أي: ليس ممنوعاً منه بر ولا فاجر، بل يعطى منه المؤمن والكافر، قال تعالى:
وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
أي: عطاؤه لكل الخلق، كلهم خلقهم الله ورزقهم.
ثم قال تعالى:
انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
[الإسراء:21] فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا، وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان
.
يعني: هناك تفاضل، فهناك مؤمن حبيب إلى الله، وهناك مؤمن أحب إلى الله من هذا المؤمن، فهناك تفاوت في الدرجات.
قوله: (وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) ).
يعني: التفاوت في الأجور والتفاوت في الاجتهاد.
قوله: [وقد قال الله تعالى:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
[الحديد:10]] هذه صريحة في تفاوت درجات المؤمنين وأولياء الله.
وقال تعالى:
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
[النساء:95-96]، وقال تعالى:
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[التوبة:19-22]).
وهذه الآية على الصحيح كما ورد في صحيح مسلم أنها نزلت في أهل الإسلام الذين يسقون الحاج ويعمرون المسجد الحرام، ومع ذلك جعل الله ظالماً من سوى بين هذا وبين الإيمان والجهاد في سبيل الله، حتى لو وقع هذا العمل من مسلم، فإن الجهاد أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهذا يدلنا على تفاوت أهل هداية الله عز وجل، ولا شك أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام عمل صالح وهو من أعمال أولياء الله الصالحين، لكن أفضل منه وأكمل الجهاد في سبيل الله، فالجهاد أنواع ومراتب، فليحدث أحكم نفسه بالغزو .
قوله: (وقال تعالى:
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ
[الزمر:9]، وقال تعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[المجادلة:11].
وفي صحيح البخاري الحديث المشهور -وقد تقدم- يقول الله تبارك وتعالى فيه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ولا يكون مؤمناً تقياً حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحداً من الكفار والمنافقين لا يكون ولياً لله، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة)
أي: لا إثم عليهم، ومع ذلك ليس عندهم إيمان، ولا يقال: إنهم من أولياء الله سبحانه وتعالى، رغم أنهم غير معذبين حتى يمتحنوا.
يقول: (وإن قيل: إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسول فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين)
والصحيح: أن الله يوم القيامة يرسل إليهم رسولاً يأمرهم بدخول النار، فمن دخل النار كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها فإنه يعذب فيها.
وهذا يتضح فيما حصل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أحداث صلح الحديبية، إذ وقع في نفسه أن ما كان في صلح الحديبية دنية في الدين مع أن ذلك كان عزة في الدين، ولم يكن ذلك إلا من الشيطان، ولا يبعد أن يأمر الشيطان ولي الله عز وجل كما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا يأكل مع الأضياف لما امتنعوا من الأكل، فقال لما رجع عنها: الأولى من الشيطان، فعلم أن اليمين التي أقسم من الشيطان ليؤدي إلى فساد العلاقة بينه وبين أضيافه، وبينه وبين أفراد أسرته.
فإذا كان هؤلاء هم سادة الأولياء وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل أفضل الناس بعد الأنبياء على الإطلاق وأفضل أصحاب الأنبياء، فهل يمكن أن يكون من دونهم في الولاية لا يأتيه الشيطان؟!
الجواب: لا، فهذا كلام فاسد ولكن لهم فضيلة ومنزلة، فإنهم كلما يغلبون من الشيطان سرعان ما يرجعون لما عندهم من العلم.
وأهل السنة يثبتون الإلهام، والكشف، والمخاطبة، ولكن يستأنسون بها ولا يستدلون بها، فهي ليست أدلة قاطعة، ولذا لا تصلح دليلاً شرعياً تثبت به العبادات مثلاً، وفرق كبير جداً بين الصوفية وبين أهل السنة في هذه مسألة: فإنهم يأتون بالأوراد الكثيرة بحيث تكون كل طريقة لها وردها من خلال أنهم يدعون الإلهام والكشف، التي لا تصلح دليلاً، بل إذا عرضتها على الأدلة ظهر أنها محدثة بدعة، فلا يجوز أن يبنى عليها حكم شرعي باستحباب كذا أو بكراهية كذا، أو لزوم كذا، وأحياناً يلزمون السائر في الطريقة بأشياء معينة لم ترد في الكتاب ولا السنة، ولا قول صحابي ولا غيره.
فمن هنا نقول: فرق كبير بين من يجعلها أموراً يستأنس بها كالرؤى والمنامات والكشف والإلهام، فيستأنس بها بعد أن تعرض على الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون مقوية لقلوب أهل الإيمان في الخير، ويجب أن ترد إذا كانت مخالفة،
وبين الاستئناس من حيث كونه دليلاً معضداً أو دليلاً مرجحاً أحياناً؛ وكونه دليلاً مستقلاً دون نظر إلى الكتاب والسنة، فهم يستأنسون بها ولا يستدلون بها.
والموقف الصحيح ممن يقع في شيء من ذلك أن يقول كما قال المصنف: [خيار الأمور أوساطها، وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده]، لكن لا شك أن صدور أمور من الكفر والعياذ بالله مع القول بأنها أمور اجتهادية فيه نظر، فإذا قلنا: إن هذا كفر فهذا بمخالفته المقطوع به في الشريعة، وهذا بعد بيان القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت الأمور الكبرى التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام من أصول الإسلام والإيمان والإحسان معلومة لكل من يطلبها، وغالباً ما يكون هناك نوع من التفريط في البحث والسؤال والتحري في مخالفتها، بمعنى: أن من خالفها فغالباً ما يكون هناك نوع تفصيل لكن كقاعدة: من كان مجتهداً حتى ولو كان خطؤه كائناً ما كان، فهذا فيه نظر، ولكن لو بذل كل الجهد في معرفة الحق والصواب وخفي عليه فعلاً، ولم يكن متبعاً للهوى فهو مأجور وخطؤه مغفور، وكما ذكرنا أن وقوع الكفر غالباً يكون بتقصير من الشخص نفسه، والله عز وجل أعلى وأعلم.
لكن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية منطبق على هذا الأمر كقاعدة.
وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم
و في حديث آخر: (إن الله ضرب الحق على لسان
و كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ]. يعني: أن الله أنزل سكينة في قلبه جعلها تظهر على لسانه، وثبت هذا عنه من رواية الشعبي .
[وقال ابن عمر : ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا إلا كان كما يقول.
وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك] أي: ملك يسدده.
[وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تنجلي لهم أمور صادقة.
وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلي للمطيعين: هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات، فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ فإن خير هذا الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما.
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فـعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر ؛ كما نزل القرآن بموافقته في غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك؛ كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القادم، وشرط لهم شروطاً فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه، ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، أو نطوف به؟ قال: بلى، قال: أقلت لك: أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: إنك آتيه ومطوف به) فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر قد سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر ، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت بذلك أعمالاً.
كذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عمر موته أولاً، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك.
وكذلك في مانعي الزكاة قال عمر لـأبي بكر : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر : فوالله! ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه حق)].
يقصد من ذلك أن عمر رضي الله عنه كان يرجع عما يقع في قلبه من أمور امتثالاً لما ورد في الشرع، فهذا هو الواجب على كل أحد.
وعندما مات النبي كان يظن أنه أغمي عليه وسوف يرجع مرة أخرى، فأسكته أبو بكر فلم يسكت، فجاء أبو بكر فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. فبمجرد ما إن قرأ أبو بكر الآية قعد عمر على الأرض وهدأ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر رضي الله عنهما، مع أن عمر رضي الله عنه محدَّث؛ فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث]، ومعنى محدث أي: تحدثه الملائكة، وتقذف في قلبه شيئاً، وهناك واعظ من الله عز وجل في قلب كل مؤمن، والمحدثون ربما يسمعون الخطاب مباشرة أو يلقى في قلوبهم، وهذا التحديث أرفع من عامة المؤمنين، وأرفع من مرتبة التحديث مرتبة الصديق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم]، ومن هنا نعرف أن إثبات كرامة الإلهام والكشف والتحديث ليس معناه إثبات أنها من مصادر التشريع؛ لأنها قابلة للخطأ والصواب، فلا بد أن تعرض على الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهي في الحقيقة يستأنس بها ولا يستدل بها -كما ذكرنا- بل القياس يقدم على التحديث والإلهام ونحو ذلك؛ لأن القياس الصحيح مرده إلى الوحي، وغلبة الظن في صحته أقوى من غلبة الظن في صحة الإلهام أو الكشف.
والكشف: أن يكشف الله عز وجل له أموراً غابت عن غيره. كما وقع لـعمر بقوله: يا سارية الجبل! فقد انكشف له أنهم لو لجئوا إلى الجبل لنجاهم الله عز وجل.
وأعظم من درجات الكشف الكشف عن الحق، وانشراح صدر أبي بكر للقتال كان كشفاً، فهو كشف عن الحق بأدلته الظاهرة بأن يقع في قلبه أن الأمر سيكون كذلك.
وقد يكون منه الاستخارة، فقد يكون فيها انشراح الصدر لأمره، ولكن هذه يستأنس بها ولا يستدل بها، فمثلاً: كان شيخ الإسلام يجزم في بعض الوقائع مع التتار أن المسلمين ينتصرون في هذه الواقعة، وأنهم يردون التتار؛ وذلك للصفات الموجودة في المسلمين التي تغيرت عما كانت عليه فتوقع لهم النصر، بل كان يجزم بذلك وكانوا يقولوا له: قل: إن شاء الله، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ولا بد أن يعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن ظن الإنسان قابل للخطأ والصواب.
والكشف والإلهام باب واحد، فكلاهما من أنواع العلوم التي تقع في القلوب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته] كما حصل مثلاً مع عمار عندما أنكر عمر التيمم للمحدث حدثاً أكبر فذكره عمار يوم حصلت له الجنابة فتمرغ عمار في التراب، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك أن تضرب بكفيك الأرض ثم تمسح بوجهك وكفيك) فـعمر رضي الله عنه لم يكن يتذكر هذه الواقعة وترك عمار يحدث بذلك، لكنه حذره من الخطأ ونحو ذلك.
والمقصود أن عمر رضي الله عنه أقرهم على مناظرته وعلى كونهم ينازعونه ويناظرونه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يقول لهم: أنا محدَّث، ملهم، مخاطب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني]. وهذا هو الفرق في الإلهام عند أهل السنة وعند الصوفية، فالصوفية يقولون: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، ومن اعترض يطرد ونحو ذلك، فلا يوجد عندهم احتمال أصلاً لمناقشة الشيخ ولو أتى بالمنكرات، ويعد فعل الشيخ مهما كان هذا الفعل من المنكرات لسر بينه وبين الله عز وجل، فيكون هذا من الطاعات العمياء التي قد تصل بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.
قال ابن مسعود وغيره: (حق تقاته) أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
أي: بحسب استطاعتكم؛ فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها كما قال تعالى:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
[البقرة:286].
وقال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
[الأعراف:42].
وقال تعالى:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
[الأنعام:152]]، فـابن مسعود يرد على من يقول أن
حَقَّ تُقَاتِهِ
[آل عمران:102] منسوخة بقوله تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
[التغابن:16]، بل يقول: هي مفسرة بها وليست منسوخة، وإن حق التقوى هي ما استطاعه الإنسان.
ويقل المصنف رحمه الله تعالى:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[البقرة:2-5]]، والشاهد قوله تعالى:
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
أي: على الأنبياء.
والمبتدعون في ذلك يرون وقوع الإلهام وحياً قاطعاً لا يقبل أن يكون فيه تردد، فهذا يلحقه بالوحي المنزل من عند الله، فيترتب على ذلك الخلل الكبير جداً، فتأتي البدع من أوسع أبوابها من خلال هذا الإلهام المدعى والكشف المدعى.
ويقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
[البقرة:177]].
الشاهد من الآية قوله تعالى:
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل].
ومنبع العصمة من الرافضة فإن أول بدعة في إثبات العصمة لغير الأنبياء كانت عند الرافضة الذين يقولون بعصمة الائمة الإثني عشر، ومن خلالهم تسرب هذا إلى مشايخ الصوفية وغيرهم.
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن خالف في هذا فليس من أولياء الله الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافراً وإما أن يكون مفرطاً في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ].
أي: أن هذا الأمر متفق عليه من عرض ما يقع في الكتاب والسنة وموجود في كلام المشايخ.
قوله: (النكتة) أي: الفائدة ونحو ذلك، ولذلك عندما نعرض مثلاً بعض المنازل التي يعدونها من منازل الفضل إذا عرضناها على الكتاب والسنة وجدناها لا حقيقة لها ولا أصل لها كالدهش والهيمان والسكر المعدودة عندهم من مقدمات الفناء؛ فإن هذا لا يدل عليها شيء من كتاب ولا سنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا، أو قال: لا يقتدى به].
فمثلاً إنسان فقأ عينه لما نظر إلى امرأة، نقول: إن هذا أمر محرم، فلا يجوز أن يفقأ الإنسان عينه؛ لأجل أنه نظر إلى امرأة محرم عليه أن ينظر إليها، فيعاقبها بذلك؛ لأن هذا لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن هذا إفساد لما وهبه الله عز وجل، وليس من حقه أن يفعل ذلك، مع أن هذا كان غرضه غض البصر ونحو ذلك، فيقول: علمنا هذا -أي علم تهذيب النفوس وعلم أحوال القلوب- لا بد أن يعرض على الكتاب والسنة كسائر أنواع العلوم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
[النور:54].
وقال أبو عمرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل].
والوجد: ما يجده السالك في قلبه من رقة وميل إلى المحبة ونحو ذلك، أو منازل من أحوال العباد قد تقع في قلبه فهو ينظر إلى هذه الأحوال ويعرضها على الكتاب والسنة وإذا خالفها كان باطلاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولاً إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق والعياذ بالله، ويكون له نصيب من قوله تعالى:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا
[الفرقان:27-29]، ومن قوله تعالى:
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا
[الأحزاب:66-68].
وقوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ
[البقرة:165-167]. وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
[التوبة:31]. وفي مسند الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية: لما سأل صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحرام فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم). ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول؛ فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وعلمائهم وعبادهم، وملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
[آل عمران:81-82].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[النساء:60-65].
وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مقلداً في ذلك من يظن أنه ولي لله فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لن يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء] أي: إبريقاً فارغاً يملأه ماءً من الهواء من غير محل.
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو ينفق بعض الأوقات من الغيب] بمعنى أنه يخبر بعض الأوقات عن أمور قد تكون غيبية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله] يعني: من صار عندهم من ذلك أشياء يخدعون بها عوامهم، كالبوذيين والهندوس وغيرهم ممن يقوم بأعمال السحر.
مثال ذلك: أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون مجالساً للنجاسات، معاشراً للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب ولا كلب)، وقال عن هذه الأخلية: (إن هذه الحشوش) -أي: أماكن قضاء الحاجة-، (إن هذه الحشوش محتضرة) -أي: يحضرها الشيطان-، وقال: (من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم).
وقال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وقال: (إن الله نظيف يحب النظافة) -وهذا حديث حسن-وقال: (خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور)، وفي رواية: (الحية والعقرب).
وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب]، وهذا منسوخ، فقد نسخه بعد ذلك، ونهى عن قتل الكلاب إلا الأسود قال المصنف رحمه الله: [وقال: (من اقتنى كلباً لا يغني عنه زرعاً ولا ضرعاً) أي: حماية الماشية، (نقص من عمله كل يوم قيراط) وقال: (لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب)، وقال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب).
وقال تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[الأعراف:156-157].
فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر ولاسيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن؛ فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل.
وقال ابن مسعود : الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل.
وإن كان الرجل خبيراً بحقائق الإيمان الباطنة فارقاً بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله بقلبه من نوره كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
[الحديد:28]] يعني: تحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى حصول الفرقان والنور.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال تعالى:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
[الشورى:52]، فهذا من المؤمنين] الذي هو الفارق بين الأحوال الرحمانية والشيطانية.
قال المصنف رحمه الله: [الذي جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) قال الترمذي : حديث حسن، وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه). فإذا كان العبد من هؤلاء: فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي -صاحب الصرافة- بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق والمتنبئ الكاذب فيفرق بين محمد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين وموسى والمسيح بن مريم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين، كذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين].
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر