريد أن يقول: أنا أريد أن أدخل في الدين هذا، لكن لا يعرف أن يقول إلا صبئنا. فصبئنا هذه تقبل منه، ويصبح مسلماً بذلك، ويعامل كمسلم في أحكام الدنيا، وأما أحكام الآخرة فحسابه عند ربه، فلو كان قلبه صادقاً، فيكون قد دخل في الإسلام فعلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لهؤلاء الناس الذي قالوا صبئنا بالدية؛ لأنهم كانوا مسلمين وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع
أما قول الله تعالى:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا
[الأنبياء:22] فالمعنى: لو كان فيهما آلهة بحق إلا الله لفسدتا؛ لأن هناك آلهة بالباطل، ولكنها لا تعبد بحق، وهذا بخلاف قوله تعالى:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
[الفرقان:43] فهو اتخذه إلهاً بالباطل. فنحن نقدر كلمة بحق على الاستعمال الأغلب.
فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله. فإذاً: نجعل جواب لا النافية (بحق) فنحتاج إلى تقدير (بحق)؛ لأن الجواب (إلا الله).
تطلق على الأصنام، سميت بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحق لها. وأسماؤهم تتبع اعتقادهم، لا ما عليه الشيء في نفسه، وهذا معنى أنها آلهة بالباطل. فهي آلهة في اعتقادهم فقط. ومعنى هذا الكلام: أنهم هم الذين سموها آلهة، فهي تتبع اعتقادهم، والحقيقة أنها معبود باطل.
قال أيضاً عن أبي الهيثم : وأصل إله: ولاه، فيكون أصله: همزة لام هاء، أو واو لام هاء (وله) فيكون هناك أله ووله. وهما وجهان في التفسير لمعنى الإله.
ومعناه: أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم، فإذاً يولهون إليه بمعنى: يدعونه، ويتضرعون إليه، ومن أجل هذا كان الدعاء من أخص معاني العبادة؛ لأن الإنسان يلجأ إلى ربه كما يوله كل طفل إلى أمه.
وقال أيضاً عن ابن سيده : والألوهة والألوهية: العبادة. وقيل: إنه مأخوذ من أله يأله إذا تحير؛ لأن العقول تأله في عظمته. يعني: الذي تتحير العقول في عظمته، وهو معنى حق، وإن كان المشهور الأول.
ومن هنا تعلم خطأ من ظن أن معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله فقط. فإن هذا هو جزء من لوازم المعنى فقط؛ لأن الذي يتضرعون إليه، والذي يملك أن يجيبهم، والذي يعبدونه، لا بد أن يكون هو الذي خلقهم. فهذا متضمن بالمعنى. فلو اقتصروا عليه لأصبح هذا غير صحيح؛ ولذلك فإن المشركين الذين أبوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، كانوا يقرون أن لا خالق إلا الله، كما قال تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
[الزخرف:87].
وكذلك من معاني الإله. أنه الذي تشتاق إليه القلوب، وتميل إليه. وهذا أحد معاني الوله، كما في لسان العرب.
وفي الأثر عن وهيب بن الورد قال: إذا وقع العبد في ألهانية الرب -يعني: شوقه إلى الله- ومهيمنية الصديقين، -يعني مراقبة الصديق فيراقب ربه عز وجل، فإن الصديق هذا أشد الناس مراقبة لله-، ورهبانية الأبرار -الرهبانية: الانقطاع، والبار: المخلص التام- لم يجد أحداً يأخذ بقلبه.
فلو أن الإنسان وصل إلى هذا فلن يبقى شيء يعجبه في الدنيا، ولا يحب شيئاً إلا الله.
ورهبانية الأبرار معناها: الانقطاع إلى الله عز وجل، ولهذا سُمي الجهاد رهبانية؛ لأنه انقطاع عن الدنيا، وعن الشهوات كلها، وفرقة للأهل والوطن والمال، واستعداد لمفارقة النفس والروح، فهو فعلاً رهبانية الأمة، وليس الانقطاع بمعنى: ترك الزواج ونحو ذلك؛ فهذه هي الرهبانية المبتدعة.
فالقلوب إذاً إنما تستقر وتسكن بتوجهها إلى الله وحده، فالقلب الإنساني فيه فقر وحاجة شديدة إلى إلهه الحق سبحانه، ولا يسدها سوى عبادته والتوجه إليه، قال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
[الرعد:28].
فالغرض من ذكر هذا الأثر بيان معنى الإله فإنه الذي تشتاق القلوب إليه.
ولذلك قضية تحكيم الشرع ليست قضية متعلقة بالقوانين فقط، بل هذه جزء صغير منها. وإنما القضية هذه تشمل حياة كل إنسان في خاصة نفسه، وفي جميع أمور حياته.
فالقضية هنا في رؤية الإنسان أنه يجب عليه أن يخضع لله عز وجل، أما أن يرى أنه فوق أمر الله، وأنه حر في أمر الله؛ فإن هذا منافي لأصل كلمة لا إله إلا الله.
أما توحيد الربوبية فهو الدليل الظاهر بالضرورة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، ولذلك كان الاحتجاج به على توحيد العبادة أكثر في القرآن، قال تعالى:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
[يونس:3]. وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
[البقرة:21] فأي عاقل يقول: الذي خلق وحده هو الذي يستحق أن يعبد، يعني: يلزم من توحيد الربوبية توحيد الخالق، أي: بأن الله وحده هو المعبود، قال تعالى عن موسى لما سأله فرعون: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى
[طه:49] أي: الذي تدعوا إلى عبادته:
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
[طه:50].
وكلمة (لا إله إلا الله) تتضمن في شطرها الأول نفي، وهذا هو الكفر بالطاغوت، وتتضمن الإيمان بالله في شطرها الثاني (إلا الله)، وهذا هو الإثبات، قال تعالى في بيان هذا المعنى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
[البقرة:256]. قال سعيد بن جبير والضحاك : العروة الوثقى: (لا إله إلا الله)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم دمه وماله، وحسابه على الله). فالنطق بها علامة على الكفر بما يعبد من دون الله؛ نقول هذا من أجل البعض الذي لم يفهم كلام محمد عبد الوهاب الذي يقول في تفسير هذا الحديث: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله) أنه لا يعصم دمه وماله بالنطق بالشهادة ولا بكونه لا يدعو إلا الله، بل لا يعصم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما عبد من دون الله؛ ففهم منها بعضهم أن كل واحد لا يكفيه النطق بلا إله إلا الله، بل لابد معها من الكفر بما يعبد من دون الله. فنقول: هذا الكلام غير صحيح؛ فإن الشيخ كان يتكلم على نوعية معينة من الناس، وليس كل الناس، بل أراد الذين كانوا يعبدون غير الله، فهؤلاء هم الذين لابد لهم عند الشهادة من الكفر بما يعبد من دون الله، أما غيرهم فإن لا إله إلا الله ذاتها علامة على ذلك؛ لأن شقها الأول: (لا إله) معناها: أنا أكفر بما يعبد من دون الله. فيكفي قول: لا إله إلا الله، أو: كفرت بما يعبد من دون الله. ولا يلزم أكثر من هذا، إلا إذا كان يقول مع لا إله إلا الله بآلهة أخرى.
والمبدل لأحكام الله طاغوت، قال الله تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
[التوبة:31]. والفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن المبدل ينسب الأمر هذا إلى الدين، ويقول: إنه إلينا، فيعتقد الناس أن له حق التبديل، مثل اعتقاد اليهود والنصارى في علمائهم وأحبارهم ورهبانهم، بأن لهم الحق أن يشرعوا لهم، فيحللون لهم، ويحرمون عليهم -والعياذ بالله- من دون الله. فمثلاً: تجد النصارى في العالم كله يأكلون الخنزير، مع أنهم معتقدون بأن الكتاب المقدس -العهد القديم والعهد الجديد- يحرمه عليهم، والعهد القديم بإجماع العقلاء كلهم فيه تحريم الخنزير، واليهود يحرمون الخنزير، ولكنهم تركوا كتاب الله؛ بسبب قرار مجمع من مجامعهم الذي قرروا فيه إباحة لحم الخنزير!
وهذا يوضح تماماً اعتقادهم في أن الناس من حقهم أن يبدلوا.
ومن الطواغيت الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، وليس بشرط أن ينسبها للدين، وإن كان البعض يحاول أن يقصرها على ذلك، والحاكم بغير ما أنزل الله أسوأ؛ لأنه يدعي لنفسه حق التشريع مبدئياً من غير ما ينسبها للدين والعياذ بالله! وكلاهما طاغوت، ومتجاوز للحد، فإن بعض الدساتير تنص على أن مصدر السلطات كلها هو في يد الملك، وحتى التشريعات تصدر باسم الملك، وفي الدول الجمهورية تصدر باسم رئيس الجمهورية، وهو يقول: باسم الشعب، بل في النظام الملكي في كثير من البلاد أن الدساتير كلها هبة من الملك، فمثلاً: الدستور الياباني كل شيء يصدر عندهم باسم الإمبراطور، والإمبراطور هو مصدر السلطات، وهذه كلها -والعياذ بالله- من المناقضة لتوحيد الله عز وجل.
وأصل الطاغوت من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من جاوز حد العبودية، وزعم لنفسه حقاً أو صفة من حقوق أو صفات الألوهية، فهو طاغوت.
فالشيطان الذي يدعو الناس إلى عبادته وطاعته في الكفر بالله ورسوله، وفي مخالفة شرعه، قد جعل لنفسه حقاً من حقوق الإله الحق، وهو: الطاعة المطلقة، فمن أطاعه طاعة مطلقة حتى في الشرك والكفر وتكذيب الرسل فقد عبده، وعلى هذا فإنا نقول بأن الشعب يصبح عبداً للشيطان إذا أطاعه طاعة مطلقة، وليس كل عاصٍ يصبح عابداً للشيطان، وإنما في حالة الطاعة المطلقة التي تشمل أنه مستعد لأن يطيعه ولو في الكفر، ولو في تكذيب الرسل. كما قال تعالى:
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
[يس:60-61]، فإنه من المعلوم أن أكثر العالم كانوا لا يعبدون الشيطان بالصلاة والسجود له، أو اعتقاد ألوهيته، بل إنما كانت عبادتهم له بطاعته في الكفر.
ويجب التنبيه هنا إلى أن طاعة الشيطان في المعاصي من الشرك، وإذا وجد في القلب الإنكار الباطن الذي يجعل العبد وإن عصى ربه يقر على نفسه بالذل، ويعترف بالذنب، فلا تصبح هذه المعصية عبادة للشيطان تخرج الإنسان من الإيمان، وقد قال الأبوان:
قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
[الأعراف:23].
والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد جاوز العبودية التي تستلزم تلقي أحكام الله بالقبول والإذعان، وعدم المنازعة، ونسب لنفسه صفة الربوبية بالتشريع، قال الله تعالى:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
[الأعراف:54]، فلو ادعى لنفسه أن له الخلق مثل الساحر فقد طغى أي: جاوز الحد، فهو طاغوت.
ولو أن شخصاً قال: لي الأمر، فقد طغى وجاوز الحد.
فالله تبارك وتعالى كما تفرد بالخلق، فهو متفرد بالأمر شرعاً وكوناً، شرعاً بمعنى: التشريعات، وكوناً بمعنى قوله: (كن) فيكون.
قال تعالى:
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
[الشورى:21]. وقال تعالى:
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
[يوسف:40]. فاعتقاد أن التشريع أو الحكم لله وحده من معاني توحيد الربوبية، ثم إن تطبيق ذلك بأفعال العباد بالتحاكم والحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني توحيد العبادة والإلهية، فهذا الخضوع هو التوحيد العملي، والأول اعتقادي؛ ولذلك كان من أعظم عبادة الطاغوت تحكيمه في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وأرواحهم.
وكذلك المبدل لأحكام الله الذي يدعي لنفسه حق تبديل الأحكام التي أنزلها الله حسبما يراه بعد إقراره وعلمه بأن الله أنزله، كالأحبار والرهبان الذين قال الله فيهم:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
التوبة:31] وتفسيرها: أنهم اتبعوهم على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإذا كان الله قد أنكر على المشركين طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل القرآن فقال:
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ
[يونس:15] فكيف يتصور أن يكون هذا الحق لغيره؟!!
فالظن بأن لأحد من الخلق أن يبدل أحكام الله حسب نظره وهواه من ظن الجاهلية والعياذ بالله!
والساحر طاغوت؛ فإنه جاوز الحد، ونسب لنفسه ملك الضر والنفع، وتقليب القلوب حباً وبغضاً وتأليفاً, وقد يزعم الخلق والإحياء والإماتة، وقد يقول: أنا سأجعل العظم حياً، أو أنا سأوقع بين فلان وفلان كذا، أو أحبب فلاناً في فلانة ونحو ذلك. وكل هذا من الطغيان؛ إذ هذه كلها من صفات الله وأفعاله وحده لا شريك له.
والكاهن طاغوت، وهو الذي يدعي لنفسه صفة علم الغيب التي اختص الله بها، قال تعالى:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
[الأنعام:59].
فكل واحد من هؤلاء قد طغى، وجاوز الحد، فصار بذلك طاغوتاً يجب الكفر به، حتى يتحقق معنى النفي في (لا إله إلا الله).
ثم يكون عمله مطابقاً لقوله واعتقاده، فلا يطيع الشيطان، ولا يستجيب لدعاته فيما يأمرون به من الكفر والمعاصي.
والكفر بالطاغوت: اعتقاد وقول وعمل، فكمال الكفر بالطاغوت ألا يطيع الشيطان في شيء من المعاصي، ولا يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله، ولا إلى من بدل شرع الله، ولا يأتي السحرة والكهنة. فاعتقاده الأول أنهم طواغيت باطلة فيما زعموا هذا الأصل، ونطقه بقوله لهم: ليس لكم من الأمر شيء، وعمله: أنه لا يذهب إليهم، ولا يأتيهم، بل يكذب ذلك بالجهاد وباليد والمال والنفس، لإبطال عبادة الطواغيت من على ظهر الأرض كلها، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، قال الله تعالى:
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
[البقرة:193]. فالفتنة شرك، ولذا كان الجهاد ذروة سنام الإسلام.
فهناك فرق مهم بين شخص يقول: أنا مخطئ، وأنا أتبع هواي دون الرجوع إلى الشرع، وبين آخر يؤصل بأن كل إنسان حر في أن يفعل ما يشتهي؛ فإن الحرية هذه هي المبدأ الأول للثورة الفرنسية، وأن الناس أحرار فيما يأتون ويذرون، وعليها أسست نظام الحياة الغربية، فعندهم أن كل إنسان حر فيما يشتهي، وفيما يفعل. ولذلك مثلاً: تجد أن الدنيا تقوم ولا تقعد لو حكم على أحد بالتفريق بينه وبين زوجته بسبب الكفر فيقولون: أين الحرية؟ هو حر يفعل ما يشاء كما يشاء.
وتجد أيضاً قضية الشهوات الجنسية مفتوحة تماماً في الغرب، بحيث إنه يمكن للمرأة أن ترفع قضية على زوجها أنه اغتصبها؛ لأنه جامعها بغير رغبتها! في حين أنه لو جامع غير زوجته - زنى- فإن ذلك لا يعد جريمة! فتجدهم يؤصلون قوانين الزنا، ويبينون ما هو الزنا، وما هو المحرم منه؛ فلا يكون محرماً إلا عن طريق الغصب والإكراه، ومن أجل هذا يقولون: من واقع أنثى بغير رضاها فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة! وكل هذا تأصيل لقضية عبادة الهوى والعياذ بالله!
وهذا فرق مهم جداً ينبغي أن يعيه جهلة جماعات التكفير والتوقف وأمثالها ممن يرى أن سلوك الإنسان بمجرده يحكم به على صاحبه بأنه متبع لهواه، فمثلاً: يرى المرأة المتبرجة، أو شخصاً تاركاً لبعض الواجبات، أو فاعلاً للمحرمات، فيقول: هذا إنسان يعبد الهوى، ويستدل بقوله تعالى:
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
[الفرقان:43]. أو يجد شخصاً يحب الكرة أو يحب الموسيقى أو يحب المغني الفلاني، فيقول: إنه يعبد ذلك الشيء! فلا بد أن نفرق بين هذا وبين تأصيل حق الإنسان في اتباع هواه، وأن اتباع الهوى حق للإنسان والعياذ بالله! وبين شخص يفعل ذلك على جهة المعصية، ويرى أنه مخطئ إذا فعل ذلك، أو إذا كان عنده شبهة فتبين له إذا كان يرى أنه على الصواب، فهناك فرق عندما يقول أحد: الموسيقى ليس فيها شيء، وليست حراماً، وهناك علماء يقولون كذا، وأين الدليل من الكتاب والسنة؟ فإن هذا أصبح عنده أصل: أن الناس عليهم أن يرجعوا إلى الدين، ولكن القضية أن نظام الحياة العلمانية ترى أن الإنسان حر في أنه لا يرجع إلى الدين، فتأصيل مثل هذا هو عبادة الهوى. ومن أجل هذا أدخلناه في الطاغوت، مع أن المشهور أنهم يقولون: الطواغيت خمسة، لكنه فعلاً من الآلهة التي تعبد، بل ربما يكون أعظم طاغوت في واقعنا هو الهوى.
قال ابن كثير في تفسير الآية:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
[الفرقان:43] قال: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان هذا الشيء دينه ومذهبه.
وإنما يكون هذا شركاً أكبر إذا كان اتباع الهوى يقود إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، وأما إذا كان فيما دون ذلك فهو شرك أصغر؛ ولهذا كانت المعاصي كلها من شعب الشرك، وإن لم يكن حكمها حكم الشرك الأكبر.
والواجب على الإنسان أن يجعل هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يتم إيمانه، ولابد أن يعرض رغباته وغاياته وخطراته على الكتاب والسنة، فما وافقهما أخذ به، وما خالفهما ألقاه وراءه ظهرياً.
فإن المعاصي في حكم الشرك، وتسمى كذلك في الجملة، لكننا في الحقيقة لا نسمي المعاصي شركاً أصغر إلا إذا ورد تسميتها بذلك، فمن ذلك -مثلاً-: عبد الدرهم، وعبد الدينار، والفواحش، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الرياء شركاً أصغر، وسمى الحلف بغير الله شركاً أصغر، فنحن نقول: إن المعاصي التي وردت فيها تسمية لا شك أننا نسميها كذلك، وإن كان في الجملة حكم المعاصي كلها أصلاً من باب الشرك الأصغر؛ يطلق ذلك عليها إجمالاً، كما نقول: المعاصي بريد الكفر، أو البدع بريد الكفر، أو المعاصي من شعب الكفر، وليس المقصود به كفر الخروج من الملة، وإنما المراد أنه شرك أصغر؛ لأنه اتباع للهوى، وذريعة للأكبر؛ ولأن كل المعاصي تقود في النهاية إلى الكفر، فمن الممكن أن تقود الإنسان إلى الكفر فعلاً إذا وصل إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، فهذا هو عبادة الهوى من دون الله.
والشرك الأكبر صاحبه مخلد في النار، والشرك الأصغر هو من جنس المعاصي في قضية خلود صاحبه في النار.
وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك). فوجدنا أن فيها قسمين: شرك أكبر، وشرك أصغر. ووجدنا أن في الحلف شركاً أكبر، وشركاً أصغر. فنحن محتاجون لبيان هذه الأقسام، ومن أجل هذا وضع العلماء الفرق بينهما، حيث إنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أناساً ممن كان فيهم ما سماه شركاً معاملة المسلمين، فتبين لنا بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عنى أنه من ضمن أن الطيرة فيها ما هو شرك أصغر، ومن ضمن أن الحلف فيه ما هو شرك أصغر، فتبين بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد ذلك.
وقوله: (انتكس) يعني: رجع إلى الحال السيئ الذي كان عليه، والتعاسة خبر أو دعاء، يعني: إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عنه وهذا الخبر صادق لا يخلف، أو أنه دعاء قد أجابه الله عز وجل، فدعا عليه بالتعاسة والانتكاس، وأنه إذا شيك -أي: إذا دخلت في قدمه أو في جسمه شوكة- فلا انتقش، يعني: لا أُخرجت بالمنقاش.
فما أشقى هذا العبد الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبر بتعاسته، من أجل أنه رضي لنفسه أن يكون خادماً لما خلق من أجله أصلاً؛ فإن المال واللباس والقطيفة والخميصة خلقت لأجل الإنسان، فإذا به يجعل نفسه خادماً لهذا الذي خلق من أجله؛ إذ إن المفروض أنه يكون خادماً لك، مسخراً لك، كما قال تعالى:
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ
[الجاثية:13]. فالإنسان إذا صار المال والجاه وكلام الناس عنه في هيئته وثوبه وغير ذلك هو كل همه في هذه الدنيا فإنه يصبح من أجله يحب ويبغض، ويوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، وهذا من أعظم الآلهة التي تعبد في زماننا، وخصوصاً في نمط الحياة الغربية التي يراد للناس أن يقلدوها، فإن قضية المال هي من أعظم الأشياء عندهم، أو هي كل شيء عندهم، فبالمال تغير الأديان، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا يكثر في فتن آخر الزمان، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا) .
فالرسول عليه الصلاة والسلام بين أن الفتن التي ستأتي في آخر الزمن هي من هذا النوع، فأحدهم قد يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فلا بد للدعاة إلى الله وأهل الحلم والدين أن ينتبهوا لهذا النوع، فإن الناس ممكن أن يحاربوا من بعيد اللات والعزى، وإن كانت معظم عبادة الناس ليس في اللات والعزى، مع أن الناس في الحقيقة مدفوعون دفعاً إلى أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا، فأحدهم مستعد أن يكفر بالله لو أعطي مالاً، أو أعطي منصباً، ومستعد لأن يترك ما أمره الله عز وجل به من الولاء والبراء وكل الدين بسبب أنه يخاف على منصبه أو يخاف على مركزه أو يخاف على ماله أن يضيع، والعياذ بالله!
فلابد من الانتباه لهذه الفتنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يبيع دينه بعرض من الدنيا)، فلابد للإنسان أن ينتبه لهذه الفتنة المقبلة، فقد أصبح الإنسان في هذا الزمان من أجل المال يحب، ومن أجله يبغض، ومن أجله يوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، ولو طلبوا دينه ثمناً لعرض منها لكان أسرع شيء إلى البيع بالثمن البخس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا). وهو مع ذلك لا يناله من الدنيا إلا ما كتب له، كما في الحديث الصحيح: (من أصبح والدنيا نيته، فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة نيته، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن حبان في الصحيح، وابن ماجة ، والطبراني بإسناد لا بأس به.
وفي الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).
ولذلك نقول: إن طبيعة العمل التي تستغرق وقت الإنسان وعمره تجعله غير متفرغ لكي يبذل شيئاً في سبيل الله؛ فلا يجد وقتاً لعبادة الله وذكره، ولا يجد وقتاً للدعوة إلى الله، ولا يجد وقتاً للتعلم والتعليم ونشر الخير، وهذه علامة أكيدة على أن القلب بعيد عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (يا ابن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً)، فتجده دائماً ويداه مشغولة.
وقد يقول قائل: الناس كلهم الآن أشغالهم تستهلك اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وأكثر من اثنتي عشرة ساعة، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل يبين أن هذا سبب البعد عن الله.
فلو أن القلب قريب من الله فإنه سبحانه يفتح لعبده من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
[الطلاق:2-3].
فلابد للإنسان من أن يجعل الهم هماً واحداً، وليس معنى ذلك أن يقول: نترك العمل، ونجلس في المسجد. فهذا كلام غير صحيح، وإنما المطلوب أن تكون همة الناس همة الدين، فعند ذلك يفتح الله لهم أبواب الرزق، وأبواب الطاعة، وأبواب الخير.
فالعودة إلى التوحيد الصافي من الكتاب والسنة، ونبذ الشركيات بأنواعها، واستدلال الناس على التوحيد بآيات القرآن والسنة، وإحياء القضايا الإيمانية التي في القرآن والتي أهملت في عصور التقليد خير عظيم.
فأبواب الخير مفتوحة، ولكنها تريد همة عالية في التقرب إلى الله عز وجل، بحيث لا يكون هم الإنسان إلا هماً واحداً، كما قال عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً). فهذا وعد من الله عز وجل، وإذا وجدت غير هذا فتأكد بأن هناك غلطاً، وأن هناك خللاً.
وقوله: (الخميلة): كل ثوب له خمل، و(الخميصة): أيضاً نوع من الثياب الحسنة الجميلة.
ولا يتصور في مؤمن يوجد في قلبه شيء من الإيمان أن يضحي بعقيدته لمن يدفع أكثر، سواء كان من الشرق أو من الغرب، أو يرضى بالكفر ويتابع عليه من يظن أنه إن لم يعطه جاع أو عطش، وقد غاب عنه قوله سبحانه وتعالى:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
[الذاريات:58]. وقوله تعالى:
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
[الطلاق:2-3] .
وقد صارت هذه المصيبة -والعياذ بالله- مبرراً للكثيرين في المتابعة على الكفر والفسوق والعصيان؛ بل على حرب الإسلام وأهله دون جريمة؛ إلا أنهم يلتزمون بالإسلام. وذلك منهم إرضاء للمجرمين والكافرين، ومن أجل أموالهم، بل صار معلوماً أن الصفقات تعقد على ضرب الإسلام في مقابل الأموال التافهة الحقيرة، أو من أجل الاستمرار في كراسي الحكم والسلطة، فهذا الذي نراه هو حقيقة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه العبودية للمال في أبشع صورها.
فأما من لا يوصله حب المال إلى الكفر، ولكن يوصله لفعل المعاصي -والعياذ بالله- فله نصيب من الشرك الأصغر، فما زالت هناك عبودية، لكن هذه العبودية شرك أصغر، نسأل الله أن يعيذنا من العبودية لغيره، وأن يجعلنا من عباده المخلصين.
والشق الثاني فيه الإيمان بالله، وحقيقة العبادة.
أما الشق الثاني من كلمة التوحيد -وهو إثبات الألوهية- فهو حقيقة الإيمان بالله؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
والعبادة هي كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.
وبهذا يظهر التطابق بين حقيقة الإيمان: أنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وبين حقيقة العبادة، ومن أجل هذا قلنا: إن العبودية لله هي إثبات الألوهية، وحق العبادة لله هو حقيقة الإيمان.
فلابد للإنسان الذي يقول: أنا أعبد الله أن يكون عارفاً بالركنين في الجملة إجمالاً، ويحققهما في ذات نفسه، أما من يدعي أنه يحب الله ولا يخضع له، فهذا لم يحقق العبودية لله عز وجل، وهذا موجود في تصورات قطاع كبير من البشر، فإن ملايين من البشر يقولون: نحن نحب ربنا، ولكن لا يلزم أن نسمع كلامه، ومعظم الغرب يقرون بوجود الله، ولكن لا يوجد منهم خضوع له، ولا انقياد لشرعه، وعلى هذا فليس عندهم عبودية لله سبحانه وتعالى، حتى لو أحبوه.
فالركنان اللذان لا تقوم العبادة إلا بهما: كمال الحب، مع كمال الذل.
فخضوع الانقياد هو أن العبد لا يمكن أن يضحي بأمر الله أمام أي مقابل، كما أنه لا يمكن أن يقدم على حبه لله عز وجل أي حب.
والعبادة كذلك لا تصح إلا بالحب والخوف والرجاء، فلابد من العبادة في كل عمل من الأعمال، فلابد للعبد في كل عمل من أعماله أن يكون محباً لربه جل وعلا، قال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
[البقرة:165]، وأن يكون خائفاً من ربه، خوف المقام بين يديه، وخوف وعيده.
قال تعالى:
ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
[إبراهيم:14]، وقال سبحانه:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
[الرحمن:46]، وفيهما معنيان: الأول: الذي سبق وهو خوف المقام بين يدي الله.
وأما الثاني فالمراد: أنه خاف مقام الرب عليه بالاطلاع، فهي مضافة إلى الفعل، والمعنيان صحيحان.
فمقام الرب عز وجل بالربوبية: الاطلاع في كل وقت، أما مقام العبد بين يدي ربه فسيكون يوم القيامة للسؤال وللحساب.
وقال عن آل زكريا:
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ
[الأنبياء:90].
فالأنبياء وصفوا بذلك، والمؤمنون وصفوا بذلك، ومدحوا على ذلك، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ
[البقرة:218]، فمن زعم أنه يعبد الله حباً فقط، بلا رغبة ولا رهبة فهو منافق زنديق كاذب في دعواه، فلو أحب الله لأطاعه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، فإنه عز وجل يقول:
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
[البقرة:40] فلو أحب ربه لرهبه، وقالت رسله:
وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ
[العنكبوت:36]، وقال سيدنا شعيب:
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ
[العنكبوت:36]، فكيف تصدق دعوى الحب لله عز وجل مع مخالفة أمره؟ وكيف تصح العبودية بغير خوف ورجاء؟
وكثير من الناس اغتروا بالكلام المنسوب إلى رابعة العدوية -والله أعلم بحقيقة النسبة إليها- وهو قولها: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأدخلني فيها! وظنوه دالاً على علو شأن المحبة.
واغتروا بالتفسير المنقول عن الشيخ الشعراوي في قوله تعالى:
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
[الكهف:110] قال: والجنة تعتبر أحداً! وهذا معناه: أن الذي يطلب الجنة مشرك والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يقول لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم:
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا
[الأحزاب:29]، فهل هن مشركات؟! وهل الله عز وجل يرغب في الشرك؟! نعوذ بالله! وهل عندما قال الله عز وجل:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
الأحزاب:21] رغب في الشرك؟! فعندكم أن رجاء الله ورجاء اليوم الآخر شرك. نعوذ بالله!
وهذا الكلام ضلال مبين، وهو كلام حقيقته الكفر، يترفع عنه حال الأنبياء والأولياء، وإنما أصله سوء اعتقاد في الله ورسله كما هو حال الصوفية والفلاسفة، فإن عندهم أنه من الممكن أن يقول الله للناس كلاماً غلطاً من أجل أنه لا ينفع معهم إلا هذا، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
من الفلاسفة من يقول: إن الرسل أصلاً كانوا فاهمين، لكن الناس لا ينفع معهم إلا هكذا! وبعضهم يقول: إن الرسل يخدعون الناس، وأن الرسل لم يكونوا يفهمون ما هو الموضوع، والعياذ بالله! فهؤلاء المتدينون من الفلاسفة يقولون: إن الرسل كانوا يخدعون الناس، وهذا معناه أنهم كذابون. والعياذ بالله! ويقولون: بأنهم لا يفهمون أصلاً، وأن طرق الحكمة غير طرق الرسل، وهؤلاء أكفر الفلاسفة والعياذ بالله!
فهذا كلام فضيع جداً، والذي يقرأ كتاب مفصل الاعتقاد لشيخ الإسلام ابن تيمية يجد فعلاً أن كلام الفلاسفة مبني على ذلك، وهم في أحسن أحوالهم يقولون: الرسل أذكياء جداً، لكن العوام من الناس لا ينفع معهم غير هذا، والذي يتلمح مثلاً عنوان كتاب الغزالي (إلجام العوام عن علم الكلام) يجده لم يلغ علم الكلام بالكلية، وإنما يلجم العوام الذين لا يفهمون. وله كتاب آخر اسمه: (المضنون به على غير أهله)، قال ابن العربي : شيخنا أبو حامد دخل الفلسفة فأراد أن يخرج منها فلم يستطع يعني: أنه ما زالت بقايا الفلسفة مؤثرة فيه، ففي كتابه (المضنون به على غير أهله) يقول: إن هناك أسراراً يضن بها على العوام! ولذلك تجدهم كلهم متفقين على أن الخوف والرجاء والرغبة والتوكل والإخلاص كل هذه من عبادة العوام، يعني: أن الخواص مترفعون عن ذلك، وهذا الكلام ذكره في مدارج السالكين، وفي كل مكان فيه صوفية تجد هذا الكلام موجوداً.
ولذلك كلام الفلاسفة هذا خطير للغاية، وفساد فعلاً في الاعتقاد، وهو يرمي إلى تجريد الرسل أصلاً، فإن الفلسفة لما دخلت أثرت على الناس في عقائدهم، وبمرور الزمن أدت إلى أن يكون كلام الكفار هو الذي يعتقده قطاع عريض من أتباع الرسل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأكثرية -والحمد لله- تأبى ذلك، إلا أن هناك أناساً منتسبين إليها يفعلون ذلك، فإن عقيدة النصارى منبعها من الفلاسفة الكفار، وعامة النصارى يعتقدون هذه العقيدة الكفرية والعياذ بالله!
ولو أن أحداً اعتقد أن الجنة هي أكل وشرب ونكاح فإنه يصبح جاهلاً بالدين مبتدعاً؛ لأنه ينكر رؤية الله، وينكر القرب من الله؛ ولذلك فإن الجهمية من شرار الخلق؛ لأنهم ينكرون أعظم نعيم لأهل الجنة وهو القرب، فهم يقولون: إن الله لا يقرب، ولا يقرب منه؛ لأنه يلزم من ذلك الجسمية. قالوا: ولا يرى في الآخرة؛ لأنه يلزم من ذلك أنه محدود؛ ولذلك أنكروا هذا وقالوا: إن الجنة أكل وشرب ونكاح فقط، وهؤلاء من أهل البدع والضلال، فإنهم لما تركوا ذكر الله، وتركوا القرآن، وتركوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وقعوا في الضلال الذي ما أنزل الله به من سلطان.
فحقيقة هذا الكلام هو الضلال والزندقة؛ إذ كيف يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل أفضل أولياء الله الصالحين -وهم الصحابة رضي الله عنهم- الجنة، ويستعيذون بالله من النار، ثم يتبرأ مسلم من ذلك، أو يزدري هذه النماذج في الاعتقاد، تارة بأنها عبادة العبيد أو التجار، مثل الكلمة المشهورة الموجودة: الخوف عبادة العبيد، والرجاء عبادة التجار، وأما الحب فهو عبادة الصديقين؟
فهل كان الصحابة وآل زكريا من العبيد والتجار؟ هل أصبح هؤلاء أحسن منهم؟! كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، وهو محي الدين الصوفي ، وأما أبو بكر بن العربي فهو المالكي.
وهذا الكلام ليس إلا إعراضاً عن القرآن والسنة وإجماع علماء المسلمين، بل قد صرح أئمة العلماء بكفر من قال: أنا لا أخاف القيامة، قال النووي : ولو قال: لا أخاف القيامة كفر.
فانظر إلى هذه الهاوية التي سقط فيها أولئك القوم، وفتنة الناس بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر