فيقول الله تعالى:
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
[آل عمران:139-152].
قال ابن القيم رحمه الله في فوائد هذه الآيات والدروس المستفادة من قصة غزوة أحد: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وأن النصرة منوطة بالطاعة
قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم، ولم ينتصروا، فوفوا المقامين حقهما، مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إلى الله عز وجل، ومقام إزالة المانع من النصرة وهي: الذنوب والإسراف.
ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
! فحذرهم سبحانه من طاعة عدوهم، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا يوم أحد.
وهنا قضية عظيمة الأهمية في هذه المواقف وفي أمثالها عبر العصور؛ وذلك أن الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة في معاركها العسكرية، هي أمراض خطيرة مدمرة، بها تزول حضارات الأمم، وبها تضمحل مناهلهم.
ومن هذه الأمراض: مرض الضعف، وهو أن يضعفوا في القيام بالحق الذي معهم نتيجة الهزيمة، ويتركوا القيام بما أوجبه الله عز وجل عليهم.
وكذلك مرض الوهن، وهو التعلق بالأرض وحب الدنيا وكراهية الموت، وهذا يسلط العدو أكثر حين ينشغل الناس بدنياهم، وحين تكون قضيتهم في الحياة هي الرواتب التي لم تصرف، والأطعمة التي توزع، والملابس التي يكتسون بها ويكسون أولادهم، حين تصبح قضيتهم هي قضية الصراع على الدنيا يزداد العدو تسلطاً، ويأكل الثروات ويلقي بالفتات ولا حول ولا قوة إلا بالله، والشعوب المغلوبة المقهورة حين تضيع قضيتها تصبح كذلك فيصيبها الضعف والوهن.
فتبين أن في هذا المقام نوعان من الاستكانة: استكانة محمودة، وهي استكانة لله عز وجل، وشعور بالانكسار لله سبحانه وتعالى، والضعف والعجز وطلب القوة منه سبحانه وتعالى، والشعور بالضعف والعجز وأنه لا قوة له إلا بالله، وأنه لا يثبت إلا أن يثبته الله، وهذا مقام أهل الإيمان الذين امتدحهم الله عز وجل حين قال:
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
[آل عمران:147] وهذه الاستكانة المحمودة.
أما الاستكانة المذمومة، فهي التي قال الله عز وجل نافياً إياها عن المؤمنين من أتباع الأنبياء:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
[آل عمران:146] وهذا المقام، وهذه الأحوال نصيبها وحظها من العبودية عبودية الصبر، وعدم الاستكانة للعدو، والاستكانة للعدو قد تقع للإنسان وهو في الظاهر ممكن ومتسلط على غيره، وكبير يفعل في قومه ما يشاء، وهذه هي التي تحصل من المنافقين الذين يبتغون العزة بموالاة الكافرين، ويتابعونهم على باطلهم، ويطيعونهم في أوامرهم التي هي حرب للدين، والتي هي بغض لما أنزل الله:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
[محمد:26] فيكون هذا الأمر موجباً لارتدادهم عن الدين على أدبارهم، نعوذ بالله من ذلك، وموجباً لحبوط أعمالهم؛ فإن موالاة الكافرين وطاعتهم تجلب الخسران وتجلب الضياع والعياذ بالله، وتجلب ضياع الدنيا والآخرة، وكما ذكرنا يلقي العدو الفتات ويأخذ حتى دنيا هؤلاء القوم، ولا يترك لهم شيئاً، فلا يظفرون لا بدين ولا دنيا، وإنما يبوءون بالذل والهوان والخسران المبين نعوذ بالله من ذلك.
هذه الاستكانة للعدو قد تقع لإنسان يكون في الظاهر على أنه حر طليق، وكبير وزعيم، وملك على قومه، ولكنه في الحقيقة في منتهى المهانة، وذلك أنه يستمر على الباطل، فيطيع بالمنكر ويطيع في الكفر والنفاق، وينشر ما يريده الأعداء والعياذ بالله، فيترك منهجه ودينه والتزامه، ويطيع في الكفر والفسوق والعصيان، نعوذ بالله من ذلك.
والاستكانة مرض من أمراض الشعوب المهزومة، والتي غالباً ما تقع عقب الهزائم العسكرية، وربما تقع بعد مدة، بعد عدة أجيال أو عدة سنوات، أو ربما بعد العشرات من السنين، فيخرج من يتكلمون باسم الناس وهم في الحقيقة يتكلمون بلسان العدو والعياذ بالله.
وقد وقع هذا في تاريخ المسلمين مرات عديدة عندما تقع هزيمة، ثم يقع بعد ذلك من يخرج ويروج لفكر ومناهج وحضارة الأعداء، وفي نفس الوقت ربما يزعم معاداة الأعداء، حتى يكون له منزلة لدى قومه، وحتى يتصدر ويرأس عليهم، ثم بعد ذلك يسوم قومه سوء العذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه الاستكانة المذمومة، وهذه الطاعة المحرمة التي حذر الله عز وجل منها.
ومن أمثال هؤلاء: خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب عند قريش، وهم يريدون أن يحصلوا منه على كلمة يقدح فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى ولو تمنى أن يكون مكانه، قال أبو سفيان : أتتمنى أن تكون في بيتك وأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فيقول: لا أتمنى أن أكون في أهلي وفي بيتي ومحمد صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة فما فوقها، فكان موقفاً عزيزاً، يدل على عزة وعدم استكانة، رغم أنه مصلوب، فيتركه المشركون يصلي ركعتين، فيصلي ويطيل، ويقول: لولا أن يظنوا أنه جزع من الموت لأطال، ثم يقول وهو مقبل على الموت: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
عزة عجيبة الشأن.
وهذا النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفر أصحابه عنه في غزوة حنين فينزل من على بغلته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وكل الأنبياء والرسل في فترات الاستضعاف أعزة، رغم أنهم غير ممكنين، ورغم أنهم كان ينالهم من الضرب والجراح، والأذى والشتم والسب، وأحياناً الحبس والسجن، وأنواع البلاء المختلفة: كالإلقاء في النار والقتل، ولكنهم ثابتون لا يركنون إلى الذين ظلموا، ولا يقبلون باطلهم، ولا يرضون بمنكراتهم، وهذه قضية عظيمة الأهمية في حياة المؤمن.
فليس العز والذل مرتبط ببدن الإنسان، ولكنه بروحه وثباته على دينه ومنهجه وعقيدته، فكم من أحرار الأبدان أسرى الأرواح، وكم من أسرى الأبدان أحرار الأرواح، أرواحهم طليقة حرة، حررها التزامها بشرع الله عز وجل من عبودية البشر، ووجدت سعاة عظيمة هائلة في القرب من الله عز وجل، فتجاوزت حدود هذه الأرض بما فيها من قوة ظاهرة للكفرة والظلمة، تجاوزتها وارتفعت، ورأتها ذرة صغيرة في كون واسع فسيح لا ملك فيه إلا لله عز وجل، حقيقة يقينية قطعية، ما أن ترتفع الأنظار عن الأرض إلا وتراها بينة جلية.
لكن أكثر الناس أبدانهم وأرواحهم حبيسة الأرض، فأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، وتسلط الشيطان عليهم حتى جعلهم لا يرون إلا موازين الكرة الأرضية، رغم أن الموازين في داخل هذه الكرة الأرضية -عند حقيقة التأمل- ليست ملك البشر، ولكن أكثرهم لا يرون إلا ما يحسون من شهوات، من أموال ومن أمور ظاهرة.
ولكن أرواح المؤمنين انطلقت فوجدت كوناً فسيحاً واسعاً، وترسخت في قلوبهم أن الله سبحانه وتعالى هو الملك، فقالوا: ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سبحانه الملك الحق، ولذا لم يخضعوا لغيره، ولم يذلوا ولم يستكينوا إلا له سبحانه وتعالى، وأبوا أن يستكينوا للعدو، وأبوا أن يقولوا باطلاً، وأن يعاونوا العدو على منكره وكفره وشركه، وأن ينافقوا كما نافق المنافقون، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، واللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك.
قال عز وجل:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
أي: وكم من نبي وهم كثير،
قَاتَلَ مَعَهُ
وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ) والقراءتان متواتران، وكلاهما لهما معنى صحيح واجب التدبر، فقد قاتل الأنبياء طوائف وجماعات كثيرة، وقتل منهم جماعات، وقُتل بعض الأنبياء، وقتلت جماعات من المؤمنين الذين معه،
قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ
وفي قراءة أخرى (وقُتِلَ معه ربيون كثير) قُتِل هو أي النبي، وكان معه ربيون قتلوا وبقيت جماعة:
فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
، ما وهن المقتولون عند ملاقاة القتل، بل تلقوه بالاستبشار والترحيب به، ولسان حالهم يقول: فزنا ورب الكعبة، وقالوا: اليوم نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
فكانوا يقبلون عليه، وما وهنوا عند الموت وما ضعفوا وما استكانوا، وما وهن الباقون، وما تعلقوا بالدنيا، وما ضعفوا في القيام بالواجب عليهم من الالتزام بشرع الله عز وجل، وما استكانوا لعدوهم،
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
، والمؤمنون دائماً ما يسألون ويبحثون عما يحبه الله، فإذا علموا ذلك طاروا إليه.
فأعظم ما يأخذ بقلوبهم إلى الله عز وجل أن يعلموا أن الله يحب من يفعل أفعالاً معينة، فهو عز وجل يحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المحسنين، وانظر وتأمل جمع الله بين الصبر والإحسان في قوله:
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
[آل عمران:146-148].
فالصبر والثبات هو الذي يحرك قلوبهم، والصبر في هذا المقام صبر يجمع كل أنواع الصبر: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، والتي هي: موالاة أهل الكفر وطاعتهم، وهو مقام يقع فيه الكثيرون من الذين يبيعون دينهم، ويصيرون من جنود الكفار، فبالأمس كانوا جنوداً -فيما يبدو- للحق، ثم لما انتصر الباطل صاروا جنوداً له، وكم من الناس مستعد أن يكون كذلك، وأن يطيع الكفرة إلى درجة الحرب في صفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودائماً يظهرون وخصوصاً بعد الهزيمة ونعوذ بالله.
فلذلك المؤمنون صبروا على المعصية، وعن هذا الضلال والكفر والنفاق.
وصبروا على الأقدار المؤلمة، وعلى ما يصيبهم من آلام في مقام نصرة الدين وفي سبيل الله، وخصوصاً عند حصول الهزيمة، فإنها تصيب الناس بأنواع من الآلام الكثيرة، ومجرد رؤية البلاد والعباد يسقطون في أيادي الأعداء هو أمر في غاية الألم وغيظ للمؤمنين.
وليسوا كالذين دائماً ينظرون إلى جانب الكمال في أنفسهم وما هو بكمال، بل هي نقائص وأمراض، ومع ذلك يرون أنفسهم أكمل الناس وأفضل الناس، وأعلمهم بالدين والدنيا ونعوذ بالله من ذلك، فهذا أمر في غاية الخطورة.
أفلا نعي الدروس؟! ألا نستفيد من المحن؟! ألا نستفيد من البلايا؟! ألا نراقب الله ونراجع أنفسنا؟!
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
[التوبة:126]، وهذا هو حال المنافقين نعوذ بالله من النفاق، أما أهل الإيمان فإنهم راجعوا أنفسهم، والله لم يقدر تخطيط الأعداء ومكرهم إلا لنرجع إليه، ولذلك بادروا وأقروا على أنفسهم بالإسراف، وإياك أن تظن بنفسك أداء الحق وأنت لم تؤد حتى عشره، وهذا موطن خطير جداً، عندما يتأمل كل واحد منا في نفسه ولا يراها مقصرة، ويجلس وحيداً بعيداً عن الناس، ثم يسأل نفسه: هل تؤدي ما عليك فيما بينك وبين الله؟ وفيما بينك وبين الناس؟ وفي أداء الواجبات؟ وفي ترك الذنوب؟ وفيما أوجب الله عليك من نصرة الدين؟ فإذا حدثتك نفسك وقالت لك: أنا أديت ما علي، والتقصير إنما هو من غيري، والناس هم السبب، والبلايا والمحن جاءت من غيري، فتأكد أننا لن نتغير، وأن الواقع يحتاج منا إلى عمل طويل الأمد، في داخل النفوس قبل أن يكون في خارجها، ولابد أن تكون صادقاً في قولك:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
، ولابد أن تعترف فعلاً بينك وبين الله عز وجل، ليس على سبيل التواضع وهضم النفس وأنك تراها مستحقة لغير ذلك، ولكنك تعترف من باب الاقتداء بالمؤمنين الذين قالوا ذلك، أو الترديد باللسان لهذه الأدعية، ولابد أن تكون صادقاً حين تقول:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
، ولا بد أن تستشعر أن الأمة أُتيت من قِبلك، ومن ناحيتك، ومن الثغرة التي أنت عليها، وأنت على ثغرة بلا شك، فكل واحد منا على ثغرة من ثغرات العمل من أجل الإسلام، وإذا وجدت أن نفسك تقول لك: أنا أفضل وغيري هو المقصر، فاعلم أننا ذاهبون إلى مزيد من البلايا والمحن ونسأل الله العافية، وإنما كان قول المؤمنين كما قال الله:
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
توسل إلى الله بالربوبية، وتوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب، وقد ورد في الحديث: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
فالذنوب هي التي هزمتنا، وهذا أمر حقيقي واقع، وكل منا له ذنوب وتقصير وإسراف على نفسه، وأكثر الناس يجود بعمره ووقته ويسرف على نفسه، ويسرف على شهواته ورغباته، فيجود بالزمان وبالوقت ليضيعه في معصية الله، ولو كان في المباحات لكان بخساً على الإنسان، فكيف بمن ينفق عمره وساعاته في معصية الله عز وجل؟ فهذا هو حقيقة الإسراف، وهذا هو التقصير الحقيقي.
قوله تعالى:
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
المقصود بتثبيت الأقدام: حسي، ومعنوي. فالحسي في معركة القتال، والمعنوي على الصراط المستقيم، حتى لا تزل القدم في أهواء مضلة، وحتى لا ينحرف الإنسان إلى الهاوية، إما إلى شبهات مضلة وإما إلى شهوات مغوية، والمسلم محتاج إلى التثبيتين، فكم من إنسان عنده معرفة نظرية وعندما تأتي لحظات المواجهة والشدة لا يثبت، بل ينهار تماماً رغم أنه كان على علم، فليس العلم هو العلم الذي على اللسان، إنما العلم النافع هو العلم الذي في القلب، وهذا يظهر في فترات الشدائد والمحن، وفي مثل هذه اللحظات من الهزيمة.
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
يعلمون أن الله هو الذي يثبت القلوب والأقدام، وأنه سبحانه وتعالى إن لم يثبت أقدامهم لم يثبتوا، والإنسان يلحظ في قوله تعالى:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
التزام بالشرع وإيمان به وانقياد له، وفي قوله:
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
إيمان بالقدر، وتحقيق لقوله سبحانه:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
[الفاتحة:5] وأما قوله:
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
دليل على معرفة العبد المؤمن بأن الله هو الذي يثبت قلبه ويثبت قدمه على الصراط المستقيم، حتى لا ينحرف ولا يزل ولا يضل ولا يكون غاوياً نعوذ بالله من ذلك.
ففيه إيمان بالقدر ولجوء إلى الله، وهذا مقام التوحيد كما ذكر ابن القيم رحمه الله، مقام الصبر، ومقام اللجوء إلى الله والتضرع إليه، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه بأعمالنا الصالحة، من الاعتراف بالذنوب وطلب قضاء أعظم الحاجات، وهي الثبات على الصراط المستقيم.
قوله تعالى:
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
وهذه هي التي يرجوها أهل الإيمان، وليس هذا لتحقيق نفع دنيوي، وإنما لإبطال الكفر، ولذا وصفوا قومهم بالكافرين في هذا المقام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة -في غزوة أحد- يحاربون قريشاً، وقريش هي التي تحاربهم وهم من نفس القبيلة، ومن نفس الوطن، ومن نفس القومية، وعلى الرغم من ذلك وصفوهم بالقوم الكافرين؛ لأنهم إنما يريدون نصرة الدين، فهم لا يقاتلون لأجل منصب، ولا يقاتلون لأجل قومية أو قبلية أو وطنية أو غير ذلك، وإنما يقاتلون لأجل الدين، فكيف بمن صار لا يقاتل لا حمية ولا شجاعة ولا نصرة للدين ولا لقومية ولا لوطنية؟ أصبحت أمور عجيبة في زمننا هذا نسأل الله العافية، وصار الناس يقاتلون لأجل ألا تباع أوطانهم، وألا تهدم قومياتهم، وصار من ينادي الآن بالقومية أقرب حالاً نسأل الله العافية، فأي بلاء هذا الذي نزل بنا؟ مهانة عجيبة، لكن أهل الإيمان إنما يقاتلون لكي يبطل الكفر.
فهم وصفوا قومهم في هذا المقام بالقوم الكافرين، لكي يؤكدوا البراءة منهم وأنهم يريدون إبطال كفرهم، وإبطال شركهم، وألا يظهر كفرهم على وجه الأرض، والنصر من عند الله عز وجل اعتقاد يقيني لأهل الإيمان.
وأما من أطاع الكفار فإن الآيات تبين أنه خسر
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
، الخسران المطلق، وهذا يشمل خسران الدنيا وخسران الآخرة، ونعوذ بالله من ذلك، والله ما ينالون دنيا ولا ينالون آخرة هؤلاء الذين أطاعوا الكفرة.
قال عز وجل عن المؤمنين:
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
وهذا الإحسان في هذا المقام هو إحسان فيه عبادة الله عز وجل، وهو كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)،
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
والإحسان الذي يحبه الله عز وجل هو الإخلاص، والتوكل على الله، واللجوء إلى الله عز وجل، والتضرع لله سبحانه وتعالى، والصبر، وعدم الوهن، وعدم حب الدنيا، وعدم الضعف في طاعته، وعدم الاستكانة للعدو، والتحمل في سبيل الله عز وجل، فإذا حققت عبادات القلب صرت محسناً، والإحسان في عبادة الله عز وجل -فيما بينك وبين الله- يثمر، وينعكس الإحسان إلى الخلق من الإحسان في عبادة الله عز وجل، فإذا أحسنت في عبادة الله وفقك الله عز وجل للإحسان إلى الناس، فأحبك الله عز وجل وأحبك الناس، ومن أحبه الله سبحانه وتعالى قذف محبته في قلوب الخلق، ونادى جبريل في أهل السماء: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)؛ وذلك أن الله عز وجل أحبه، فأحبه جبريل وأحبه أهل السماء وأحبه أهل الأرض، والمؤمنون الصادقون هم علامة أو خلاصة أو حقيقة أهل الأرض.
أما الذين يعيشون على وجه الأرض كالأنعام بل هم أضل، فإنه لا قيمة لحبهم ولا بغضهم ولا أثر له، وإنما علامة حب المؤمنين بأن يوضع له القبول في الأرض، فترى قلوب المؤمنين تفد إليه بأنواع البر والإحسان والحب والقبول، فهم شهداء الله في أرضه.
وأما إذا وجدت الكفار يحبون -مثلاً- زعيماً لهم؛ لأنه سلطهم على من خالفهم، أو لأنه خدعهم بأنواع الخداع مثلاً، فأحبوه أكثر، فليس هذا بالأمر المعتبر، فهم لا قيمة لهم ولا عبرة بهم وليسوا بشهداء الله في أرضه.
إذاً: فالحشيش مثلاً والزروع هي أحب شيء؛ لأن الأبقار والأغنام تأكل ذلك، فهؤلاء كالأنعام بل هم أضل، فلا عبرة بحبهم وبغضهم، وإنما يعرف ذلك بمحبة أهل الإيمان وبغض أهل الإيمان، والمفتاح العظيم لجذب قلوب المؤمنين هو تحقيق الإحسان، وتحقيق الصبر، وترك الوهن وترك الضعف، وترك الاستكانة للكفار، وترك موالاتهم وطاعتهم، قال عز وجل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
فكشف لنا حقيقة ما يريدون، حتى لا يقول قائل: هم لا يحاربون الإسلام! وهم لا يريدون أن نترك الدين! فالله قد بين لنا ما يريد الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، ولفظة (المشركين) عند إطلاقها يقصد بها: عباد الأوثان وغيرهم ممن ليسوا بأهل كتاب، ويدخل فيهم أهل الكتاب الكفرة في الحقيقة، لكن يخصوا بذلك، قال سبحانه وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
[آل عمران:100-101] .
فالكفار بأنواعهم المختلفة يريدون إبعادنا عن الدين، ويريدون ردة المسلمين، ويريدون أن يردونا على أعقابنا، فماذا بعد أن بين الله نيتهم؟ وماذا بعد أن كشف الله خبايا ضمائرهم؟ فهل نقول بعد ذلك هم لا يريدون ذلك؟ وهم لا يحاربون الإسلام؟ فمن قال: إن الكفرة لا يريدون منا عدم الالتزام بالدين، وإنما يريدون تعليمنا الحضارة والديمقراطية، وتعليمنا ما ينبغي أن نتعلمه من التقدم، فهو يخدعنا من يقول ذلك، وهم والله لا يريدون إلا حرب الإسلام، وهذه قضية مكشوفة في القرآن، وبينها تمام البيان، فهم لا يريدون بنا خيراً قطعاً، ومن ظن غير ذلك فهو واهم أو مخدوع، أو هو في الحقيقة مخادع وهو لا يظن غير ذلك، بل يعلم، ولكن يشارك في الجريمة ونعوذ بالله.
فالقضية قضية واضحة، كما بينها الله جل وعلا في قوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
، النتيجة:
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
أي: من انقلب على عقبيه، أو من ارتد عن الدين ولو كان بالنفاق، فليس لازم أن يقول: إنه شخصياً ترك الإسلام، ولا أنه لا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهم الآن ليس من مصلحتهم أن يتنكر الناس لهاتين الكلمتين؛ لأنه سوف يفقد رصيده في عامة المسلمين، وهم لا يريدون ذلك، والأمور ستهيج، إلا أن يكون المتسلط من جلدتنا ويتكلم بلساننا، فهذا هو الذي يحقق المكاسب الكبيرة لأعداء الله، ولذا نجد ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية -كما سنذكره- يقول: ينهى الله عز وجل المؤمنين عن طاعة الكفار والمنافقين.
ويقول أيضاً: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، ولفظة (المنافقين) ليست موجودة في الآية، لكنها دخلت تحت قوله:
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
فلذلك ذكر ابن كثير رحمه الله ذلك ليس سبق قلم منه، والله تعالى أعلى وأعلم.
يقول: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى:
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
[آل عمران:149-150].
مشكلة صعبة تواجه أهل الإيمان ييسرها الله عز وجل، ويبين علاجها؛ ذلك أنه إن لم نطع الكفار ماذا نصنع والأمور بأيديهم؟ والموازين موازين القوة المادية، وهي في صالحهم، فأكثر الناس يقول: لابد أن نسير في ركبهم، لابد أن نقبل هذا الواقع، ونردد ما يقولون وننفذ ما يريدون -ونعوذ بالله من ذلك- وحتى لو كانت حرباً على الإسلام، وصرف الناس عن دين الله عز وجل، وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العافية.
وهذا ليس في زماننا فقط، بل عبر التاريخ تجد عقب الهزائم دائماً يقع ذلك والعياذ بالله، طوائف تنقلب خاسرة، فتردد هذه الكلمات الخبيثة: أننا لابد أن نطيع الكافرين، فعلى المؤمنين في هذه الحالة -وليس بأيديهم شيء- أن يتوكلوا على الله،
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ
أي: أن الله ناصركم، فالله هو الذي يتولى أمركم بالإصلاح، فتوكلوا على الله في دفع أذاهم، وفي دفع مكرهم.
قال تعالى:
وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
أي: خير من ينصر عباده المؤمنين، وليس لكم نصير من الأرض، لكن لكم خير الناصرين وهو الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمن والاهم فهو المنصور، ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب، الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم؛ وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح
لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
قسمة عدل من الله عز وجل، فتجد الكافر عنده من أنواع القوة المادية كثرة هائلة، ومع ذلك هو في رعب عجيب، تلحظه في عيونه، وفي فلتات لسانه، واعترافاته، والأمراض النفسية التي تظهر فيه، والمسلمون لا يبلغون معشار معشار قوة الكفرة، ومع ذلك -ولو كانوا في أنواع المخاطر، وسط النيران، ووسط أنواع الفتن والمحن- تجد عندهم سكينة وأمن، يقول تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
[الأنعام:82]، والظلم الأصغر يحقق قدراً من الرعب والخوف بقدر ما ظلموا، والظلم الأكبر -الذي هو الشرك- يزيل الأمن بالكلية في الدنيا والآخرة كما قالها إبراهيم عليه السلام:
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
[الأنعام:81-82].
فالشعور بالخوف شعور مشقي للإنسان، وهو من أعظم ما يتعب الإنسان، ولا يجعله يستمتع بأكل ولا بشرب ولا بنوم، ولكن الله ابتلاهم الله بشيء من الخوف، وانظر إلى التقليل في قوله تعالى:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
، فتأمل وقارن بين حالي القلبين: حال قلب المؤمن، وحال قلب الكافر، قال تعالى في الكافر:
سَنُلْقِي
فيحس المستمع بقوة شديدة، ولذلك تجد ردود الأفعال عنيفة جداً بدار الإسلام وأهله، ولكن الحقيقة أنهم هم الذين يشقون، وأهل الإيمان رغم أسباب الخوف المجتمعة إلا أن عندهم من الإيمان مما يؤمنهم، فالله يؤمنهم بإيمانهم قال تعالى:
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ
[يونس:9].
قال تعالى في المؤمنين:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
فيحس المؤمن كأن هناك شيئاً يلمسه من بعيد، وأما الكفار فيحس بشيء يلامس قلبه ويجعله يغرق والعياذ بالله.
قال تعالى:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
[البقرة:155] ومعه الدواء:
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
[البقرة:155] دواء الصبر:
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
[البقرة:156-157].
فهذا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، والحجاج يرمي الكعبة بالمنجنيق، فأُلقي حجر من أحجار المنجنيق بجواره مباشرة وهو ساجد يصلي، وأحرق جزءاً من ثيابه، وما شعر به، ولم يحس بما حدث، ولذلك ما قتل إلا لأنه كان يطلع لوحده، والناس تفر من حوله من أجل المال، ومن أجل الجاه المنتظر!
فالمؤمن في أمان بإذن الله تبارك وتعالى كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في غزوة الأحزاب- في أمان عجيب، وكما كان إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وكما كان موسى عليه الصلاة والسلام في مواجهة فرعون، وفي كل المواقف مثبت من عند الله، قال تعالى:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى
[طه:67] أوجس شيئاً خفيفاً جداً من أجل أن نعلم أنهم بشر، ومن أجل أن نقتدي بهم إذا أصابنا ذلك.
فطمأنه الله تعالى بقوله:
قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى
[طه:68]، ولذلك تغير موسى صلى الله عليه وسلم في التو واللحظة، وواجه القوم قبل أن يلقي عصاه، قال:
مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
[يونس:81-82] ومعنى (سيبطله) أي: لم يحصل بعد، ولما رمى عصاه أبطل الله عز وجل سحرهم وكيدهم:
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
[الشعراء:45]،
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ
[الأعراف:118-119].
فكل مؤمن هو الأعلى؛ لأن الله عز وجل يقول:
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
[آل عمران:139].
إذاً: نحتاج إلى معالجة لأحوال القلب، فلو امتلأ إيماناً امتلأ أماناً، ولو امتلأ ذنوباً امتلأ خوفاً، فكلما تبعد عن الإيمان ينقص الإيمان، فيحصل الخوف، ويحصل القلق، ويحصل الاضطراب، والكافر والظالم أشد الناس اضطراباً وقلقاً ورعباً وخوفاً، فهناك كثير جداً من الظلمة -رغم كل الحراسات والأسلحة وغير ذلك- لا ينامون إلا بالمنومات، ولا يجدون للنوم مهنأً، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، وكلما أشرك كلما ظلم، وكلما أفسد في الأرض كلما كان الأمر أشد، نسأل الله العافية.
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ
والرعب هو: أشد الخوف، فهم يخافون من المرض، ويرتعبون من الموت رعباً عجيباً جداً، ويخافون من الفقر وإن كان بعيداً عنهم، ولذلك يطلب مالاً أكثر، ويكسب من الحرام ولا يشبع أبداً، فيصيبهم من الكآبة والحزن بما ظلموا، كلما ازدادوا ظلماً كلما ازدادوا خوفاً ورعباً، ولذا قال:
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
فالشرك والظلم قرينان، والظلم الأصغر يقود صاحبه إلى الظلم الأكبر، والظالم أقرب الناس وقوعاً في الشرك والعياذ بالله، فالذي يظلم ظلماً ولا يتوب منه على خطر عظيم، إذ أنه بتأسيس ظلمه وترسيخ مكانته يسهل عليه أن يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فهو سبحانه وتعالى جعل في قلوب المشركين الانصراف، مع أن لحظات الهزيمة كانت لا تمنع من شيء، وكان من الممكن أن يدخلوا المدينة فعلاً؛ لأنه ليس هناك من يدفع أو يقاتل، فقد كان حول النبي صلى الله عليه وسلم عدداً قليلاً جداً يدافع عنه، ويقاتل قتالاً مستميتاً كما يقولون، وقد قتل بين يديه سبعة للدفاع عنه عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك ممن قاتل حتى أوجب في يوم واحد، كـطلحة استوجب الجنة في قتال يوم أحد رضي الله عنه، فكان الأمر أمراً عظيماً، ومع ذلك صرف الله عز وجل المشركين عفواً عن المؤمنين.
قال ابن كثير رحمه الله: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قمئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام أي القتل، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )) فإنه له أسوة بهم في الرسالة، وفي جواز القتل عليه، وأن القتل ليس مما يعصم منه الأنبياء.
قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، جزاء ما وهنوا عند القتل، فقد قتل ولكنه ليس عنده وهن، وإنما يأمر غيره بالثبات فنزل: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )) رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.
ثم قال تعالى منكر على من حصل له ضعف: (( أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) أي: رجعتم القهقرى كما ذكرنا أن الانقلاب هو ترك الواجب، إما بترك الدين بالكلية كالمنافقين، وإما بترك بعض الواجب كالقتال.
قال تعالى: (( وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )) أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكر ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن عائشة : أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسبح، فكان في أطراف المدينة ضاحية من ضواحي المدينة، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، أي: مغطى صلى الله عليه وسلم بثوب، فكشف عن وجهه ثم انكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
وقال الزهري : حدثني أبو سلمة عن ابن عباس : أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس فقال: اجلس يا عمر ! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر ، فقال أبو بكر :
أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )).. إلى قوله: (( وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )) قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
قال: وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -وقع في الأرض- حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض.
وقال أبو القاسم الطبراني بسنده عن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ووالله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني؟ يقصد -إن صح الأثر وإلا ففيه ضعف- وارثه أي: وارثه في العلم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وأخوه في الله في الإسلام صلى الله عليه وسلم، ورضي عن علي ، ووليه قريبه، وابن عمه رضي الله عنه.
وكقوله:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ
[الأنعام:2]، وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال؛ فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، كما روى ابن أبي حاتم عن حبيب بن صهبان قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي : ما يمنعكم أن تعبروا هذه النطفة إلى العدو -يعني دجلة- يسمى النهر نطفة تصغير لدجلة:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا
، ثم أقحم فرسه في دجلة، فلما أقحم أقحم الناس بعده، فلما رآهم العدو قالوا: مجانين فهربوا، إنهم يركبون النهر كالجن، ولا يساعدهم أي شيء فهربوا، سبحان الله! وعبروا دجلة فعلاً -في حروب الفرس- على خيولهم بفضل الله عز وجل، واليقين بالقدر يغير الله به الأسباب المادية.
وقال تعالى:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا
[الإسراء:18-19].
وهكذا قال:
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.
يقول: ثم اختار قراءة من قرأ: (قُتِلَ معه ربيون كثير)؛ لأن الله عاتب في هذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد، وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فعذلهم الله على فرارهم، أي: عاتبهم على تركهم القتال، وقال لهم: أفائن مات أو قتل أيها المؤمنون! ارتدتم عن دينكم؟ انقلبتم على أعقابكم؟ وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير، وليس النبي الذي قتل، إذاً: قتل ربيون، إذاً: قتل معه جماعات كثيرة قتلوا بين يديه. وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر، قال: أي: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون، أي: جماعات، فما وهنوا بعد نبيهم، -وهذا القول في الحقيقة شبيه جداً بقول ابن جرير - فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا لعدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينه؛ فجعل قوله: (( مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ )) حالاً، وقد نصر هذا السهيلي وبالغ فيه وله اتجاه في قوله: (( فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )).. الآية.
وهكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم، ولم يحك أحد غيره.
وقرأ بعضهم: (( قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ )) قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود : ربيون كثير أي: ألوف.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، وعطاء الخراساني : الربيون الجموع الكثيرة.
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن : ربيون كثير أي: علماء كثير.
فسرها بمعنى رباني، ولكن هذا تفسير مرجوح.
يقول: وعنه أن معنى ربيون: علماء صُبُر أبرار أتقياء.
وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة: أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل، قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الرَبيون بفتح الراء.
وقال ابن زيد : الربيون الأتباع والرعية، والربانيون: الولاة الأولياء، والله أعلم.
وقول جمهور العلماء: الربيون أي الجماعات.
قال قتادة والربيع بن أنس : وما ضعفوا بقتل نبيهم وما استكانوا، فما ارتدوا عن نصرة دينهم أن قاتلوا حتى لحقوا بالله، وما ارتدوا عن نصرتهم للدين ولا عن دينهم، ألم نقل: إن الاستكانة قد تكون بالردة الكاملة، وقد تكون بترك الواجب.
وقال ابن عباس :
وَمَا اسْتَكَانُوا
: تخشعوا.
وقال السدي وابن زيد : وما ذلوا لعدوهم.
وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة : أي: ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم.
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
[آل عمران:147] أي: لم يكن لهم هجيراً إلا ذلك، أي: ليس لهم كلام يرددونه على الدوام ويكررونه إلا ذلك.
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا
أي: النصر والظفر والعاقبة.
وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ
أي: جمع لهم الثوابين،
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
.
الجواب: هذه ليست نظرية، بل هذا هو كلام ربنا، فهو يخبرنا أن الكفرة يريدون اجتثاث الإسلام وأهله، وليس صحيحاً أن هذا على حسب بروتوكولاتهم، فهذه البروتوكولات قد تكون مخترعة، وقد تكون صحيحة، وليس لازماً أن هذا محقق الوقوع.
الجواب: نعم، يجوز ذلك.
الجواب: هذا خلاف السنة، ويمكنه أن يعلن في محيط آخر غير محيط الأهل وزملاء العمل، وذلك إذا خشى الضرر منهم.
كأن يعلن وسط مجموعة أخرى من المسلمين، لكن لابد أن يحدث لهم من الإعلام، وأكثر العلماء لا يرون هذا واجباً، لكن الصحيح أن الإعلان واجب وليس بشرط في صحة النكاح، وإنما الشرط أنه لا بد من حضور الولي وشهود العقد، وأن يكون عن طريق ولي، وأن يحضره شاهدا عدل، ولكن الإعلام وسط الناس يمكن يكون في مكان بعيد عن أهله أو بناته أو عمله أو غير ذلك.
وينبغي أن يكون الإعلان في المسكن الذي سوف يأتي إليه لزوجته الثانية، لئلا تتهمن، فلابد أن يعرف الناس أن هذا الذي يدخل عليها زوجها.
الجواب: الظاهر أنه كان بتفريط منه، حيث كونه يضعه بجانب المكتب ويترك الباب مفتوحاً ويذهب إلى مكتب ثانٍ، فلا بد أن يكون ضامناً، ويلزمه أن يضمن هذا المال ويكون دين عليه، وحتى لو كان مستحق لهذه الصدقات والزكوات فلازم أن يخرجه.
الجواب: لا بد من إقامة الحجة، فهي شرط عموم في التكفير.
الجواب: أكثر المفسرين على أن العابدين بمعنى: الآنفين أي: يأنفوا من ذلك، وقيل: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبده على أنه له ولد على مشهور كلمة العبادة، يعني: على معناها المعروف الذي هو الذل، فبمعنى أنه سوف يعبده على أن له ولد، وهذا مستحيل في حق الله عز وجل.
الجواب: هو يخشى فقط من البضائع أن تكون من المسروقة في هذا المكان، فحسب غلبة الظن إذا كانت مستعملة وبسعر المستعمل المعروف أنها غالباً مباعة، ويغلب الظن على أنها غير مسروقة فلا بأس من الشراء، وأما ما كان مما يغلب على الظن أنها مسروقة، ككونها مثلاً جديدة جداً وبسعر بخس ومما يظن بها أنها مسروقة فلا يشتري.
الجواب: لا يتعارض.
الجواب: لا يجوز العمل فيها؛ لأن الأغلب استعمالها في حلق اللحية.
الجواب: إذا كان الفسخ من قبل الفتاة وأهلها ردوا هذه الهدية، وأما إذا كان من قبل الخاطب وهو الذي فسخ فهي لهم ويجوز لهم أن ينتفعوا بها.
الجواب: يبدأ العلاج بمقاومتها وعدم الاستجابة لها، وعدم البناء على هذه الوسوسة، سواء في عدد المرات أو في المبالغة في غسل الأعضاء أو نحو ذلك، وصرف التفكير في شيء آخر إذا لم يستطع، وأعتقد أن العلاج الطبي قوي في هذا الباب، فيمكن أن يعالج هذا المرض النفسي.
الجواب: الصدفة من القدر، معناها: على غير ميعاد، فقد ورد حديث تميم الداري يقول: (فصادفنا البحر حين اغتلم) يعني: ركبوا البحر وهم لا يعلمون أنه سيكون هائج.
فالصحيح أن كلمة صدفة لا تنافي أنها من القدر، ولا بأس أن يقولها الشخص.
الجواب: نعم، فقد جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يغار من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، وغيرة الله عز وجل صفة لائقة بجلاله لا تشبه صفات المخلوقين.
الجواب: نعم، ولا يقاس على عدم قضاء الصلوات؛ لأن عندنا نص في المسألة، وهو حديث قضاء الكفارة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل المجامع في نهار رمضان بقوله: (واقض يوماً مكانه) والقضاء يجب بأمر جديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة)، مفهوم المخالفة: أن من أفطر عامداً فعليه القضاء والكفارة.
الجواب: كفارة الغش في الامتحان يتوب إلى الله عز وجل ولا يغش مرة ثانية.
الجواب: الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، ووالله ربنا سيدخل فلاناً النار، فهذا هو المتألي على الله.
الجواب: قولان لأهل العلم أصحهما إن شاء الله: أنه لا يحتسب بها ركعة حتى يقرأ الفاتحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بأم الكتاب).
الجواب: صل ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
الجواب: يدعو الله عز وجل أن ينجيه من هذه الأمراض، وينظر في عيوب نفسه الكثيرة، ويطالع هذه العيوب بصدق ويفتش فيها جيداً، وينظر في عيوب نفسه حتى يرى النقص فيها، ويقارن بينه وبين الصالحين، ويقرأ سير الصالحين ليعرف أنه لا يساوي شيئاً.
وأما الرياء: فجاهد نفسك في كثرة التفكر في القيامة، والموقف بين يدي الله جل وعلا، والجنة والنار، واقرأ كثيراً في ذم الرياء وخطره، وادع الله وقل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه. وعليك بكتاب: (تهذيب وموعظة المؤمنين) فهو كتاب جيد في هذا المقام.
الجواب: إذا وصل إلى تجويف الفم وكان على طرف اللسان ثم ابتلعه فهذا فيه قولان: الراجح أنه يفطر؛ لأنه يمكن الاحتراز منه، لكن الشخص الذي يحصل عنده باستمرار من غير ما يخرجه إلى فمه ليس عليه حرج، وما لا يمكن الاحتراز منه لا يفطر به.
الجواب: نعم، إذا فاتته وهو معتاد المواظبة عليها، فالأفضل أن يقضيها.
الجواب: بعض العلماء يقول: هي بدعة، والراجح عندي أنها خلاف الأولى، ولكن ليست بدعة طالما لم يعتقد أنها سنة.
الجواب: في السرية والجهرية لا بد من قراءة فاتحة الكتاب؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب).
الجواب: لا تجوز، لأنها عملية خداع ومكر.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر