www.islamweb.net/ar/

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [9] للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • خوارق العادة التي تظهر من الدجالين ليست كرامة لهم، وهي تخييل بالسحر واستعانة بالجن، فيشترط في الكرامة أن تكون لمؤمن تقي صالح، أما أولئك فأحوالهم شيطانية، فيجب التفريق بين أولياء الرحمن البررة، وأولياء الشيطان الفجرة.

    الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع

    بعد أن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض أحوال الشياطين التي يخدعون بها أولياءهم ممن يعبدون غير الله عز وجل، وكذلك من أهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بعباد الطواغيت، قال: [ ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم صارت الشياطين كثيراً ما تأوي إلى المغارات والجبال، مثل: مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان، وجبال بالجزيرة وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز، وجبل ماشكو عند أتشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالاً من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] ].

    فذكر أن الانقطاع في المغارات والبوادي من البدع، وهذا أمر عظيم الأهمية، فليس يشرع للإنسان أن ينقطع في مغارة أو في غار أو في صحراء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوى إلى غار حراء فلأن ذلك كان قبل نزول الوحي عليه، وأما بعد نزوله فكان لا يعتكف إلا في المساجد صلى الله عليه وآله وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعتكف في مسجده، فصار الاعتكاف في المغارات بعد بناء المساجد وتيسرها بدعة.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني، جلده يشبه جلد الماعز -يعني: كثير الشعر- فيظن من لا يعرفه أنه إنسي، وإنما هو جني، ويقال بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال كما يعرف ذلك بطرق متعددة ].

    ولفظة الأبدال ثبتت عن التابعين، وأن بعضهم كان يعد من الأبدال، وهذه الكلمة صحيحة بمعنى: أن الله عز وجل جعل في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم طائفة على الحق ظاهرة، لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة، وبهذا لو مات بعضهم فإن الله عز وجل يأتي بغيرهم بدلاً منهم، فتظل الطائفة موجودة، فمن يظن أنه من الأبدال أو يرجى له ذلك بمعنى أنه من الطائفة الظاهرة الذين هم على الحق وعلى طريق الكتاب والسنة، وعلى سبيل منهج أهل السنة والجماعة.

    وقد ذكر من الأبدال أربعون، وهذا العدد غير معلوم، ولا يعرف أن في الأرض أربعون من الأبدال، بل الذي يظهر أن الأبدال هم أهل هذه الطائفة المنصورة الذين يأخذون بما قام به من سبقهم من نشر الحق والقيام به في الأرض، فإذا مات بعضهم أبدل الله عز وجل غيرهم مثلهم.

    أقسام الناس في خوارق العادات

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه، وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك.

    والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام: قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملاً، وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء ].

    وقد وقع في زماننا هذا الصنف، فيوجد كثير ممن ينتسب إلى السنة وينكر كل كرامات الأولياء جملة؛ فيقع في نوع من البدعة بذلك، وبعض الناس ينتسبون إلى السنة وينكرون خوارق العادات التي تقع لأولياء الله سبحانه وتعالى فخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات كرامات الأولياء.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان ولياً لله، وكلا الأمرين خطأ ].

    فقسم يكذب بخوارق العادات، وقسم يجعل أي خارق للعادة علامة على الكرامة، فيمكن أن تجري الخارقة أو العادة وليست بالكرامة؛ لأنها من أحوال الشياطين، لكن ينظر في اتباع الإنسان للشرع، فإن جرت الخارقة للعادة على يد ملتزم بالشرع فهذا يدل على أنها كرامة، وإذا جرت خارقة العادة على يد من يخالف الشرع بشرك أو بدعة أو ضلالة علم أنه من أحوال الشياطين.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان ولياً لله، وكلا الأمرين خطأ ].

    أي: إنكار الكرامات بالكلية والخوارق، أو إثبات أن كل خارق يعتبر كرامة.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا تجد هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله، وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة ]. يعني: أن الأولين يقولون: هؤلاء أولياء الله وهم الذين يساعدوهم علينا، فكيف يكونون أولياء الله وهم يحاربون المسلمين؟!

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ والصواب: القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنهم لا من أولياء الله عز وجل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

    وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، ولكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضاً، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم ].

    أي: إذا وجد من له تمكن من أولياء الله عند هؤلاء فإنه يبطل خوارق العادة، أي: العباد والزهاد الذين هم على طرق بدائية، ويبذل جهداً في العبادة على خلاف السنة، وكذا الذي يظهر الزهد، أو هو زاهد بالفعل يعني: تارك لكثير من زخارف الدنيا، لكنه على اعتقاد شركي والعياذ بالله! كالرهبان في الصحاري فلا شك أنهم تركوا كثيراً جداً من زخارف الدنيا، لكن على شرك وضلال قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4].

    فهي عاملة ناصبة لكن على الباطل؛ فهي تصلى ناراً حامية.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب -من العباد والزهاد الذين هم ليسوا من أولياء الله، وإنما هم على ضلال واقتران بالشياطين- جهلاً أو عمداً، ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم، ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين، قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] والأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر ].

    أي: لا بد أن يكون عندهم كذب وإثم ليتناسب مع الشيطان، أما الذي ليس عنده كذب ولا إثم فإن الشياطين لا تتنزل عليه، فلا تجري خوارق العادات إلا على من عنده كذب وإثم، قال تعالى: تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222] ، والأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر.

    مما يقوي الأحوال الشيطانية

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وغيرهما من السلف: التصدية: التصفيق باليد، والمكاء: مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة.

    وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء ونحو ذلك والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.

    وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. (ومر النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له: مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك. فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً) أي: لحسنته لك تحسيناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) .

    وقال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد أذناً -أي: استماعاً- إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته) -من صاحب الأغنية إلى مغنيته- وقال صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود : (اقرأ علي القرآن فقال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى انتهيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان من البكاء) .

    ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].

    وقال في أهل المعرفة: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83].

    ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين، فقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] .

    وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] .

    وأما السماع المحدث: سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن ].

    يعني: ولو سمعنا فسنستمع إلى الإنشاد الذي سيرقق قلوبنا، لكنهم لا يجعلونه من العبادات، ولكن أقصاها الإباحة في أحوال معينة، وليس أن هذا عبادة من العبادات أو طريقة من الطرق، وهذا رد على طرق الصوفية المتبعة التي تجعل هذه الحضرات والجلسات سبيلاً إلى التقرب إلى الله عز وجل، وكذا كثير من الجماعات المعاصرة التي تجعل هذا السماع أحد الوسائل الأساسية في التربية والتوجيه كما ذكره الأستاذ سعيد حوى في كتاب تربيتنا الروحية، وذكر فصلاً في السماع، ويقصد بذلك تربية وتوجيهاً أصلاً لفرق الإنشاد التي تقول الأشعار الطيبة ونحو ذلك على أن ذلك وسيلة لترقيق القلوب ونحو ذلك.

    فينبغي أن يستعمل هذا الأمر المباح عند الحاجة كأن يكون في السفر، أو عند الجهاد مثلاً، فيقول أشعاراً ليحمس الناس، أو يكون ذلك مثلاً في العرس، أو في يوم العيد، أما أن يكون هذا طريقاً إلى الله عز وجل فهذا ليس أمراً محموداً، ولا بد أن يكون هذا الفعل بضوابط منها: أن تكون ألفاظ النشيد صحيحة ليس فيها شرك ولا غلو وبدون آلات لهو.

    فـابن تيمية يخبر أن السلف لم يكونوا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن.

    والتغبير: هو هذا الإنشاد أو نوع من أنواع الضرب بآلات اللهو.

    أجناس الخوارق

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم.

    ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان فيه أكثر وهو بمنزلة الخمر يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر.

    ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل بينهم عداوة كما تحصل بين شراب الخمر، فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله، وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل معصوم الدم مما يكرم الله به أولياءه؟ وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته.

    وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات ومنها ما هو من جنس الغنى، من جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى.

    وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ازداد بذلك رفعة وقرباً إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلت درجته.

    وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم كالشرك والظلم والفواحش استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيراً ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام -نعوذ بالله- وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيراً من هؤلاء يرتد عن الإسلام.

    وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبداً خرق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن ظن أن الله إذا أعطى عبداً ملكاً ومالاً وتصرفاً لم يحاسبه عليه ].

    فهو يعتبر نفسه أنه أصبح في منزلة من لا يسأل عما يفعل، فيظن أنه بملكه هذا أصبح لا يسأل عما يفعل؛ لأن الله أعطاه المال والملك لعلمه به أنه من أهل الكرامة، وإذا مات أحدهم فإنه يموت فيعتبرونه في رحاب الله وفي فسيح الجنات، وهذا لأجل أنه كان رئيساً أو ملكاً والعياذ بالله!

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمور بها ولا منهي عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك.

    ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفر الله، كما يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها، ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها؟!

    فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئاً لك يا ولي الله! فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك ]. ولو كان هذا فعلاً من الكرامات لاستمرت معه عند قراءة آية الكرسي.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء ].

    وكل هذا من خدعة الشياطين لأجل أن يظنوا من أنفسهم أنهم أولياء، والشيطان أصلاً هدفه أن يغتر الإنسان بنفسه فيجعل نفسه ولياً، وهذا هدف كبير جداً، فهو إما بعد ذلك يزكي نفسه، أو أن الجن هم الذين يكلموه إلى غاية أن يقول: فعلاً أنا ولي! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بمثل ذلك.

    ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة وتريه أنواراً وتحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله ].

    أي: أنه يخرج من البيت فيجد نفسه داخل البيت، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تمر به أنوار أو تحضر الجن من يطلبه، أي: الشخص الذي هو يريده.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأعرف من يخاطبه مخاطب، ويقول له: أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء ].

    فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يميناً أو شمالاً ذهب حيث أراد.

    فيقع في قلبه ويقول له الطير: هذا ما خطر بقلبك وما كنت تريده، فيظن أن هذا الكلام كله كرامة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي المواشي فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يميناً وشمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له: هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك؛ فيقول في نفسه: كيف تصوروا بصورة المردان؟ فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له: علامة أنك المهدي أن تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها، وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان.

    وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير ].

    والإمام ابن تيمية يقصد بهذا سيرة الصوفية وما يحصل لهم، فهو رحمه الله كان يخاطب الصوفية كثيراً، وتاب على يديه جماعات منهم ابن القيم رحمه الله، فـابن القيم كان أصله من أصحاب الطرق الصوفية، ولما التقى بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عرف الحق وتاب، ومن أمثاله ابن رجب فقد صار إلى السنة على يد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله، ولذلك تجد منهم من يتكلم عن الصوفية في هذه الأشياء التي قد لا يعرفها غيرهم، وكم من أناس كانت تحصل لهم هذه الأشياء والمكاشفات، ثم إذا بهم يخرجون من هذا النفق المظلم.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16].

    قال الله تبارك وتعالى: كَلَّا [الفجر:17] ولفظ (كلا) فيها زجر وتنبيه عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة، يكون الله عز وجل مكرماً له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك -من الضيق- يكون مهيناً له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه ولا هو كريم عنده؛ ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه؛ لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده، أو يقع بسببها فيما يكرهه منه.

    وأيضاً كرامات أولياء الله لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى.

    فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله ].

    وهذا مثلما يجري على أيدي النصارى؛ فإنهم في كل فترة يقولون: العذراء ظهرت على الكنيسة الفلانية، ونحو ذلك، وهذه كلها سببها الكفر والفسوق والعصيان، وهذه لا بد أن تكون من خوارق العادات التي يتكلم فيها أعداء الله.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك مثل: دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان، وأكل المحرمات: كالحيات والزنابير -يقصد الثعابين فهو محرم أكلها- والخنافس والدم وغيرها من النجاسات، ومثل الغناء والرقص لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن، وتقوى عند سماع مزامير الشيطان، فيرقص ليلاً طويلاً ].

    والمراد: أنه يهتز في ليلة الحضرة، ولذلك تجد في كتاب الإحياء: أن الإنسان أحياناً يفضل استماع الرقص على سماع القرآن؛ لأنه يقول: إنه يؤثر في النفوس أكثر، وهذا من البدع المنكرة المحدثة، فهو يقول: إن أي مجلس فيه سماع شيطان بهذه الطريقة يكون أحسن في حق أي إنسان حتى ولو وجد في نفسه ما وجد، والأصل: أن يرد هذا الوجد والذوق إلى الكتاب والسنة، حتى يبقى الذوق والوجد صحيحاً، أما إذا وقع في قلبه ذلك وليس على منهاج الكتاب والسنة فلا بد أن يجتنبه.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ فيرقص ليلاً طويلاً، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعداً -من كثرة الرقص- أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه، أو يتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] ، فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126]. يعني: تركت العمل بها.

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ].

    فإن من يتكلف قراءة القرآن ففعله علامة من علامات البعد عن الله، فهو يجد صعوبة عندما يقرأ القرآن، فهذا من علامات البعد عن الله، ومن علامات الضنك الذي يصيبه، قال تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] ، نعوذ بالله من ذلك!