وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من ترك شيئاً لله سبحانه وتعالى أعطاه الله عز وجل خيراً منه، ومن ضحى بشيء في سبيل الله فلابد أن يجزيه الله سبحانه وتعالى حياة طيبة في الدنيا، وثواباً آجلاً يوم القيامة.
ولقد جعل الله أنبياءه ورسله الأسوة الحسنة في البذل والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي اللجوء إلى الله عز وجل، والرضا به مدبراً ومعيناً، وجعلهم سبحانه وتعالى قدوة للعباد في الصبر على ما يصيبهم في سبيل الله، وبين الله ما فعل بهم سبحانه وتعالى من الكرامة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في محاورته لأبيه:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
[مريم:48-50].
هاجر إبراهيم عليه السلام بعد أن استنفد أغراض الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في قومه، بأن أقام عليهم الحجة وهدى الله عز وجل به من شاء، هدى به لوطاً عليه السلام، قال تعالى:
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
[العنكبوت:26] ، وهدى به سارة وصارت امرأته، وكانت فيما يذكرون ابنة أحد ملوكهم أو أمرائهم أو كانت ابنة عمه، فالله عز وجل أعلى وأعلم، لكنها كذلك آثرت أن تهجر قومها وأن تهاجر في سبيل الله. هاجر إبراهيم عليه السلام، وترك الأهل والمال والوطن لله سبحانه وتعالى وذهب إلى ربه عز وجل، وذهب إلى الأرض المقدسة، وسكن في ديار لم يسكنها من قبل،
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
[الصافات:99].
ولما فارق أهله لله عز وجل عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منهم، وأي صحبة أحسن من صحبة الأنبياء، وأي صحبة أحسن من صحبة الأهل والأبناء الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الصحبة الحسنة التي عوضه الله عز وجل بها عن مفارقته لقومه، وكذلك كل من يترك شيئاً لله فإن الله سبحانه يأتيه بما هو خير منه.
والخير الكثير في صحبة أهل الخير والإيمان، وصحبة الأنبياء سعادة بالغة عظيمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمحل الأعلى وهو أفضل خلق الله عز وجل كان يقول في مرض موته: (في الرفيق الأعلى).
والله سبحانه وتعالى قد أمر بصحبة الصالحين، فقد أمر من هو أفضل منهم بصحبتهم، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
[الكهف:28].
فلما اعتزل إبراهيم عليه السلام داره وأهله وقومه، وترك كل ذلك لله؛ آتاه الله عز وجل الذرية الصالحة إسحاق ويعقوب، ولم يذكر الله في هذا الموضع إسماعيل مع أنه الابن البكر لإبراهيم؛ وذلك لأنه إنما ذكر ذلك في مقام الامتنان عليه بالصحبة، ولقد كان إسماعيل عليه السلام بعيداً عن صحبته إذ جعله الله عز وجل مع أبيه إبراهيم سبباً لتعمير بيت الله الحرام، فكان في مكة المكرمة مع أمه هاجر ، وإنما ذكر الله عز وجل إسحاق وابنه يعقوب عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنهما اللذان صحبا إبراهيم عليه السلام، ولا شك أن هذا فيه من النعمة على إبراهيم عليه السلام ما يجعلنا ننتبه إلى هذه المسألة المهمة، وهي نعمة صحبة أهل الخير والإيمان، ونعمة صحبة الصالحين والبحث عنهم، ومفارقة أهل السوء واعتزالهم ومخالفتهم رضاً بما أمر الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
[البقرة:186].
فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة وهو أكبر وأكثر فضلاً، وإذا أكثروا من الدعاء أكثر الله عليهم من العطاء، وكلما تضرع الإنسان إلى الله وانكسر جبره الجبار سبحانه وتعالى بفضله ورحمته، فعلينا أن نكثر من الدعاء دائماً ولا نستعجل ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا، فإبراهيم عليه السلام هاجر بعد دعوته إلى الله عز وجل، وبقي بأرض فلسطين مدة طويلة من الزمن إلى أن وهبه الله إسحاق ويعقوب، قال تعالى:
وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا
[مريم:49-50]، فالله عز وجل يهب من رحمته بالهداية وبالإيمان وبالتوفيق للعمل الصالح بأن جعلهم أئمة يهدون بأمره، فهذه الرحمة الخاصة -الرحمة بالدين وبالعمل الصالح- أكبر وأعظم أثراً من الرحمة العامة التي يرحم بها المؤمن والكافر بالطعام والشراب والنفس والنعم الدنيوية، إن الرحمة الباقية هي الرحمة التي سببها عطاء الله عز وجل وتوفيقه بالعمل بطاعته، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ
[الأنبياء:73] فهذا معنى:
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا
[مريم:50]. فهي الرحمة التي يخص الله عز وجل بها عباده المؤمنين، وهي التي تبقى وتستمر معهم، قال تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
[الأعراف:156]، وذلك أنه إذا رحمه الله عز وجل بطاعته كان ذلك سبباً لرحمته المستمرة المستقرة التي لا عذاب معها ولا شقاء أبداً، وذلك أن تكتب له الرحمة في الآخرة.
قوله تعالى:
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا
[مريم:50] فكل من وهب الله عز وجل له نعمة الإيمان ووهب له نعمة العمل الصالح ووفقه للعمل بطاعته فقد قسم الله له من رحمته ما لم يقسم لغيره؛ فليشكر نعمة الله بالثبات، وليشكر نعمة الله سبحانه وتعالى بمزيد الطاعة والخير، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم بأمر الله سبحانه وتعالى، ومزيد العبودية لله عز وجل:
وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ
[الأنبياء:73].
فالمعتبرون في الثناء والمدح والذكر الحسن هم أهل الإيمان، وأما أهل الباطل فمدحهم وذمهم لا قيمة له:
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
[الفرقان:44]، فهم يمدحون الباطل ويذمون الحق، فلا اعتبار بهم ولا تقبل شهادتهم عند الله.
قال الله عز وجل مبيناً في هذه الآيات دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، وقص علينا في سورة مريم قصته مع أبيه، وفي هذه الآيات قصته مع قومه كذلك، فهو يدعو القريب والبعيد إلى الله عز وجل، وبدأ بالأقرباء ولم يترك الآخرين، بل دعا إلى الله كل من لقيه، فهكذا المؤمن الداعي إلى الله عز وجل يدعو كل من لقيه إلى الله سبحانه وتعالى، فليست الدعوة إلى الله محصورة في طائفة معينة من الناس لا تتعدى إلى غيرهم، أو في قومية معينة أو وطن معين، بل المؤمن يدعو إلى الله عز وجل القريب والبعيد، ويبدأ بأهل بيته وأهل بلده.
فهذه من كذباته في ذات الله سبحانه، أي: لإقامة الحجة.
فقوله تعالى:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
[الأنعام:75] أي: ليرى منها كيف يحتج على الكفرة والمشركين، وكيف يحصل له اليقين بآيات الله سبحانه وتعالى التي يشاهدها، كما يؤمن بآيات الله التي يسمعها إذا أنزلها الله عز وجل عليه.
والآيات المرئية المشهودة والآيات المسموعة المنزلة كلاهما تدلان على شيء واحد: هو حقيقة ملك الله سبحانه وتعالى، وأنه المتفرد بالربوبية والألوهية وبكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وكل ذلك أمر يشهده كل ذي عقل لمن تدبر هذا الملك الواسع.
إذا تأملنا القوة التي أودعها الله عز وجل في هذه البحار الزاخرة، لو أنها خرجت على الناس لأغرقتهم في لحظة.
لو أن الإنسان تأمل القوة التي جعلها الله عز وجل في هذه الأرض، كيف إذا تزلزلت خرجت طاقات مدمرة هائلة تدمر كل شيء على وجه الأرض، لا يملك قوي ولا ضعيف من البشر لها دفعاً ولا رفعاً إلا ما شاء الله.
وتأمل فيما حولك من السماوات والأرض، هذه النجوم وهذه الكواكب السائرة في أفلاكها، كم فيها من القوة والطاقة والقدرة التي لو أن الله سلطها علينا لأهلكتنا في لحظات؟
كم من المذنبات تسير في هذه الأكوان الواسعة في السماء الدنيا، لو أنها سقطت على أهل الأرض لدمرتهم في لحظات ودمرت حضارتهم تدميراً.
ثم ليتأمل الإنسان فيما في الأرض من ملك الله عز وجل في نفسه وفي رزقه، فإنه ما أحيا نفسه ولا أوجدها، ولا يملك لها سمعاً ولا بصراً ولا صحة ولا استمرار حياة، ولا نبض قلب، لمن هذا الملك؟ لله الواحد القهار، هذا يشهده كل عاقل كما يشهده كل مؤمن، ولا يعقل هذه الآيات إلا العالمون بالله سبحانه وتعالى وبشرعه، فالله عز وجل يري من شاء ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون من الموقنين بوحدانية الله وعظمته وقوته وقهره، وإذا كانت هذه القوة التي جعلها الله في المخلوقات فكيف بالقوة التي هي صفته سبحانه وتعالى؟! وهو سبحانه وتعالى الرزاق ذو القوة المتين، إذا أيقن العبد بذلك ارتفع نظره عن هذه الأرض وعما يبدو له من سلطان وملك للناس يغفل به أكثر الخلق عن ملكوت السماوات والأرض، وأن الملك الحقيقي لله، فيعيشون في هذه الدنيا في غفلة، وهم معرضون عن آيات الله الدالة على ملكه وعظمته وقدرته وقوته ووحدانيته، فيعيشون في هذه الحياة يتبعون من يظنونه يملك، ويطيعون من يظنونه بيده الأمر ويدبر الأمور، والله وحده هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله سبحانه وتعالى، إن العبد إذا أيقن بوحدانية الله وقدرته صغر الناس في عينه زماناً ومكاناً، وعرف مقدار قوتهم التي جعلها الله عارية في أيديهم؛ ليرى ما يصنعون، قال تعالى:
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
[يونس:14]، فإذا كان الأمر كذلك لن يضره ملك الظالمين، ولم يسر في فلكهم كما يريدون، وإنما يفرد ربه سبحانه وتعالى بالعبادة والوحدانية.
فقوله:
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ
أي: ستره الليل،
رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
إما على سبيل الاستفهام: أيصلح أن يكون هذا ربي؟ يريد أن يستثير فهمهم وعقولهم، أو على سبيل الإنكار، والأول أظهر، ثم يأتي الجواب بعد حين:
فَلَمَّا أَفَلَ
أي: غاب،
قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ
، والعبودية أصلها المحبة.
والإنسان في قلبه فطرة أساسية دافعة قوية لمحبة إلهه الحق، فقد فطر على ذلك أشد من حاجته إلى النفس والطعام والشراب، فبدنه يحتاج إلى الهواء وإلى الماء وإلى الطعام، فجعل الله في نفسه شبقاً إلى هذه الأشياء، فهو يشتهي أن يأخذ النفس ولا يستغني عنه دقيقة واحدة، وربما يستغني عن الماء والغذاء أياماً، ولكنه لا يبقى بدونهما كذلك.
وأما القلب فشأنه شأن آخر، فإن الله فطره على أن يحب من لا يغيب عن محبته لحظة، وإذا غاب عن محبته فإنه يمرض ويموت، وربما تتعثر بعض القلوب حين يطول بقاؤها دون أن تحيا بماء الحياة المنزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالله يحيي الأرض بعد موتها، ويحيي القلوب بما ينزل من الوحي من عنده عز وجل، فقلب العبد يحتاج إلى أن يحب من لا يغيب عن حبه لحظة، وأما إذا غاب القلب عن حب الله، فإنه يأتيه من أنواع الأمراض وأنواع المتاعب وأنواع النكد والشقاء ما لا يستطيع معه أن يستمتع بحياة، ولولا سكر الشهوات وسكر المعاصي لما بقي الناس أصلاً بأبدانهم على ظهر الأرض، ولماتت قلوبهم، وقد شقوا شقاء عجيباً لا يدرون ما وجهه إذ أعرضوا عن الله عز وجل؛ لأنه لا يصلح أن تتوجه القلوب إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يغيب، كما قال تعالى:
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ
[الأعراف:7]، بل هو مطلع على خلقه، سميع بصير قدير قوي في ملكه سبحانه وتعالى، لا يزول ملكه ولا ينقص، وهو سبحانه وتعالى حي باق لا يموت، قال عز وجل:
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ
[البقرة:255]، والآثار العقلية شاهدة بذلك فضلاً عن الآثار والأدلة السمعية المنزلة من عنده سبحانه وتعالى، فهي ترشد العقول إلى أقصد الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته.
فقوله:
لا أُحِبُّ الآفِلِينَ
أي: أن العبد يحتاج إلى الحب، ولن ينال هذا الحب إلا بالتوجه إلى الله عز وجل، فإذا وجهت وجهة القلب لغير الله وأحب غير الله مرض ومات، وكان والعياذ بالله كما قال الله:
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ
[الأنعام:122] فالكافر مثله في الظلمات ليس بخارج منها، وهو ميت لا يحيا، وإنما تحيا القلوب بمعرفة الله ومحبته سبحانه وتعالى.
إن الإقرار بوجود الله لا يصلح ولا يكفي إذا لم يكن معه التزام الهداية التي أرسل الله بها رسله.
فقوله:
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
فلا تعبدوا من تشقوا بحبه، ولا تعبدوا من لا يهديكم سبيلاً، ولا يبين لكم أمراً ولا نهياً، وبهذا يتبين بطلان من يزعم إيمان من يقر بوجود الله دون أن يتبع الرسل الذين أتوا بالهداية من عند الله؛ فإن من ترك هداية الرسل فقد ضل ضلالاً مبيناً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
أما بعد:
فقال عز وجل:
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
أي: هذه الشمس أكبر ضوءاً وأكبر قدراً وأكثر انتشاراً في نورها، ولكن لابد لها أن تغيب.
وقال تعالى:
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
تدرج معهم حتى وصل بهم إلى الحقيقة التي قد هداه الله إليها من قبل، وهي وحدانية الله والبراءة من الشرك وأهله.
فقوله:
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
هذا قضية إبراهيم عليه السلام وقضية كل الأنبياء، وهذه القضية هي الشق الأول من كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قضية النفي، وهي البراءة من الشرك وأهله والبعد عن الباطل، فلابد من هدم الجاهلية حتى يبنى الإسلام الحق؛ لأنه لا يتحقق في قلب ابن آدم الحق إلا بهدم الجاهلية وبيان بطلانها والبراءة مما يعبد من دون الله، ولا يكون موحداً من أقر بعبادة غير الله ولو لغيره، فلو أن إنساناً قال: أنا أعبد ربي وأنتم تعبدون آلهتكم، وكل منا على حق، وكل منا يختار ما يريد؛ لكان مشركاً بالله عز وجل، حتى ولو قال: أنا لا أعبد غير الله؛ وذلك لأن إقراره بالملل الباطلة وبعبادة غير الله دليل على أنه لم يشهد أن الله لا إله إلا هو، وإنما أقر أن الله إله من الآلهة، وهل كان شرك المشركين بإنكار ألوهية الله أم بإنكار وحدانيته؟ كان بإنكارهم لوحدانيته عز وجل، قالوا:
أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
[ص:5] , ولذا لم تكن كلمة الإيمان هي كلمة الله إله، وإنما لا إله إلا الله، فنبدأ بالنفي قبل الإثبات، وهذا النفي لكل معبود من دون الله، فلا بد أن نقر بأن عبادة غيره باطلة، ونشهد بأنه الإله المعبود بحق، فلا يعبد بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
أي: وجهت وجهتي وإرادتي وقصدي لله رب العالمين، فبعد شهود كمال الربوبية بتدبير ملك السماوات والأرض، لابد أن يكون الإنسان منفعلاً متأثراً بهذا الذي شهده من ملكوت السماوات والأرض، وأنه لله، بأن يجعل توجهه وإرادته وقصده وتوحيده الطلبي الإرادي لله عز وجل.
فقوله:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
أي: أن أعظم دليل على توحيد الربوبية هو خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق.
قال تعالى:
حَنِيفًا
أي: مائلاً إلى الله، وهذا هو الدليل الثاني، وهو المذكور في قوله:
لا أُحِبُّ الآفِلِينَ
أي: أنا محتاج إلى محبة دائمة، محبة من لا يغيب، وقد فطرت القلوب على أن تميل إلى الله؛ لأن الحنيف هو المائل إلى الله المعرض عن غيره، هكذا فطرت القلوب، وهذا كله من أدلة التوحيد، فإن القلب لا يسعد إلا إذا توجه إلى الله، فإذا ذاق عبودية الله علم أن لذات الدنيا سراب بالنسبة إليها، وأنها لا قيمة لها إذا لم تكن مع عبودية الله والتحنف والميل إليه، والبعد عما يعبد من دونه.
قال عز وجل:
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
أي: أتبرأ من أهل الشرك كما أتبرأ من الشرك نفسه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
ما أحوجنا عباد الله إلى أن ترتفع أنظار قلوبنا عن هذه الأرض الضيقة، عما يظن فيها من ملك وسلطان، عما يظن فيها من قوة وقدرة للمخلوقين، ما أحوجنا إلى أن ننظر في السماوات والأرض وخلقهما؛ لنعلم حقيقة البشر وضعفهم وعجزهم، وبالتالي لا نتوجه إليهم من سعي في رضاهم أو فرار من سخطهم إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وإنما نحب الله عز وجل ونميل إليه، ونعرض عمن سواه وعما يعبد من دونه، فبهذا يحصل للعبد حقيقة التوحيد، وبهذا يرفعه الله عز وجل الدرجات العلى، فهو يرفع درجات من يشاء سبحانه وتعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، خطأها وعمدها، سرها وعلانيتها، ما علمنا منها وما لم نعلم، ما تقدم منها وما تأخر.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر