www.islamweb.net/ar/

أدب الخلاف [5] للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن اختلاف التضاد المذموم هو الاختلاف غير السائغ، ويعرف بأنه: ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً لا يختلف فيه، سواء كان ذلك في الأمور الاعتقادية العلمية، أو كان في المسائل العلمية.

    الاختلاف غير السائغ

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أما بعد:

    فقد ذكرنا فيما سبق اختلاف التنوع وقلنا: إنه لا بأس من حصوله، ثم ذكرنا اختلاف التضاد السائغ واشترطنا فيه ألا يصادم نصاً جلياً سواء كان ذلك في الأصول أو الفروع.

    واليوم نتناول اختلاف التضاد غير السائغ، وهو الاختلاف المذموم، وكثير من أهل العلم يعرفونه بأنه: الخلاف في الأصول أي: في العقائد، والصحيح أن يعرف بأنه: ما خالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً لا يختلف فيه، سواء كان في الأمور الاعتقادية العلمية وهذا أكثر أنواع هذا الاختلاف أو كان في المسائل العملية، فكما يذم المخالف دائماً في مسائل الاعتقاد في الغالب يذم المخالف أيضاً في بعض مسائل العمل، فيذم المخالف الذي يقول بعدم صحة المسح على الخفين، ويذم المخالف الذي يفتي بجواز زواج المتعة، ويذم المخالف الذي يقول: لا ربا إلا في النسيئة.

    ومعروف أن ابن عباس رضي الله عنه كان يفتي بجواز زواج المتعة، وهذا قول لا شك في بطلانه؛ لأنه مخالف للثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يفعله يستحق العقاب، وليس هذا طعناً في ابن عباس رضي الله عنه.

    إذاً: كثير من مسائل الفروع -أي الأحكام- فيها نصوص من الكتاب والسنة والإجماع، وقد لا يعذر المخالف فيها، بل قد يكفر، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وحرمة الزنا والخمر، فهذه من مسائل الأحكام المسماة عند الكثيرين بالفروع، وقد يبدع المخالف فيها كإنكار المسح على الخفين، والقول يجواز نكاح المتعة، والأغلب في اختلاف أهل العلم في مسائل الفروع -مسائل الفقه- أنه من الاختلاف السائغ كما سبق ذلك.

    إذاً: ضابط خلاف التضاد أنه مخالفة البينات، قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، فالذي يخالف البينات يكون مذموماً، سواء كان خلافه في الاعتقاد أو كان في العمل وهذا أمر مهم جداً؛ لأن بعض الناس يلغي أي ذم لأي اختلاف عملي ولو كان خلافاً في البينات، ويجعل كل مسائل الخلاف العملي مما يعذر بعضنا بعضاً فيه، وهذا قول خطير، فنقول: قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103] قال ابن كثير : وَلا تَفَرَّقُوا : أمرهم الله بالجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

    وقد ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة، وافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلَّّمة من النار: وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.

    هذا الكلام واضح الدلالة على أن هناك فرقة خارجة عن هذا النوع وهو الاعتصام بحبل الله، وهو الوحي المنزل من عنده، وهو الكتاب والسنة، والإجماع، فقد أشار إلى هذه الأمور التي ضمنت لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم.

    قال: كما قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين).

    إذاً: لو أن كل الأمة على قول، فلا بد أن تكون هذه الطائفة الظاهرة ضمن الأمة، وهذا القول سوف يكون هو الحق؛ لأن الطائفة ضمن الأمة على الحق، فلهذا يستحيل أن يضيع الحق بالكلية من الأمة الإسلامية، كما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].

    فهناك عذاب وذنب لمن خالفوا البينات وتفرقوا بعد وجودها، قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107].

    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والافتراق، رواه النسائي في شرح أصول الاعتقاد، وابن أبي حاتم وأبو نصر في الإبانة، والخطيب في تاريخه.

    وقد ذم الله في هذه الآية من خالف البينات، ومن هنا: كان تعريف هذا النوع من الاختلاف المذموم من هذه الآية الكريمة: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، إذاً: البينات هي الأمر البين الواضح الذي جاء من عند الله وهو من حبل الله هو ما كان.

    نص كتاب أو نص سنة أو إجماعاً أو قياساً دليلياً على هذه الثلاثة، والقياس الدليلي القول به يتفق عليه الصحابة جميعاً رضي الله عنهم.

    وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، هذه الآية وإن نزلت في اليهود والنصارى كما قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي ووكيع عن ابن عباس إلا أنها تشمل أهل البدع والشبهات والضلالات، إذاً: لا يقال هذا على من اختلفوا خلافاً سائغاً، ولا يقال عن أهل السنة ضمن الفرق؛ لأن البعض يأتي يطلق ذلك على الجماعات الإسلامية المعاصرة، يقول: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، فأي جماعات تكون من الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ، ومعنى هذا: أن أهل السنة ضمن الفرق النارية، وكلهم: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، وهذا الكلام باطل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تبرأ من الفرق الثنتين والسبعين، وتولى التي في الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا واحدة).

    إذاً: أهل السنة وأهل الحق هم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعلى الصراط المستقيم، والذي فرق دينه هو الذي ابتعد عنهم، وهم الذين وصفهم الله بقوله: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53]، فهذا يأخذ جزءاً من الكتاب ويتمسك به ويترك الباقي, والثاني يأخذ الجزء الباقي ويترك هذا الجزء، وهذا ليس كلام أهل السنة أبداً، فإن القدرية والجبرية كل منهم تمسك ببعض شيء: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53]، وترك الباقي.

    الجبرية مثلاً تتمسك بقول الله: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ [الأنعام:39]، وتقول: ليس للإنسان قدرة وإرادة، والقدرية تتمسك بقوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، وهذا الكلام تحريف للدين، وتفريق له، وعدم إيمان بالكتاب كله، وهذا هو المذموم.

    أما أهل الحق فهم السائرون على الصراط، وكل من يبعد عنهم فهو من الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ، وليس أهل الحق من يقال عنهم هذا الكلام بنص هذه الآية.

    عندما يقول شخص عن الجماعات المختلفة: هذه الآية دليل على أن أي تجمع يكون من الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ، هذا ظلم بين، واستدلال في غير الموضع، بل تحريف لمعنى الآية؛ لأن الآية لم تشمل من كانوا على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام في الذم، إنما ذم وتبرأ وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم.

    أما أهل السنة فجمعوا الدين والتزموا به، حتى وإن أصبحوا واحدة من ثلاث وسبعين، لكن من الذي سبب وجود الثلاثة والسبعين؟ من المذموم على فعله؟ المفارقون المخالفون أهل البدع والضلال، فهم هؤلاء الذين صنعوا التفرق.

    قال ابن كثير رحمه الله: والظاهر أن الآية عامة لكل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعاً -أي: فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات- فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه. وهذا فيما هو من الدين، أما ما فيه اجتهاد فهو داخل ضمن قوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79].

    وقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13]، أمرنا الله أن نقيم الدين ولا نتفرق فيه، وقال: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الشورى:14]، إذاً: أي نوع هو الذي ذمه ربنا؟ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ .

    أسباب الخلاف السائغ وغير السائغ

    لكن هل يكون هناك خلاف سائغ مع وجود الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؟

    يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر، إذاً: نقول إن ربنا سبحانه وتعالى إنما قال: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الشورى:14] لما يأتي العلم وتأتي البينات ويتفرقون بغياً فهذا هو الاختلاف المذموم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:14].

    قال ابن كثير رحمه الله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن التفرق، وقال تعالى في ذم أهل الكتاب في تحذير لنا من مشابهتهم: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]، كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. هذا معنى الآية.

    وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ، فلا بد من الكتاب الذي فيه حكم ونص في ذلك، وكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.

    قال الله عز وجل: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ، دائماً نلحظ أن سبب الخلاف غير السائغ هو الذي يكون بعد ظهور الحق.

    روى عبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، الناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى)، فمثل هذه الاختلافات مذمومة باطلة.

    يقول: أما أدلة السنة: فروى الإمام أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم والآجري في الشريعة وحسنه الألباني عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهم الجماعة)، وفي رواية الترمذي والطبراني : (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، لذا نؤكد أن منهج السلف، وما أجمع عليه السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن كان على طريقتهم لا يسوغ فيه الخلاف، ويسعنا ما وسعهم، وما أجمعوا عليه فهو ضمن الحق المقطوع به ضمن البينات؛ لأن إجماعهم معصوم من الضلال والخطأ.

    قاعدة الشرع الذهبية في التعامل مع المخالف

    روى الترمذي وأبو داود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).

    إذاً: البدع والضلالات هي ما خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن سنتهم وطريقتهم تطبيق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    من أجل ذلك نقول: كتاب وسنة بفهم سلف الأمة، وما خالف ذلك فهو المذموم، هذه هي قاعدة أهل السنة الذهبية، وهي أنه إن كانت عندنا سنة للرسول صلى الله عليه وسلم وسنة للخلفاء الراشدين فلا يمكن أن نتركها، وإنما نترك البدع.

    إذاً القاعدة الذهبية القائلة: نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ثم نطبقها على دائرة واسعة جداً بما فيها الخلاف غير السائغ مع الشيعة والصوفية، والخوارج أحياناً، والبعض منا يطبقها مع الخوارج ويقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لا. هذا الأمر لا يسع ولا يقبل: (عليكم بسنتي)، إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بلزوم السنة، فإنما يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لكن إذا وجدت السنة نلزمها.

    وقال البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، هذا ضابط ينطبق على حقيقة الخلاف غير السائغ، وأن قضاء الحاكم وفتوى المفتي ترد إذا خالف فيها النص.

    ثم ذكر حديث أبي سعيد وأبي هريرة في النهي عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن اشترى تمراً جيداً بتمر رديء: (أوه عين الربا، ردوه)، وأمر برده؛ لأن فيه مخالفة للنص.

    هذه المسألة مهمة جداً، فهناك مسائل ما كان النص فيها واضحاً عند الصحابة، واجتهدوا فيها، فما قال لهم فيها: أعيدوها، مثل قصة أبي بكرة عندما ركع دون الصف، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، واحتسب هذه الركعة على الظاهر بعد ذلك، لكن على الأقل هناك جزء منهي عنه متفق عليه بين العلماء، وهو أن مشيه في الصلاة كان بسرعة مثلاً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد)، وما كان عنده بيان قبلها وما وصلته السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له لا تعمل هذا مرة ثانية.

    وأخذنا من هذا: أن ما فيه اجتهاد لا ينقص، وحتى بعدما يتبين له فيه الحق لا يعيده، وهذا خلاف حالة المسيء في صلاته؛ لعدم ورود احتمال الجهل، وإن ورد فهو مبطل للعمل لا منقص فقط.

    ولذلك سنجد آثاراً عن الصحابة فيها تراجع عن أحكام ماضية، مثل: عمر رضي الله عنه لما غير اجتهاده في مسائل لم يبلغه فيها حكم السنة الماضية، فقالوا له: أنت قضيت بهذا العام الماضي فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.

    إنما النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: (ردوه) وأمر برد هذا البيع الذي تضمن الربا.

    وقال أيضاً في كتاب الأحكام: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد.

    ثم ذكر حديث ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فقالوا: صبئنا.. صبئنا!) وهذا دليل على أن من عادة العرب أن يسموا من أسلم صابئاً، فهم يريدون أن يقولوا: نحن دخلنا في هذا الدين، فقالوا: صبئنا، قال: فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا -هذا كلام ابن عمر- أن يقتل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره.

    يعني: كان له من يسمع كلامه داخل الجيش المسلم، وابن عمر أعلم من خالد بلا شك، وخالد خالف النص، فهؤلاء لم يحسنوا أن يقولوا: دخلنا في الدين, وقتلهم محرم، ولابد أن تعصم دماؤهم، فهو أخطأ, وخالف النص، والإمام البخاري يقول: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد.

    فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)، والواجب حسن الظن بالصحابة؛ لأن هذا كان خطأ من خالد بن الوليد ، وهو مأجور فيه، لكن هذا الفعل باطل بلا شك.

    حديث آخر: (الغنم والجارية رد عليك)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر برد الحكم الذي يخالف النص؛ لأن الأجير زنى بامرأة صاحب العمل، فافتدى منه بمائة كبش ووليدة، فقال: (الغنم والجارية رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم)، فأبطل ما أفتي به وما حكم به خلاف النص.

    ما ورد من الأمر بلزوم الجماعة

    قال أيضاً في كتاب الاعتصام: باب: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم.

    إذا وجد الإجماع فلا يجوز مخالفته، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمران:19]، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:213].

    يعني: عليهم الالتزام بالكتاب كما في الآيات السابقة، والسنة لقوله: (عليكم بسنتي)، فالإجماع يعني: إجماع أهل العلم كما بينته الآية السابقة.

    ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالنبي يوم القيامة فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] قال: عدلاً، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]).

    قال ابن حجر : أما قوله: (وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم)، فمطابقته لحديث الباب خفية, من أين استنبط الإمام البخاري هذه الترجمة، وأن الرسول أمر بلزوم الجماعة وهم أهل العلم؟

    يقول: وكأنه من جهة الصفة المذكورة وهي العدالة، لما كانت تعم الجميع لظاهر الخطاب أشار إلى أنها من العام الذي أريد به الخاص، أو من العام المخصوص؛ لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً، وكذلك أهل البدع، فعرف أن المراد باللفظ المذكور أهل السنة والجماعة، وهم أهل العلم الشرعي, ومن سواهم ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية لا حقيقية, وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث منها:

    ما أخرجه الترمذي مصححاً من حديث الحارث الأشعري -فذكر حديثاً طويلاً وفيه- : (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة؛ فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).

    وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها بالجابية: عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ، وفيها: من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة.

    قال ابن بطال : المراد بالجماعة أهل الحل والعقد في كل عصر.

    قال الكرماني : مقتضى الأمر بلزوم الجماعة: أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون, وهم المراد بقوله: وهم أهل العلم، والآية التي ترجم بها احتج بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، هذا دليل بأن الأمة إذا كانت على شيء فهذا الشيء من الحق قطعاً، إذاً: الإجماع إذا كان في أمر فهذا هو الحق قطعاً، ولا تجتمع الأمة على ضلالة؛ لأن الله تعالى جعلها أمة وسطاً.

    وجوب العمل بالبينات والعلم لكل من وصلته

    يقول: ومما سبق من الأدلة وكلام أهل العلم يتضح أن الخلاف والتفرق المذموم في الكتاب والسنة المحكوم ببطلانه ورده هو ما خالف الوحي المنزل من عند الله سبحانه, وهو حبل الله، وهو الكتاب العزيز، وهو قد دل على السنة الشريفة- الكتاب دل على السنة- وهي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من أتى بخلافه فهو رد -أي: مردود- وهو العلم والبينات التي آتاها الله أهل الكتاب فتفرقوا عنها فذمهم على ذلك.

    إذاً: العلم عبارة عن كتاب وسنة وإجماع أهل العلم، وما خالف -ذلك وخاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأخص طريقة خلفائه الراشدين المهديين من بعده- كان من أهل البدع المحدثات والضلالات التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها في النار.

    وأما القياس الجلي فهو ملحق بهذه الثلاث؛ لأن هذه الثلاث دلت عليه، وقد وضح أيضاً من عموم الأدلة السابقة أنها لم تقسم الدين أو الوحي أو الكتاب والسنة والإجماع إلى مسائل أصول وفروع يترتب عليها الأحكام، من أجل ذلك نقول: هذا التقسيم غير صحيح؛ لأنه ينبني عليه المدح والذم، ولو أن هذا التقسيم لا ينبني عليه حكم لا توجد مشكلة, إنما نأخذ بالاصطلاح، وإذا كنت ستقسم بدون بناء أحكام فلا بأس، لكن عندما تبني أحكاماً بالمدح والذم، وتقول: هذا خلاف في الفروع، لا ذم فيه ولا تخطئة، ولا قول بالبطلان ولا تبديع، فلا. أو لأنه خلاف في الأصول لا بد أن يدخل فيه ذم أو تكفير, كل هذه الأدلة واضحة جداً، هل الرسول عليه الصلاة والسلام فلما قال: (عليكم بسنتي)، فهل نقول: كان يريد في العقائد فقط؟ وربنا لما قال: (( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))، هل نقول: هذا في المسائل الاعتقادية؟! لا، لكنها بينات جاءت ونصوص إذاً هناك إجماع، وإذا جاء الدليل على ذلك انتهى الأمر.

    كل ما جاء في الكتاب والسنة مبيناً لا إشكال فيه، ولا اجتهاد في فهمه، وهو المعني بقولنا: بالتقييد، وكلمة (نص) معناها: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، مبين لا إشكال فيه، وكذلك الإجماع، سواء كانت المسألة أصلية اعتقادية، أو فرعية حكمية فقهية، فالعبرة ببيان الدليل ووضوحه ودرجة وصوله إلى المكلف.

    فلو خالف مخالف البينات لأنها لم تأته فهو معذور، لكن الذي جاءته البينات غير معذور.

    وتبين أيضاً من عموم تلك الأدلة وإطلاقها استواء المكلفين في هذه المسألة، وهو أنه متى وصل إليه بيان الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم فهو ليس بمعذور في مخالفته سواء كان عالماً أو جاهلاً

    لأن البعض يقول: هذا للعلماء فقط، أما العوام فليس لهم شأن، لا؛ بل هو للذي يصله من هؤلاء أيضاً؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى أطلق الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي) يخاطب كل أمته عليه الصلاة والسلام، فمن يصله واحد من الثلاثة: كتاب أو نص للنبي صلى الله عليه وسلم أو إجماع فهو غير معذور عالماً كان أو جاهلاً، وإن كان العالم بذلك أشد إلا أن الجاهل إذا وصله شيء من ذلك لم يكن معذوراً في ظن يظنه اجتهاداً، ولا تقليداً لمن يراه من أهل العلم سائغاً، وإلا لم يذم مبتدع قط على بدعته. فالمبتدع يرى نفسه على الحق، وأن شيخه هو العالم، لكن لماذا يذم أهل البدع؟ من أجل المسائل التي خالفوا فيها أدلتها وهي بينات واضحات، ومخالفها مذموم بلا شك عالماً كان أو جاهلاً.

    يقول: لأنهم جميعاً أهل جهل، وهم يظنون أنفسهم على الحق، أو متبعين لرءوسهم الذين يحسبون أنهم أهل العلم والدين.

    أي: غير معذور وإنما يأثم، وقد تصل الدرجة للتكفير، كل على حسب الوضوح والعلم المعلوم من الدين بالضرورة.

    يقول: فلماذا كان الذم لأهل البدع ولمن تبعهم، وحقهم العقاب في الدنيا والآخرة؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج، وهم يظنون أنفسهم مجاهدين في سبيل الله، يقاتلون الكفرة, ومن هؤلاء الكفرة عندهم؟ علي بن أبي طالب ومعاوية وكل من خالفهم يكون كافراً, وتجد خطب نجدة الحروري وأشعار هؤلاء الخوارج تصرح بقتال الصحابة رضي الله عنهم واستباحة دمائهم.

    إذاً: هؤلاء استحقوا العقاب في الدنيا والآخرة، والرسول قال عنهم (كلاب أهل النار).

    إذاً: لو كان كل واحد يظن نفسه متبعاً لعالم وهو ضال ومعرض عن البينات التي وصلته ومتبع للهوى بغياً وحباً للرئاسة، لو كان كل هؤلاء معذورين فماذا نصنع بالأدلة؟

    إذاً: الرافضة والخوارج والقدرية وغيرهم كيف نعاملهم في ظل حديث: (إذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تتبعوهم)، والقدرية النفاة قال ابن عمر عنهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني؛ لأنهم ينفون العلم ونحو ذلك، وغيرهم من رءوس البدع وأتباعهم، وما ذلك الذنب إلا لتقصيرهم فيما يلزمهم بعد بروز الحق لهم.

    التنافس على الدنيا من أسباب الاختلاف المذموم

    من أسباب الاختلاف المذموم: البغي والتنافس على الدنيا.

    والباغي هو من يجاوز الحد الذي من المفروض أن يقف عنده إلى ما عداه، قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213], إذاً: الاستطالة على المسلمين والمؤمنين نهى الله عنها.

    قال: والذي يؤدي إلى البغي الكبر المنافي للتواضع والتنافس على الرئاسة والوجاهة، وسائر شهوات الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).

    والبغي سببه عدم التواضع والكبر والعياذ بالله، فيحب هذا الإنسان أن يكون هو الأعلى، ويقول: أنا الأول، أنا المقدم، وغيري تابع لي.

    قال صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، صدق الرسول صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم؛ فإن التنافس في الدنيا وعلى رئاستها ووجاهتها من أعظم أسباب هلاك من هلك، وتأمل في التاريخ كيف كان قتل عثمان رضي الله عنه ظلماً وبغياً، ومنافسة ممن قتلوه على رئاسة أرادوها وليسوا لها أهلاً، فهؤلاء الرءوس كانوا يريدون أن يكونوا هم الرؤساء، ويريدون أن يخلعوا عثمان عن الخلافة طمعاً فيها وهم ليسوا لها أهلاً, وما جره ذلك على الأمة من الفتنة التي لم تصب الذين ظلموا خاصة بل عمت الصالحين وغيرهم، ثم لما وقعت الفتنة، قالوا: كنا نظن أننا من أهلها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] ، ولذا كان علي بن أبي طالب يبكي على هؤلاء ويبكي على هؤلاء، ويصلي على هؤلاء ويصلي على هؤلاء رضي الله عنه.

    وتعطلت الفتوحات مدة بسبب ما حدث من قتال وفتن، فمضت خمس سنوات دون حصول فتوحات، فمن عهد أبي بكر وعمر وعثمان والإسلام ينتصر انتصاراً بعد آخر, ولما وقعت الفتنة بقتل عثمان توقفت الفتوحات حتى اجتمعت الأمة بعد ذلك, وذلك بسبب أهل الدنيا الذين أشعلوا نار الحرب بين الفريقين، وكلاهما يحاول إطفاءها، ولكن أهل الدنيا هم الذين كانوا يشعلون الفتنة.

    وتأمل كذلك حال المسلمين يوم سقوط بغداد في أيدي التتار، ذلك السقوط التاريخي الذي ما سمع في التاريخ بمذبحة مثله؛ قتل فيه مع الخليفة وحاشيته على أقل التقديرات ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وذكر صاحب البداية والنهاية القولين، وهذا كان في عاصمة الخلافة الإسلامية، وتأمل في حال المسلمين في تلك الفترة. ما حركوا ساكناً، وظل كل أمير وملك مشغولاً بملكه وملذاته وصراعاته حتى الخليفة نفسه يذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: أنه بينما كانت جارية ترقص بين يدي الخليفة أصابها سهم فقتلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    فكان التتار على أبواب بغداد والملوك مشغولون بدنياهم ورقص الجواري بين أيديهم حتى دخلت عليهم البلاد فقتلوا كما هم. نسأل الله عز وجل أن يرحمهم.

    وقد نصح الخليفة وزراء السوء بالخروج إلى هولاكو بالهدايا -ودائماً ما يكون خلف أمثال هذه المشاكل أهل البدع- فقبل صاغراً, وأهين أعظم إهانة حتى قتل رحمه الله وغفر له ولجميع المسلمين والمسلمات.

    وكذلك من تأمل أحوال ملوك الطوائف في الأندلس قبل سقوطها الذريع في أيدي الفرنجة، وما فعلوه بأهلها من الظلم والقتل وانتهاك لكل الحرمات، وأعظمها فتنتهم عن دينهم, فسقوط الأندلس كان أشد من سقوط بغداد؛ لأن بغداد إلى اليوم فيها مسلمون، والأندلس هي الوحيدة التي حصل فيها استئصال للمسلمين بالكلية وأبيدوا إبادة تامة بعد محاكم التفتيش التي كانت في الأندلس، وكان سببها لو نظرنا أهل البدع وموالاتهم.

    فأيام الخلافة العباسية كان فيها موالاة للشيعة وكان وزير المسلمين فيها ابن العلقمي الرافضي وهو الذي أشار على الخليفة أن يخرج لـهولاكو والعياذ بالله.

    فالوزير كان رافضياً وكان يريد ينتقم من الخليفة؛ لأنه كان قد وقعت وقعة قبلها بمدة بين أهل السنة والشيعة، فيريدون أن ينتقموا منهم، فقال له: اخرج له ببعض الهدايا, فأهين أعظم إهانة , ثم أشار بقتله الآخر نصير الدين الطوسي أو نصير الكفر بمعنى أصح, وكان شيعياً باطنياً من غلاة الشيعة، أما أمراء الأندلس فكانوا يوالون الكفار أنفسهم.

    فتجد أنهم كانوا يستعينون بالكفار على بعضهم في حروبهم، لأن الملوك والطوائف حكمت مدة طويلة وكان الكفار يأخذون بلاد الإسلام جزءاً إثر جزء.

    نقول: فكانت الصراعات فيما بينهم، وموالاة النصارى على بعضهم بعضاً من أعظم أسباب الانهيار، فالتنافس على الدنيا سبب البغي، والبغي سبب الاختلاف والفرقة وهي سبب الضعف وذهاب الريح وتسلط الأعداء، ولا علاج لذلك إلا بإخلاص النية لله سبحانه والتنافس على الآخرة، كما فرضه الله وقال الله: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] وقال: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

    فالتنافس على الآخرة لا يجلب حسداً ولا حقداً ولا طوائف ولا بغياً, وإنما يثمر حباً صادقاً وتآلفاً وإخاء، ووحدة في الصف, وقوة على الأعداء.

    والحقيقة أن كثيراً مما يجري بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة من اختلافات مريرة على المناهج والأفكار والأولويات والأعمال سببه الجهل وحب الرئاسة وحب كثرة الأتباع، فلولا هذه الأمور لما أثمرت هذه الثمار المرة في التعاملات التي تجري بين هذه الاتجاهات وأفرادها.

    ومن أعظم وأهم أسباب العلاج: أن نعلم حرمة دم المسلم، وحرمة والاستطالة عليه أياً من كان، طالما بقي في دائرة الإسلام ولم يخرج منها إلى الكفر، فنتعامل بشرع الله مع من عاملنا به، ومع من لم يعاملنا.

    فإذا كان هو يراعي حرمتي فأنا عليّ أن أراعي حرمته لأنه مسلم, وحتى لولم يراع هو حرمتي فأنا أراعي حرمته؛ فما عاقبت من لم يتق الله فيك بمثل أن تتقي الله فيه.

    لو أنك اتقيت الله فيه فهذا هو عقابه.. أحسن عقاب للذي يظلمك ألا تظلمه، والحذر واجب في تناول أحوال المخالفين من الوقوع في الغيبة باسم النصيحة, ومن تلمس العثرات، والفرح بالسقطات تحت شعار بيان الحق, ومن خديعة الشيطان للتنافس على المنازل والرياسات الدنيوية تحت شعار الحرص على إمامة المتقي، فهذه الأمور التي نقول هي حق يلتبس فيها في أحيان كثيرة الخطأ, يقول: أنا أريد أن أكون من أئمة المتقين وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فأنا سأقتل غيري حتى أكون أنا الإمام والخطيب والمدرس والقائد العسكري، لا. هذا لا يصح أبداً، فالنيات أمر مهم بلا شك، والنصيحة للمسلمين واجبة, وكشف الباطل وبيان الحق واجب، والحرص على إمامة المتقين من صفات عباد الرحمن وإن لم تكن بالضرورة عن طريق الرئاسة عليهم، فكم من إمام للمتقين وهو في زمرة المغمورين الخاملين غير المشهورين: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، ولكن المشكلة الحقيقية في النية والإخلاص والزهد الحقيقي في الدنيا وترك البغي.

    الجهل ونقص العلم سبب في توليد الاختلاف المذموم

    ومن أعظم أسباب الاختلاف المذموم: نقص العلم, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً ولكن ينتزعه بقبض العلماء, فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، متفق عليه.

    فلقد كان أول شرك وقع على ظهر الأرض بسبب نقص العلم بموت العلماء، فبدأت البدع في الظهور، كما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا؛ فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت؛ فأنت ترى كيف كان نقص العلم سبباً لظهور البدع العملية أولاً لا الاعتقادية.

    يعني: أول بدعة كانت بسبب الجهل، وما كان الناس يعتقدون فيها أي شيء, وكان غرضهم أن تحثهم هذه التماثيل على الاقتداء بالصالحين في عبادة الله عز وجل، فأصلها بدعة عملية، لكن سرعان ما تحولت إلى بدعة اعتقادية, وإلى شرك أكبر والعياذ بالله.

    ثم لما زاد النقص بموت جهابذة العلماء؛ لأن هؤلاء أثناء وجودهم لم يكن أحد يقدر أن يظهر هذه الأشياء, ولم تظهر البدع في وجود العلماء؛ فلما مات العلماء وبقي عندهم أنصاف العلماء الذين ليس لديهم كل العلم بدأت البدع العملية لا الاعتقادية؛ لأنهم كانوا يعلمون حقيقة توحيد الله عز وجل, ولم يستطع الشيطان أن يصور لهم أن هؤلاء الصالحين كانوا يعبدون من دون الله، فلذلك نقول: وجود العلماء أولاً منع من ظهور البدع، ووجود تلامذة العلماء كان على الأقل يمنع من فساد العقيدة، ثم بعد ذلك لما نقص العلم بموت تلامذة العلماء ظهرت البدع الكفرية الاعتقادية وظهر الشرك, وأوحى الشيطان إليهم أنهم كانوا يسقون بهم، فبدءوا بالتوسل ثم زاد الأمر إلى أن وقعوا في الشرك، وعبدوا غير الله, ولقد جعل الله الجهل صفة الكفار والمنافقين، قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:6]، فوصف الكفار بأنهم لا يعلمون، وقال تعالى: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فقلة الفقه في الدين علامة عدم إرادة الخير, وبالتالي كانت تؤدي إلى ظهور البدع والاختلاف، وكفى بذلك سبباً في ضياع الأمة وظهور البدع.

    وقد رأينا كيف كان ظهور البدع والنفاق سبباً لتسلط الأعداء، وقد ظهر هذا جلياً عندما تسلط الصليبيون على الأمة بعد ظهور الدولة الباطنية المسماة بالفاطمية, وتسلطها على كثير من بلاد المسلمين في مصر وأفريقيا والحجاز وأجزاء من الشام, فلم تقم للمسلمين قائمة إلا بعد زوال هذه الدولة الكافرة المنافقة على يدي صلاح الدين مبعوث نور الدين رحمهما الله تعالى.

    ونرى كيف كان استفحال خطر الصوفية في الدولة العثمانية حتى حاربت دعوة التوحيد التي قام بها محمد بن عبد الوهاب حتى عاونت العدو الصليبي الأوروبي الحاقد المتربع على أكثر البلاد الإسلامية.

    فهم لم ينسوا حربهم مع المسلمين, فأحد قادة الحرب العالمية الأولى من الحلفاء لما دخل دمشق ذهب إلى قبر صلاح الدين وضربه بقدمه وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين, فهذا دليل على الحقد العظيم الذي يكنونه للإسلام وأهله.

    وسبب كل هذا أهل البدع من الصوفية التي كانت تملأ السهل والوادي في ذلك الوقت, وكان ذلك هو السمة الغالبة على المسلمين في ذلك الوقت, فهذا خطر عظيم جداً سببه البدع التي منبعها أصلاً من الجهل، أو وجود زنادقة يحرصون على وجود البدع، ولكن لن توجد إلا مع الجهل.

    ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من البدع كسبب من أسباب تفرق الأمة، وأمر بالسنة على طريقة الخلفاء الراشدين، وقال: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).

    فقوله: (عضوا عليها بالنواجذ), فيه الحذر من البدع؛ لأن كل بدعة ضلالة, وهذه هي القاعدة النبوية السلفية في مواجهة الاختلاف, وهي عقيدة أهل السنة في التمسك بالسنة على طريقة السلف رضوان الله عليهم، وليس العلاج كما يتوهم البعض هو التوقف بين أهل السنة وأهل البدع. هذا هو منهج الإخوان في حال الاختلاف بين أهل البدع وأهل السنة أتباع السلف، فهو أصلاً يرى التوسط دائماً بين السلفية والصوفية، وبين عقيدة السلف وعقيدة الخلف، وبين السنة وبين الشيعة، وفي كل المسائل حتى بين الإسلام والعلمانية يحاول التوسط بقبول الشعارات الجاهلية على الأقل كالديمقراطية والحرية والمساواة، وأساس العلمانية هو هذه الشعارات, فتجد هذه الشعارات معكوسة أحياناً حينما ينادى بها كشعارات إسلامية، أو يطالب بها الإسلاميون, وهذه من أخطر الشعارات المنحرفة التي تؤدي إلى انحراف المنهج بالفعل، وقبول المنكرات التي تتضمنها هذه الشعارات.

    ليس العلاج كما يظن البعض هو التوسط بين أهل السنة وأهل البدعة، ومحاولة التوفيق بين الأقوال المتناقضة والمذاهب المتباينة، أو سكوت كل فريق عن الآخر، يعني: أنت على ما أنت عليه وأنا على ما أنا عليه , وكل واحد لا يتكلم في الآخر, واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

    الرد على القائلين بإمكانية التقارب بين السنة والشيعة

    توجد عدة محاولات للتقريب بين السنة والشيعة، والزعم بأن خلافهم خلاف سياسي مضى زمنه ومقتضياته, والسكوت عنه أولى. يقول: هذا خلاف سياسي على الإمامة. وانتهى الموضوع .لا، فهذا أمر اعتقادي، لابد أن نعتقد أن المجتمع المثالي الذي ننشد مثله هو عهد الخلافة الراشدة، وهو امتداد طبيعي للمجتمع المسلم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ونعتقد أن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي, وأنهم في الفضل كذلك: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي, وليس هذا الأمر بموضع خلاف حتى يقال: يمكن السكوت عنه، وقد يظن البعض أن هذا -يعني: السكوت عن الخلاف- هو مقصود السلف من قولهم بالإمساك عما شجر بين الصحابة من خلاف, وهذا باطل لا شك؛ لأنهم لم يختلفوا في أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم، والذي حصل هو الخلاف على أي الأمور يبدأ بها في الفتنة التي وقعت, هل القصاص من قتلة عثمان ، أم توطيد البيعة لـعلي رضي الله عنه؟ هذا الخلاف الذي حدث، والإمساك المقصود عند السلف هو عن وقائع الفتنة وتفاصيلها بعد مقتل عثمان, وليس عن الإقرار بخلافة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ويلزم كذلك الإقرار بفضل أبي بكر وعمر على علي رضي الله عنه، فالمخالف في أي من المسألتين، مسألة الخلافة بالترتيب، وتفضيل أبي بكر وعمر على علي مبتدع.

    والشيعة إما أن تطعن في الخلافة مثل الإمامية، أو تنتقد الخلافة مثل الزيدية القائلين بتفضيل علي على أبي بكر وعمر ، مع أن الخلافة عندهم صحيحة لـأبي بكر وعمر وعثمان ، لكن علياً أفضل منهم جميعاً، وهذا قول مبتدع باتفاق أهل السنة, فضلاً عن المسائل الأخرى التي يبدع فيها الرافضة, فضلاً عن المسائل الكفرية التي يقول بها غلاتهم.

    أما الرافضة فإن الكتب المعتمدة عندهم مليئة بأنواع الضلالات والكفر من الغلو في الأئمة، وإن كان الأمر يحتاج إلى إقامة حجة كما تقام الحجة على الصوفية ونحوهم، بل عقيدة الصوفية أصلاً أخذت معظم ضلالاتها عن الشيعة، والرافضة، وما انتشرت الصوفية بغلوها إلا بعد ظهور الدولة الباطنية المسماة بالفاطمية التي كانت تعلن الرفض وتبطن الإلحاد.

    إذاً: تفضيل علي على أبي بكر وعمر بدعة، أما الذي يفضل علياً على عثمان فهو مخطئ لكن لا يضلل ولا يبدع؛ لأنه من شيعة أهل السنة؛ فمن السلف الأوائل من يقدم علي على عثمان في الفضل، أما المتأخرين فقد حصل عندهم اتفاق على تقديم عثمان على علياً في الفضل كما هو في الخلافة.

    فمن قال: الخلفاء أبو بكر ثم عمر ثم علي يبدع، ولا يوجد أحد يقول بهذا، فالذي يقول بالخلافة إما أن يطعن في خلافة الثلاثة، أو يقول: الخلفاء الثلاثة خلافتهم صحيحة لكن علياً أفضل.

    فضلاً على أن الزيدية دخلوا في مذهب الاعتزال، وهذا أصل ظهور مذهب الزيدية، وهو تقديم علي على الثلاثة في الفضل, ولكنهم يشهدون بخلافتهم ولا يتبرءون منهم.

    وسبب تسمية الرافضة بذلك: أنهم رفضوا إمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما طلبوا منه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى فرفضوا أن يجعلوه إماماً فسموا رافضة، وأتباع زيد ظلوا على الإقرار بصحة إمامة أبي بكر وعمر ولكنهم غلوا في فضل علي, فقالوا: علي أفضل, وعلي رضي الله عنه ثابت عنه أنه قال: لا يؤتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلاجلدته حد الفرية، وثبت عنه عن ابنه محمد بن الحنفية أنه قال: يا أبت! من أفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أوما تعلم يا بني؟ قال لا، قال: أبو بكر قال: ثم من؟ قال: ثم عمر ، قال: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. وهذا ثابت في البخاري , ومجمع عليه بين أهل السنة.

    فالمسألة التي يخطأ فيها المخالف ولايضلل هي مسألة تفضيل علي على عثمان، فترتيبهم في في الفضل مثل ترتيبهم في الخلافة.

    أما الزيدية فعندهم بدع اعتزالية, مثل إنكار صفة الرؤية في الدار الآخرة، والقول بخلود مرتكب الكبيرة في النار, وهم أصبحوا معتزلة في سائر العقائد ما عدا مسألة التفضيل, فإن المعتزلة أكثرهم لا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر .

    وهؤلاء الرافضة عندهم غلو شديد في الجملة في آل البيت, وعندهم أقوال مكفرة، فكيف يتصور بعد هذا أن يوجد من ينادي بالتقارب معهم؟

    ومع ذلك وجد من قيادات الإخوان المسلمين من يدعو إلى التقارب مع الشيعة، والأستاذ حسن البنا كان عضواً في لجنة التقريب بين السنة والشيعة, وفي بعض الكتب تصور مع أعضاء لجنة التقريب بين السنة والشيعة, والتقريب هذا كله مبناه على أننا ننظر إلى ما نحن متفقون عليه. نقول: والذي نختلف فيه ماذا نعمل فيه؟ يقول الدكتور القرضاوي : نستخدم مع الشيعة القاعدة الذهبية: نجتمع فيما اتفقنا فيه, ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

    وهذا يؤكد لنا منهجهم الموجود في التعامل, وهم يتعاملون مع جماعات كثيرة جداً من أهل البدع في مثل هذه المسائل، التبليغ توصل لأصول الدعوة بقولها: يجب ألا يخوض الناس في أمراض الأمة، ولا في الشرك ولا في البدع, ومن صنع ذلك فهو خارج عن خط الجماعة، ولا شك أن كثيراً منهم لا يظهر الموافقة على هذه المسألة، وبالنظر إلى أصل أئمة الجماعة يعرف سبب ذلك، فقد كانوا أناساً صوفيين أو أحد الجماعات الصوفية.

    فجماعات كثيرة من الجماعات الصدامية لا ترى غضاضة في اجتماع أهل السنة وأهل البدع في سبيل إزالة الحكم العلماني، مع أن السكوت على البدع الشركية يؤدي إلى خلل عظيم جداًً، هذا الكلام يطبق عملياً في جماعات الجهاد في أفغانستان- وإن لم يكن هناك جهاد في الحقيقية- فهي لم تجد غضاضة في التحالف مع الإسماعيلية، رغم أنهم كفرة، ومع ذلك فقد تحالف الجهاديون مع الطائفة الإسماعيلية والشيعة ومع إيران, فمنهج هؤلاء الجهاديين قائم على هذا، ولذلك حكمتيار لما تدهور الحال في أفغانستان ذهب للإقامة في إيران.

    فهذه المناهج أصلاً منبعها إخواني، فبعضها كان صدامياً, وبعضها نتيجة الجهل قامت بتحالفات خاطئة إلى أن وصل الأمر بهم إلى التحالف مع الشيعة بغرض الوصول -في تصوره هو- إلى إقامة الحكم.

    يقول: لم تعد هذه بدع ولا فرق بيننا وبينهم، لكن العلاج الحقيقي هو في الحذر من البدع.

    إذا: القاعدة الذهبية هي: (عليكم بسنتي... وإياكم ومحدثات الأمور)، لا أننا نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، هذه القاعدة عندما تطبق في الخلاف السائغ يكون فيها اجتماع, مع أننا في الخلاف السائغ يلزمنا أن نبحث عن الأدلة ونحو ذلك، ومع ذلك لابد أن يعذر بعضنا بعضاً فيما عذر فيه السلف بعضهم بعضاً، أما في الخلاف غير السائغ مع أهل البدع خصوصاً فهذا من أخطر الأمور في المناهج غير الموافقة للسلف .

    وفي الحقيقية فإن مشايخ الأزهر ولجان التقارب بين السنة والشيعة التي كانت تحت راية الأزهر يرون ذلك, وما زالوا يرون أن الشيعة لهم مذهب معتبر، والفتاوى تصرح بأن الشيعة الإمامية أحد المذاهب المعتبرة.

    وأول من اخترع مصطلح المذاهب الثمانية هو محمد أبو زهرة مؤلف التراجم عن أتباع المذاهب الثمانية, ومن هي المذاهب الثمانية؟

    أقرب المذاهب إلى طرق أهل السنة هو المذهب الزيدي بعد المذهب الظاهري، ولما دخل الشوكاني والصنعاني في مجال الفقه المقارن بكتبهم المشهورة -التي أثرت علم الفقه المقارن- كان هذا سبباً في انتشار المذاهب الزيدية التي لم يتعود أهل السنة من قبل على ذكرها، وعلى ذكر الأئمة من الزيدية، وبعده يأتي المذهب الإباضي، ثم مذهب الإمامية، فأصبحت بذلك ثمانية.

    وهذا منهج موجود أصلاً في جهات متعددة، وليس وليداً أو حادثاً, فالأمر لا شك خطير للغاية. هذا غير الخطر الناتج من تقريب هؤلاء المبتدعين، وهل حصل فعلاً تقارب حقيقي أم أنه تقية منهم؟ فهم لا يتغيرون وعداؤهم لأهل السنة وتكفيرهم لهم بات، ومحاولة النيل منهم بكل طريقة عبر التاريخ مذكورة.

    وموقفهم في أفغانستان واضح جداً، فحزب الوحدة الشيعي ما صنع شيئاً مطلقاً أمام الشيوعيين, وترك الجهاد نهائياً، ولما بدأ التنافس الداخلي ظهر حزب الوحدة الشيعي، وظهرت أطماعهم الشديدة، فلم يشارك في الجهاد وإنما كان يعد نفسه للوثوب على السلطة أو جزء منها عندما تقسم الكعكة.

    والتاريخ يثبت دائماً موقف الرافضة في صف أعداء الإسلام، وسوء معاملتهم لأهل السنة إذا ظهروا عليهم، فأهل السنة في إيران إلى اليوم من أشد الناس اضطهاداً، فهم يضطهدون أشد مما يضطهد المتدينون الآن في البلاد الإسلامية المختلفة، فأهل السنة هناك في السجون تصب عليهم أنواع التعذيب والقتل، ولا أحد يعرف عنهم خبراً رغم أن الدولة تحاول أن تخدع أبناء المسلمين بأنها ثورة إسلامية، وليست إلا شيعية رافضية جعفرية اثنا عشرية.

    وما مواقفهم في تأييد التتار، وفرحهم بمذابح المسلمين على أيديهم إلا برهان على ذلك، وقد كان من وزراء الخليفة الفاطمي وزيران شيعيان من الرافضة ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي الذي في كلامه أنواع من الخبث والعياذ بالله، ولما جاء هولاكو خرج إليه الاثنان بل وصاروا وزيرين عنده وناصحين له ومشاورين، بل هما من أشار على هولاكو بقتل الخليفة, بينما كان هولاكو يخاف إن هو قتل الخليفة أن تحصل ثورة إسلامية عارمة بسبب قتله؛ لأن لم يقع من قبل في التاريخ أن العدو يتسلط على المسلمين وبلادهم، ويقتل الخليفة وإنما كانت الخلافات الداخلية هي التي تؤدي إلى قتل الخليفة, أما أن الخليفة نفسه رمز الدولة الإسلامية يقتل على يد كافر، وعلى يد أعداء الإسلام، فهذا لم يحصل إلا بعد دخول التتار فـهولاكو كان متردداً في قتله، والذي شجعه على قتله هو الوزير الرافضي نصير الدين الطوسي , وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يسميه نصير الشرك، وكان من الوزراء المقدمين لديه، وفرحه بهذا كان أصلاً بسبب في فتنة سابقة بين السنة والشيعة، قتل فيها من الشيعة خلق كثير قبل دخول التتار، فلما جاء التتار هم الذين خرجوا لهم، وأعانوا على مذابح المسلمين الرهيبة حينذاك.

    هذا مثال عملي، فالشيعة المثال الواقعي لهم اليوم هو ما يحدث في أفغانستان، ولا يصح ولا يجوز أن يكون اختلافنا مع الرافضة مجرد خلاف سياسي، كما حصل بالضبط في بداية الثورة الإيرانية، فكل الجماعات الإسلامية كانت مواقفها مؤيدة للثورة الإسلامية، وأن إمام المسلمين هو الخميني !! ونحو ذلك من الألفاظ الخطيرة, وكانت بداية الاختلاف مع الثورة الإيرانية، وبداية ظهور الإنكار على بدعهم موقفاً سياسياً من الحكومة الإيرانية بسبب التحالف مع النظام السوري المضطهد للإخوان المسلمين، لما حدث هذا التحالف والسكوت والتغاضي عما يفعله هذا النظام السوري في الإخوان بدأت المشاكل تظهر، وبدأ يقال فيهم: إنهم شيعة رافضة، وإن هذه ليست ثورة إسلامية، فالخلاف في الحقيقة كان خلافاً سياسياً وليس خلافاً عقائدياً، فلا يصح أن نختلف معهم عندما تختلف المصالح، ولما تتفق المصالح فلا فرق بيننا، ونحن ديننا واحد، هذا كلام خطير جداً وفاسد.

    والنظام الإيراني إنما قدم مصلحته، والنصيرية أصلاً متورطون مع الرافضة في كثير جداً من الأمور مثل تأليه علي بن أبي طالب ، وهم القائمون على النظام السوري، فهم عندهم أن هؤلاء مسلمون، ومنهم من يقول: إن الذي يقول بتحريف القرآن مخطئ! وإن كان عندهم من كبار الأئمة كصاحب كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب، وهو عندهم من المصادر المعتمدة والعلماء الكبار عند الشيعة، فيمكن أن يقال عنه: هذا خطأ من قائله، لكن ليس عندهم أن هذا كفر, ولا يزال الرجل على منزلة عندهم حتى ولو كان يقول بتحريف القرآن، أو بتأليه علي بن أبي طالب أو فاطمة أو الأئمة؛ لأنهم أنفسهم عندهم نوع من ذلك، فهم تحالفوا معهم رغم إيذائه لأي عمل إسلامي ودعوة إسلامية، فلما حصل الخلاف بسبب الموقف من النظام السوري، بدأت جماعة الإخوان في الاعتراض على الثورة الإيرانية، لأجل ذلك نقول: لا يصح ولا يجوز أن يكون اختلافنا مع الرافضة مجرد اختلاف سياسي، وكونها تتفق المصالح يمكن أن يزول بذلك الخلاف كما تفعل وفعلت بعض البلاد الإسلامية مع الثورة الإيرانية، بل هو اختلاف أصلي اعتقادي، ولابد أن نعاملهم معاملة أهل البدع.

    وكذلك لا يتصور نصيحتهم للحركة الإسلامية، والبحث عن تأييدهم ومساندتهم كما قد حاول أو يحاول البعض ذلك، فإن دورهم كان ولا يزال هو دور المخادع الخبيث الذي يريد نشر بدعته وضلاله، وإن أعلن الشعارات الإسلامية العامة، وما موقف الرافضة من إذكاء نار الخلافات في بلاد الأفغان والتحالف مع الشيوعيين بوجه عام إلا خير دليل على ما نقول.

    الخلاف بين أهل السنة والصوفية خلاف في القضايا الكبرى

    كذلك التقارب بين السلفية والصوفية؛ لأنه أيضاً مخالف للقاعدة الذهبية النبوية في التحذير من البدع, والتمسك بالسنة على منهج الخلفاء الراشدين، وليس الخلاف بين أهل السنة والصوفية هو في مجرد أمور يسيرة يعذر فيها، بل في قضايا توحيد الربوبية والإلهية، فاعتقاد أن الكون له أقطاب يدبرونه، هذا من الشرك في الربوبية، وكذلك من الشرك اعتقاد جواز الدعاء والذبح والنذر والطواف للأولياء، بينما يقول عمر التلمساني: إن هذه مسألة تذوق, فالذي يجد راحة نفسية عند قبور أولياء لا حرج عليه في الذهاب إليها وشد الرحال إليها، هذه مسألة وهو حر يعمل ما يريد، ومعروف ما الذي يحصل عند قبور الأولياء، ومعروف أن هناك شركاً، لكن هو لا يرى أن ذلك من الشرك.

    هناك قضايا أساسية تمنع التقارب مع الصوفية، فهم مثلاً عندهم غلو فظيع جداً في المقبورين، كذلك في قضية القضاء والقدر فهم جبرية، كما أنهم يرون سقوط التكاليف عن أئمة الصوفية، وكذلك نفارقهم في معاني ولاية الله، فنحن عندنا ولاية ربنا سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، بينما الأولياء عند الصوفية هم الذين تقع منهم خوارق العادات ولو كانوا من أفجر الفجرة.

    ربما تجد الواحد من الصوفية مسجل في قائمة الخطرين في شرطة الآداب، وعنده مخدرات، ونصاب وجرت على يديه شعبذة. وأنواع من السحر، وحينها يصبح ولياً من أولياء الله!

    وأنا أعرف أحد الأقارب -كان والدي يحكي لي عنه- الله أعلم به على أي شيء مات، لكنه كان تاركاً للصلاة، وللصيام، والعياذ بالله! وله مولد كبير جداً في محافظة المنيا حالياً, فلما كان يقول له: صل, يقول له: الصلاة وسيلة, ومعنى كلامه: أنا وصلت, وهذا كفر بواح والعياذ بالله وخروج من الملة, لذلك فإن معاني الولاية معاني خطيرة جداً عند الصوفية.

    كذلك العلاقة بين الحقيقة والشريعة، فالحقيقة هي الأمور الباطنة عند الصوفية، والشريعة هي الأمور الظاهرة، فعندهم انفصال في هذا الأمر فأصحاب الشريعة لا يفهمون شيئاً وهم الفقهاء، وأصحاب الحقيقة هم الصوفية الذين لا تلزمهم الشريعة، فهذا الانفصال أمر خطير، إذ لا يجوز الانفصال بين الحقيقة والشريعة، ولا يكون صاحب حقيقة باطنة شرعية من يخالف الشريعة الظاهرة؛ لأن هذا خلاف في الاتباع؛ لأنهم يرون أن السنة لا يمكن الاتباع لها إنما لابد من طلب الشيخ, ومن ليس له شيخ فشيخه الشيطان ونترك الكتاب والسنة, ولو عارض كلام المشائخ الأحاديث الصحيحة تترك؛ لأن الشيخ أفهم.

    كذلك قضية الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي هي عمدة عقائدهم الفاسدة، وأنواع الضلالات التي تبنى على هذه الأحاديث الموضوعة.

    كذلك قضية الاتباع وعندهم هي قضية مهملة بل مضيعة.

    ومنهج التزكية أيضاً عندهم فيه خلل خطير، إذ عندهم أعمال القلوب التي تمدح وتطلب من مثل الفناء والدهش والهيمان ونحو ذلك، أما عبادات العوام فهي تنتقص وتزدري لدى السائرين وهي مثل الصبر والحب والخوف والرجاء؛ لأن فيها شعوراً بوجود الإنسان نفسه، وهي ليست على أعتاب الفناء.

    وهذه المسائل كلها تجعل من المستحيل أن تجتمع الصوفية مع المنهج السلفي السني.

    كذلك مسألة مراتب الأولياء، فهم فوق الأنبياء، وهذا ابن عربي يقول: إن مرتبة الولي دون الرسول وفويق النبي! والعياذ بالله، فقدر الأولياء عندهم أعلى قدراً من الأنبياء.

    هذا فضلاً عن العقائد الكفرية التي يتبناها أئمتهم من الحلول والاتحاد والإباحية والجبر والفناء وغير ذلك، ومن أئمة الجبر الحلاج مثلاً، وهو عند كل الصوفية من كبار الأئمة، الذي يدافع عنه البعض دفاعاً مستميتاً, ويعد الذي حصل له مأساة كبيرة جداً؛ لأنه كان يقول: لا إله إلا الله ما في الجبة إلا الله، وهذه الجبة جبته هو، والعياذ بالله!

    وأما الاتحادية فأكثر من الصوفية، مثل: ابن عربي ، وابن الفارض ، وابن سبعين ، فـابن عربي اسمه الكبريت الأحمر والقطب الأكبر، وأما ابن الفارض فهو سلطان العاشقين، وأقوال الدسوقي وابن عطاء الله والمرسي أبو العباس وغيرهم من الاتحادية في أورادهم وكلامهم في وحدة الوجود فظيعة جداً.

    وجميع الطرق الشاذلية التي ينتمي إليها ابن عطاء وأبو العباس المرسي ، إلى يومنا هذا يتناقلون جزءاً من الأوراد المنقولة عن الحسن الشاذلي نفسه -الله أعلم بصحته- وهي مما يتفق عليه بينهم رغم تشعب الطرق الشاذلية، وهي أكثر الطرق انتشاراً في مصر، فيقول في هذا الورد: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة.

    وهذه الوظيفة اليومية لديهم، وكلما بحثت عنها أجدها في جميع الأوراد: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، نعوذ بالله، كلام كفر بواح، وأغرقني في عين بحر الوحدة، أي: وحدة الوجود.

    أما الجبر والإباحية التي هي الجبر المطلق ومشاهدة العبد للحكم، فهذه قاعدة بشعة، مع أن ابن القيم يحسن الظن بهم جداً وبشيخه الهروي الذي يقول: إن مشاهدة العبد للحكم لم تدع له استحسان حسنة واستقباح كبيرة، الحسنات والسيئات كلها أصبحت سواء؛ لأنه يشاهد حكم الله سبحانه وتعالى، فهي محتملة التأويل، لكن المفهوم عنده هكذا، وتأويله صعب وتكلف حتى نتأول: أنه لم يستحسن حسنة ولم يستقبح السيئة، ولا بد أن يستحسن الإنسان خلق الله في الحسنة والسيئة؛ لأنه من صفات الله عز وجل أنه خلق الحسنات والسيئات.

    هذا حسن من الله أم لا؟ لا بد أن يكون حسناً؛ لأن هذا فعل الله، وأفعاله كلها كمال، ولكن المشاهدة لم تدع له استحسان حسنة، فواضح أنه يتكلم على المخلوقين، إذاً: هذا لا يقع في السيئة، ولا الشرك، ولا الكفر، وهذا الحكم القدري الكوني.

    ومن العقائد: عقيدة الفناء، وأحسن أحواله: الفناء عن شهود السوى. أي من سوى الله، يعني: إن أحسن أحواله أن نحمله على أنه غاب بمذكوره عن وجود غيره، من كثرة الذكر لم يعد يشعر بالذي حوله, ولما ينتبه يعرف الحقيقة فهذه محاولة التأويل في الحقيقة لكلامهم.

    أما كلامهم الصريح فلا، فمثلاً أبو اليزيد البسطامي ينقل عنه أنه يقول: سبحاني، سبحاني ما أعظم شاني!!

    وابن القيم يقول: إنهم كانوا مجانين وقتها. فهذا التأويل الوحيد أنه مجنون لما قال ذلك الكلام، لكن من يقول: سبحاني، سبحاني ما أعظم شاني!! يستحق القتل بلا شك، ثم هم في منازل عالية أنت لا تفهمهم، وأنت لم تصل إلى درجتهم حتى تفهم معنى: سبحاني.. سبحاني ما أعظم شاني!!

    واحد من الصوفية هنا ممن خبا صوته يقول: لما سيدنا أبو اليزيد البسطام يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني! قصده أن الإنسان يتخلق بأخلاق الله وبصفات الله! يعني: هو يقر بكلمة أبو اليزيد البسطامي وأنها كلمة جيدة، ومعناها هكذا, فيؤولها مع أن هذا في الحقيقة كلام كفر لا يؤول، بل يمكن تأويل كلام اليهود والنصارى القائلين بالأقانيم الثلاثة ولا يمكن التأويل لمن يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني!!

    وسلطان عاشقيهم وهو ابن الفارض في التائية يقول:

    ذاتي لذاتي صلت

    ولها كان سجودي في كل ركعة

    وإذا خر في البيد للأصنام عاكف

    فلا تعد بالإنكار للعصبية

    يعني ذاك من التعصب، فلا تنكر على من يركع ويسجد للأصنام، ومعناها: دع الناس تعبد الأصنام.

    والتائية هذه فيها من الكفر أنواع عجيبة والعياذ بالله، وهو يقول عن نفسه: سلطان العاشقين.

    إذاً: هذه هي الصوفية، وهل أحد من الصوفية يستطيع أن يتبرأ من ابن عربي أو ابن الفارض أو الدسوقي أو الشاذلي؟ لا يمكن حتى أن يتبرأ من هذه الأقوال، بل يقول: سيدنا أبو اليزيد البسطامي يقول بعضهم: سبحاني.. سبحاني ما أعظم شاني!! لكن معناها كذا. هذا لمن عندهم، وهذا الكلام مذكور في كتبهم المطبوعة وليس في كتبنا نحن، مثل فصوص الحكم لـابن عربي .

    ثم بعد ذلك نقول في تربيتنا الروحية للأستاذ سعيد حوى: دعوة سلفية وحقيقة صوفية.

    ويقول: إن الشيخ حسن البنا نقح هذا الكلام، وفي الحقيقة هو لم ينقح شيئاً بل هناك تعتيم على مثل هذه المسائل لدى الأتباع، لكيلا يكون الأمر غير واضح لديهم، وأن هناك فروقاً هائلة، وأن أصل الصوفية الفلسفية لدى المتأخرين ممن ضربنا أمثلتهم هي خروج عن ملة الإسلام، وهذا هو الذي فتح باب الغلو المعروف الآن في مظاهر عبادة القبور ونحو ذلك.

    هذه أحد أنواع الخلافات، لكن أنواع الخلافات التي عند الصوفية هي في الربوبية والإلهية والقضاء والقدر، ومعاني ذات الله، والعلاقة بين الحقيقة والشريعة والاتباع، والتزكية، ومراتب الأولياء فضلاً عن خلافاتنا معهم في قضايا مثل الحلول والاتحاد والإباحية والجبر والفناء وغير ذلك من أصول الإسلام الكبرى والإيمان باليوم الآخر، وفي أصول الإيمان والإسلام هناك خلافات هائلة مع الصوفية، وإن كنا لا نعمم الحكم على جميعهم بأنهم من أهلها، فنحن لا نقول: الصوفية كلهم يقولون بوحدة الوجود، مثلما يميل البعض إلى ذلك، فنحن نعلم أن منهم من لا يقوله لكن عندهم من البدع والضلالات أضعافاً مضاعفة، إلا أنهم يتسترون بأئمتهم وإن نفوا عنهم حقيقة مذهبهم.

    والعلاج الواجب في هذا السبب، ليس بأن نتوقف ما بين السنة والبدعة، أو أننا نقرب ما بين الاثنين، أو أن نقول للناس: هذا العلم مشكلة من المشاكل.

    العلاج الواجب في هذا السبب من أسباب الافتراق بين المسلمين: هو الانتصار للسنة، ومحاربة البدعة وقمعها، فهذا خلاف لا ينبغي ولا يجوز؛ لأن موقفنا مع أهل البدع هو: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

    فالاجتماع المأمور به ليس مجرد الاجتماع ولو على أي منهج، بل نجتمع على منهج واحد وطريق واحد هو طريق أهل السنة والسلف رضوان الله عليهم، ولن يتحقق ذلك إلا بنصر العلم بالكتاب والسنة، والعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، بالتفسير السلفي السني.

    إن البعض قد لا يتكلم في مثل هذه الأمور نهائياً، ولا يتكلم عن هذه البدع مع أنها موجودة وكثيرة جداً ولا يمكن إغفالها، فلا بد أن ننشر العلم من الكتاب والسنة في كل الأمور، ونبين البدع كذلك.

    ضرورة طلب العلم لحل الخلافات بين الجماعات الإسلامية

    إن طلب العلم صفة ضرورية لكل الدعاة إلى الله، بل لكل مسلم ومسلمة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، حديث صحيح.

    وقد تظن بعض الاتجاهات الإسلامية أن الاهتمام بطلب العلم قد يضر بقضية السمع والطاعة -التي هي الجندية- المطلوبة لتحقيق التعاون على البر والتقوى، يعني: لكي يتم فعلاً تعاون على البر والتقوى لابد من جندي، ولابد من سمع وطاعة، ويرى أن من الذين سيطلبون العلم سيطالبون بالدليل على كل مسألة، ويقولون: قال الله، وقال الرسول، وهذا الكلام يخالف الحديث الصحيح، فيقول: إذاً: أحسن ألا يطلبوا العلم، فجماعة التبليغ يقولون: ما يصحبنا عالم، والإخوان عندهم نفس الأمر.

    وأن الأيسر عليه في قيادة أتباعه ألا يكون منهم من يناقش ويسأل عن الدليل، ولماذا فعلنا كذا؟ ولماذا تركنا كذا؟

    كما أن مسألة العاطفة مقدمة في التربية عنده على الفهم والعلم، أي: أن يكون عنده عاطفة إسلامية قوية، ومستعد لأن يبذل نفسه كلها حين تطلب منه، يعني: هو سيربي فيه العاطفة وعدم الفهم، أو العلم، وينشأ على ذلك. وهذه العاطفة نحن نحبها منه لأنه يحب الإسلام، لكن نكره منه جهله وبدعه، فإننا نجد أن التبليغ أو الإخوان لديهم عواطف جياشة قوية جداً، وحب للخير وللدعوة وللبذل في سبيل الله وللتضحية، ولو كانت تضحية في مظاهرة من المظاهرات، نتيجة لعدم الفهم.

    نقول: وهذا من أخطر الظن وأسوأ الظن، فإن الصحوة الإسلامية ليست بحاجة إلى جهلة يقودهم قادتهم كقطعان الماشية بلا دراية ولا معرفة، بل هذا يحرم الصحوة الإسلامية من أسباب نورها وصفائها, ومن موجبات الوقاية من الانحراف، ويفرغ الدعوة الإسلامية من مضمونها مع بقاء اسمها وشكلها؛ لأن من عنده علم -إن وجد بينهم- هو من سيقول للمخطئ: توقف أنت مخطئ، فيمكن للتابع أن يقول للمتبوع: لا هكذا غلط، فيوجد عندها محافظة على النقاء، ولن يدخل لنا في يوم من الأيام ضال مبتدع يترأس علينا، والناس يمشون وراءه في طريق الضلالة بدون فهم، وهذا يوفر جواً مناسباً لأهل الزندقة أن يترأسوا في يوم من الأيام، وللأسف هذا حصل مرات عديدة مثلما حصل في ثورة ثلاثة وعشرين يوليو، فالضباط كان معظمهم أعضاء ضمن جماعة الإخوان المسلمين, وبعضهم ضمن التنظيم السري مثل عبد الناصر شخصياً, ولكن نتيجة عدم وجود أي تفكير: هل يصلح مثل هذا الإنسان للترأس والظهور باسمنا أم لا؟ فقد يكون هو أصلاً في باطنه الزندقة والنفاق والضلال وحب الرئاسة فيخسف بكل معاني الدعوة، وهذا يؤدي إلى انحرافات عديدة.

    كذلك الثورة الجزائرية بدأت ثورة إسلامية، ولكن سرعان ما تحولت إلى ثورة علمانية، والذين قطفوا الثمرة هم العلمانيون فذبحوا الإسلاميين وأنهوهم تماماً، وكل مرة تتكرر هذه المأساة يكون ذلك بسبب مثل هذه الأمور, لذلك نحن لا يلزمنا لأجل مصلحتنا ولكي نحقق الطاعة أن يكون الناس جهلة، بالعكس نحن نريد سمعاً وطاعة على بصيرة.

    لذلك نقول: هذا من أخطر الأمور علينا جميعاً.

    وإن كان هناك بالفعل عيب لدى الكثير من طلاب العلم يتمثل في عدم الامتثال وكثرة الاعتراض وضعف التعاون على البر والتقوى.

    فهناك من يناقش ويجادل حتى ولو كان في أمر شرعي صحيح وظاهر، بل أصبح سمة عامة أن أي طالب علم لا يكون عنده تعاون على البر والتقوى, وهمٌّ لمصالح الدعوة، وليس هذا لعيب في طلب العلم بل لنقص في التربية.

    إذاً: نحن نريد أن يكون عندنا الأمران معاً؛ طلب العلم والسمع والطاعة والالتزام، وجدية ومعاونة على البر والتقوى، فلا يصح أن نحثهم على العلم فقط، بل لابد من إذكاء روح العمل الإسلامي الشامل في نفوس طلاب العلم، وبيان مسئوليتهم عن أمتهم، وأن عاطفتهم نحو قضايا المسلمين هي في الحقيقة جزء من إيمانهم وإسلامهم. فلا تجد طالب علم فعلاً ليس له علاقة بقضايا المسلمين، فهذا ليس طالب علم، فلابد لطالب العلم أن يشعر بالعاطفة الإسلامية، وهذه العاطفة تشتمل على معان إيمانية، ومعاني حب الخير للمسلمين، والتألم لآلام المسلمين، والحزن لحزنهم. فكون طالب العلم حاملاً لهم المسلمين. هذا جزء من معاني الإيمان والإسلام.

    كما أن عملهم في الدعوة المنظمة التي تهدف إلى إقامة القلوب الضائعة في الأمة الإسلامية هو علامة عملهم بالعلم وإلا كان حجة عليهم لا لهم، وأن التزامهم بالسمع والطاعة لمن هو أعلم منهم وأمكن في قيادة العمل الإسلامي لتحقيق الواجبات هو علامة على انتفاء الكبر المذموم والحسد وحب الرياسة من قلوبهم.

    فبهذا تعالج المشكلة وليس بالإبقاء على الذم والتحذير من طلاب العلم أو السخرية منهم، كمن يقول عنهم: أصحاب الكتب الصفراء، أو من يقول لمن يحفظ البخاري : زدنا من بخاريك! أو يخترع صفة للسخرية من طلاب العلم، كان هناك كاتب اسمه: ناصح أمين من الإخوان يقول: إن رجلاً أصر أن يدخل مع امرأته في شوال. نكته ما حصلت ولا ستحصل؛ لأنه جاهل لا يفهم، لأنه قرأ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في العاشر من شوال، واستحباب الدخول في شوال، فأصر أنه يدخل في شوال. هذا نوع من السخرية للذين يقرءون الكتب لكي يترك الناس القراءة والتعلم، ولا يبحثون في المسائل ونحو ذلك.

    استمرار لدعوتنا نقية صافية دون تخريج الأجيال من طلاب العلم الواعين لمنهجهم العاملين به الداعين إليه، والله المستعان.