www.islamweb.net/ar/

فتية آمنوا بربهم [5] للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • لا علم للعباد إلا ما علمهم الله سبحانه، فهو العالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، يعلم ما كان وسيكون، ومن ذلك علمه بعدد أصحاب الكهف ومدة مكثهم في كهفهم، والواجب على العباد أن يردوا ما أشكل عليهم إلى عالمه، وأن لا يتكلموا إلا بعلم.

    عدد أصحاب الكهف

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    يقول الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا * وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:22-28].

    قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ): يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: رجماً بالغيب أي: قولاً بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه؛ فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: (وثامنهم كلبهم) فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.

    وقوله: قل ربي أعلم بعدتهم إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى؛ إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.

    وقوله: ما يعلمهم إلا قليل أي من الناس. قال قتادة : قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول: عدتهم سبعة، وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال: أنا من القليل، كانوا سبعة.

    فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.

    وهو استدلال دقيق من كتاب الله عز وجل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أبطل قولين وسكت عن الثالث فأرشد إلى القول الراجح، وأرشد إلى ثمرة الخلاف، وما ينبغي في مثل هذا الموطن.

    كيفية عرض أدلة المسائل الخلافية

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن القرآن أشار في هذه القصة وهذه الطريقة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف، فالذي ينبغي في مسائل الخلاف استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الثابت منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا من أعظم وأهم ما دل عليه القرآن فيما ينبغي أن يكون في مسائل الخلاف.

    وكثير من الناس يهمل في مثل هذا المقام أشياء مما ذكرنا، فمنهم من لا يستوعب الأقوال المذكورة، فيكون قد قصر في إزالة الشبهة عن بعض الناس؛ لأنه يحتمل ألا يكون قد اطلع على القول الذي لم يذكره، فكيف يرجح أو يبطل قولاً هو لم يطلع عليه، فلذلك كثير من الناس إذا ذكر قولاً وفي المسألة أقوال يتضح للسامع أو القارئ أن المتكلم أو الكاتب ليس عنده من العلم ما يجعله يستوعب المسألة.

    وقد يذكر كثير من الناس الأقوال دون إشارة إلى ضعيفها من صحيحها، ولا يبين من أين يؤخذ القول الصحيح، ومجرد حكاية الأقوال دون إشارة إلى الراجح والمرجوح تضييع للوقت، وإشغال للعقل من غير ما فائدة، وماذا يستفيد من حكيت له الأقوال المختلفة في مسألة واحدة، وهي متناقضة متضادة، وما رجحت له وما شفيت غليل قلبه؟! ولذلك لا يصح الاعتماد على الكتب التي تحكي الأقوال مجردة بلا دليل وبلا ترجيح.

    وقد وجد في كتب الفقه من يستخدم الطريقتين، فمنهم من لا يذكر مسائل الخلاف وإنما يذكر قولاً واحداً هو مذهبه الذي يعتقده ولا يشير إلى غيره، ومن الكتب ما يجمع المذاهب المتعددة ويجعلها أمام القارئ، وكذا من يعلم طلاب العلم يذكر لهم الأقوال المتعددة، وربما بعض المفتين يفعل ذلك جرأة على الفتوى بغير حق، وذلك أنه يعرض على المستفتي فلان قال كذا وفلان قال كذا، ويتركه ينتقي بنفسه، وهذا من أعظم أسباب الانحراف، ومن تمليك العوام زمام الفتوى الذي ليس لهم منه نصيب، وليس لهم أدواته ولا العلم به، والصحيح أن سبب ذلك هو التقليد الأعمى، وجعل أقوال المشايخ والأئمة بمنزلة الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تقصير، فلابد أن يشير إلى الراجح والمرجوح.

    فهم إشارات القرآن والاستنباط منها

    فهم ابن عباس رضي الله عنه من كتاب الله عز وجل ذلك بدقيق الفهم وعميق العلم، فعلم كيف أشار القرآن إلى تضعيف القولين، وأشار إلى تصويب وتصحيح الثالث بالسكوت عنه؛ فإن الله ما كان ليسكت على منكر ذكر في كتابه سبحانه وتعالى، وقد لا يكون النص صريحاً واضحاً يفهمه كل أحد، ولكن يشير إليه القرآن، وقد يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي قد فهم إشارة القرآن فيبين ذلك بكلامه، كما ذكرنا في قوله تبارك وتعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فكان فيها إشارة إلى أن الذين قالوا ذلك ليسوا من أهل العلم ولا الصلاح ولا الإيمان، وإنما من أهل القوة والغلبة والسلطان، ومعلوم أن المتقدمين من كان فيهم من أهل القوة والسلطان كان قليل العلم أو منعدمه، أو عنده أنواع من البدع، وبين النبي صلى الله عليه وسلم إشارة واضحة عند من تأملها بنهيه عن اتخاذ القبور مساجد، وأن اليهود والنصارى لعنوا بسبب اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.

    والمقصود: أن القرآن لا يسكت على الباطل الذي يحكيه بل يرده ويبطله، ولكن كم من الناس من يفهم ذلك؟ قليل، كم من الناس يستطيع الاستنباط من كتاب الله عز وجل بهذه الطريقة التي كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون ويستنبطون بها؟ قلة نادرة، وكلما اقترب الإنسان من كتاب الله وكان ألصق بطريقة الصحابة رضي الله عنهم؛ ازداد فهماً ووضحت له الأمور، وقلما أعوزته النصوص، وقلما يضطر إلى القياس؛ لأن النصوص تكون عنده واضحة وبينة يأخذ منها الأحكام بطريقة سهلة ميسرة، ويتعجب الناس كيف وصل إلى هذا! مع أنه واضح وجلي وبين، لكنه فهم يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء، كما قال علي رضي الله عنه عندما سألوه: هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، ثم أخرج كتاباً فيه قدر الديات، وأسنان الإبل، وأنواع من الجراح، وألا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، وأن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ثم قال: إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتاب الله. وهذا من أعظم أبواب العلم أن يفقه الإنسان القرآن، فيعرف الإشارات والدلائل القرآنية التي يستدل بها، ولكن هذا قلة في الناس، ولذا قال: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وطوبى لمن تعلم هذا من حبر هذه الأمة وعالمها عبد الله بن عباس فيكون من القليل، وإلا فكم من الناس يقرءون سورة الكهف ولا يدرون ما الراجح من هذه الأقوال، وما هو عدد أصحاب الكهف، وإذا قرأ الإنسان ذلك وفهمه وعلم كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه فهم الراجح من المرجوح في هذا.

    والترجيح يكون بالدليل، ذلك أن الله هو الأعلم: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فالدليل كان من الوحي؛ لأنه لا سبيل إلى معرفتهم بالعقل، فكيف ندرك عدد أصحاب الكهف بطريقة من طرق الحساب، أو بوسيلة من وسائل النظر والاستدلال؟ لا يمكن معرفة ذلك إلا من خلال دليل سمعي، أو دليل من الوحي ينزل على الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فكان هذا؛ لأن الله هو الأعلم قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ دليل على أن ذلك لا يتلقى إلا من جهة الوحي من عند الله الذي هو أعلم بالعدة.

    كذلك ينبغي أن يقول الإنسان بعد ذكر مسائل الخلاف: الله أعلم.

    ذم استفتاء الجهال ومماراتهم

    ثمرة الخلاف في ذلك قليلة، ولذا قال: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا لا فائدة من المناظرة في مسائل لا سبيل إلى البحث فيها إلا من خلال الوحي، ومن قبل الوحي انقطع عن الكلام، ومن أباه لا ينبغي أن يعارض، ولا ينبغي أن يضيع الوقت معه، ولا ينبغي أن يمارى أو أن يستفتى، وذلك لجهله وضلاله وانحرافه عن الحق، فكيف نستفتيه؟! ولذلك قال عز وجل: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ، وهذا دليل على النهي عن استفتاء الجاهل، وأنه لا يجوز أن يستفتى، وهذا بإجماع أهل العلم: أنه لا يجوز لأحد من المستفتين أن يستفتي من يعلم جهله أو بدعته أو فسقه، قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ورتب الذنوب مبتدئاً بتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، أي: أن الذنب الذي فيه اعتداء على حقوق المخلوقين أشد وأبعد عن المغفرة حتى يسامح ذلك المخلوق، ثم ذكر الشرك، ثم ذكر أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، ولذا كان هذا من أعظم الخطر، ومن يفتي في دين الله سبحانه وتعالى بما لا يعلم فإنه داخل في هذا الوعيد، وإن كان لا يلزم أن يكون مستوياً مع المشركين، لكنه قد شابههم في بعض فعلهم فاستحق جزءاً من جزائهم.

    والذي يرى أن من حقه أن يشرع للناس ديناً وعبادات، أو يرى ذلك حقاً لغيره وينسبها إلى الله عز وجل، ويجعل ذلك ضمن الدين الذي شرعه الله؛ فهذا هو الشرك الأكبر الذي عليه كثير من الناس -والعياذ بالله- حيث يجعلون الدين حقاً للناس لهم أن يقولوا فيه ما يشاءون بغير دليل ولا حجة.

    ذم التقليد بلا دليل

    هذه الآية الكريمة فيها دليل على ذم التقليد، وذم القول بلا دليل، وكلاهما باطل ومنكر؛ فمن يتبع بغير حجة، ويعمل بغير حجة ولا دليل لم يأت بسلطان بين، وهذا افتراء على الله الكذب -والعياذ بالله-، وهذه الآية نزلت في المشركين لكنها ذمتهم على أوصاف معينة لا يجوز أن يوجد في المسلمين شيء منها، فالذي يتبع لمجرد أنه وجد الناس يفعلون فهذا هو المقلد الذي يقلد من ليس قوله بحجة بلا حجة، وهذا مذموم، فطالما كان قادراً على أن يعرف الحق، وإذا كان لا يعلم الحق ولا يستطيع الوصول إليه فإنه يسأل أهل الذكر، كما قال الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    والحق أن هذا بمنزلة الميتة للمضطر، وإلا فأن يكون الإنسان على بصيرة طالما أمكنه ذلك فهذا فرض عليه، وأما إذا كان عاجزاً فإنه يسوغ له ذلك للضرورة، كما يأكل المضطر الميتة، وكما يقلد الأعمى غيره في القبلة؛ فإن هذا يسأل أهل الذكر لضرورته إلى ذلك، وإذا وضح له الحق بالدليل لم يجز له أن يتركه بحال من الأحوال.

    عظم ذنب المفتي بغير علم

    لابد أن يحذر المفتي أعظم الحذر من أن يفتي بغير علم، ومن أن يقضي بلا دليل؛ فإن تحليل الأموال والفروج والأطعمة والأشربة والحقوق إذا كان بلا بينة فهو من أعظم الافتراء والعياذ بالله، فمن استحل ذلك ورأى أن له أن يشرع، وأن يحلل ويحرم؛ فهذا أظلم الظلم وأكبر الشرك، وإذا كان يفعل ذلك بتقصير في الاجتهاد مع كونه قد تعرض للإفتاء، وأن ينسب إلى دين الله عز وجل كلامه فهو ذنب عظيم، ولذا اتفق العلماء على أن من شروط المفتي: أن يكون عالماً مجتهداً، وكذا من شروط القاضي: أن يكون عالماً مجتهداً؛ لأنه ينسب كلامه ذلك للدين والشرع، ويحكم باسم الشرع، وبالتالي فإذا حكم بغير علم فقد ضل -والعياذ بالله- وافق الحق أم خالفه، كما في الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ فالذي علم الحق وقضى به فهو في الجنة، والذي علم الحق ولم يقض به فهو في النار، والذي لم يعلم الحق فهو في النار). ولم يذكر وافق أم خالف؛ لأن قبول هذا لولاية القضاء -ومثلها ولاية الإفتاء- وهو لا يعلم يعتبر جرأة عظيمة على الله سبحانه وتعالى، وهو في النار على أي الأحوال حتى لو وافق الشرع، فما وافقه لأنه يعلمه بل وافقه لأنه وافق هواه، ولذا كان الإفتاء بالباطل والتعرض للفتوى ممن ليس من أهلها، وكذا التعرض للقضاء ممن ليس من أهله أمر عظيم، فاعله له شبه من هؤلاء الذين افتروا على الله عز وجل كذباً، فلهم نصيب من ذلك على قدر ما فعلوه من تبديل الدين وتحريفه، وهذا سبب انحراف الأمم عن دين الأنبياء، فقد وجد فيهم من ينسب إلى هذا الدين ما ليس منه، فيقول على الله ما لا يعلم، ويفتري على الله عز وجل الكذب، فلذلك كان السلف رضوان الله عليهم يخافون جداً من مرتبة ومنصب الإفتاء والقضاء ويشفقون منها، وكلهم ود لو أن أخاه كفاه مئونة المسئول فأجاب عنه بدلاً من أن يعرضه لهذا الخطر.

    وكان كثير جداً من السلف يرفضون منصب القضاء مع أهليتهم لخوفهم على أنفسهم من ذلك، كما يروى أن الشافعي رحمه الله لما عرض عليه هارون الرشيد أن يتولى القضاء ببغداد قال: لو أعطيتني ما عندك من الملك وملك الدنيا على أن أغلق باب القضاء بالليل وأفتحه بالنهار لما قبلت ذلك، فانظر إلى قضاء شرعي يتولاه مثل الإمام الشافعي يعرض عنه، ولو كان له مثل ملك الدنيا حتى لا يكون مشاركاً فيما قد يكون مخالفة للشرع.

    ومع أن أهل العلم كانوا بالفعل أئمة مجتهدين، فمن أمثلة من تولى القضاء: القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ، وإمام عالم كبير مجتهد، فإذا كان الأمر كذلك فما أعظم ذنب من يفتي الناس بغير علم، ويقضي بينهم بغير علم، وينسب ذلك إلى الحق، وأنه الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فإن من لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الفتوى فيفتي بلا علم، أو لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الذنوب والمعاصي، كيف يستأمن على الفتوى؟ فلا يجوز استفتاء الجاهل، ولا يجوز استفتاء الماجن الفاسق المتخبط في المعاصي الذي ظهرت معاصيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي أن يستفتى في أهل الكهف من أهل الكتاب أو من غيرهم أحداً لفساد ما عندهم، وكذلك لكونهم لا تقوى عندهم لله سبحانه وتعالى تحجزهم عن مواقعة الباطل والإفتاء بالباطل.

    ثمرة الخلاف في عدد أصحاب الكهف

    قال ابن كثير رحمه الله: وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق -الأوضاح هذه مثل الفضة، يعني: كانوا صغاراً في السن- قال ابن عباس : فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله، وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا ، وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش ، هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق ومن بينه وبينه؛ لأنه لا يصح أن يكون ابن عباس يقول: هم ثمانية، فإن الصحيح عنه بالأسانيد الصحيحة أنهم كانوا سبعة كما أن القرآن لم يحك القول بأنهم ثمانية، فدل ذلك على أنه غير مذكور ولا يعتد به ابتداء.

    فإن الصحيح عن ابن عباس : أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الآية. وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم حمران نظر في صحته والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب، فقد قال تعالى: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا سهلاً بيناً، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. ولذلك لا ينبغي أن يناقش الإنسان في مسائل إلا بعد أن يعلم ثمرة الخلاف فيها، وإذا كان على غير ذلك فلتكن المجادلة بطريقة سهلة ميسرة، ولا ينشغل بالتدقيق والتحقيق في مسائل لا تفيد.

    ولو أن أهل الفقه المتأخرين التزموا هذه القواعد لما حصل ذلك التقليد الأعمى والانحراف الشديد الذي وقع في كتب الفقه المتأخرة عما كان عليه الفقه في السنين والقرون الأولى بعد أيام الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والتابعين لهم بإحسان، فلقد كان الفقه ميسراً سهلاً، وإنما جعله صعباً عويصاً هذه التفريعات الكثيرة التي كثير منها لا ثمرة لها ولا فائدة منها عملياً؛ فيترتب على ذلك تضييع الوقت والعمر، فقال عز وجل: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا أي: سهلاً ليناً هيناً كما قال ابن كثير .

    قال ابن كثير : وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رَجْمًا بِالْغَيْبِ أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.

    إن الجدال والمراء لا ينبغي إلا أن يكون بالتي هي أحسن، فإن الله عز وجل قال: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] وذلك لإظهار الحق وإبطال الباطل، ودون قبول الدخول في تفاصيل لا فائدة منها ولا ثمرة من ورائها.

    وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً) وهو حديث حسن أو صحيح، فهو لمن علم أن مراءه لا يفيد، وأن جداله وصل إلى طريق مسدود، وأن البحث عن الحق قد انتهى بسبب الخصومة، وأصبح الناس يتعصبون لأقوالهم؛ فعند ذلك لو كان محقاً يترك المراء.

    وأما إذا كان الطرف الآخر والمناظر أو الباحث يبحث عن الحق وما زال يتحرى الصواب، فينبغي أن يستمر معه في المراء، وليكن بالطريقة السهلة البينة الواضحة الهينة.

    الاستثناء في الفعل ورد علم المستقبل إلى الله

    قال تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].

    يقول ابن كثير رحمه الله: هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية: مائة امرأة)وهذا هو الأرجح، لأن مفهوم العدد إذا خالفه منطوق فيقدم المنطوق الأكثر فهو يشمل الأقل، وربما قال: سبعين ثم عزم على التسعين، ثم عزم في النهاية على مائة، قال: (وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل. فقيل له، وفي وراية قال له الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان)وضعت جنيناً مشوهاً، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين).

    وهذا يدلنا على أهمية الاستثناء، وأن يقول الإنسان: إن شاء الله، سواء أقسم أو أخبر أنه سوف يفعل، وسليمان عليه السلام لم يقل فيها: إن شاء الله، إما أنه اجتهد فأخطأ أو نسي صلى الله عليه وسلم، اجتهد أن هذه نية طاعة فلا ينبغي أن تقيد بالمشيئة وليس الأمر كذلك بل ينبغي أن تقيد بالمشيئة، أو أن الملك قال له ذلك فانشغل بما كان عزم عليه من الهمة العالية ابتغاء وجود المجاهدين في سبيل الله، فنسي أن يقول: إن شاء الله، وقدر الله عز وجل عليه أن لا تلد منهن امرأة واحدة، وذلك لأنه لم يقل: إن شاء الله؛ تعليماً للأمة في زمنه وبعد زمنه فائدة رد الأمور إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.

    وهذا الحديث أحسن ما يفسر به قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، فالجسد الذي ألقي على كرسيه هو شق ذاك الغلام الذي وضعته إحدى نسائه، ولم تضع غيرها، وكان في ذلك فتنة وامتحاناً له ليعلم من أين أتي في هذا المقام؟ حيث نسي أن يقول: إن شاء الله، أو انشغل عن ذلك، ثم أناب ورجع إلى الله سبحانه وتعالى وصار بعد ذلك يستثني ولا يترك ذلك، والله أعلى وأعلم.

    سبب نزول سورة الكهف

    قال ابن كثير رحمه الله: ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: (بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؛ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقال: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غداً عما سألتم عنه، ولم يقل: إن شاء الله، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه! حتى أحزن رسول الله تأخر الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]).

    مسألة الاستثناء في اليمين

    ذكر الله في أول مسألة من المسائل الثلاثة مثالاً للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]؛ لأنه ترك الاستثناء صلى الله عليه وسلم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يستثني.

    قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له. يعني: إذا لم تقل: إن شاء الله نسياناً، ثم تذكرت بعد ذلك فإنه يصح أن تقوله. قاله أبو العالية والحسن البصري ، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ إذا نسيت ذلك. قيل للأعمش : سمعته من مجاهد فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم -وهو ضعيف- وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.

    يقول: ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة، فله أن يقول ذلك، ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى لو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله، ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم.

    لأن قول ابن عباس رضي الله عنه: له أن يستثني ولو بعد سنة في حلفه إن كان يقصد به أنه يسقط عنه كفارة لما كان هناك أصلاً معنى للحنث في اليمين ولا الكفارة؛ فإن كل إنسان أراد أن يتخلص من إثم حنثه فيما حلف عليه أن يقول في أي وقت: إن شاء الله، ثم إن التقييد بسنة لا يقصده ابن عباس وإنما يقصد التكثير، فالذي لا شك فيه: أن ذلك غير مقصود؛ لأنه يؤدي إلى إلغاء كفارة اليمين أصلاً وإلى أن يصبح اليمين قابلاً للإلغاء؛ لأنه يستثني إذا تبين له أنه يريد أن يخالفه مع أنه يكون قد حلف يميناً ناجزة ملزمة له، لكن الذي يحمل عليه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مسألة الأدب دون مسألة الكفارة، وعند الجمهور أنه لا يأثم الإنسان أن يحلف لا يفعلن كذا، ولكن يرون أن ذلك خلاف الأدب، والله أعلى وأعلم، ويقولون: هذا النهي للتنزيه، ويقولون: إن قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف:23] للتنزيه، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم على أشياء وأقسم أصحابه رضي الله عنهم على أشياء لا يفعلونها على أن يفعلوها ولم يستثنوا فلم ينههم عن ذلك نهياً جازماً أو نهي تحريم، فتبين بذلك أن هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام فيما أقسم عليه فإنه يدل على أن هذا النهي للتنزيه والله أعلى وأعلم. ولذلك نقول: إن كان لتحصيل الفضيلة، فيقول: إن شاء الله ولو بعد سنة، أما إذا حلف واستثنى مباشرة بعد اليمين كان الاستثناء صحيحاً، وإذا لم يستثن مباشرة بعد اليمين وفصل فاصل عرفياً لم يصح الاستثناء، وهذا الفاصل العرفي لا يدخل فيه النفس الذي انقطع، أو أراد أن يأخذ نفساً، أو أنه مثلاً عطس أو انشغل بأمر أدى إلى أن لا يستثني مباشرة، وبعض العلماء يشترط أن يكون هناك نية الاستثناء منذ أول الكلام، والذي يظهر أنه لا يلزم ذلك، بل ربما تحدث له نية الاستثناء أثناء القسم أو في آخره وطالما اتصل به أجزأ.

    وأجمعوا على أنه إذا قال: إن شاء الله. في قسمه ليس عليه حنث، وإذا خالف ما حلف عليه لم يحنث بذلك، ولم يكن عليه كفارة؛ لأنه قال: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم.

    وذهب أهل الظاهر إلى أن له أن يستثني ولو بعد سنة، ويكون ذلك بديلاً من الكفارة، وهذا القول باطل ليس بشيء ولا قيمة له، وإن كان يظن أنه قول ابن عباس وليس كذلك إن شاء الله.

    وقال عكرمة : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ إذا غضبت. وفي الحقيقة أن الغضب من أسباب النسيان. وقال الطبراني عن ابن عباس في قوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24] أن تقول: إن شاء الله.

    وروى الطبراني عن ابن عباس في قوله: ( واذكر ربك إذا نسيت ) الاستثناء فاستثن إذا ذكرت. وقال: وهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه، ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين .

    والذي يظهر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف دون استثناء، وكان أخبر أنه يكفر عن يمينه إذا رأى ما هو خيراً منها، قال: (والذي نفسي بيده! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني)، فلو كان الاستثناء يحل محل الكفارة لاستثنى صلى الله عليه وسلم بعد مدة، ولما احتاج إلى الكفارة، ولكنه لم يفعل بل عزم على أن يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وهذا هو الصحيح.

    إذاً: خلاصة الاستثناء أنه توجد مسألة الإثم ومسألة الأدب وتحصيل السنة، فإحسان الأدب وتحصيل السنة بأن يقول: إن شاء الله ولو في أي وقت يتذكره، ولكن ينعقد اليمين إذا لم يستثن متصلاً بيمينه كما ذكرنا إلا الفاصل اليسير عرفاً.

    قال: ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو: أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]، وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للذكر، ولهذا قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني إذا نسيت شيئاً مهماً فاذكر الله؛ فإن ذلك يعينك على تذكره؛ لأنه يذهب عنك الشيطان، وهذا ليس بظاهر، فجمهور السلف يقولون: إذا نسيت الاستثناء ونسيت أن تقول: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم، أما هذا فيقول: إذا كنت ناسياً لأي شيء فدعاء النسيان أن تذكر الله، كأن تقول: سبحان الله، لكن الصحيح هو الأول.

    قال: وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل في تفسيره غير ذلك، والله أعلم.

    مدة لبث أصحاب الكهف فيه

    قال تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:25-26].

    يقول: هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة قمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة: وَازْدَادُوا تِسْعًا .

    وهذا من المعجزات الظاهرة للقرآن، وهذا من أدق أنواع الحسابات والمشاهدات، وهذا أمر محسوس مشهود، إذ التفاوت بين السنة الشمسية والسنة القمرية أمر مرأي، وهناك أنواع من الأزمنة منها ما هو أمر عرفي ومنها ما هو أمر حسي، فاليوم أمر حسي؛ لأنه مرتبط بالشمس شروقاً وغروباً، الشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق مرة ثانية، فاليوم والليلة مرتبطان بغروب الشمس وشروقها، وأما الساعات والثواني والدقائق فهي أمر عرفي بين الناس، أن يقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، لكن هل تحدث علامة مميزة لكل ساعة في الكون؟ لا، بل هذا أمر اصطلح عليه الناس، وكذلك مثلاً أمر الأسبوع أمر عرفي؛ لأنه ليس أمراً حسياً، والشهر أمر حسي؛ لأن القمر يدور دورته كل شهر، والشتاء أمر حسي لتغير الفصول؛ لأن الشتاء يجيء كل سنة مرة، وهذا أمر ملحوظ محسوس أن الشتاء يأتي والربيع والصيف والخريف.

    إذاً: هناك أمران حسيان: السنة التي هي اثنا عشر شهراً، وهما اثنا عشر شهراً قمرياً، والسنة الشمسية هي الفصول الأربعة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يقول: (سبعين خريفاً)؛ لأن هذه تكون سنة شمسية؛ لأن الخريف يأتي الخريف بعده، هذه سنة شمسية، وهذا الأمر بينه تفاوت كل سنة أحد عشر يوماً وجزءاً من اليوم بين اثني عشر شهراً قمرياً وبين سنة شمسية، لذلك الشهور الشمسية تتغير مع القمرية، والحسابات الفلكية الدقيقة على أحدث الطرق العلمية أثبتت أن كل ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذا بهذه العبارة: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25] ولم يقل: ثلاثمائة سنين وتسع سنين كالمعتاد، لماذا قال: (وازدادوا تسعاً) هو في الحقيقة ثلاثمائة سنين، ولو حسبتوها بطريقة أخرى يزدادون تسعاً، وفيه إشارة -والله أعلم- إلى الفرق بين السنة الشمسية وبين السنة القمرية، والله أعلى وأعلم.

    يقول: فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، إذاً: ثلاثمائة سنة قمرية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين شمسية، فهذا من معجزات القرآن الظاهرة، والله أعلى وأعلم.

    وقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ .

    وكذلك إذا سئل الإنسان عن شيء علمه بالوحي وجادله غيره فيقول: أنتم أعلم بالله؟ الله أعلم سبحانه وتعالى، الله أعلم بما لبثوا، فلو جادلك أحد فيكفيك أن هذا خبر من الله عز وجل، وهو الأعلم بما لبثوا سبحانه وتعالى.

    وهذه السورة متضمنة لمعجزات ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: ذلك الخبر التفصيلي البين الذي يتضمن أنواع الفوائد عن قصة أصحاب الكهف، مع أن ذلك لم يكن عند العرب منه شيء قط، وكان اليهود عندهم من ذلك ما يهتمون به من الأسماء، واسم الكلب، واسم الملك الذي كان في زمنهم، وأين كان الكهف، ولم يهتموا بالفوائد العظيمة الإيمانية والعبادية والتهذيبية وسائر أنواع الفوائد التي تضمنتها هذه القصة العظيمة، وهذا السياق العربي الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه، وهذه القصة لو كانت مترجمة لظهرت الركاكة في الترجمة كما يظهر في أي كتاب مترجم وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [الكهف:1-2] مستقيماً لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف:2] فهذه آيات تلو آيات للرسول صلى الله عليه وسلم في كل زمن من الأزمنة فيها تذكير لخلق الله سبحانه وتعالى بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    علم الله الواسع

    قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـمجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وقال قتادة في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]: هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا قال: وفي قراءة عبد الله وقالوا: (ولبثوا) يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال قتادة ومطرف بن عبد الله ، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب: أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع، يعنون بذلك الشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: وَازْدَادُوا تِسْعًا ، والظاهر من الآية أنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم.

    يعني: أن قول أهل الكتاب قول باطل، والصحيح أن القرآن أثبت أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ولو كانوا قالوا ذلك لكان إثباتاً لقولنا: إن القرآن سكت عليه، وذكر هذا لأجل أن الناس سوف يجادلون في مدة بقائهم، فيقولون: إنهم بقوا ثلاثمائة سنة فقط، فقال الله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .

    فكما ذكرنا كان هذا بياناً واضحاً شافياً بما يسعد به أهل الإيمان على الدوام، فإذا ناظرك أحد وأنت عندك علم من الله فقل لهم: الله أعلم منكم، فلا تجادلوا في أمر نزل فيه وحي.

    يقول: والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها، والله أعلم.

    والقراءة الشاذة لا يحتج بها لا في التلاوة ولا في الحكم ولا في التفسير؛ لأنها شاذة منقطعة بلا سند صحيح، فلا فائدة منها، ولا يمكن أن يحتج بها.

    قال تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي: إنه لبصير بهم سميع لهم، أي: ما أسمعه وما أبصره عز وجل! (أبصر به) يعني ما أبصره. (أسمع به) يعني: ما أسمعه، فما أعظم سماع الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم بصر الرب تعالى!

    قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.

    تقول: ما أعظم هذا، يعني: هذا شيء عظيم جداً، ويمكن أن تقول: أعظم به، مثل أنعم به وأكرم.

    قال: ثم روى قتادة في قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. قال ابن زيد : أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً.

    وقوله: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس.