أما بعد:
فبقراءة شرح الوصايا المهمة من وصايا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: [ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله.
فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن.
ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أولياء الشيطان.
وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء.
ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقال تعالى:
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[يونس:62-64] وقال تعالى:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
[الأعراف:196] ].
فقد ذكر الله عز وجل صفة أوليائه أنهم المؤمنون المتقون، وبين عز وجل عاقبة أمرهم أنهم لا خوف عليهم مما هم يقبلون عليه ويقدمون عليه، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم أو حصل لهم.
وبين عز وجل أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، فمن عاجل بشرى المؤمن ما يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلوب وفي ألسنة الخلق من محبة أوليائه والثناء عليهم.
ومن البشرى في الدنيا كذلك الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له.
وأما في الآخرة فما تبشرهم به الملائكة عند احتضارهم وعند قيامهم من قبورهم، وعندما تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
وكذلك من البشرى في الآخرة ما يبشر به العمل الصالح صاحبه حين يأتيه في صورة رجل طيب، حسن الوجه طيب الريح يقول: (أبشر بما يسرك هذا يومك هذا الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح) .
قال المؤلف رحمه الله:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
[البقرة:257].
إذاً لله أولياء كما في الآية:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
والله عز وجل وليهم وهم أولياؤه، فهو يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلال إلى نور الإيمان والعلم والتوحيد.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
ورأس الطواغيت الشيطان، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله وهو راض، وهؤلاء بعضهم أولياء بعض، وهم يتعاونون على الكفر والفسوق والعصيان.
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ
أي: يتركون الإيمان والعلم والعدل والحق الذي أخبر الله به وأمر به عز وجل إلى ظلمات الظلم والشرك والشك والنفاق وغير ذلك مما يحصل لمن يعبد غير الله.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
[المائدة:51-56] ].
فالله عز وجل له أولياء من المؤمنين وهو وليهم،
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
[المائدة:55].
ولا شك أن ذكر هذه الولاية عقب إيجاب البراءة من الكفار، من اليهود والنصارى، وعدم اتخاذهم أولياء دليل واضح على أنه لا تحصل الولاية لله إلا ببغض أعداء الله.
أما النفاق فتدل الآية على أنه يسبب موالاة الكفار، قال تعالى:
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أي: مرض النفاق والشبهات والشهوات
يُسَارِعُونَ فِيهِم
أي: يسارعون في موالاة اليهود والنصارى والكفار بزعم أنهم يخشون وقوع الهزيمة على المسلمين، فيضمنون أنهم قد أعدوا لهذا اليوم عدته بأن والوا أعداء الله، فيتخذون عندهم يداً يحمون بها أنفسهم إذا غلبوا.
قال عز وجل:
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ
و(عسى) من الله واجبة، فمن تولى الله عز وجل، وتولى دين رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته، وتولى عباد الله المؤمنين، فإن الله يفتح عليه، ويأتي الكفار أمر من عنده عز وجل فيجعل باطلهم ومكرهم وكيدهم هباءً منثوراً، وعند ذلك يندم المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من موالاة الكفار.
وبين عز وجل أن المؤمنين يتعجبون من هؤلاء المنافقين، كيف يجمعون بين النقيضين؟ بين كونهم يقسمون أقوى الأيمان -وقد بذلوا الجهد في المبالغة في القسم- أنهم مع المؤمنين، وفي نفس الوقت هم يتخذون الكفار أولياء، فكيف يجتمع هذان النقيضان؟ لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً، وهو في نفس الوقت يتخذ الذين كفروا أولياء.
وقد بين عز وجل أن موالاة الكفار تستوجب - والعياذ بالله - حبوط العمل، وتجلب الخسران، وبين أنها تجر إلى الردة فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
وهذه صفات أولياء الله أنهم يحبون الله والله يحبهم، وكذلك من صفاتهم:
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
وأضافوا إلى ذلك الجهاد في سبيل الله، وأنهمولن يخافون لومة اللائمين الذين يلومون من يجاهد في سبيل الله، ومن يعمل لإعلاء كلمة الله.
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
فمن تفضل الله عز وجل عليه بحبه، وبالذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، والجهاد في سبيله، فهذا قد آتاه الله عز وجل من فضله، والله واسع عليم.
ثم حصر عز وجل الموالاة أنها تكون لمن لديهم صفات معينة، وهي: أنهم المؤمنون، والمقيمون للصلاة، والمؤتون للزكاة، والذين يركعون ويخضعون لله عز وجل.
وبين الله انتصار هذا الحزب الذي يشترط لعضويته: أن يكون الإنسان مؤمناً مصلياً مزكياً مطيعاً لله عز وجل.
والغرض المقصود من هذه الآية في هذا الباب هو قوله:
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فلله عز وجل أولياء.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال تعالى:
هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا
[الكهف:44] ]. أي: هو يتولى أمور عباده عموماً، وأمور عباده المؤمنين بالحفظ والعناية خصوصاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال تعالى: وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ
[النحل:98-100] ].
إذاً: هناك من يتولى الشيطان، والشيطان وليه.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
[النساء:76]]. فسماهم أولياء الشيطان وأمر بقتالهم؛ لأنهم يصدون عن سبيل الله ويشركون به، ويظهرون الفساد في الأرض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقال تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
[الكهف:50] ]. فالذين اتخذوا إبليس وذريته من الشياطين أولياء من دون الله هم الذين أطاعوهم في الكفر وفي المعاصي، وناصروهم في الصد عن سبيل الله والعياذ بالله، وفسق إبليس وخروجه عن توحيد الله إلى الشرك به والكفر كافٍ في الحذر من تولية وطاعته، وهؤلاء الضالون الذين اتبعوه استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل استبدلوا العدو بالولي الحقيقي، فتركوا ولاية الرحمن ووقعوا في ولاية الشيطان،
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى:
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا
[النساء:119] .
وقال تعالى:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
[آل عمران:173-175] ] أي: يخوفكم بأوليائه،
فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ
. قال عز وجل:
فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
الشاهد: أن الله سماهم أولياء الشيطان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
[الأعراف:27].
قال:
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ
[الأعراف:28-30] ]. فحين اتبعوا شياطين الإنس والجن والعياذ بالله، وتركوا دين الله سبحانه وتعالى، صاروا أولياءً للشياطين.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال تعالى:
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ
] أي: في شأن الميتة حين قال المشركون: أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله بيده، يعنون الميتة، فأنزل الله عز وجل:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ
[الأنعام:121] أي: بهذه الآراء الباطلة والقياس الفاسد في استباحة الميتة، فسماهم أولياء للشياطين؛ لأنهم يجادلون في رد الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الخليل عليه السلام لأبيه:
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
[مريم:45] .
وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
[الممتحنة:1] إلى قوله:
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[الممتحنة:5] ].
قال المؤلف رحمه الله: [ وفي الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة (أو فقد آذنته بالحرب) وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، (وفي رواية) فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه). فهذا أصح حديث يروى في الأولياء.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى ولياً لله فقد بارز الله بالمحاربة.
وفي حديث آخر: (وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب) ]، أي: الليث الذي يحارب أو نحو ذلك، وهذا التشبيه إنما هو في شدة البأس، وهو لتقريب الأمر إلى أذهان العباد، وإلا فالله ليس كمثله شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث ثأره.
وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما ينهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) .
وفي حديث آخر رواه أبو داود وقال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان) ].
وقد قيل: إن الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات، أي: متابعته لها، والأول أصح، والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا أي: يقرب منه، ومنه قوله النبي صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) أي: لأقرب رجل إلى الميت وأكده بلفظ الذكر؛ ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيه الذكور والإناث ] ,أيضاً لكي لا يتوهم أن ذلك خاص بالرجال دون الصبيان وسائر الذكور.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: كما قال صلى الله عليه وسلم في الزكاة: (فابن لبون ذكر). فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه كان المعادي لوليه معادياً له. كما قال تعالى:
لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
[الممتحنة:1] . فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، ولهذا قال: (ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) ].
قال تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
[الشورى:13].
وقال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
[الأحزاب:7] ] وأولوا العزم على قول جمهور العلماء: هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الآية.
والقول الآخر: أن كل الرسل أولي عزم.
واستدل الأولون بقول الله عز وجل عن آدم:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا
[طه:115].
وقوله تعالى:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
[الأحقاف:35] والأصل في (من) أنها للتبعيض، ولا شك في أفضيلة هؤلاء، وقد نص الله على ذكرهم، وذلك دليل على فضلهم.
وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خطيبهم إذا وفدوا على الله، وإن كان الحديث لم يصح نصاً، ولكن في حديث الشفاعة ما يدل عليه؛ فإن الذي يتقدم ويسجد بين يدي الله، ويشفع عند الله سبحانه وتعالى في أمر خلقه هو النبي عليه الصلاة والسلام، فهو خطيبهم إذا وفدوا على الله، وهو صاحب المقام المحمود أي: الشفاعة التي يتراجع عنها أولو العزم من الرسل، وهذا المقام يغبطه به الأولون والآخرون.
قال المؤلف رحمه الله: [ صاحب لواء الحمد].
أي: يوم القيامة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لواء الحمد بيدي وآدم ومن دونه تحت لوائي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله عز وجل يفتح عليه من أنواع المحامد والثناء مالم يفتحه على أحد قبله عليه الصلاة والسلام، فيجعل الله لواء يسمى: (لواء الحمد) يعرف به عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وصاحب الحوض المورود].
والحوض قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أن: (آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة ].
وهذه منزلة لا تنبغي إلا لعبد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أن من سأل له الوسيلة حقت له الشفاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بعثه الله بأفضل الكتب، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم ]. أي: أنه قد يكون في بعض الأمم بعض الفضائل، أما هذه الأمة فاجتمعت فيها كل الفضائل في العلم والعمل.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهم آخر الأمم خلقاً، وأول الأمم بعثاً، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ]، أي: نحن الآخرون زمناً السابقون يوم القيامة إلى الله عز وجل منزلة وقدراً ].
قال المؤلف رحمه الله: [ قال: (بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه) -يعني: يوم الجمعة- فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: (غداً لليهود وبعد غد للنصارى) ]. أي: أنهم اختلفوا في يوم الجمعة، وقد كان شرع لهم ابتداء، لكن لما اختلفوا فيه رفع ذلك عنهم ولم يعد مشروعاً لهم أن يعظموا يوم الجمعة؛ حرماناً لهم من ثوابه وفضله، بل لهم تعظيم السبت وتعظيم الأحد بدلاً من تعظيم الجمعة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) أي: أن أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك).
وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ].
قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم ]. أي: امتحاناً لهم إن كانوا صادقين في حب الله فليتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم، بل يدعون أنهم أبناء الله، وأحباؤه، قال تعالى:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
[المائدة:18].
وقال تعالى:
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
[البقرة:111-112] ].
قال المؤلف رحمه الله: [ وكان مشركوا العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى:
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
[المؤمنون:66-67].
وقال تعالى:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
[الأنفال:30-34] .
فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون ].
وهذه القضية مهمة جداً، وهي: أن ظن الإنسان أنه ولي لله عز وجل لا يلزم منه أن يكون ولياً في الحقيقة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً من غير سر: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء) -أي: طائفة من أقاربه- (إنما وليي الله وصالح المؤمنين)، وهذا موافق لقوله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
[التحريم:4]. وصالح المؤمنين هو من كان صالحاً من المؤمنين وهم المؤمنون المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة كلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، ومثل هذا الحديث الآخر: (إن أوليائي المتقون من كانوا وحيث كانوا) ].
يقول المؤلف رحمه الله:[ أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته. كما كان الخضر مع موسى] وهذا الكلام هو أيضاً كلام بعض الصوفية الغلاة الذين يقولون مثل هذه الضلالات الكفرية.
وتجد هؤلاء يركزون على قصة الخضر وموسى، ويحرفونها عما تدل عليه، وموسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل، ولم يكن رسولاً إلى الناس كافة، ولا مانع من وجود نبي في زمنه يوحى إليه، فالخضر إما نبي وإما متبع لنبي يأتيه وحي قاطع من عند الله عز وجل بهذه الأفعال، ويقولون: إن أهل الالتزام بما جاء به الأنبياء هم أهل الشريعة، وأما أهل الباطن فهم أهل الحقيقة، فمن كان على حال الخضر فهو يعرف بواطن الأمور التي لا يعرفها أهل الشريعة، وقد يفعلون أشياء منكرة وهي في الحقيقة من المعروف، مثل قتل من لا يستحق القتل ونحو ذلك، وهم بهذا يؤصلون أن الولي مهما فعل من أموراً مستنكرة فلا ينكر عليه؛ لأن الذي ينكر عليهم لا يعرف الباطن، كما أن موسى كان مخطئاً حين أنكر على الخضر كما يقولون، وفتح هذا الباب يؤدي إلى الفواحش والمنكرات باسم الكرامات، لذلك تجد أهل الضلال والكفر والعياذ بالله يعظون ليستحلوا المحرمات فقط.
ويقول بعضهم: إن من كرامة سيدي فلان الفلاني والعياذ بالله أنه خطب يوماً فقال: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: كفر كفر، فسل السيف ونزل من على المنبر، قال: وفعل ذلك ثلاثين جمعة! فمن يرضى بهذا الكلام يكون كافراً والعياذ بالله.
ويذكرون أن من كرامات فلان الفلاني أنه كان ينزل شيخ البلد من على بغلته، فإن امتنع تسمر في مكانه، فيفعل بالدابة، والعياذ بالله، وهذه من أفضع الفضائع ومع ذلك يعدونها كرامات!!
لذا من اعتقد أن أحداً يسعه الخروج عن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شرع موسى كان كافراً، فهذا من نواقض الإسلام كما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله: [ أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة، وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته.
وقد يقول بعض هؤلاء: إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم].
ولذلك تجدهم لا يهتمون بالسنة، ولا يبحثون في تهذيب النفوس من خلال سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل عندهم وسائلهم الخاصة بهم.
فهم ظنوا أن كلمة الصوفية مأخوذة من الصفة، وهي ليست كذلك، لذا فإن من الكفر والعياذ بالله أن يقال: إنه يوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج.
وأهل الصفة كانت بدايتهم أن هناك من يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجد مأوى، فجعل لهم في مؤخرة المسجد مكان يأوون إليه.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
[الإسراء:1]. وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم، فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذر عليه ذلك نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه. ولم يكن أهل الصفة ناساً بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها أياماً ثم ينتقل منها، والذين ينزلون بها هم من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزية في علم ولا دين، بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة أي: استوخوهما ].
أي: مرضوا من جوها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح أي: إبل لها لبن، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتي بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ] أي: جعلت المسامير فيها كما فعلوا بالراعي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون ] والحرة: أرض فيها حجارة سوداء على أطراف المدينة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة، فكان ينزلها مثل هؤلاء ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل عنها، ونزلها أبو هريرة وغيره، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي (تاريخ من نزل الصفة) ].
وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة، وكذلك أكابر المهاجرين كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبي عيدة بن الجراح وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة ]. وهؤلاء هاجروا في سبيل الله وكانت لهم أموال فاتخذوا بها مساكن، أو تاجروا وربحوا حتى كانت لهم مساكن.
والعرنيين نزلوا مصلحة وطمعوا في المال، فقتلوا راعي إبل الصدقة وأخذوا الإبل طمعاً في المال.
وبعض هذه التسميات وردت لكن لغير ما يقصده هؤلاء، فالنقباء وردت في نقباء الأنصار في بيعة العقبة، والأبدال ورد في حديث موقوف، وأما في فضل الأولياء فتوجد أحاديث صحيحة كثيرة، وأصح حديث في ذلك ما رواه البخاري : (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، وأما الأوتاد والأقطاب فلم ترد لا في كتاب ولا سنة فيما أعلم.
وكلمة الأبدال يعنون بها: أنه كل ما مات منهم أحد جعل الله عز وجل بدلاً منه من أهل الخير لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة) . فإذا مات في الأمة عالم مثلاً فإن الله يبدل مكانه من هو مثله في العلم، وكذلك في القيام بالحق ونحو ذلك، ولا يلزم أن يكون مثله تماماً، ولكن مثله في الطريقة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك من خلفه مثله، وأبو بكر لم يكن هناك مثله، فالله يقيم في مقامه بدلاً عنه؛ لأن الحق لا يضيع من هذه الأمة بحمد الله تبارك وتعالى، فالأبدال هم الذين جعلهم الله عز وجل بدلاً ممن سبقهم من الأولياء الذين يقومون بالحق علماً وعملاً في هذه الأمة، هذا الذي ورد، أما الأقطاب والأوتاد الذين يدعي الصوفية أنه يدور حولهم روح الكون كله، وأن القطب الواحد تدور الدنيا كلها حول أمره والعياذ بالله فهذا كلام باطل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن علياً ومن معه من الصحابة أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي، وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، فكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما ]. إذاً: هذا الحديث حديث ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه ] أي: اهتز وتمايل ووجد من شدة المحبة. وقوله: (لسعت حية الهوى) تشبيه قبيح جداً، وهو أن الهوى والحب فعلان، وذلك هو أكثر تشبيهات الصوفية في أشعارهم إذ يشبهون المحبة بالخمر ونعوذ بالله، ويسموها: (القصيدة الخمرية) وقد يسمون بالمقامات العالية مقام السكر مثلاً، ومقام الدهش، ومقام الهيمان، ومصيبة تحصل للإنسان، فكيف يكون مقاماً ممدوحاً؟!
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه فرق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش ]. وهذا من خزعبلات الصوفية الموجودة في كتبهم والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذباً عليه.
وكذلك ما يروونه عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي ] أي: يكلمونه بلغة لا يفهمها، ولذا فهم دائماً يكثرون من استعمال الكلام الغامض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ]
فمن يقر برسالته العامة في الظاهر ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويعتقد والعياذ بالله عقيدة وحدة الأديان، أو في وحدة الوجود، أو في الخروج عن الشريعة -والعياذ بالله- ونحو ذلك، فهو منافق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقاً، وهو يدعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عناداً وإما جهلاً ].
وهذا الجهل ليس معتبراً في هذه الحالة؛ لأنه جهل نشأ عن الإعراض؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وشريعته هي شريعة الخلق جميعاً الإنس والجن.
وأذكر أن شخصاً رأى آخر، فقال له: لماذا لا تصلي؟ فأجاب: أنه رجل واصل فلم يعد يكلف بالصلاة، لأنه وصل إلى المراتب العالية والعياذ بالله، وبعضهم من المجانين يقولون: جذبته المحبة فأصبح لا يحتاج إلى هذه التكاليف.
وهذا الرجل لو كان مجنوناً حقيقة فهو معذور، وأما لو كان عاقلاً فهو كافر؛ لأنه مستحل لترك الصلاة، وكان أبي رحمه الله يحكي لي عن بعض الأقارب ممن له مقام -كما يقولون- أنه كان عندما يأتي رمضان لا يصوم ولا يصلي، فيقول له خالي: صل. فيقول: الصلاة وسيلة لا غاية، ونحن قد وصلنا إلى الغايات، فلا حاجة بنا إلى الوسائل. والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما أن كثيراً من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن يقولون: إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب وأنه لا يجب علينا إتباعه؛ لأنه أرسل إلينا رسولاً قبله، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله، وإنما أولياء الله هم الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله:
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
[يونس:62-63].
وقال تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
[البقرة:285] إلى آخر السورة.
وقال في أول السورة:
الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[البقرة:51-].
واستدل بهذه على أن من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض فهو كافر، ومن آمن ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر ببعض فهو كافر، كما قال تعالى:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
[البقرة:85].
وهذا دليل على أن فاعل هذا كاف لكفره؛ لأن أشد العذاب لا يكون لعصاة الموحدين، وإنما يكون للكفرة والمنافقين والعياذ بالله، وهذا دليل أيضاً على لزوم الإيمان بكل الرسل، ولزوم الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريق إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان ].
فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبلغاً عن الله جميع ما أمر الله عز وجل به لجميع الإنس والجن، فليس لأحد أن يخرج عن تحليل وتحريم هذه الشريعة التي جاء بها؛ لأن كثيراً من أهل الزندقة والنفاق -ممن يعتقدون أن هناك طائفة لهم أن يرتكبوا المنكرات والمحرمات وأن يتركوا الواجبات- يزعم أن لهم طريقاً آخر مع الله عز وجل، ويزعم أن هذا الأمر هو للعامة أي: التحليل والتحريم، وأما الخاصة فلا يلزمهم ذلك، وأن هذه العبادات والتحليلات والتحريمات إنما هي لمن لم يصل بعد، وأما من وصل فلا تلزمه والعياذ بالله، فهذا كله من الكفر الناقل عن الملة، وهؤلاء غالباً يحتجون بقصة موسى والخضر؛ فإن الخضر لم يكن ملزماً باتباع شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وأعلمه الله بأشياء من علوم الغيب، وأن الخضر شرفه الله بوحي مباشر له، أو شريعة بلغها له نبي من الأنبياء في زمنه، فقتل الغلام، وإصلاح الجدار بلا مقابل، وخرق السفينة، لا يمكن أن يبنى عليه مع وجود شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أي حال من الأحوال، بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يدعي أنه قد علم ما أخفاه الله عز وجل عن غيره من العباد، وبناء على ذلك يجوز له أن يرتكب المحرمات الظاهرة بزعم أنها في الباطن ليست حراماً، أو أن هناك أسباباً تجعل هذه المحرمات له حلال، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين الله وبين خلقه.
فهذه الفرق القائلة بذلك هي فرق خارجة من الملة؛ لأنهم يقرون أن الله حرم هذا الشيء، وأوجب هذه العبادة، ثم يفترون على الله الكذب، وأنه جعلهم خارجين عن هذا التكليف، ولذا فمن أركان الإيمان: الإيمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من يبلغ الأوامر والنواهي لنا عن الله، ويبلغنا الأخبار والوعد والوعيد، فلو أن إنساناً رأى نفسه خارجاً عن هذا كان كافراً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما خلق الله تعالى للخلق ورزقه إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا واسطة الرسل ].
فبعضهم يقولون: إن من الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة، أي: أنه ينفع الناس ويضرهم على سبيل الشفاعة، وأنه يدعى من دون الله ويستنصر به على الأعداء، ويطلب منه الإغاثة والمدد، وهذا الكلام شرك بالله، فإن الله هو الذي خلق الخلق وهو الذي يرزقهم ويجيب دعائهم، ويهدي قلوبهم وينصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار لله وحده لا شريك له، وليس معنى وساطة الرسل الدخول في هذا، بل وساطة الرسل إنما هي في إبلاغ التحليل والتحريم، وفي تبليغ الوعد والوعيد، والأوامر والأخبار، فالأخبار فيما يتعلق بأمور الاعتقاد كأمور الغيب، والأوامر والنواهي في التحليل والتحريم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى.: [ ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم ].
وعبادهم هم الأحبار وهم دون العلماء، والرهبان هم العباد الذين يتعبدون عبادات شديدة جداً، وربما مكثوا السنين في الفيافي والقفار والخلوات والصوامع لا يفعلون غير ما يظنونه عبادة، ويتخلون عن كل زخرف الدنيا، ومع ذلك ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله:[ وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من المشركين: مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك ].
أي: أنه كان هناك حكماء يعلمون الناس الحكمة، بزعمهم أن الحكمة ليست الحكمة الشرعية، وعندهم زهد رياضات نفسية لتحرير النفس من سلطان الشهوات، وهذا موروث عن عبادتهم أصلاً، وأنه يريد أن يستخدم الطاقات الكاملة من خلال التحكم في الجسم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن له علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمناً بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً ] فليست القضية أن يكون الإنسان هو زاهداً أو متخففاً من الدنيا، بقدر ما يكون متبعاً مطيعاًللشرع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك حكماء اليونان مثل: أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل زمن المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيراً للسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذي تؤرخ به تواريخ الروم واليونان ويؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذا القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه كما يظن بعض الناس ]. فذو القرنين رجل مؤمن موحد، والإسكندر معروف في كل آثاره بأنه عابد أوثان.
قال المؤلف رحمه الله:[ كما يظن بعض الناس أن أرسطو كان وزيراً لـذي القرنين لما رأوا أن ذلك اسمه الاسكندر، وهذا قد يسمى بالاسكندر فظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه ]، وابن سينا هو رجل معظم جداً لـأرسطو، والحقيقة أن الذي في القرآن لم يسم الاسكندر، وإنما في كلمة ذي القرنين.
قال المؤلف رحمه الله:[ وليس الأمر كذلك بل هذا الاسكندر المشرك الذي كان أرسطو وزيره متأخر عن ذلك، ولم يبن هذا السد، ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج.
وهذا الاسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف.
وفي أصناف المشركين من مشركي العرب، ومشركي الهند، والترك واليونان، وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل صلى الله عليهم وسلم، ولا مؤمن بما جاءوا به، ولا يصدقوهم بما أخبروا به، ولا يطيعوهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تتنزل عليهم الشياطين، قال تعالى:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
[الشعراء:221-223] .
وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلابد أن يكذبوا وتكذيبهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن. قال الله تعالى:
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
[الزخرف:36]. وذكر الرحمن هو الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل القرآن، فمن لم يؤمن بالقرآن ولم يصدق خبره ولم يعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به، قال تعالى:
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
[الأنبياء:50].
وقال تعالى:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى
[طه:124-126]. فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائماً ليلاً ونهاراً مع غاية الزهد، وعبده مجتهداً في عبادته ولم يكن متبعاً لذكره الذي أنزله وهو القرآن: كان من أولياء الشيطان، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء، فإن الشيطان يحمله في الهواء وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) .
فبين صلى الله عليه وآله وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لـأبي ذر وهو من خيار المؤمنين: (إنك امرؤ فيك جاهلية. فقال: يا رسول الله! أعلى كبر سني؟ قال: نعم)، وثبت في الصحيح عنه أنه قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الموت، والاستسقاء بالنجوم)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وفي صحيح مسلم : (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) .
وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.
وقد قال الله تعالى:
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ
[آل عمران:166-167].
فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، فعلم أنهم مخلطون، وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطاً وإيمانه يكون أقوى ]. فإذا كان الرجل فيه إيمان ونفاق فهذا لا يكون ولياً، بل إن المؤمن الذي يكون ولياً لله هو المؤمن الذي اكتمل إيمانه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى كان أكمل ولاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق. قال الله تعالى:
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ
[التوبة:124-125] .
وقال تعالى:
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
[التوبة:37]، ] فالكفر يزيد وينقص.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ
[محمد:17] .
وقال في المنافقين:
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
[البقرة:10] . فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية بحسب إيمانه وتقواه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى:
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا
[المدثر:31]. وقال:
لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ
[الفتح:4].
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر