أما بعد:
قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
[آل عمران:130-138].
وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله -كالكرة- والله عز وجل أعلم بصفة ذلك، وهذا ليس عندنا ما يدل عليه عبارة صريحة.
يقول: وقد دل على ذلك كما ثبت في الصحيح: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن).
هذا الحديث رواه البخاري ، ولكن ليس صريحاً في أن الجنة كالقبة، فالله أعلى وأعلم.
فالكيفية مجهولة بالنسبة لنا، ولكن الفردوس أعلى الجنة وأوسطها، وسقفه عرش الرحمن.
قال: وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد:
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ..
[الحديد:21] الآية.
قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد : (أن
ورواه ابن جرير عن يعلى بن مرة قال: (لقيت
وقال الأعمش وسفيان الثوري ، وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب : إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال لهم عمر : أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة.
يعني أن هذه الحجة موجودة في التوراة بهذه الطريقة والله أعلم، رواه ابن جرير من ثلاثة طرق.
ثم روى عن يزيد بن الأصم : أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون: جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أين يكون الليل إذا جاء النهار؟ وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ أي: حيث يعلم الله سبحانه وتعالى، وملك الله أوسع من السماوات والأرض، فالله عز وجل يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
فمضمون الحجة أنه يكون حيث شاء الله، وملك الله عز وجل أعظم من السماوات والأرض كما ذكرنا.
قال: وقد روي هذا مرفوعاً، رواه البزار عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى:
جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ
[آل عمران:133] فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال: وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل).
يقول: هذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون اثنان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله وهذا أظهر، كما تقدم في حديث أبي هريرة عند البزار .
والثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر كما هو معلوم الآن أن الليل يكون في جانب، والنهار في جانب آخر.
فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله عز وجل:
كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.
وقد ورد في بعض الآثار يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبتُ، فلا أهلكك فيمن أهلك) رواه ابن أبي حاتم .
وقد روى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره)، وهذا حديث غريب وفي إسناده نظر، وإن كان المعنى ثابتاً من أدلة الكتاب والسنة الأخرى.
وقوله: ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره، يعني: التوبة.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة) الصرعة: الذي يصرع الناس، قال: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه، رواه الشيخان من حديث مالك .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه)؛ لأن ماله هو الذي يتصرف فيه، قال: (اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله).
وحقيقة الحال: أن أكثر الناس مال وارثهم أحب إليه من أموالهم، وذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما لك من مالك -أي: ليس لك من مالك- إلا ما قدمت، وما لوارثك إلا ما أخرت).
وأكثر الناس يحبون ادخار الأموال، وهذه الأموال المدخرة تعود للورثة، فهو ليس مالهم، وإنما مالهم ما ادخروه عند الله، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: لا، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب).
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون فيكم الرقوب؟ قلنا: الذي لا ولد له، قال: لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً) ، الذي لم يمت في حياته أحد من أولاده، فهذا الذي كأنه لا ولد له؛ لأنه لا يدري هل من يعيش من أولاده ينفعونه أم لا؟ وأما من مات من أولاد المسلمين فهم شفعاء في آبائهم وأمهاتهم.
أخرج البخاري الفصل الأول منه: الذي هو: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله)، وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش .
حديث آخر رواه الإمام أحمد : عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال: فقال: (أتدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل رقوب: الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: أتدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك: الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع) صريع: تطلق على فاعل ومفعول، يقال: بل سقط صريعاً أي: مصروعاً، والصريع بمعنى: الصارع، أي: الذي يغلب الناس بالصراع، (قال: فقال: الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه)، وفي بعض النسخ: (فيصرعه غضبه) وقوله: فيصرع غضبه: أي يغلب غضبه.
وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام .
وفي الراوية الأخرى: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله، فقال: لا تغضب) قال ابن كثير الحديث انفرد به أحمد ، مع أنه رواه البخاري ، وهذا وهم من ابن كثير رحمه الله.
حديث آخر: رواه الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: (يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب، قال: الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) انفرد به أحمد .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أنه كان يسقي على حوض له، فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه -يورد عليه: يدخل إبله على إبله أثناء سقياها- وكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقد أغاظ أبا ذر هذا الرجل جداً، وهؤلاء القوم كانوا يريدون أن يغيظوا أبا ذر فكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر ، لم جلست ثم اضطجعت؟ فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده.
وحديث آخر رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي وائل الصنعاني قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه، فلما أغضبه قام، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي وقد كانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أُغضب أحدكم فليتوضأ) وهكذا رواه أبو داود وضعفه الشيخ الألباني .
وحديث آخر: رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع له) أنظره أي: أخر عنه المدة، ووضع له أي: ترك شيئاً من الدين الذي عليه، (قال: من أنظر معسراً أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثاً، ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن) عمل الجنة حزن يعني: في الصعوبة، مثل مكان مرتفع يحتاج إلى صعود، ولن يجد الإنسان سهولة في الصعود إليه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)، (ألا وإن عمل النار سهل بسهوة) أي: أرض منبسطة، يعني: أن عمل النار سهل، (وحفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) هذا هو المعنى، والله أعلم.
قال: (والسعيد من وقي الفتن) نسأل الله أن يقينا من الفتن، (وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً).
انفرد به أحمد وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن.
حديث آخر في معناه: رواه أبو داود عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمناً وإيماناً، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو أقدر) قال: بشر المنصور -هو: بشر بن منصور أحد الرواة- أحسبه قال: (تواضعاً) أي: (ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعاً كساه الله حلة الكرامة، ومن روج لله كساه الله تاج الملك) بمعنى الدعوة، والله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء) هذا حديث حسن.
والذي قبله ضعفه الشيخ الألباني ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.
حديث آخر: رواه عبد الرزاق عن رجل من أهل الشام يقال له: عبد الجليل عن عم له عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: (( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ )) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً) حديث ضعيف، لكنه شاهد لما قبله، رواه ابن جرير .
وروى ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله) وكذا رواه ابن ماجة .
فقوله تعالى: (( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ )) أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.
وفي الحديث: (ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله) حديث صحيح أخرجه مسلم ، ولا التفات إلى ما ذكر في بعض النسخ من تضعيفه، فهو حديث صحيح بلا شك، وبعض المحققين ذكر ضعفه وليس بضعيف، بل هو صحيح.
وروى الحاكم في مستدركه عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه).
قوله: من سره أن يشرف له البنيان أي: يرفع له البنيان عند الله في الجنان، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال الذهبي : أبو أمية ضعفه الدارقطني وإسحاق لم يدرك عبادة ، وإسحاق بن يحيى بن طلحة هذا فيه انقطاع، لكن له شواهد متعددة، وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة ، وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك، لكن أصل هذا الحديث ثابت إن شاء الله؛ لأن له طرقاً متعددة.
وروى من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة) نسأله ذلك.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال: رب إني ذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي) قوله: علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) أي: عاقب، فهو يعلم قدرة الله على العفو وقدرته على العقاب، فرجا عفو الله ومغفرته وخاف عقابه فاستغفر لذلك.
قال: (ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر، فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) أي: طالما ظل على تلك الحال، ووافى الله عز وجل تائباً، أخرجاه في الصحيحين.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم، قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، تحمل على الغمام -على السحاب- وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الترمذي .
والحديث له شواهده الكثيرة.
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء قال
وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن وابن حبان في صحيحه، والبزار ، والدار قطني ، وقال الترمذي : هو حديث حسن، وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
ومما يشهد بصحة هذا الحديث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنوب ينفع العاصين.
وقد قال عبد الرزاق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ..
[آل عمران:135] الآية: بكى.
ورواه الحافظ أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون).
قال ابن كثير : عثمان بن مطر وشيخه: ضعيفان، والحديث ضعيف ولا يصح مرفوعاً.
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال إبليس: يا رب! وعزتك لا أزال أغوي عبادك، مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: (جاء رجل فقال: يا رسول الله! أذنبت ذنباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أذنبت فاستغفر ربك، فقال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب، قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك، فقالها في الرابعة: استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور) أي: الذي ترجع عليه الحسرة.
هذا حديث غريب من هذا الوجه ضعيف، لكن المعنى ثابت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم ذكرناه قبل وفيه: (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء).
وقوله تعالى:
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
أي: لا يغفرها أحد سواه، كما روى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله) أيضاً لا يصح، مرسل من مراسيل الحسن .
وقوله:
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، أو يصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، والتكرار غير الإصرار، فالإصرار معناه: أن يعزم أن يعود إلى الذنب فيكون قلبه عازماً على العودة، والتكرار: يمكن أن يكون مع إصرار، ويمكن أن يكون بغير إصرار؛ لأنه سيفعل الذنب ثم يتوب، ثم يرجع إليه مرة ثانية، فهو قد تكرر منه الذنب ولم يصر، وإذا أصر ولم يتكرر منه الذنب فهو أشد ممن تكرر منه الذنب.
قال: ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي نصيرة عن مولى لـأبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة).
رواه أبو داود والترمذي ، والبزار ، وقال علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك، ضعفه الترمذي لأجل مولى أبي بكر ، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر ؛ ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق فهو حديث حسن، والله أعلم.
وقوله:
وَهُمْ يَعْلَمُونَ
قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير : وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى:
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
[التوبة:104]،
أَلَمْ يَعْلَمُوا
فهم يعلمون من صفات الله أنه يغفر الذنوب، وكقوله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
[النساء:110].
ونظائر هذا كثيرة جداً.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) صححه الألباني ، وتفرد به أحمد .
هذه الآيات الكريمة في وسط الآيات في سورة آل عمران في ذكر غزوة أحد، وقد يستغرب البعض من ذكرها في هذا الموضع بعد قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
، ثم حذرهم سبحانه وتعالى من النار، وبين صفات أهل الجنة، فنقول: العلاقة بين ما ذكر قبل وبعد قصة غزوة أحد وثيقة جداً؛ وذلك أن المؤمنين إنما يواجهون عدوهم ويواجهون الصراع بين الحق الذي معهم والباطل الذي يعانيهم؛ إنما يواجهونه بأعمالهم فإذا كانت أعمالهم وصفاتهم على الوجه الذي يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى وعلى وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك النصر بإذن الله.
ولذا بوب البخاري باب: عمل صالح قبل القتال.
وقال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم، وإذا كان الناس يحاربون الله عز وجل، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم بأكل الربا فكيف يتصور أن يكونوا ناصرين لدين الله، وهم لم ينصروه في أنفسهم؟ وكيف يتصور أن ينتصروا على عدوهم عدو الله، وهم لم ينتصروا على أنفسهم؟ فكان هذا الأمر وثيق الصلة بأمر القتال والحرب، بل وبكل صراع يجري بين الحق والباطل، فإذا كان الربا منتشراً في أمة فهذا من علامات خرابها وضياعها، وقد يقول البعض: فالكفار يتعاملون بالربا فلماذا يسودون؟
نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعامل أهل الإيمان والإسلام بغير ما يعامل به أهل الكفر والنفاق والعياذ بالله؛ وذلك أن الله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ليرحمهم، ويسلط عليهم عدوهم ليكفر عنهم سيئاتهم سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل:
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ
[الإسراء:8] فلما ابتعد أهل الإسلام والإيمان عن دينهم سلط عليهم بذنوبهم أعداءهم، قال عز وجل:
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ
[الإسراء:7-8].
أما أهل الكفر فإنه يملي لهم سبحانه وتعالى حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، كما قال تعالى:
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
[هود:102].
قال عز وجل:
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
[الأعراف:183].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
فالله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ومن خرج منهم عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبتليهم به سبحانه وتعالى ليطهرهم، فلذلك لا يقولن أحد: لماذا الكفار ممكنون في الأرض؟ فهذا من إملاء الله لهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم سبحانه وتعالى.
أما أهل الإسلام فلهم شأن آخر، إذا أكلوا الربا أضعافاً مضاعفة -وسيأتي الكلام أن ذلك ليس له مفهوم- فلا ينتصرون على عدوهم؛ ذلك أن الربا حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
[البقرة:278-279]، فكيف ينتصر من يحارب الله ويحاربه الله سبحانه وتعالى؟ لذلك إذا رأينا أمة الإسلام تترنح تحت سلطان عدوها فلنعلم أن من أعظم أسباب ذلك انتشار الربا في مشارق أرض أهل الإسلام ومغاربها، وأكله صريحاً وبالشبهات، وبالحيل المحرمة التي حرمها الله سبحانه وتعالى، وأوضحه: الاقتراض بالفائدة مع الزيادة سواء يقترض الإنسان أو يقرض، سواء كان ذلك مع أفراد أو مؤسسات، فإن ذلك كله من الربا المحرم بلا شبهة ولا تردد، فإن توقيف ووضع الأموال في المؤسسات المالية كالبنوك وغيرها عند أهل القانون أنه كالدين والقرض، وإن سمي بأسماء أخرى، فأهل الاقتصاد متفقون على أن هذا حكمه حكم الدين، فهو يداين المؤسسة البنكية بهذا المبلغ، وبعض البنوك تقرض الناس ويسمى قرضاً صراحة، وإن سمي ائتماناً فليس بائتمان، وإنما هو قرض بزيادة، وهذا مما لا يختلف فيه أهل الاقتصاد أنفسهم في توثيق هذا العقد، وفي توثيق هذه المعاملة، والذي أتى بهذه الأشياء واصطنعها هم أهل الغرب، وهم يسمون هذه الأشياء على حقيقتها، ويوثقون العقد توثيقاً صحيحاً، فأكل الربا وتأكيله -والعياذ بالله- من أعظم أسباب المصائب التي نزلت بالمسلمين نسأل الله العافية.
ثم بين سبحانه وتعالى الصفات الواجبة التي يجب أن توجد في أهل الإيمان والمستحب منها حتى ينتصروا على عدوهم، ولذا سمعنا الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وهذه الصفات الحسنة الجميلة لابد أن يقف الإنسان عندها، ويتأمل في نفسه، ويتدبر هل حققها أم لا؛ ليعلم لماذا ينتصر المسلمون؟ ولماذا ينهزمون؟ فإنهم ينتصرون إذا تحققوا بهذه الصفات، وينهزمون إذا تخلفت هذه الصفات المذكورة في قوله عز وجل:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
[آل عمران:134].
إذاً: هناك ارتباط وثيق بين المعركة في الخارج والمعركة في الداخل، فالمعركة في الخارج مع الأعداء الذين نريد أن ننتصر عليهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانتصار في المعركة الداخلية في داخل كل واحد منا مع نفسه، هل انتصر عليها أم لا؟ ولذا ثبت في الحديث الصحيح: (والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله) ولا نقول كما في الحديث الضعيف الآخر: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، بل نقول: إن الجهاد للأعداء هو الجهاد الأكبر، ولكن هذا الجهاد الأكبر مبني على أسس وقواعد كالبناء المرتفع، ولابد أن يكون له قواعد في الأرض، وإذا كان فوق الأرض بلا قواعد ما أسهل أن تأتيه أدنى هزة فتزيله وتهدمه، فكذلك نقول: الجهاد الذي هو جهاد أعداء الله سبحانه وتعالى في الخارج فرع على جهاد النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والشهوات المحرمة في الداخل، وكذلك الأمة المؤمنة عندما تجاهد عدوها، فهذا الجهاد فرع على الجهاد الداخلي داخل المجتمع المسلم نفسه حتى يتهيأ ويعد بوجود الصفات الصالحة في أفراده، والتوافق والبناء على طاعة الله عز وجل بين أفراده؛ ولذلك إذا دخلنا معركة وقد انتشر الربا، ولم يتق الناس الله عز وجل ربهم، وانتشرت الصفات القبيحة، وقلَّت الصفات المحبوبة لله عز وجل، فما الظن بنتيجة هذه المعركة؟ ما نظن قبل الدخول إلا ما أخبرنا عز وجل، وهذا من معرفة سنن الله عز وجل التي قال عنها بعد هذه الآية:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
[آل عمران:137].
وهناك ارتباط وثيق جداً بين صفة الأفراد وصفة المجتمع وبين نتيجة المعركة إذا دخلها المسلمون، ولا يلزم من ذلك أن يكون أهل الكفر على نفس الموازين، لا، بل أهل الكفر لهم موازين أخرى؛ لأن الله عز وجل يملي لهم؛ لأنه سبحانه وتعالى يفتح عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون سبحانه وتعالى.
إذاً: المسألة كما ذكرنا صراع في أحد طرفيه، فأهل الإسلام لابد أن يعرفوا سنن الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، وبين أهل الإيمان، وبين أهل الكفر، وأن ذلك مرتبط بالأعمال وبالصفات الأساسية، لذلك لا نستغرب ولا نتعجب مما أصاب المسلمين في المشارق والمغارب، وما حل ببلادهم وشعوبهم من أنواع المكاره، كيف لا؟ والربا على تلك الحال المعروفة في أكثر بلادهم إن لم نقل كل بلادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم .
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة -أي: مطهرة- فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، -أي: رماه بحجر في فمه فليتقمه، ويرجع حيث كان- فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قالا: آكل الربا).
رواه البخاري في البيوع مختصراً هكذا، وهو حديث طويل رواه البخاري في مواضع مختلفة.
فآكل الربا: كأنه يأكل لحوم الناس ودماءهم، ولذا كان جزاؤه أن يلقم الحجارة، ويسبح في نهر الدم والعياذ بالله.
وخصوصاً الربا الذي صار اليوم منتشراً بكثرة، حتى إذا أراد الشخص أن يتوب لم يدر لمن يرد الحقوق، فهو يتعامل مع ملايين من البشر، فيظلمون، وتغلوا أسعارهم، وتزداد الأمور فساداً بسبب النظام الربوي الذي يتربع على عرشه اليهود في العالم والعياذ بالله.
وقد وصفهم الله بقوله:
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
[النساء:161].
ومعلوم أن أكبر البنوك العالمية يملكها اليهود، وهي التي تقرض الدول بفوائد تظل تسددها من قوت شعوبها أضعافاً مضاعفة، فالديون التي تدان بها دولة مصر مثلاً قد سددت عدة مرات، وما زالت الديون كما هي بحالها، ونسأل الله العافية؛ ولو كانت هذه المعاملة مباحة لكان مباحاً ما يجري في شعوب الأرض الفقيرة التي تسام بألوان العذاب بسبب النظام الربوي العالمي الذي يزداد به الغني غنىً والفقير فقراً، ونعوذ بالله.
فلذلك كان الربا نظاماً محرماً بين الدول وبين الأفراد، فهو نظام في منتهى الخبث، وأكل للحوم الناس ومص لدمائهم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله) رواه مسلم .
وفي رواية: (وشاهديه وكاتبه) رواها ابن حبان وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم .
الذي يأكل الربا: هو الذي يأخذ الفائدة، والذي يؤكل الربا: الذي يدفع الفائدة، وكاتبه: الذي يكتب لهم عقد الربا، وكذا الذي يحسبه ويرتبه لهم.
وشاهديه: من يشهد عليه ويحضره والعياذ بالله، فكل هؤلاء ملعونون، وهذا يدل على الطرد من رحمة الله، وأن هذا من الكبائر، قال: (هم سواء) أي: في الإثم والعياذ بالله.
وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن المصورين).
الواشمة: التي تصنع الوشم.
والمستوشمة: التي تطلب من يفعل بها ذلك، وآكل الربا ملعون، وموكله الذي يدفع الفائدة.
ونهى عن ثمن الكلب، وهو محرم عند الجمهور إلا كلب صيد كما ثبت في رواية النسائي ، وكسب البغي هو: مهر الزانية.
ولعن المصورين: أي: الذين يرسمون أو ينحتون صور ذوات الأرواح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه) فيه ضعف، ولكن ذكرناه كشاهد لما قبله.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) قال الحاكم : هذا إسناد صحيح، قال الإمام المنذري : والمتن منكر بهذا الإسناد ولا أعلمه إلا وهماً، لكن ثبت بأسانيد أخرى.
وعن ابن مسعود أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا بضع وسبعون باباً، والشرك مثل ذلك). ورواته رواة الصحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون باباً أدناها كالذي يقع على أمه) رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام) رواه الطبراني في الكبير من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله ولم يسمع منه، ورواه ابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهما موقوفاً على عبد الله وهو الصحيح.
ولفظ الموقوف: قال عبد الله : (الربا اثنان وسبعون حوباً -حوباً أي: ظلمة- أصغرها حوباً كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم من الربا أشد من بضع وثلاثين زنية) وهذا الحديث روي من وجوه متعددة.
وروى أحمد بإسناد جيد عن كعب الأحبار قال: لأن أزني ثلاثاً وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهم ربا يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا، نعوذ بالله من الربا.
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح، والحديث بطرقه حسنه الشيخ الألباني .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) رواه الطبراني في الأوسط من رواية عمر بن راشد وقد وثق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون حوباً أيسرها أن ينكح الرجل أمه) رواه ابن ماجة والبيهقي .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تطعم) أي: حتى يبدو صلاحها.
وقال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه الحاكم ، وقال: صحيح الإسناد، وسكت عنه المنذري .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه أبو يعلى بإسناد جيد.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة -القحط-، وما من قوم يظهر فيهم الرشا -الرشوة- إلا أخذوا بالرعب) رواه أحمد بإسناد فيه نظر. نسأل الله العافية.
والأحاديث كثيرة جداً في التحذير من الربا.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنا، والخمر) رواه الطبراني وراوته رواة الصحيح، وهذا فيه إيذان بخراب الدنيا، فانتشار الربا والزنا والخمر علامة على قرب خراب الدنيا، وعلى قرب القيامة. نسأل الله العافية.
وعن القاسم بن عبد الواحد الوراق قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما في السوق في الصيارفة -جمع: صراف- فقال: يا معشر الصيارفة، أبشروا قالوا: بشرك الله بالجنة بما تبشرنا يا أبا محمد ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أبشروا بالنار)، وذلك لكثرة تعامل الصيارفة بالربا والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)، كلما يكثر من الربا يئول أمره إلى القلة والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وفي لفظ له قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُل) أي: إلى قِلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أبو داود وابن ماجة من رواية الحسن عن أبي هريرة ، والجمهور على أنه لم يسمع منه.
وقوله عز وجل:
لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
[آل عمران:130] لا يفهم منه أنه يجوز أكل الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، فمفهوم المخالفة ضعيف في هذا الموطن؛ لأنه وصف للحال الذي كان واقعاً، أو غالب تعاملاتهم كانت كذلك، ولم يزل هذا كذلك، فغالب التعاملات في الربا أنه يؤكل أضعافاً مضاعفة؛ لأن المال يتضاعف عبر السنوات، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن له مفهوم، وإذا خرج الكلام مخرج الغالب لم يكن له مفهوم، بل لو أكل حبة من الربا، وليس درهماً لكان -والعياذ بالله- من أعظم الكبائر، ولو لم يكن مضاعفاً، كما سمعنا: (درهم من الربا شر من ست وثلاثين زينة)، فكيف بالأضعاف المضاعفة؟! فهذا وصف للحال الأغلب الذي كان عليه المشركون في الجاهلية: أنهم كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، فليس للكلام مفهوم في أن الربا غير المضاعف يجوز، بل لا يجوز باتفاق المسلمين، ومن ينازع في ذلك يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ويجب قتله؛ لأن هذه ردة عن الإسلام والعياذ بالله، والقول بأنه يجوز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة لا يقوله عالم، ولا يقوله مسلم في الحقيقة.
ومن الشبهات الباطلة قول من يقول: إن الربا إنما حرم إذا كان في القرض الاستهلاكي، ولم يحرم في القرض الإنتاجي أو الاستثماري، وهذا أيضاً -والعياذ بالله- من أنواع الشبهات المضلة التي تخرج بصاحبها عن حد الإسلام، وإن كان متأولاً أو جاهلاً بين له الأمر، وأقيمت عليه الحجة، ولا يكفر معين حتى تقام عليه الحجة.
والربا الاستهلاكي والربا الإنتاجي والاستثماري كله واحد بإجماع المسلمين، بل أكثر ربا الجاهلية كان في التجارات، ولم يكن من أجل إطعام الطعام، ولا كسوة العريان، وقد كان عندهم الكرم والجود، وما كانوا يتركون أحدهم يجوع ولا يوجد من يطعمه حتى يأكل الربا، وإنما كان أكثر رباهم فيمن يتاجر فيخسر فيرابي بأزيد لأجل أن يعوض الخسارة، وهكذا تستمر المسألة، فقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
لا يفهم منه أن هناك بعض الأنواع جائزة. وقول من قال من العلماء: إن هذه الآية قد نسختها:
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
لا يعنون النسخ الاصطلاحي، بل يعنون: بينتها الآية الأخرى، فعندهم بيان المجمل يسمى نسخاً، بمعنى: نسخت وأزالت الإجمال الذي قد يفهمه البعض من أن الأضعاف المضاعفة هي المحرمة، وأما ما كان رباً يسيراً فليس بمحرم، ليس كذلك، بل الآية الأخرى بينتها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
[البقرة:278].
والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الذنب تكون: أولاً: بالامتناع من المعاملة، فلا تضع مالك مع من يتعامل بالربا، وتجعله وسيلة للتعامل بالربا، ولا تقبل أنت التعامل بالربا في حال من الأحوال، بل تتعامل فيه بما أحل الله سبحانه وتعالى من المضاربة والتجارة الحلال بالبيع والشراء.
الأمر الثاني: أن يرد الحقوق إلى أهلها، بمعنى أن الفوائد التي أخذها والزيادة التي أخذها على أصل المال لابد أن يردها إلى أصحابها إذا علمهم، وإن لم يعلمهم تصدق بها عنهم كوكالة عنهم، لا أنه يريد الثواب بذلك، بل تخلصاً من الحرام، فإذا تصدق بها عنهم يرجى له أن يكون قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو العمل في مال الربا، أنه يأخذ رأس ماله ويترك ما زاد، قال عز وجل:
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ
[البقرة:279].
ومن ورث مالاً فيه شيء من الربا فليعلم أنه لم يكن مال مورثه فضلاً أن يكون ماله؛ لذلك لا يصح ميراثه منه؛ لأن المال الموروث لابد أن يكون مملوكاً للمورث الذي مات، فإذا كان رباً لم يكن مملوكاً له، لأن عقد الربا عقد باطل، كما أنه عقد محرم، ولا ينتقل به الملك، ولذلك لا يثبت ملك على تلك الزيادة.
فإذا كان كذلك لم يصح ميراثه، فمن ملك شيئاً من ذلك وجب أن يرده إلى أهله كذلك، فإن لم يعلمهم تصدق به عنهم.
وكذلك من وضع ماله وهو صغير في البنوك الربوية، وزاد ماله أضعافاً مضاعفة بسبب هذه المعاملات الربوية، فإذا تمكن من ماله وجب عليه أن يخرج الزيادات الربوية، ولا ينفقها على مصلحة نفسه إلا أن يكون محتاجاً فقيراً يأخذ كما يأخذ فقراء المسلمين، وأما أن ينتفع بها في نفسه فلا يجوز، حتى ولو كان لا إثم عليه لأنه ليس الذي أمر بوضع المال في هذه المعاملات الربوية، ولكن بمجرد تمكنه من إيقافها، وإخراج المال من هذه المعاملة واجب عليه، ولم يثبت له ملك على الزيادة؛ لأن عقد الربا عقد محرم، وعقد باطل، ولا ينتقل به الملك.
ومن هنا نقول: إن انتشار الربا في الأمة من أعظم أسباب خسارتها، ومن أعظم أسباب ضياعها، ومن أعظم أسباب هزيمتها على أيدي أعدائها، لذلك كان هذا التوافق في السياق بين النهي عن أسباب الهزيمة أولاً وآخراً في غزوة أحد، والنهي عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة والأمر بتقوى الله سبحانه وتعالى.
وأما ربا الفضل فهو: بيع الذهب بالذهب مع عدم التساوي، والفضة بالفضة مع عدم التساوي، وكذلك أصناف الطعوم: الملح بالملح، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، فهذه الأصناف الأربعة يقاس عليها عند بعضهم كل ما كان مثلها من الطعام الذي يكال.
والعلة في الطعام: الطعم، وبالنسبة للذهب والفضة فالعلة النقدية، فهذا ربا الفضل، فإذا تعامل بها مقايضة بمعنى ذهب بذهب فلابد أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، ولا يجوز التفاضل فيه، وهذا كما تعود الناس عليه اليوم: من بيع الذهب القديم بالذهب الجديد مع التفاضل إما بالوزن نفسه، أو التفاضل في إعطاء مال إلى أحد الطرفين، فيكون البيع ذهباً ومالاً بذهب متفاضلاً مع عدم تساوي الذهب بالذهب في الوزن، وكذا الفضة بالفضة، وهذا نوع من الربا منتشر.
ويدخل في الربا التعامل بالتقسيط في الذهب والفضة بمعنى أن يشتري ذهباً بالتقسيط، وكذلك التعامل في العملة بالتقسيط، فإن ذلك كله من ربا الفضل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فجعل اختلاف الأصناف مبيحاً للتفاضل كذهب بفضة، فيجوز فيه اختلاف الوزن، ولكن لابد أن يكون يداً بيد؛ لأنه قال: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
فإذا اتفق الجنس والعلة وجب أن يتفق الوزن بالنسبة للذهب والفضة، وبالنسبة للنقود الحالية يجوز التفاضل بشرط أن يكون الجنس واحداً والعلة واحدة، والعلة هي: النقدية التي في الذهب والفضة، والطعم في الأربعة الآخرين، وإذا اتفق الجنس واتفقت العلة فلابد أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، ولا يصح أن يأخذ شخص خمسة عشر جنيهاً مجتمعة بتسعة عشر جنيه مفكوكة، أو واحداً وعشرين جنيه فكة بعشرين جنيه مجمدة، أو يأخذ مائة وخمسة جنيهاً مفكوكة بمائة مجتمعة، فمثل هذا نوع من الربا، وكما ذكرنا يجوز إذا كانت العلة واحدة والجنس مختلف كذهب بفضة، وذهب بنقود، ونقود بنقود مختلفة العملة كالدولارات والريالات، ولابد أن يكون يداً بيد، ولابد أن يسلم ويستلم في نفس اللحظة، ولا يجوز أن يؤجل ولا يوماً واحداً أو ساعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
وكذلك بالنسبة للأرز بالقمح أو الأرز بالتمر شرطها أن تكون متقابضة في نفس المجلس.
فهذا فيما يتعلق بربا الفضل، ومعلوم كيف صار الحال بانتشار الربا انتشاراً فظيعاً في هذا الزمان.
ومن الربا: الحيل التي تستعمل من بيع السلع بسعرين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).
ولا نعني بذلك المنع من البيع بالتقسيط مع الزيادة، فهذا أمر لا أعلم خلافاً في جوازه بين السلف، وإنما الذي يمنع منه أن يبيع بيعتين في بيعة واحدة ويجعل الأمر معلقاً في البيعة الواحدة، يعرض لها سعرين ولا يحدد أحدهما، فيقول له: نقداً بعشرة، ونسيئة بالتقسيط باثني عشر، وإذا كان على ثلاث سنين فستة عشر مثلاً، ثم يقول له: إذا جئتك بالمال بعد يوم فسآخذها بعشرة، وإذا تأخرت فهي باثني عشر، وإذا زاد التأخير فهي بستة عشر، فهذا هو الربا المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).
ومع انتشار البيع بالتقسيط فقد دخلت هذه المسألة إلى الناس، وأصبح كثير من الناس يعقد على شيء، ثم بعد ذلك يحوله إلى شيء آخر، ويجعل هذا المال مديوناً به إن كان هو عشرة مثلاً يجعله اثني عشر بالتقسيط؛ فصار يبيع عشرة باثني عشر؛ لأن البيع تم أولاً، والسلعة استلمت، وتمت البيعة الأولى، فلا يجوز أن يغيرها، ولا أن يجعل عليه غرامة تأخير، وكثير من الجهات تجعل غرامة تأخير على التعاملات إذا تأخر في السداد، وكل هذا من الربا المحرم الداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).
والراجح حرمة بيع العينة، وهناك نص في المنع منها، واختلف العلماء في مسألة التورق، وصورتها: أن يشتري الرجل سلعة من السوق لا يريد شراءها ولا التجارة ولا الربح منها، لكن يأخذها ليبيعها بثمن بخس بأقل من ثمنها في السوق لكي يحصل على المال، وليس له غرض في السلعة، إنما غرضه الورق، وهذه تسمى مسألة التورق، ويسمونها حرق البضاعة الآن؛ لانتشار هذه النوعية من المعاملة، وحرق البضاعة لها صور أخرى، مثل: أن يبيعها بسعر بخس من المال بالاضطرار إلى البيع وهي مملوكة له من البداية، ومثلها أن يشتري سلعة بنقد بالتقسيط، ثم يبيعها بنقد تحايلاً لطرف ثالث، فهذه على الراجح ممنوعة، وهي داخلة في الربا، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز ، ورواية عن مالك ، وثبت النهي عن ابن عباس رضي الله عنه حيث قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. والله أعلى وأعلم.
فمثل هذه المعاملات كلها من أسباب الفساد الذي يقع بين الناس، فلا يرفع عنا الغلاء والوباء إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والناس اليوم في أنواع من الكرب، وقد يظن كثير من الناس أن المخرج من ذلك بالاستدانة بالربا، وهذا ليس بمخرج، بل هذا يزيد الفقر، ويزيد الخراب، ويزيد الضياع، بل التوبة إلى الله عز وجل هي المخرج حتى ترد الحقوق إلى أصحابها، فيرفع عنا الغلاء والبلاء، ونسأل الله العفو والعافية.
ومن الأمور الربوية المنتشرة: بيع السلع قبل قبضها، فإنها من أعظم ذرائع الربا، وهي: المرابحة غير الشرعية التي تقوم بها كثير من المؤسسات المسماة بالإسلامية، ويمكن عقدها بطريقة شرعية، ولكن كثير منها يتم بطريقة غير شرعية، وكثير من الناس يقوم بها فعلياً بنفسه، وليس فقط المؤسسات، مثل أن يريد شراء أو بيع سلع بالتقسيط وهو لا يملك هذه السلعة، ويعرف من يريد شراءها، فيقول له: اذهب فخذ السلعة التي تريد من المكان الفلاني، ثم أنا أحاسب على ذلك، ولا يتم قبض السلعة فيما بين هذا وذاك، ولابد حتى يصح البيع بالتقسيط أن تكون السلعة المشتراه مملوكة للبائع، ولابد أن يتملكها وأن يقبضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تبتاع السلع حتى تقبض).
ويجري هذا على جميع السلع، فكل شيء بمنزلة الطعام كما قال ابن عباس .
إذاً: لابد أن يستلمها بيده، ثم يبيعها بعد ذلك، فالذي يريد أن يربح لا مانع أن يقول للمشتري صف لي الشيء الذي تريده، ولا مانع أن يذهب معه لتعيين السلعة المراد شراءها، وبعد ذلك يشتريها الشخص الذي يريد أن يربح، ويقبضها بيده، ويخرج بها من المكان الذي نهى أن تباع السلع فيه، ثم تباع.
والحديث كما ذكرت: (نهى أن تباع السلع حتى تقبض) والذي يذهب فيشتريها، ثم يقبضها ويخرج بها من المكان وتدخل في ضمانه وملكه، فله أن يبيعها له بعد ذلك، وهو قد أخذ منه وعداً بالشراء، لكن هذا الوعد ليس بيعاً، فلا يبع الذي يأخذ جزءاً من الثمن، ولا يجوز أن يعقد معه عقداً ملزماً قبل أن يشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبع ما ليس عندك)، إنما يعده أن يشتري منه، ثم بعد ذلك إذا تملك السلعة وقبض باعها له.
فهذه أنواع كثيرة من المعاملات تقع بطريقة غير شرعية، ومنها: أنه يقول له: اذهب وخذ سلعة ثم يئِّّس صاحب المحل أو صاحب المكان من استردادها، وهذا أمر فاسد خطير.
ومن هذا الباب ما تعود عليه كثير من الناس من بيع بعض الكوبونات لبعض السلع أو بعض الحجوزات، كأن يحجز سلعة اشتراها سلماً، أو لم يقبضها بعد، وهو حاجز دوراً فيها، وهي مازالت في يد صاحب السلعة الأول الذي هو الباني -مثلاً- للشقة أو المالك مثلاً للكوبون وهي البضاعة نفسها، والكوبون هذا قيمته مائة جنيه، فيذهب فيبيعه لآخر بثمانين، أو يبيع الشقة التي حجزها وهي لم تتعين بعد، أو لم تخصص له، أو لم يستلم مفتاحها، فيبيعها قبل أن يستلمها، فهذا داخل في هذا الباب، وهو نوع من التحايل على الربا؛ لأنه دفع مبلغاً، وباعه بأقل منه حالاً، فهذا مما يجب الحذر منه حتى ينجينا الله.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر