الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فقد ذكرنا سابقاً أن من أسباب ظهور الاختلاف المذموم البغي والتنافس على الدنيا، ومن الأسباب كذلك نقص العلم وقلنا: إنه لابد من التربية على طلب العلم والتربية على العاطفة الإسلامية والعمل الإسلامي.
أما السبب الثالث من أسباب الاختلاف المذموم فهو: ظهور رءوس البدع، ورءوس الضلال الدعاة على أبواب جهنم.
من أعظم أسباب الخلاف غير السائغ بين المسلمين ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة حين سأله عن الخير والشر فقال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا)، والحديث متفق عليه.
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة.
وقال ابن حجر قوله: (هم من جلدتنا) أي: من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا.
وقال القابسي : معناه: أنهم في الظاهر على ملتنا، وفي الباطن مخالفون.
وقال أيضاً: الذي يظهر أن المراد بالشر الأول: ما أشار إليه من الفتن الأولى بين الصحابة، وبالخير: ما وقع من الاجتماع على معاوية رضي الله عنه سنة أربعين من الهجرة، وبالدخن: ما كان في زمانهما من بعض الأمراء كـزياد بالعراق، وخلاف من خالف علياً من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم: من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم. انتهى باختصار من فتح الباري.
ولا شك أن أهل البدع المعاصرة المنتسبين إلى الإسلام الداعين إلى الكفر والنفاق من أصحاب المذاهب الإلحادية كالعلمانيين، وأصحاب القوانين الوضعية، والديمقراطيين، والاشتراكيين، والوطنيين، والقوميين الذين يريدون هدم الرابطة الدينية للمجتمع، وإقامة الرابطة الوطنية المدنية، ومن ينادي بلزوم اتباع الغرب وتقليده، وكذا سائر الأحزاب القائمة على خلاف مبادئ دين الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى دعاة البدع القديمة التي تطل في ثوب جديد، أو في ثوبها القديم كالرافضة والخوارج والقبوريين، لا شك أن كل هؤلاء ينطبق عليهم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم في زماننا، وقد قوي سلطانهم، وتملكوا بلاداً وأقطاراً نشروا فيها النفاق الأكبر، وأحياناً الكفر البواح بلا مداراة، فضلاً عن صفات النفاق والفسوق والعصيان التي ملأت المجتمعات الإسلامية، وتفرق الناس في صراعات جاهلية، أهلكت القلوب والأبدان والعباد والبلاد.
ولا شك أن القبول بأمثال هؤلاء ورياستهم للمجتمع والإقرار بولايتهم على المسلمين ولاية شرعية يؤمر المسلمون فيها بالسمع والطاعة، والاعتراف لهم بحق التوجيه والأمر والنهي من أعظم ما يؤدي إلى فرقة المسلمين وهلاكهم في طاعة هؤلاء.
ولو تأملت في حالهم تجد الأوصاف منطبقة عليهم، ومن العجب أن تجد من يقول للناس: اسمعوا لهم وأطيعوا، ومما يؤسف أن هذا مذهب البعض من أبناء الصحوة، حيث يرون أن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ولاة أمور شرعيين، وليسوا فقط قد فرضوا على المسلمين أمراً واقعاًً.
ولا شك في ضرورة وأهمية التفرقة بين الأمر الواقع والأمر الشرعي الذي هو الحق دون ما سواه.
ومن أسباب الشبهة التي تلبست البعض في هذا المقام: كلام أهل العلم في أن الولاية قد تثبت بالتغلب ولو لم يكن صاحبها مستوفياً لشروط الإمامة، والحقيقة أن كلام العلماء في ذلك إنما هو ابتلاء من هو صالح للإمامة، فإن خلا الزمان عن ذلك واستولى كاف ذو استقلال للذب عن بيضة الإسلام وحوزته، فهذا حكم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي توكل له الأمور التي كانت منوطة بالأئمة؛ لأنهم إنما تولوا الأمور ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع. هذا كلام الإمام الجويني .
والأدلة التي استدلوا بها تدل على ذلك، فإن من أدلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استعمل عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله؛ فاسمعوا له وأطيعوا)، وفي رواية: (مجدع الأطراف).
ومعلوم أن الحرية والنسب من شروط الإمامة، وقد حمل العلماء الحديث على صورتين: إما أن يوليه بعض الأئمة، أو أن يتغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، والحديث ظاهر في أنه لابد أن يقود الناس بكتاب الله.
فالغرض إقامة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وكما قال الجويني : والغرض استصلاح أهل الإيمان على أقصى ما يفرض فيه الإمكان، وليس المقصود وجود صورة الولاية حتى ولو كانت حرباً على الدين وأهله، وموالاة للكفار ونصحاً لهم، وسعياًً لمصلحتهم على حساب المسلمين وبلادهم، وإيذائهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم ما تولوا الرياسة والولاية أصلاً باسم الدين، ولا نسبوا أنفسهم إلى القيام بواجباته، بل هم يقسمون صراحة على إقامة دساتيرهم وقوانينهم الوضعية التي يعلم الكافة مخالفتها للشريعة الفطرية، بل لا يتولى أحدهم منصبه إلا بمثل هذا القسم، فأين العقد الذي عقدته لهم الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد منها؟ وأين المقصود الشرعي للإمامة شكلاً أو موضوعاً.. رسماً أو حقيقة واقعة حتى يمكن من أجله تخصيص الولاية للقيام بالمصالح والمقاصد الشرعية، وعدم إهدارها، ولو بدون عقد ولاية من أهل الحل والعقد؟ من الواضح الجلي أنه لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعى وجوده بأقل الدرجات، وهذه المسألة -نعني: عدم اعتبارهم ولاة شرعيين- ليست مبنية على تكفير أعيانهم من عدم تكفيرهم، فالإسلام شرط آخر من شروط الولاية تبطل بفقده كولاية شرعية ابتداء أو عند طروء الكفر كما هو مبين في موضعه، ولكن لا يلزم من عدم التكفير للأعيان بعذر بجهل أو تأويل، أو إكراه مدعى أن تصحح الولاية شرعاً؛ لأن العقد لم يتم عليها.
فمن الممكن لأحدنا ألا يثبت الكفر لمعين لكن لا يمكن أن يثبت بذلك الإمامة الشرعية، فقد يعذره بجهل أو تأويل، لكن أين الإمامة الشرعية التي يثبت بها الأحكام الشرعية؟!
لأن العقد لم يتم عليها -على الولاية- ولا المقاصد الشرعية وجدت حتى يمكن اعتبارها صحيحة بالتغلب.
أما مسألة التكفير فهي لأهل العلم استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وكثيراً ما يكون الاختلاف فيها راجعاً إلى تحقيق المناط، وهذا في أحوالنا اليوم غالباً ما يكون سائغاً لانتشار المنافقين وكثرة مداراتهم وتلبيسهم على الناس حتى أهل العلم منهم.
والعلاج الواجب لهذا السبب من أسباب الاختلاف: جمع الناس حول علمائهم، فهم في الحقيقة أولي الأمر منهم؛ لأنهم هم الذين يمكنهم أن يقودوهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتماع الناس عليهم من أسباب قوة الصحوة وتأثيرها في المجتمعات المسلمة الجريحة بجراح الكفار والمنافقين، ثم هؤلاء العلماء عليهم أن يختاروا من بينهم أمثل من يقود المسلمين في ملماتهم ومهماتهم، ولا سبيل إلى أن يصبح أهل الحل والعقد الحقيقيون -الذين هم أهل العلم من أهل السنة والجماعة- أهل قوة وتأثير إلا بجمع الناس عليهم، ورد أمرهم إليهم؛ فإن واجب المسلمين حال غياب الإمام أن يكون العلماء هم ولاة الأمور.
قال الجويني رحمه الله: قال العلماء: لو خلي الزمان عن السلطان، فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره.
وقال أيضاً: ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال المطلوبة إلى الأئمة، فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلي عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل قطر وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم، وإن فرض استواؤهم- وهو فرض نادر لا يكاد يقع؛ - فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد، فإن لم يتفقوا يقرع بينهم.
وخلاصة العلاج لهذه المسألة: أولاً: أن يتفق على تحرير الناس من الدعاة على أبواب جهنم، ومعرفة ضررهم، وأن ولايتهم غير صحيحة شرعاً وإن استقرت واقعاً.
ثانياً: جمع الناس على علمائهم بأن يقدموا أمثلهم وأعلمهم، فإن تعذر الجمع استقل كل أهل بلد بعالمهم كحل مؤقت، ارتكاباً لأخف الضررين؛ وإن كان لابد من السعي إلى تحقيق الأمر الأول وهو الاتفاق على تقديم أحدهم ولا خلاف أنه لا يكون من أهل العلم الصالحين المتقين إلا من كان من أهل السنة والجماعة.
ومن أسباب الخلاف التعصب المذموم للأسماء والأشخاص والجماعات ووضع الولاء تبعاً لها. وهذا السبب من أخطر الأسباب وأكثرها تدميراً للعالم الإسلامي، بل هو الذي جعل الكثيرين -ممن نحسب منه الصدق والإخلاص والرغبة في نصرة الإسلام- يقولون بعدم مشروعية العمل الجماعي جملةً، واعتبار الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة أحزاباً باطلة يجب التحذير منها، وعدم الانتساب لها، والعمل من خلالها، وهذه مسألة حساسة جداً وشائكة، بل ربما يفهم -خطأ أو صواباً- من كلام بعض المشايخ: أن العمل الجماعي بدعة، وأن الانتساب للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة حزبية ممقوتة وتعصب مذموم، مع أن هذا تشخيص غير صحيح، ويحتاج إلى علاج، وهو أشد منه خطأ وخطراً في الحقيقة.
أقول: لقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوى الجاهلية، وهذا أمر لا نزاع فيه ولا شك، ولما تنادى المهاجرون: يا للمهاجرين! وتنادى الأنصار! يا للأنصار، قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة) رواه مسلم وغيره، هذا مع أن اسم المهاجرين والأنصار من أشرف الأسماء، وهي من الأسماء التي سماهم الله بها في كتابه، وسماهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.
وبناءً على ذلك فقد توجد العصبية المذمومة ودعوى الجاهلية مع وجود الأسماء الشريفة المعتبرة ومع أن التسمية ليست بدعة وليست مذمومة ويمكن أن توجد معها العصبية الجاهلية فبمجرد التسمية هي العصبية؛ لأن الأسماء كانت موجودة قبل ذلك وظلت موجودة بعد ذلك.
فالتسمي نفسه ليس عصبية جاهلية بحد ذاته.
نقول: ومع ذلك حين صارت الأسماء الشريفة شعاراً ينتصر الناس له دون تبين للمحق من المبطل صارت جاهلية، فحين نادى الغلام المهاجري يا للمهاجرين، فهب المهاجرون يشاجرون لا لشيء إلا لأنه منهم وكذا الأنصار حين ناداهم الأنصاري فقال: يا للأنصار فهبوا لا لشيء إلا لأنه منهم. فصار هذا انتصاراً لمجرد الاسم وهو الجاهلية ولو كان الاسم اسماً شريفاً كاسم السنة مثلاً، فلو أن سُنياً نازع صوفياً فنادى السني في أصحابه فلا ينبغي الانتصار له دون تبين، بل لا بد أن نتبين من المحق ومن المبطل، وما يدرينا فقد يكون المنتسب للسنة ظالماً للصوفي، حتى لو كان هذا الصوفي مبتدعاً في جزئية لكن لابد أن ينتصف لصاحب الحق.
ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم يتعصبون للأسماء فما إن ينتمي أحدهم لجماعة حتى يتعصب لها وقد يتعصب البعض لعالم معين أو لبلد معين، ينصر على ذلك، ويغضب عليه ويتغاضى عن المخالفات التي تصدر من جماعته أو طائفته، وبالمقابل يُعظِّم ما يصدر عن غيرهم، ويعمل على المصلحة المحدودة لطائفته دون النظر إلى مصالح باقي المسلمين، فالمصلحة بالنسبة له هي مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها، فهذا يعتبر مذموماً إذ أن نظرته وموازينه غير صحيحة. فلو أن واحداً -على سبيل المثال- من جماعة أخرى وقع في منكر ما تجد الآخر يطير بالخبر قائلاً: الجماعة الفلانية يفعلون كذا وكذا، وقد يكون هذا الأمر يرتكبه أحد أفراد جماعته التي ينتمي إليها، فيصير الأمر بالنسبة لجماعته خطأ فردياً مع أن الباقين قد يكونون على نفس الأمر طالما لم يؤسس هذا الأمر عندهم ولم يقبل، فهم راضون به ويرونه حينها فعلاً قد ينسب إلى الجميع، وهذا ممكن الحصول لجماعة معينة وقد يكون لعالم معين، فلو أن أناساً لا يوجد لهم اسم معين بل هم تلامذة شيخ من المشايخ وتلامذة الشيخ معلوم أنهم أتباع الشيخ، وربما يقولون: العمل الجماعي بدعة والحزبية مذمومة، بينماالحزبية عندهم قائمة بالفعل، من جهة أن قول الشيخ: كذا، يصير هو الحق وما سواه هو الباطل، وكل من خالف الشيخ فهو عدو لنا، ويغضب إذا خالف الشيخ أي أحد حتى ولو كان الخلاف مما يجوز ومما يسوغ فضلاً عن أن ينتصر له بيده ولسانه.
وقد يكون التعصب لبلد معين أشد أنواع العصبية ظهوراً إذ يؤدي إلى التقاتل بين الطوائف المسلمة، فقد تجد جماعات أو دولاً وطوائف تميز بين الناس على أساس الجنسية، فمثلاً أهل البلد مصنفون على أنهم طبقة أولى، والكفرة من اليهود والأمريكان والنصارى هم أعلى قليلاً من أهل البلد، ويليهم طائفة قريبة منهم كدول الخليج مثلاً ومن ثم بقية الدول، وليس هناك تصنيف على أساس أن المسلمين مقدمون على غيرهم، لا، بل هذا هو الترتيب عندهم، فربما يكون هناك نوع من الانتصار لابن البلد على الأجنبي مع أنه مسلم مثله، وقد يكون صاحب الحق والجميع يعلم أنه صاحب الحق، ومع ذلك يعجز عن الانتصار لنفسه، ويعجز أن يجد الإنصاف من غيره، فهذه العصبية مذمومة جداً ومع ذلك تجد البعض يقرها ويصوب مثل هذه المبادئ حتى تصير قوانين مسنونة، فسمح مثلاً لبعض الناس بالحج ويمنع الآخرون من الحج، ويسمح للبعض بالتوافد والإقامة والبعض يمنع من ذلك بناء على حقوق تعطى وتمنع ومبناها في الأصل على الجاهلية، والبعض قد يرى ذلك حقاً لولي الأمر مثلاً، مع أن ولي الأمر ليس من حقه أن يؤصل العصبية الجاهلية ويميز بين الناس، وإذا كان ولي أمر المسلمين جميعاً فلا بد أن يكون كل المسلمين عنده سواء، أما إذا كان ولي أمر لطائفة معينة فليس له دخل في الباقين، فلو كان لا يرى ولايته عليهم فليس عليهم أن يسمعوا ويطيعوا؛ لأنه لا يراعي مصالحهم، والأصل أن بلاد الله عز وجل هي بلاد المسلمين عموماً.
فهذا أمر موجود، بل قد يكون التعصب في البلد نفسها، فتجد مثلاً الفلاحين يتعصبون لبعضهم، وأهل الصعيد يتعصبون لبعضهم وكذا سكان الإسكندرية، وفي بلد آخر كثيراً ما تسمع هذا نجدي وهذا حجازي ونحو ذلك، وهذا شريف وهذا غير شريف، وهكذا داخل البلد الواحد قد يفهم البعض أن الاتجاهات الإسلامية هي التي تؤاخذ أو أنه لا تعصب في الدنيا إلا هذا، وجميع أنواع التعصب الأخرى لا تحارب.
فنقول: لا، بل يجب أن تحارب كل أنواع التعصب سواء كانت لمشائخ أو لجماعات إذ التعصب يكون مذموماً سواء وجدت الأسماء أو لم توجد، فهذا شأن لابد من محاربة جميع أموره، ويزداد الأمر سوءاً إذا رأى الشخص أن جماعته هي وحدها جماعة المسلمين التي من فارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وهذا ما تعلنه جماعة التكفير صراحة، وهو أن شرط الحكم بالإسلام هو الانتماء للجماعة التي ينتمون إليها؛ لأن جماعتهم كانت أول من صرح به تصريحاً، وكذلك تطبيقات جماعات الإخوان رغم تصريحات القادة والمفكرين البارزين فيها بأنهم جماعة من المسلمين إلا أن الاستهانة الشديدة بمن خرج عن الجماعة يجعل المعاملة في هذا الباب قريبة ممن يرى أن جماعته هي جماعة المسلمين، وإن كانوا لا يصرحون بذلك، ولكن أسلوب التعامل من التشديد والتعنيف على المخالف خصوصاً في مراحل سابقة يظهر ذلك جلياً، ولا شك أن هذه الأمراض تؤثر على القلب وإخلاصه ونصيحته لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتفتح باب الصراعات الداخلية بين أبناء الصحوة الإسلامية لأعداء الإسلام لينفذوا منه لضرب الجميع.
فالبعض يرى أن العلاج هو في هدم العمل الجماعي أو عدم التسمي بالأسماء، إن الاجتماع على إقامة الواجبات من الفروض يترتب عليه وجود العمل الجماعي الذي يهدف إلى إقامة الواجبات الشرعية وفروض الكفاية التي تغيب عن واقع المسلمين، فهذا أمر فرض على المسلمين فكيف يهدم من أجل التعصب؟ ومثل هذا مثل من جاءه مريض ليعالجه فقال: علاجه بقتله، وهذا غير صحيح، بل لا بد من علاج المريض لا منعه مما وجب عليه شرعاً، فالاجتماع فرض أما التسمي فهو من الأمور الجائزة أو المستحبة المشروعة، والانتساب إلى أسماء معينة كالانتساب إلى بلد أو عالم أو طائفة ليس بمحرم في الشرع، كقولنا: فلان الحجازي، أو فلان العراقي، فتحريم مثل هذا غير موجود عبر التاريخ والعصور بل نرى في تاريخنا الانتساب إلى البلاد كالإمام البخاري مثلاً واسمه محمد بن إسماعيل لكنه انتسب إلى البلد التي نشأ منها.
ومثله الحافظ العراقي وابن حجر العسقلاني ، والإمام النووي .
وكذا الانتساب إلى عالم معين كقولنا: فلان الشافعي، أو فلان المالكي، أو فلان الحنبلي، فهذا أمر ظل موجوداً من عدد من العلماء، حتى عند ظهور التعصب المذموم ولم يقل أحد بحرمة الانتساب للأسماء.
وقبل هذا لم يكن ينتسب إلى الأسماء بياء النسب بل كان ينتسب إليه بكلمة أخرى، فنحن نعرف أصحاب عبد الله ، وكم جرى على الألسن: كان أصحاب عبد الله يرون كذا، وكذا أصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عباس ، فهذا الأمر كان موجوداً وكان يعرف أن أصحاب فلان، أي: تلامذته وأتباعه، فانتسابهم له كان باسم (أصحاب) قبل أن تظهر المذاهب المشهورة، وكذا الانتساب إلى طائفة معينة كالأشراف مثلاً، فقيل: الشريف فلان أو نحو ذلك، أو نسب إلى الطوائف المعاصرة كالطوائف والجماعات التي تريد أن تقوم بواجب من الواجبات الشرعية، كجماعة تيسير الحج والعمرة، فمن الخطأ أن أقول له: أنت مرتكب محرم وقد يكون القائل ضمن جماعة تريد أن تتعاون على إقامة واجب من الواجبات وتيسيره على الناس، كجماعة تحفيظ القرآن الكريم مثلاً، فالجماعة تهدف إلى إقامة هذا الأمر المشروع، وأخرى تريد الدعوة إلى الله عز وجل، وأخرى تريد الجهاد في سبيل الله بشروطه الشرعية، وإلا فليس كل من تسمى بالمجاهد أو بجماعة الجهاد يكون مجاهداً، ولا كذلك من انتسب إلى جماعة الدعوة يكون داعياً، ولا حتى من انتسب إلى السلفية يلزم أن يكون سلفياً فالانتساب نفسه ليس بمحرم بل قد يكون محتاجاً إليه، كأن يقول: أنا من أهل السنة والجماعة.. أنا من أهل الحديث أو نحو ذلك؛ ليبين منهجه الصحيح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لحظ بداية ظهور دعوى الجاهلية بين المهاجرين والأنصار لم يعالجه -كما يحاول البعض أن يفعل الآن- بتحريم الانتساب إلى هذه الأسماء، وأمرهم بإلغاء الأسماء مثلما يقول البعض، بل قد يترتب على قوله إلغاء الاجتماع على الطاعة، وهذا علاج غير مقبول وهو أشر العلاجين، فلو قال أحدهم: نحن سنلغي الأسماء، مع العلم أن المشكلة ليست إلغاء الأسماء، بل إن البعض فرض الأسماء وإن كان بعض المشايخ لا يوافقونهم ونحن لا نوافق على فرضية ذلك وهذا غير لازم بل هذا لتمييز منهج أهل السنة، ولكن الأمر ليس بمحرم.
فليس العلاج بإلغاء الأسماء ولا العلاج قطعاً بإلغاء التجمعات الإسلامية التي تريد إقامة الواجبات الشرعية، بل العلاج بتحذيرهم من حقيقة دعوى الجاهلية وهي الانتصار للأسماء دون معرفة الحق، وهذه هي التربية الواجبة التي يجب أن يتربى عليها أبناء الصحوة جميعاً، ولا يزال العلماء ينتسبون إلى بلادهم كالمدني والمصري والخرساني والنووي والعسقلاني، وإلى مذاهب أئمتهم كالشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي، ولم ينكر العلماء التسمية ولم يحرموها حتى بعد ظهور العصبية، بل تُحارب العصبية بدون تحريم ما أحله الله، وبدون تحريم شيء لم يرد في الشرع تحريمه، فلو احتج أحدهم على تحريم التسمي والانتساب بأن العصبية مذمومة، نقول له: ومن قال لك: إن التسمي عصبية بل إن السلف على مدى حياتهم انتسبوا وكانوا يحرمون العصبية، ولم يفسروا الانتساب والتسمي على أنه عصبية.
وأنه لا بد من قبول الحق والمعاونة عليه ممن جاء به وعمله كائناً من كان - فأي مسلم يقول الحق لابد أن نساعده، وكذا لو عمل به لا بد أن نساعده- ولا بد أن توزن مواقف الجماعات بميزان الشريعة لا بمجرد أسمائها، فقد نجد البعض يرفض عملاً معيناً أو نظاماً معيناً لمجرد أن الجماعة الفلانية التي يخالفها في اعتقاده فعلته أو تفعله فلو أقيمت مثلاً رحلة أو اعتكاف في غير رمضان، تجد من يحتج قائلاً: لقد أصبحتم إخواناً، ولو أنا رتبنا جدولاً للخطابة تجد الرد ذاته من بعض السلفيين، فهل مجرد عمل الإخوان لعمل ما يجعل هذا العمل غير مقبول، لا بل لا بد أن نزن الأمر بميزان الشرع ونبحث في هذا الأمر: هل هو بدعة أم أنه طاعة؟ وهكذا.
ومن العجيب أنه لو ذكر أناس بخير ينتمي إلى جماعة أخرى كـسيد قطب أو محمد قطب -رغم أن لنا مآخذ عليهما ونبين أخطاءهما المخالفة لمنهج أهل السنة- لقاموا بالرد وشنعوا عليه وعدوه ضمن الطوائف المنحرفة، وهو خطأ بالتأكيد إذ لا بد أن نزن بميزان الشرع ونقبل به ولو كان من شيطان، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة رضي الله عنه قال: (صدقك وهو كذوب)؟ وقبل أن أبا هريرة يقول للأمة كلها أن تقرأ آية الكرسي عند النوم مع أن بداية تعلمها كان من هذا الشيطان لـأبي هريرة ، وما كان أبو هريرة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، وهذا كله بعد عرضه على السنة وعلى هذا فأي أحدٍ قال كلام حق لزمنا قبوله وإن كان القائل كذاباً، فمناقشة الأقوال والحكم عليها بالصواب والخطأ وإصابة السنة أو مخالفتها أمر غير مستنكر ولا خلاف منهج أهل السنة، فالحق أن منهج أهل السنة التوازن، فلابد أن توزن مواقف الجماعات بميزان الشريعة لا بمجرد الأسماء، وقد يرفض البعض عملاً معيناً أو نظاماً معيناً؛ لمجرد أن الجماعة الفلانية التي يخالفها في اعتقاده هي التي قامت به، فالدليل عنده وجوب مخالفتهم.
على سبيل المثال: من المعروف أن جماعة الإخوان تهتم بالتواجد في الهيئات والأنظمة كالنقابات واتحادات الطلاب ونحوها، وجماعة التبليغ تهتم بالخروج للناس لدعوتهم، فلا يجوز أن ينكر البعض هذا التواجد أو هذا الخروج لمجرد أننا إذا فعلنا ذلك صرنا مثلهم، فأنا لا أخالف التبليغ؛ لأنه يخرج إلى الناس، بل أخالفه لأنه يخطئ فيما يقول، وأخالفه لأنه يحصر الإسلام في شيء معين ويحصر نصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله في باب معين، وأخالفه لأنه يهمل قضايا عظيمة جداً كقضايا التوحيد والإيمان ولا يتكلم فيها لا أولاً ولا آخراً بل لا يربى على التوحيد، فهو يهمل قضاياه دائماً، فتجده يمنعك من الكلام في الشرك والبدع وأمراض الأمة، أو العقيدة، أو الحلال والحرام، أو السياسية، أو الولاء والبراء، بل لا يكلم الناس إلا فيما تضمنه كتاب رياض الصالحين أو حياة الصحابة أما غير ذلك فلا يكلم الناس فيه، وبالتالي يتربى الناس على أن المنكرات هي ما قالها هؤلاء، ثم الأجيال اللاحقة تأتي فإذا وجد فيهم من يدعو غير الله يتركه بحجة أنه تعود على ذلك، ويمنع الآخرين من التحدث في هذا الموضوع فأول شيء يطلبه من المدعوين أن يصفوا قلوبهم ويخرجوا معهم، وقد يكون من يخرج معهم لا يعرف أن الطواف بالقبر شرك ولا أن دعاء غير الله وطلب المدد منه أمر منكر، فلا تجده ينكر مثل هذه الأمور، وهكذا أيضاً في الاتجاهات الأخرى فدخول النقابات والاتحادات الطلابية ونحو ذلك ليست مشكلةً بحد ذاتها بل فيما يرافق ذلك من مخالفات شرعية كتضييع الولاء والبراء، والإقرار بموازين الباطل وشعاراته، واستباحة كثير من المنكرات وإباحتها للناس، وعمل أعمال فيها معاونة على المنكر والعياذ بالله.
وقد يسأل البعض: كيف لا ينتقد خروج التبليغ مع أنه بدعة؟ فنقول: إذا كان المرء يتعبد الله بإلزام نفسه أن يخرج ثلاثة أيام أو أربعين يوماً أو سنة فهذا بدعة، لكن لو فرغ شخص نفسه ثلاثة أيام أو يومين لإلقاء دروس معينة، أو فرغ نفسه ثلاثة أيام في الشهر وهي الأيام التي يستطيع الاستئذان فيها من عمله، أو الخميس والجمعة كونهما عطلة فهذا الأمر ليس بدعة.
على أن جماعة التبليغ لديهم أخطاء كبيرة بإهمال قضايا التوحيد والإيمان والعلم، والاتباع، فلا يعملون على إنكار البدع والشركيات، كما يهملون قضايا الحكم والولاء والبراء وأصول العقائد، وهذا خطر عظيم فأصل الجماعة أنها كانت صوفية، فهذا الأمر بالنسبة إليهم ليس ذا خطورة بالغة، ومع ذلك فلهم بعض الإيجابيات، وكذلك الإخوان لديهم بعض الإيجابيات، فكثير من الشباب يبدأ حياة الالتزام على يد أحد هذه الطوائف ثم الله عز وجل يهديه إذا أراد الحق إلى المنهج الصحيح.
فينبغي أن يكون عملنا منضبطاً بالشرع، بعيداً عن البدع، وفي نفس الوقت لا ينبغي أن نهدم الخير لوجود دخن فيه، بل نعرف المعروف وننكر المنكر والدخن، ونعين على الحق ولا نعين على سواه، هذه حقيقة الولاء على الكتاب والسنة، ولهذا كان موقفنا كدعوة سلفية في مثل هذه المسائل: أن ما استطعنا أن نقوم به بالصبغة الشرعية قمنا به، وطلبنا من غيرنا أن يعيننا عليه وأن ينضبط في عمله بالشرع، وما عجزنا عنه وقام به غيرنا على بعض الدخن أيدناه على الخير ونصحناه بترك الدخن؛ لأن البديل في حالة تركه أو عجزه عن هذا الخير هو الشر المحض من الدعاة على أبواب جهنم وأتباعهم، وهذا أمر ملحوظ وظاهر.
فلو قلنا مثلاً: لو أنهم يستطيعون خوض انتخابات اتحاد الطلاب فسيترتب على ذلك بعض الخير وفيه دخن، على أن البديل أن ينظم الناس حفلات رقص ورحلات مختلطة وغير ذلك من الفساد، مع العلم أن فوزهم غير ممكن ولو أمكن فسنساعدهم على مثل ذلك ولاءً لله عز وجل وللرسول عليه الصلاة والسلام. ومثل ما تقدم نتعاون على الطاعات.
قضية الاسم لا تمثل عندنا خطراً أو أثراً ذا بال، فلا بأس من التنازل عنه طالما كان المضمون حقاً، هذا إذا كان الاسم يمثل عائقاً عن وصول الحق للناس.
كما لو ظللت تردد في كل مكان: أنا سلفي أنا سلفي فسينفض عنك الناس نحو الآخرين، ولذا كانت تكتب رسائل باسم محمد بن سليمان التميمي لأن اسم محمد بن عبد الوهاب يجعل الناس يرفضون الحق في بلاد كثيرة جداً وسبب الرفض هو معرفتهم أن هذا هو رأس الوهابية؛ لأن الوهابية عندهم مسبة أو خوارج أو كفار أو نحو ذلك، فإذا استعمل هذا الاسم البديل لم تعد لدى الناس مشكلة في قراءة رسائله. كما لو سأل أحدهم: هل أنت وهابي؟ وإذا كان الانتساب للسلف تهمة أخرى فقل لهم: أنا مسلم.
لكن لابد أن نعلم ويعلم غيرنا أن اختلاف الأسماء ليس هو السبب الأساسي للاختلاف، حتى يظن أن الواجب هو ترك الأسماء، وإذا تركت انتهت المشكلات، فهذا وهم كبير أدى بكثير إلى ترك التعاون الواجب إلى ما بعد التخلي عن الأسماء.
إذاً: فإنه كما بينا لا يحرم التسمي بالأسماء الطيبة التي تدل على الخير وتحض عليه وليست هذه الأسماء بديلاً عن اسم الإسلام، بل:
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ
[الحج:78] فلم يجعل لنا التسمي بالمذاهب أو بالعلماء أو بالجماعات بديلاً عن اسم الإسلام؛ لأن هذا يكون كفراً، بل كل اسم هو داخل اسم الإسلام وليس بديلاً عنه، إنما هو لتمييز معنى معين، وتنبيه الناس إلى ما غفلوا عنه، كما تميز أهل السنة والجماعة بهذا الاسم للتحذير من البدعة والافتراق المذموم، فكلمة أهل السنة ضد البدعة، والجماعة ضد الفرقة، وهكذا اسم السلفية أو أهل الحديث أو أي اسم آخر لجماعات أهل السنة في أقطار مختلفة إنما يكون المقصود منه تمييز المنهج، وترسيخ مبادئه، أو التنبيه إلى بعض ما غفل الناس عنه من هذه المذاهب، وعلى كل يبقى ولاؤنا على الإسلام، وطاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم،
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
[المائدة:55].
يقول: المدح والذم والحب والبغض يكون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة، سواء كانت قولاً أو عملاً قال تعالى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[التوبة:71].
وقال عز وجل:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
[المائدة:2].
قال الإمام ابن القيم في فوائد صلح الحديبية: إن من طلب الإعانة على حق أجيب إليه ولو كان لا يجاب إلى غيره من الباطل. هذا عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها).
ولهذا من أصعب المواضع على النفوس أن تعظم الحرمات ولو كان الذي يطلبها كافراً، فتعظيم الحرمات يجب التعاون عليه وإن كان المتعاون معه كافر وإن منع غيره مما ليس من الحق.
فإدراك وجود الاختلاف غير السائغ له أهمية كبيرة، فكما لم ينتبه فريق من أبناء الصحوة إلى وجود الخلاف السائغ فغلا في كل مسائل الخلاف، وجعلها مكائد وعداء وحب وبغض آخر إلى وجود الاختلاف غير السائغ، فقصر تقصيراً خطيراً في غمار حماسته الجارفة نحو التوحد والاجتماع. فتجده يردد منبهاً على ضرورة الاجتماع: إن وحدة المسلمين فرض، وقد يبدي استعداداً على أن يضيع في سبيلها العقيدة الصحيحة أو الواجبات الشرعية.
يقول: حتى صارت كل الفرق المنتسبة للإسلام عنده حتى ولو كانت من شر أهل البدع كالروافض والصوفية مثلاً مقبولة في صفه، ولا بأس باعتبارها وجهاً من وجوه الدعوة الإسلامية، وينبغي تحقيق التقريب بينها وبين غيرها على طريقة المفاوضات التي يتنازل فيها الطرفان عن بعض ما عندهما بهدف الالتقاء في منتصف الطريق، كما يسمونه اليوم لجان التقريب بين السنة والشيعة، أو على الأقل يسكت كل فريق عن الآخر حتى لا تحتدم المعركة بين أبناء الجماعة الواحدة.
وقد حدث أن البعض ضمن جماعات أصلها من السنة ظهر منه إنكار لأحاديث متفق على صحتها، أو لمسائل اعتقادية مثل سحر النبي عليه الصلاة والسلام، أو كرامات الأولياء فطلب البعض منه أن يعلن موقفاً من إنكار الأمور المجمع عليها فأجابه البعض يجب أن لا نذكر هذه الموضوعات حتى لا يحصل انشقاق في الجماعة، فهل وحدة الجماعة والحرص عليها مقدم على الحرص على أصول الإيمان وأصول الكتاب والسنة.
أقول: فإنه لو قيل بتطبيق هذه القاعدة في الخلاف السائغ -السابق بيانه- مع الاجتهاد في معرفة الحق والعمل به لكانت قاعدة صحيحة، وليس معنى إذا ما قلنا بصحتها: أن كل واحد له حق الاجتهاد في الحق، وله أن يطبق القاعدة في الخلاف السائغ إذا ما طبق منهج الصحابة والسلف كما بينا في الخلاف السائغ، أي: أنه وسعهم أشياء اتفقوا على إقرار كل فريق على أن يعمل بما يراه كما نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على هذا.
أما أن تطبق هذه القاعدة مع أهل البدع كالرافضة فيشجع مثلاً التقريب بين السنة والشيعة أو السنة والصوفية وتصبح الدعوة: عقيدة سلفية وحقيقة صوفية، ويتأول المتأولون الضلالات والمنكرات حتى طلب المدد من غير الله، ودعاء غير الله ليدخل في دائرة خلاف الفروع كما يسمى، كما فعل سعيد حوى في كتاب تربيتنا الروحية، إذ يقول: نحن سننصح: أنه لا يحبذ أن يقولوا: مدد يا سيدي فلان، وإن كان هذا عنده من باب أسألك مرافقتك في الجنة.
فهذا كلام في منتهى الخطورة، إذ كيف يكون: أسألك مرافقتك في الجنة، كما لو قال أسألك الجنة؟ إذاً: يجوز أن يقول له: أسألك الجنة على أنه وسيلة للوصول إلى الجنة، نعوذ بالله! بمعنى أنه: لو سأل أحدهم مقبوراً فقال له: أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. لكان قوله عند أحد من هؤلاء المؤولين الذين يؤولون أفعال الصوفية من باب قول الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: أسألك مرافقتك في الجنة، كأن الرسول سيعطيه الجنة، بل هل تعلم ما يقولون عند القبور؟ إنهم يقولون: يا شيخ فلان دلني على طريق أسلكه حتى أكون معك في الجنة، مع أنه يعلم أن الشيخ لن يرد عليه إذ إنه ميت، ولكنهم يعتقدون أن الشيخ موكل بتوزيع المنازل والمقامات، فيأتي من يؤول هذا لكي يصبح قولهم: مدد يا سيدي فلان قول صحيح غير أنا نستحسن أن يقولوا: مدد يا رب فهذا كلام في منتهى الخطورة بلا شك، وكان يفترض بالأستاذ سعيد حوى ألا يقول: إن الذكر اللفظي المفرد الذي هو بدعة بلا نزاع في الحقيقة بين أهل العلم المعتبرين جائز بإجماع أهل الطرق، أي إجماع أصحاب المنهج الذي يسلكه أهل التزكية فهم عنده أقصر الطرق إلى الله، أي: أن البدعة والضلالة الحقيقية تصبح هي أقصر الطرق إلى الله، ثم يقول: حتى لا نُغضب السلفيين: إن الذي يريد أن يستعمل الجملة المفيدة يستعملها، يعني: يقول: سبحان الله والحمد لله ... سيصل أيضاً. فهو يريد أن يبين معنى ما كتبه من أن دعوتنا سلفية وحقيقتها صوفية، وهو أيضاً يشجع التقارب مع الشيعة والصوفية وأصحاب بدع التأويل والتحريف بل يزداد الأمر خطورة حين يحاول البعض -قد قرأنا وسمعنا بأنفسنا آراء من هذا القبيل- أن يطبق قاعدته الذهبية مع العلمانيين المعتدلين كما يسمونهم.
وبالتالي هذا التطبيق حاصل منذ الاندماج مع الأحزاب، فيزعمون أن من العلمانيين من هو معتدل، أي: لا يظهر القول بأن الإسلام باطل لكنه يقول بمضمونه. ومنهم المتعصبون الذين يصرحون بأن الإسلام باطل فنجد من يقبل التعايش والتقريب مع المعتدلين الذين يقبلون المنهج الإسلامي شكلاً ويرفضونه مضموناً، كالتحالف مع حزب الوفد وحزب العمل، أو في الحقيقة يستحون أن يعلنوا رفضهم لاسم الإسلام، ولا يستطيعون أن يقبلوا حقائق هذا الدين، هذا في غمار قبول التعددية والحرية، وعدم مصادرة الرأي الحر، وفتح باب الاجتهاد، وغيرها من شعارات أخبث وأصرح في مخالفة الإسلام كالديمقراطية والوحدة الوطنية ونحوها، كل هذا حتى يوصف هؤلاء أنهم معتدلون يقبلون الحوار، ويمكن إدخالهم في اللعبة السياسية، فهذا كله من أخطر ما يواجه الصحوة الإسلامية، إذ يفرغ الشعار من حقيقته، فيبقى الاسم ويختفي المضمون، ويصبح الأمر مجرد إلباس المبادئ الباطلة أثواباً إسلامية وأسماء إسلامية. فمثلاً الديمقراطية حقيقتها ديمقراطية، ونحن سنسميها شورى، وفي النهاية سيستفتون على شرع الله، وسيحصلون على الأغلبية في مسألة تعطيل الحدود، ثم يسمونها شورى، وهذا نهايته التمكين لأهل الباطل والنفاق باسم الإسلام، وليس التمكين لدين الله سبحانه، وتظل الشعوب في سكر الوهم الناتج عن الشعار إلى أن تصدم بالحقيقة المرة بعد حين. كما صنع صدام حسين عندما خدع الملايين من العالم الإسلامي عند إعلانه الحرب على الخليج بدعوى أن ما يقوم به جهاد مقدس ضد الأمريكان، فكان إعلان الاسم والحقيقة تظل علمانية بعثية كما هي، فالاسم جهاد والمسمى علمانية حتى حظي بتأييد عوام المسلمين في المشرق والمغرب، نسأل الله العافية.
يقول: فيكون الأمر طعنة قاتلة للعمل الإسلامي لأجيال عدة وليس لبضع سنوات. هذا الخلل يظهر جلياً في بعض الأقطار التي لم تلتزم حركتها الإسلامية بمنهج أهل السنة وآثرت هذا الفهم المشوه بمسائل الخلاف على القاعدة النبوية الذهبية، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
رأينا حركات إسلامية جاهدت سنين طوالاً ضد الكفر والنفاق، وضحت بالدم والمال، ونال شرف الشهادة كثير من أبنائها لإعلاء كلمة الله، وإذا بهم عند قطف الثمار يقبلون في صفوفهم غلاة الرافضة في تحالفات مشبوهة.
وبالفعل هذا ما يحدث اليوم، فمليون مسلم يقتلون في المعارك، والله أعلم بمن استشهد منهم، ويسمونهم شهداء ونحسبهم شهداء عند الله عز وجل والله حسيبهم، ولكن في النهاية نجد أن طوائف كثيرة جداً يتحالفون مع الشيعة أو مع غلاة القبوريين كالرؤساء والأمراء وهم يعلمون حقيقتهم، فماذا نتوقع لمستقبل هذه البلاد؟
لذلك خذلهم الله، فالتجمع الذي يسمونه معارضة الآن وقت كتابة هذه المقالات في أول مرة كانوا هم الحاكمين وكانوا يقولون: لا بد أن يصبح مجددي أحد الرؤساء المطروحين للدولة في أفغانستان، وهو رجل قبوري، وحزب الوحدة الشيعي أصبح له أعضاء في البرلمان فقد تحصل على عشرين في المائة من المقاعد، فالله خذلهم خذلاناً شديداً.
ماذا نتوقع لمستقبل هذه البلاد؟ رأينا في بلاد غيرها تحالفات مع الاتجاهات العلمانية الاشتراكية دون تنازل أصحابها لا عن اسمها ولا رسمها ولا حقيقتها كتركيا ومثله في اليمن نفس التحالفات مع الأحزاب الإخوانية وكانت نتيجة تلك التحالفات هي تضييع العمل الإسلامي، ولم تحصل أي نتيجة، والأمثلة كثيرة متعددة، وللأسف لا يدرك الناس خطر هذا الأمر إلا بعد عشرات السنين، ألم تكن ثورة الجزائر أصلاً جهاداً إسلامياً؟ ألم يكن الضباط الأحرار يوماً أعضاء قد أقسموا بالبيعة للمرشد العام للإخوان المسلمين؟ بالفعل كان كذلك فـعبد الناصر والسادات وغيرهم كلهم كانوا أعضاء في قيادة سرب الإخوان المسلمين، وأقسموا على المصحف المشرف، على السمع والطاعة والجهاد في سبيل الله إلا أن كان ما وقع للإخوان على يد كل من عبد الناصر والسادات ، كما أن الإخوان يعلمون أنهم غير ملتزمين، لكن قبول المبادئ المنحرفة والتحالفات المشبوهة جعلهم يدخلونها لنيل مصالح سياسية.
ألم يعلم الإخوان في أفغانستان أن الشيعة حلفاء الشيوعية ومع ذلك قبلوا بمشاركتهم في الحكومات الإسلامية؟ بل وصل الأمر إلى تحالفات مع الإسماعيلية الباطنية.
ألم يناد البعض حتى ممن ينتمي إلى منهج السلف إلى قادسية صدام ؟ فالجزائر مثلاً كان من أتباع الخط السلفي من يبدي تأييده لـصدام ، نسأل الله العفو والعافية.
وهذا كان موقف جبهة الإنقاذ، فقد كانوا يؤيدون صدام في الجهاد ضد أمريكا، وأشد منهم بعض الااتجاهات في دول الخليج فقد كانوا يقولون: قادسية صدام عندما كانت الحرب مع إيران فيقولون: قادسية صدام في وجه العدوان الفارسي المجوسي، فلما انقلب عليهم صدامهم عرفوا أنه بعثي كافر يحارب المسلمين، فأصدرت الفتاوى بتكفير صدام حسين، وتكفير حزب البعث، ومن الغريب أن ثمان سنين من الحرب مع إيران لم تظهر فيها أي فتوى أو توجيه واحد للسادات بأن صدام حسين بعثي بل كانت قادسية صدام ، وهناك اتجاهات إسلامية أخرى ذهبت وقابلت صدام حسين ، والبعض قال: إن لديه التزاماً في الأسماء والصفات بمنهج السلف.
فمما يدعو للاستغراب أن الناس تتعامل بهذا المنهج المنحرف، ثم عادت العلاقات بعد ذلك مع الجيران الإيرانيين وينادى بحسن الجوار مع العدوان المجوسي الكافر لتحسن العلاقات مع الدولة الإيرانية بعد ذلك، حتى يأتي أحد زعماء الرافضة ويبصق على قبر الشيخين ويسبهما علناً، وإذا جاء من ينكر عليه فلابد من إبعاده مع أن الأمر كان ملحوظاً جداً، نسأل الله العفو والعافية.
ولو أن هذه الأمور تصدر عن غير الإسلاميين لما استغربت؛ لأنهم عندهم الميكيافلية المشهورة، ولكن صدورها من بعض الرموز الإسلامية هو المستغرب، ولا زلنا نؤكد على أهمية إدراك هذا النوع من الخلاف، وأن الموقف منه لا يحتمل إلا النبذ للبدع والضلالات، والتمسك بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسائر السلف، وأن الموقف التقليدي لأهل السنة لابد أن يكون هو الموقف الواضح البين الذي لا خفاء فيه، والذي لا يحتمل الاختفاء وراء واجهة سياسية، أو نظرة مسرحية، أو أداة مرحلية.
ومن أهم ما يلزم التنبه إليه في إدراك هذا الاختلاف وأسبابه:
أن الأمر لابد فيه من معالجة حقيقية للأسباب، وليس مجرد رفع شعارات التوحد والاجتماع، أو نبذ العصبية والفرقة دون التصدي لحقيقة هذا الخلاف، وتحديد المسائل التي توضع تحته في كل نواحي العمل الإسلامي -بمعنى أنه يجب أن نحدد أي نوع من المسائل التي يجوز فيها الخلاف السائغ وغير السائغ- في العقائد، وأصول الإيمان، ومناهج الاستدلال، والعمل، ومناهج التغيير وغيرها من المسائل التي تشغل أبناء الحركات الإسلامية.
إن من يحاول علاج هذا النوع من الخلاف بالعاطفة وحدها مثله كمثل رجل أراد أن يطفئ ناراً فغطاها بثوب رقيق والجمر تحته مشتعل، فبعد لحظات اشتعلت النار في الثوب نفسه فصار سبباً لزيادة اشتعالها.
لابد كذلك من الناصحين للحركات الإسلامية ممن يقف موقف الناقد المتفرج دون النزول إلى مجالات العمل الإسلامي من التمييز عند تعدد المناهج، والتمييز بين الخلاف السائغ وغيره من أنواع الخلاف.
ونسمعهم يقولون: نريد ترشيد الصحوة الإسلامية، فإذا به يوجه الخطاب لكل المناهج دون تفريق بينها معتبراً أن الخلاف يمكن إنهاؤه بالتقريب ين الأطراف المختلفة وهذا ليس نصحاً.
لابد أن يميز هؤلاء بين تعدد المناهج، وبين أنواع الخلاف السائغ، فلا يسوي بين أهل السنة وأهل البدعة بطريقة نقده أو نصيحته، إن كان فعلاً صادق الانتماء للسنة ومنهج السلف؛ لأن البعض يجعل الجماعات كلها جماعات بدعة، سنية أو بدعية، والبعض ينصح بقبولها كلها سنية أو بدعية، ويحاول تهوين الخلاف.
ولذلك فمن المؤكد أن إدراك هذا النوع من الخلاف وأن معظم الخلاف المنهجي راجع إليه لابد ألا يجعل لنا إلا موقفاً واحداً تجاهها وهو موقف النابذ للبدعة؛ لأجل ذلك خلاصة الثلاثة أنواع من الخلاف: خلاف التعدد يجب استثماره بالضوابط، والسائغ يجب احتماله، وغير السائغ يجب محاربته، وعند الخلط في التعامل مع هذه الأنواع من الخلاف أو معاملتها بطريقة واحدة ستكون مصائب عظيمة، ولذا لابد من الضبط التام لمثل هذه المعاني.
وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
فالقضية الأولى المستفادة من هذا أن السبيل واحدة، ولابد أن نكون عليها جميعاً، ولا يسع الناس أن يتفرقوا في المناهج، ولا يسعهم أن يختار كل واحد منهم لنفسه بين السنة والبدعة، أو أن يقف موقفاً متوسطاً بين السنة والبدعة زاعماً أنه يريد تجميع الناس، لا يجوز ذلك بل يجب أن يكون الناس على طريق واحد، أصحاب الحق هم أهل السنة والجماعة ومنهجهم الواضح لا يجوز أن يختلف الناس فيه أو يبتعدوا عنه، والتعدد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافق ومخالف لطريقة السلف تعدد مذموم.
وهناك تعدد آخر يرجع سببه إلى اختلاف الهمم والنوازع، فتجد إنساناً همته في طلب العلم وآخر همته في الجهاد، وآخر في النفقة في سبيل الله فتلك كلها سكك داخل الطريق الواحد، لكن الطريق كله يسير متوازياً بأطرافه فكل جهة توازي الأخرى لكن التعدد الناشئ عن المناهج هذا اختلاف تضاد يتجه نحو الاختلاف المذموم لذلك من يحاول تسطيح الخلافات الإسلامية، فيجعلها مسائل سطحية بسيطة، ويردد: لا ينبغي أن نتصارع أو نختلف، وينصب نفسه داعية للتوحد وما يصنعه محض كذب إذ لا يتم التوحد إلا باتحاد المنهج، ولذا نقول: إن الاختلاف والتعدد الحاصل بسبب الاختلاف في المنهج بين موافق ومخالف لطريق السلف تعدد مذموم ووجوده شر على الدعوة والدعاة، وتفرقة للقلوب، وبث للضغينة والحسد والغيبة والنميمة. وبعض الناس يأتي ويقول لأهل السنة: إنكم أنتم سبب ما يحدث فأنتم تفرقتم واختلفتم معاشر الجماعات الإسلامية.
إن من يتحمل وزر هذا الخلاف أهل البدع الذين خالفوا طريق الحق، فلا يعمم الكلام ولا يقال: إن كل الاتجاهات الإسلامية بما أنها تفرقت إذاً هي على ضلال أو أنها كلها متفرقة، متحزبة، بل يتحمل وزر ذلك من تحزبوا واجتمعوا على خلاف المنهج الحق، وخالفوا سبيل الحق الواحد، فالواجب ألا يلام أهل السنة على التزامهم بالسنة، ولا يجوز أن يعدوا على أنهم فرقة من الفرق المنحرفة، فهم فرقة من الفرق الكثيرة المنتسبة للأمة لكنها الفرقة الناجية، فالرسول عليه الصلاة والسلام عدها كذلك لما قال: (كلها في النار إلا واحدة)، ففرقة واحدة فقط من الثلاثة والسبعين هي الناجية ولا ينجو غيرها، لذلك لا يصح أن يقال: إن الاتجاهات الإسلامية كلها خطأ؛ لأنها متفرقة، أو كلها متحزبة التحزب المذموم.
إن الاجتماع على الحق ليس تحزباً مذموماً، والعصبية للحق ليست عصبية جاهلية، ونعني بالتعصب أن نكون عصابة شرعية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي على الحق ظاهرين)، فلا بد أن نكون عصابة على الحق، أو طائفة مجتمعة على الحق، من أجل ذلك نقول: على أهل السنة في كل قطر من الأقطار بل في كل مكان أن يكونوا كلهم في الأرض كلها جماعة واحدة، وأن يكونوا معاً في هذه السبيل؛ لأن أصل أمر الخلافة أن الأمة كلها تكون على طريق الحق، وأن تكون تحت قيادة الخليفة، فإذا عجز الناس عن ذلك فأقل شيء أن يكونوا في كل بلد قادرين على التعاون، وأن يكونوا معاً على هذه السبيل، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أمة واحدة وطائفة واحدة، متعاونين على البر والتقوى كما أمرهم الله.
فما بال كثير من الناس اليوم يحبذ التفرقة، ويدعو الناس إلى أن يكون لكل منهم جزيرة مستقلة بزعم أن الاجتماع عصبية وحزبية، هذا كلام باطل وخلط للأمور بلا شك، إذ إن الذي يتحمل وزر الاختلاف المذموم هم من خالفوا الحق وليس من اجتمعوا وتعاونوا عليه، ومن أخطر المسائل التي يكثر فيها الكلام أن بعض الناس -كما أسلفنا- يظنون أن مجرد الاجتماع نفسه مذموم، وهذا من أجهل الجهل، وأعظم الباطل، ولا ينسب أبداً لعالم يفقه دين الله عز وجل ويعلم الواجبات الملقاة على الأمة الإسلامية.
وما زلنا نجد كثيراً من الناس اليوم يحبذ التفرقة، وهو يعلم ما عليه المسلمون من تضييع الواجبات العينية والكفائية، ولا شك في عجز الأفراد عن القيام بهذه الواجبات مع تباعدهم وتفرقهم وعدم انتظامهم في سلك واحد، ولا تقوم دعوة من الدعوات -ولا يعلم في سنة الله الكونية ولا الشرعية أن دعوةً قامت- بغير تعاون ووحدة وائتلاف، اليوم يجتمع الناس في كل المجالات لتقوى شوكتهم، والضعيف يؤكل، والمنفرد يؤكل، هذه سنة كونية في كل المجالات كما أنها سنة شرعية، فالله أمرنا بالاجتماع على طاعته، وقال:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
[المائدة:2]، فلم يأمرنا فقط أن نفعل البر والتقوى، وإنما قال:
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
، فالتعاون على البر والتقوى في نظر أن يعمل أو يترك وقتما يريد وأن هذا هو الأمر الذي أمر الله عز وجل به، لكن بلا شك أن أحسن لفظ يمكن أن يعبر به عن الاجتماع على طاعة الله هو
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
، لكن ليس معنى ذلك أن الأمر متروك لإرادة الناس، فالتعاون معناه: أن يعملوا مجتمعين يجمعهم أمر واحد، وكلمة واحدة ولا يتحقق ذلك مع تباعد الآراء، واختلاف الأمور، بل لا بد أن يكون مرجعهم إلى أولي الأمر منهم، كما قال الله عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء:59].
فأولي الأمر هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، فمن كان من الأمراء يقود الناس بكتاب الله وجب أن يكون الناس معه؛ ليقوموا بواجبات الشرع التي افترضها الله على الأمة الإسلامية كأمة، وعند غياب الأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله يرجع الناس إلى علمائهم، ويلزم هؤلاء أن ينتدبوا واحداً منهم يرجعون إلى أمره، أو يجتمعون بأي طريقة كانت، وإلا ترتب على ذلك أعظم الفتن والمفاسد، وكيف يتسنى لأهل المنهج الحق أن يتفرقوا ويكون غيرهم أحرص على الاجتماع منهم؟! نسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين.
فوحدة المنهج والطريق ووحدة العمل بالتعاون على البر والتقوى كلاهما أمر لازم ومطلوب لكل من سار على طريق النبي عليه الصلاة والسلام،
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
[يوسف:108]، سبيل موحدة، وقد ذكرنا أن اختلاف النوازع والقدرات، والتنوع في الهمم أمر يثري العمل ولا يفرقه؛ لأن كل إنسان إذا كان سائراً في سكة داخل الطريق الواحد، فإن كلاً منهم يتقن باباً ويسير عليه، ولا شك أن هناك قدراً من الاختلاف داخل هذا الطريق الواحد، بمعنى أن فرداً قد يختار أمراً معيناً داخل الطريق الواحد، كما وسع الصحابة رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في مسائل واتفقوا على إقرار كل فريق للآخر على عمله، اتفاقاً منهم على أن هناك من أنواع الاختلاف ما يسوغ، ولذلك فإن مرد الأمر في هذا إلى ما وسعهم رضي الله عنهم، فما وسعهم يسعنا، وما لم يسعهم لا يسعنا، فما عدوا فيه المخالف ضالاً مبتدعاً يجب علينا أن نعده كذلك، وما رأوا فيه أن هذا مما يسوغ فيه الاختلاف؛ لعدم ورود النص فيه، ولعدم حصول الإجماع ولا الخلاف الجلي؛ فإن ذلك يجعله أمراً واسعاً عندهم، وهذا الأمر هو الذي صفت به القلوب رغم وجود قدر من الاختلاف.
فأنواع الاختلاف منها اختلاف التنوع، وهذا يجب استثماره والانتفاع به، واختلاف التضاد السائغ الذي لا يصادم نصاً من كتاب أو سنة أو إجماعاً، وهذا لا يعني تنافي وحدة السبيل، وهذا النوع من الاختلاف يجب احتماله، وأما اختلاف التضاد غير السائغ، وهو ما صادم النص من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس الجلي فهذا يجب محاربته، ويجب عدم قبوله ولا يسعنا، كالخلاف مع أهل البدع والضلال كالرافضة والخوارج والمعتزلة والصوفية وأمثالهم، فلذلك نقول: إن هذا الأمر يجب أن نفقهه جيداً؛ لنسير على السبيل الواحدة التي هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما في الأصل والمصدر: فبأن ترجع إلى الوحي المنزل من عند الله كتاباً وسنة؛ فإن نقاء الأصل فيه نقاء الثمر وصحته وقوته، وهو الذي يثمر الثمار الطيبة، فلو كانت الدعوة إلى الله بزعم صاحبها تعتمد على أصول غير الكتاب والسنة، كالطريقة اليونانية في الكلام، أو التقليد الأعمى في الطرق الفقهية، أو السياسات المأخوذة عن الرؤساء والملوك ونحو ذلك أو أصول التهذيب المأخوذة عن أهل الضلال من المخالفين لأهل الإسلام في تهذيب القلوب والأعمال والمقامات البدعية ونحو ذلك، ثم ينتسب إلى الله، لكن المصدر عنده حكمة الهنود، أو أهل وحدة الوجود أو المبتدعون من أهل البدع، فهذه لا يمكن أن تكون دعوة ربانية، وإن انتسبت إلى أنها دعوة إلى الله؛ إذ الدعوة الربانية لابد أن تكون ربانية في أصلها ومصدرها، قال تعالى:
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
[الأنعام:106]، وقال:
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
[الأعراف:3]، وقال:
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
[النساء:113].
أما الدعوات التي تتخذ من المناهج الكلامية، أو الطرق الفلسفية، أو آراء الرجال، أو تحكمات العقول مصدراً لها فهي لا تستحق أن تكون دعوات ربانية وإن انتسبت إلى ذلك، لذلك بقدر ما نُحصّل من الكتاب والسنة، وتكون دعوتنا فيما نكلم الناس فيه مبنية على الوحي، فنقول لهم: قال الله وقال الرسول، حتى من لا يسمعون منك قال الله وقال الرسول تقول لهم ما قاله الله والرسول بطريقة بيان الحجة، كما قال موسى:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
[طه:50] ونحو ذلك من مناظرة الأنبياء، وبالمناظرات العقلية التي تبين الحجج القرآنية فتذكر لهم ما يقوله الله عز وجل في مقام البيان، وتبين لهم بلسانهم؛ ليتضح لهم الأمر، كبيان معاني الآيات، والأحاديث.
والعبد عندما يدعو إلى الله لا يلزمه أن يحصل على شهادات، مثلما يصنع بعض الجهلة والزنادقة والمنافقين حينما يريدون إيقاف الدعوة إلى الله عز وجل بذلك، لو تأملتم الشهادات الموجودة اليوم لوجدتم أنها لا قيمة لها، -نسأل الله العفو والعافية- فعلى قدر ما عنده من قال الله وقال الرسول يكون داعياً إلى الله عز وجل.
وحتى لو انتسبت إلى الدعوة الصحيحة ولم يكن عندك العلم الشرعي الأصل والمصدر الذي تبنى عليه الدعوة والفهم الصحيح للكتاب والسنة فلن تكون داعياً إلى الله، وقد تقول في الدنيا: أنا منتسب إلى الدعوة السلفية، لكن هذا لن ينفعك يوم القيامة إذا لم يكن عندك حظ من العلم الشرعي، فلكي تكون دعوة إلى الله لابد أن تكون ربانية في أصلها ومصدرها، ولابد أن تكون ربانية في وسائلها ومنهجها، بمعنى: أن تتبع القواعد الشرعية في السلوك، فليست الغاية تبرر الوسيلة كما يظن كثير من الناس، فإذا أردت أن تكون على منهج الأنبياء فالغاية لا تبرر الوسيلة، بل الوسيلة من عند الله، كما أن الغاية إليه وحده، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة من قبله من الأنبياء فيها البيان لوسائل الدعوة وطريقها وما يقدم وما يؤخر، وما هي موازين المصالح والمفاسد حتى لا تختلط الأمور وتلتبس الأحوال.
فالوسائل ليست توقيفية كما يظن البعض فيمنع من استعمال أي وسيلة لم تكن واردة من قبل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالوسائل المعاصرة فيمنع استخدام المجلات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرؤها، وكذا الأشرطة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسمعها، أو يقول عن رحلة لغرض التربية: هذه بدعة، فهذا لم يُعمل ولم يجتمع الناس عليه على أنه يمكن أن يقال: كانت عندهم رحلات شهرية في الغزو في سبيل الله يتربون من خلالها، وتوجه لهم التربية الإيمانية من خلال الأعمال الصالحة.
فاجتماع الناس على طاعة من الطاعات، وتوجيههم إليها بوسيلة من الوسائل المشروعة وإن كانت معاصرة أمر مطلوب، ووجه مشروعيتها: أن تكون ربانية متفقة مع الكتاب والسنة فلا نتبع الطرق الباطلة بدعوى أننا نريد الوصول إلى الحق، كمداهنة أهل الباطل بزعم أننا لابد وأن نصل إليهم من خلال موافقتهم فيما يدعون، وتعجب أن ترى من الناس من يوافق أهل الباطل في باطلهم ويشاركهم فيه وهو يعلم أنه باطل، فيشارك الكفار في أعيادهم، ويزعم أن في ذلك مصلحة الدعوة، وإذا سألته: هل تعتقد أن عيد القيامة مجيد حتى تشارك النصارى فيه؟ فسيقول لك: لا، ولكن المصلحة تقتضي ذلك! وهذا عين المنكر ولا يمكن أن يكون من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، بل هذه وسائل منحرفة.
ومن ذلك تقديم المصالح وتأخيرها بناء على الأهواء، وهنا لابد أن نعلم ما هي موازين التقديم والتأخير.
وسنضرب بعض الأمثلة في توجيه القرآن لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام:
قال عز وجل:
عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى
[عبس:1-2]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما جاءه ابن أم مكتوم ليتعلم الدين وكان مشغولاً بدعوة غيره عليه الصلاة والسلام من رءوس الكفر، فأعرض عن هذا الأعمى لمصلحة الدعوة، فعاتبه الله عز وجل، وذلك أن مصلحة الدعوة في هدم موازين الجاهلية وليس في تعظيمها، فموازين الجاهلية في أن يقدم الكبير وإن كان كافراً، كما يقدم الغني وإن كان ظالماً ضالاً، ويهمل الفقير الضعيف، فكان لا بد من هدم هذه الموازين، وكذا قال عز وجل:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
[الأنعام:52] .
فهذا الأمر منذ نبوة سيدنا نوح عليه السلام لم يتغير، فقد كان الكفار يقولون: اطرد الفقراء ونحن سنأتي معك، -والعياذ بالله- فيوحي الله عز وجل على نوح أن يقول:
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
[هود:29]، لا ينبغي أن نقبل المداهنة في الباطل، كأن يقال: إن من وسائل الدعوة: ألا نذكر ما يغضب الناس منا، فلو أن أناساً يغضبون عند الحديث عن السياسة فسنترك الحديث عن السياسة، وآخرون يغضبهم الحديث عن التوحيد، فسنترك الكلام عن التوحيد، وهكذا أشياء كثيرة لا ينبغي بزعمهم التحدث عنها مراعاة للناس، وهذه من أخطر القضايا، بل لا بد أن نعلم أن قضايا الإيمان والإحسان لا تقبل المداهنة، بمعنى: أنها لا تقبل أن يسكت الإنسان عنها أو يحجم عن بيانها، فضلاً عن أن يبين خلافها أو يذكر خلافها.
فتجد من يسأل عن حكم شرعي في التبرج، وأهل التبرج أمام عينيه، وقد يسألونه عن البنطلون الجنز، فيحدثهم عن رحمة الله الواسعة، وعن سعة صدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعن مغفرة الله عز وجل، ولا يجيب عن أسئلتهم؛ لأنه إن أجابهم وبين لهم حرمة ذلك فسيسمونه بالمتطرف.
ونود التنبيه هنا إلى أنه ليس المقصود من أمثلتنا الوسائل المعاصرة في تبليغ الحق للناس، أو التي تسهم في تربية الناس على الحق بأي طريقة شرعية صحيحة وإن كانت مختلفة بشرط أن تخلو من البدع والضلالات، بل ما ننبه عليه هو المداهنة التي تسمى اليوم وسيلة، ومن صورها ما يفعله البعض عندما يكون في مجتمع كافر بل أحياناً في مجتمعات المسلمين حيث يساير الناس فيما هم مقبلون عليه من التعامل بالربا أو من شرب الخمر، ويبرر فعله الشنيع بقوله: هذا من مصلحة المسلمين، عجباً كيف تكون مصلحتهم في أن يشاركوا في هذه المجالات؟! وقد يبرر فعله بدعوى التوصل إلى التأثير، أو أخذ خبرة في البنوك ويشيع أنه لا مانع من أن تدخل البنوك الربوية بحجة التعلم أو عدم ترك هذه المجالات فارغة، فيدخل معهم في كل مجال حتى في الربا، أو في الأفلام السينمائية، أو القرى السياحية.
وكل ذلك بدعوى المصلحة وقد يعدها من وسائل الدعوة وهي ليست كذلك؛ لأنك في الحقيقة تعتبر مشاركاً للمنكر.
سألت مرة امرأة أحد الدعاة المشهورين في بلد من بلاد الكفار عن زوجها الذي كان لديه سوبر ماركت وهو يريد أن يضع عليه (ماركة عالمية)، وهذه الماركة من الماركات المشهورة، وعند وضعها يصير فرعاً من فروع هذه الماركة، وسيربح عند ذلك أموالاً طائلة، لكن إدارة الماركة اشترطوا عليه أن يبيع الخمور، وقد نصحته الزوجة بحرمة ذلك، والزوج مصر على العرض، فقال لها الداعية: لا أستطيع أن أفتي زوجك بترك العمل من أجل قليل من الكحوليات، ويبرر ذلك بأنه من أجل مصلحة قوة الاقتصاد الإسلامي، ومثله أهل الباطل والضلال والزندقة والنفاق المنتسبون إلى أهل العلم الذين يقولون: لا بد من بيع الخمر من أجل السياحة فهذا ضلال مبين، فلا يجوز للمسلم أن يظن أن هذا من وسائل الدعوة، أو أنه طالما أن غايته أن يدعو إلى الله عز وجل، أو أن يعبد الناس لربهم، أو أن يدعوهم إلى الالتزام بالإسلام، فله إن من أجل ذلك أن يستحدث الموازين الباطلة، ويقدم المصالح الموهومة على المصالح الشرعية، ويخلط الحق بالباطل من أجل قبول الناس لشيء من الحق، فهذا انحراف أيما انحراف.
يقول لك سأشاركهم في ضلالهم من أجل أن أدعوهم إلى الله، بل لا تشاركهم في ضلالهم إلا أن تنكر عليهم ذلك.
أما أن يكون البديل الإسلامي المقترح هو الخوض في المنكرات. فهذا لا يجوز أن يكون حلاً إسلامياً.
فالمقصود أن الطريق والمنهج والوسائل لابد أن تكون أيضاً ربانية حتى تكون دعوة إلى الله، وإلا لوكانت دعوة مقصدها الله سبحانه وتعالى، ولكنها في وسائلها غير ربانية فهي لا تستحق أن تكون دعوة إلى الله، فلا بد أن تكون كذلك في الأصل والمصدر والطريق والمنهج والغاية والمقصد.. الغاية والمقصد لابد أن يكون وجه الله والدار الآخرة لا غير، وذلك من خلال العمل لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض،
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
[الكهف:110].
هذا التمكين منة من الله تعالى وليس بيد الدعاة ولا من كسبهم، قال الله تعالى:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ
[الحج:41].
فالتمكين من أجل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد يزعم البعض أنه يريد التمكين لدين الإسلام وهو لا يصلي الفجر مثلاً، فهل ينتظر التمكين لكي يصلي الفجر؟ وهل يريد التمكين إلا لإقامة الصلاة، كما لا ينفع أن تقول: أنا سأدعو إلى الله، وغايتي التمكين للإسلام، وإعلاء كلمة الله. وأنت لا تؤتي الزكاة الواجبة أو تكون قادراً على أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بدرجة من الدرجات وأنت لا تفعل ذلك، إذاً: أنت تريد التمكين لكي تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
لذلك لا يمكن أن يكون مقصدك التمكين لله عز وجل، وإعلاء كلمة الله، وأنت تتمكن من ذلك ثم تفرط فيه قبل أن يتحقق؛ لأن وسائل تحقيق العبودية كثيرة بحمد الله، وإنما المهم ألا يقصر الدعاة فيما يجب عليهم مما يقدرون عليه، أما الدعوات التي تجعل غايتها التسلط على رقاب الناس، أو الظفر بهم للانتقام؛ إذ إن هناك دعوات تتحول بعد مدة إلى أن يكون الهدف لمنتسبها أن يتسلط على هؤلاء وينتقم ممن آذاه أو يسعى وراء الملك والجاه والثروة والراحة تخلصاً من المطاردة والاستضعاف والفقر والخوف، فهذه ليست بالدعوات الربانية، كما أنه لا ييئس إذا لم يحدث التمكين، فهل أترك العمل لأني كنت أظن أني سأتمكن خلال كذا سنة ولم أتمكن، أو كنا نظن أن الدعوة إلى الله لابد أن تثمر ثمارها، وإذا لم تثمر، ولم يحصل الغرض المقصود لتقصير أو عجز، فهل معنى ذلك أن نسلك ذلك الطريق إذاً: أنت فعلاً جعلت التمكين هو الغاية، وليس وسيلة لتحقيق العبودية، فالتمكين وسيلة لتحقيق العبودية، وإذا كان مطلوباً ويحبه كل مؤمن فليس من أجل شيء إلا لمزيد من العبودية لله عز وجل.
وبالتالي فلا يظهر في سلوك الإنسان أنه إذا لم تثمر هذه الوسيلة تركها، ولا يجعلها غاية ويقول: أنا أريد أن أعيش، ثم يترك الالتزام، ويترك الدعوة إلى الله عز وجل، ولذا لا بد أن يعلم أن التمكين وسيلة وليس غاية، وإن غايته الله عز وجل، فالله وحده هو القادر على التغيير، ولا يستطيع أحد أن يقطع عنك ثواب الله، أو يمنعك من الجنة، لذا لا تيئس وتترك الالتزام، أو تحاول أن تنتقم ممن لم يستجيبوا لك وتتحول غايتك رأساً على عقب، أو تكون كمن يريد أن ينطح الصخرة ويريد أن يكسرها، حتى لو كسر رأسه ثم يظن أنه قد أدى ما عليه فيترك العمل محتجاً بأنه لم يثمر، وهذا ليس صواباً، فالذي عليك هو أن تطيع الله إلى أن تموت، بل وتجتهد في أن تأخذ الوسيلة الموصلة إلى الغاية، والعبودية هي الغاية، ومعلوم أن العبودية لله سبحانه وتعالى تتحقق في أي مكان، سواء كنت غنياً أو فقيراً، فالمسلم الرباني عبد لله في كل أحواله وأوقاته، فقيراً كان أو غنياً، ممكناً كان أو مستضعفاً، مظلوماً في ظلمات السجون، أو ملكاً ممكناً على رءوس الناس.
فندعو الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح في كل حين.
فالربانية من سمات الدعوة إلى الله وهي التي تمنحها صفة الاستقرار، فهي لا تتلون بتلون ما حولها، ولا تغير جلدها، ولا رايتها، ولا ولاءها حسب المصالح، فلا تتغير مثل تغير الشيوعيين الذين هم أقبح البشر فقد كان ولاؤهم قبل سنوات للشرق، ثم بعدما انهارت الشيوعية أصبحوا هم أكثر الناس عبيداً للغرب.
وكم من أناس كانوا يتكلمون على الإمبريالية والرأسمالية والاشتراكية وكانت حياتهم كلها على ذلك، على أن هناك من المنتسبين إلى الدعوة أُناساً عندهم استعداد لتغيير الولاء حسبما يريد من بيده السلطة، أو الملك أو الغنى والمال، فمن يدفع الأكثر يكون الولاء له، وهذا أمر مرفوض لأننا لا يمكن أن نتلون ولا أن ننتمي إلى أحزاب الضلال لأنها الكثرة الآن، فالدعوة الربانية لا يمكن أن تغير لونها ولا جلدها ولا رايتها ولا ولاءها حسب المصلحة كسائر الدعوات الأرضية؛ لأنها ربانية لله عز وجل، إذاً لا فرق في أن نكون ممكنين أو مستضعفين بل يظل ولاؤنا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين، سواءً كانوا هم الأقوياء أو الضعفاء.
وكم نعجب ممن ينتسب إلى الإسلام عندما يسألون: كيف توافقون الشيشان؟ فيجيبون: نحن لا نوافق الشيشان بل أنتم تتهموننا باطلاً، بل نحن حريصون على وحدة الأراضي الروسية. وهذا كان مضمون بيان إحدى لجان الجامعة العربية، فتجدهم يؤكدون أنهم حريصون على وحدة الأراضي الروسية، وأنهم ضد الدعوات الانفصالية.
فهذه مصيبة عظيمة وغير محتملة، إذ كيف يصل الولاء إلى أنك لا تريد أن تنتمي إلى الإسلام؛ لأنهم ضعاف وقلة مثلاً، بل إن بعض البلاد حتى الإسلامية عندما يسمعون عن إبادة للمسلمين في دولة من الدول يصرحون أنه لا شأن لهم ويقولون: نحن من سياساتنا الأساسية الإسلامية ألا نتدخل في الشئون الداخلية للدول الإسلامية الأخرى، وتعجب كيف لا يتدخل في الشئون الداخلية والمسلمون يبادون، بل العالم كله يتدخل وأنت تصرح أن من أساسيات مبادئك أنك لا تتدخل في الشئون السياسية الداخلية. هذا كلام عظيم النكارة.
ومن سمات الدعوة الشمول والاتساع، فليست منحصرة في جانب واحد بل تأخذ الدين وتقوم به من جميع جوانبه علماً وعملاً وسلوكاً وخلقاً.
ونعني بالشمول والاتساع: أن هذه الدعوة ليست دعوة مقتصرة على جانب معين ككثير من الدعوات التي تقتصر على جانب معين، فتجد من الناس من يجعل همه أن الإنسان يحفظ القرآن، أو أن يكون الناس في هيئتهم الظاهرة ملتزمين بالسنة، وآخر يكون عنده اهتمام بجزئية معينة من بعض القضايا الاعتقادية، وآخر تجد أن أهم شيء عنده أن يكون الفرد متحمساً للعمل الإسلامي من غير أن يكون عنده أي جوانب أخرى، ولذلك تجد ازدواجية خطيرة في الشخصية، وهذا الكلام موجود لدى كثير منا في الحقيقة، بل كل منا فيه قدر من هذه الازدواجية وعدم الشمول، فتجد بعضنا، وإن كانت هيئته إسلامية، لكن أخلاقه لم تتغير بعد، كذا تعامله المادي لم يتغير بعد، وما زال على طريقة أهل الباطل والجهل والظلم والعدوان، ولم يتغير في اعتقاداته بل زال بعيداً عن الفهم الصحيح للعقيدة وتطبيقها الحقيقي، كذلك التزام الحلال والحرام، وقضايا كثيرة جداً لم تزل موجودة على ما كانت عليه، فكثير من الدعاة يركز على جانب معين دون شمول باقي الجوانب، وهذا خطر بلا شك، فالدعوة الربانية حتى تكون دعوةً إلى الله صحيحة النسبة لابد أن تكون دعوة شاملة لمعاني الدين كله، فتغير الإنسان كفرد وتغيره كأمة، وهذا من أخطر ما يلام عليه الكثير من الدعاة، أعني: تقصيرهم باقتصارهم على إصلاح جانب معين من جوانب الفرد ومن جوانب الأمة دون بقية الجوانب، فيحصل النتوء في الشخصية بسبب أن فلاناً بالغ جداً في قضايا معينة، وربما كان الاهتمام بها في حجمها مشروعاً، ولكن أن تكون هي الإسلام الوحيد للإنسان، فأمر غير محتمل وغير مرضي أبداً، ولا يمكن أن يكون من سمات الشخصية المسلمة المتكاملة.
وكذلك بعضنا يهتم بإصلاح الفرد ولا يهتم بإصلاح الأمة، بل يتعبد لله ويقول: ممنوع أن أتكلم في أمر الأمة، أو العقائد، أو البدع، أو السياسة، فبماذا يتكلم إذاً؟ أيتكلم في دعوة الناس إلى أن يذهبوا إلى المسجد ثم يخرجوا بعد ذلك إلى الدعوة، فأين إصلاح الأمة؟ وأين تغيير هؤلاء الأشخاص أنفسهم في الاعتقاد والعمل والسلوك والعبادة وسائر الأمور؟ فبعض الناس قد يهتم بجانب العبادة أو التهذيب، وقد يحصل بذلك خلل في الدعوة، فالدعوة الربانية هي التي تأخذ الدين كله، وتقوم به من جميع جوانبه للفرد وللأمة، فتكون الشخصية المسلمة، وتسعى في إيجاد الطائفة المؤمنة التي تقوم بفروض الكفاية.
وكذلك يجب أن تكتسب الدعوة صفة العالمية،
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
[يوسف:104]، هذه قضية عظيمة ليست محلية.
فكثير جداً من الدعوات تتأثر بالواقع الذي تعيشه، وتنعزل عما سواه، فتجد الذي يعرف الأزمة الجزائرية يقول لك: نريد أن نتجه بقضيتنا إلى طريقة اتجاه الجزأرة، يعني: نحن ملتزمون بالسنة والدين ولكن ليس لنا دخل في شيء آخر أبداً، وإنما نحن نختص بأنفسنا فقط.
فأين هم
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
[يوسف:104]؟ إن شأن المسلم أن يكون شعاره: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فهل كان هذا تدخلاً في شئون دولة الفرس؟ نحن مأمورون بالتدخل لمصلحة الإنسان، ومأمورون بأن ننقذ الإنسان من ظلم الإنسان، وأن نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. والله تعالى أعلى وأعلم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر