www.islamweb.net/ar/

تفسير سورة البقرة الآية [187] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  • التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله تعالى بعباده الصائمين إباحته لهم الأكل والشرب والجماع بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وكراهة الوصال لما فيه من المشقة؛ وسنية المبادرة بالإفطار عند الغروب وتناول السحور قبيل الفجر ليكون عوناً للصائم على صيامه. قد شرع لهم من أنواع القرب الاعتكاف في رمضان، خاصة في عشره الأواخر، فهو زاد عظيم بجانب زاد الصيام ينال به المؤمن عند الله تعالى الدرجات العالية.

    تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم...)

    قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] .

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة، والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان .

    وقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان : يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان؛ لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا، قال الشاعر:

    إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا

    وكان السبب في نزول هذه الاية كما تقدم في حديث معاذ الطويل، وقال أبو إسحاق : عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك! أنمت؟! فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) إلى قوله: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) ففرحوا بها فرحاً شديداً ].

    هذا هو الطور الثالث من أطوار شرعية الصيام، فإن الصيام شرع على ثلاثة أطوار:

    الطور الأول: أن الله سبحانه وتعالى خير الصحيح المقيم بين الصيام وبين أن يطعم مسكيناً عن كل يوم، فإن زاد على مسكين فهو أفضل؛ لقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فخير الله تعالى بين الصيام وبين الطعام، ثم قال:فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184] يعني: زاد على مسكين فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184].

    الطور الثاني: أن الله تعالى أوجب على الصحيح المقيم الصوم حتماً، فنزل قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] ، وكانوا يفطرون إذا غربت الشمس ما لم ينم الواحد منهم أو يصلي العشاء، فإن نام أو صلى العشاء حرم عليه المفطرات إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة عظيمة، حتى إن قيس بن صرمة كان يعمل في حرث له وجاء وقد أرهقه التعب، فجاء إلى أهله وقت الإفطار فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: لا، لكن نسأل لك. فنام من شدة التعب، فلما جاءت امرأته وجدته نائماً فقالت: خيبة لك! فلم يأكل ولم يشرب وأصبح صائماً في اليوم الثاني، فلما انتصف النهار غُشي عليه وسقط، فأنزل الله هذه الآية، وكذلك حصل لـعمر وبعض الصحابة أنهم تخونوا وجامعوا بعد النوم، فأنزل الله هذه الآية رخصة من الله تعالى للمسلمين، وأباح الله سبحانه وتعالى الأكل والشرب ومباشرة النساء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قال سبحانه: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] ، فهذا من رحمة الله تعالى وإحسانه، وهذا هو الطور الثالث.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق: سمعت البراء قال: (لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) الآية.

    وكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال موسى بن عقبة : عن كريب عن ابن عباس قال: (إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت، قال: وما صنعت؟ قال : إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصوم، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما كنت خليقاً أن تفعل! فنزل الكتاب: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)) ].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ).

    وهذا خلاف ما جاء في الحديث السابق من أنه ما أكل وما شرب، وإنما أصبح صائماً فغشي عليه.

    وذكر هذا الحديث الإمام أحمد عن زائدة وقال: سعيد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة .

    وسعيد بن أبي عروبة عنده بعض التدليس، وقد عنعن.

    والحديث الذي قبله رواه العوفي عن ابن عباس .

    والمعروف -كما سبق- أنه ما أكل، وإنما أصبح صائماً، ثم غشي عليه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يعني بالرفث مجامعة النساء (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) يعني: تجامعون النساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء (فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) يعني: جامعوهن (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعني الولد، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) فكان ذلك عفواً من الله ورحمة.

    وقال هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتل فواقعتها، فنزل في عمر : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]).

    وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به.

    وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن ابن لهيعة حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: (كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها، فقالت: إني قد نمت، فقال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ.. [البقرة:187] الآية).

    وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع، وفي صرمة بن قيس ، فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقًا ].

    بيان معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187].

    قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتيبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم: يعني الولد.

    وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] يعني: الجماع.

    وقال عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس : وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] قال: ليلة القدر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ].

    والصواب أن الآية عامة، فقوله تعالى: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعني: الولد وليلة القدر والجماع.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر قال: قال قتادة : ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم، يقول: ما أحل الله لكم.

    وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لـابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية:(وَابْتَغُوا) أو (اتبعوا)؟ قال: أيتهما شئت، عليك بالقراءة الأولى.

    واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله ].

    وهذا هو الصواب، فالآية عامة.

    بيان معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] أباح تعالى الأكل والشرب، مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللبس بقوله: (مِنَ الْفَجْرِ)، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله: حدثني ابن أبي مريم حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال: أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ذلك: (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنما يعني الليل والنهار.

    وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187] عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال: (إن وسادك -إذًا- لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل) ].

    يعني أن الليل والنهار يعرفان بعرض المشرق والمغرب.

    بطلان تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك لعريض القفا) بالبلادة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي ، ومعنى قوله: (إن وسادك إذاً لعريض) أي: إن كان ليسع الخيطين: الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه الآية تحتها، فإنهما بياض النهار وسواد الليل، فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب.

    وهكذا وقع في رواية البخاري مفسراً بهذا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن حصين عن الشعبي عن عدي قال: (أخذ عدي عقالاً أبيض وعقالاً أسود، حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله! جعلت تحت وسادتي، قال: إن وسادك -إذًا- لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك).

    وجاء في بعض الألفاظ: (إنك لعريض القفا) ففسره بعضهم بالبلادة، وهو ضعيف].

    هذا الحديث ضعيف، بل تفسيره بالبلادة باطل؛ لأنه أولاً: مخالف لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم. فعريض القفا معناه: أن وسادك عريض، فإذا كان عريض القفا فإنه يكون عريض الوسادة؛ لأن عرض القفا يستلزم عرض الوسادة، يعني: إذا كانت تتسع الوسادة لبياض الليل وسواد النهار فأنت وسادك عريض، وهذا نشأ عن كونه عريض القفا وليس المراد البلادة.

    ثانياً: النبي صلى الله عليه وسلم لا يستهزئ بـعدي ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يسخر من أحد ..

    وثالثاً: أن هذا حصل لبعض الصحابة أيضاً، وليس لـعدي وحده، وقد جاء أن الصحابة يربطون الخيوط خيطاً أبيض وخيطاً أسود في أرجلهم.

    قال: [ وجاء في بعض الألفاظ: (إنك لعريض القفا) ففسره بعضهم بالبلادة وهو ضعيف؛ بل يرجع إلى هذا؛ لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضًا عريض، والله أعلم ].

    أي: إذا كان عريض الوسادة فهو عريض القفا فعريض القفا يرجع إلى عريض الوسادة.

    قال: [ ويفسره رواية البخاري أيضاً: حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم ، قال: (قلت: يا رسول الله! ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما خيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار) ].

    وإن العذر بالجهل معروف، وأدلته كثيرة، والجاهل معذور حتى يعلم، لكن الجاهل إذا كان يمكنه أن يتعلم ويفهم فيجب عليه أن يتعلم ويفهم.

    بيان فضل السحور ووقته

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور؛ لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب، ولهذا ورد في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).

    وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السحور أكلة بركة فلا تدعوه، ولو أن أحدكم تجرع جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) ].

    هذا الحديث ضعيف، ففي سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، لكن المعنى صحيح، وهو أنه يشرع للمسلم أن يتسحر ولو قليلاً إذا كان لا يشتهي، ولو جرعة من ماء أو حفنة تمر أو مذقة لبن حتى يحصل على السنة، والأفضل أن يتسحر سحوراً كاملاً؛ لأن هذا هو التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأن فيه إعانة على الصيام.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء، تشبهاً بالآكلين، ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر ].

    يعني: إلى قرب انفجار الفجر؛ لأنه عند انفجار الفجر يمسك الإنسان عن الأكل والشرب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس : قلت لـزيد : كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) ].

    أي: بين الأذان والسحور؛ لأن الأذان هو الذي يعلم به دخول الوقت، فبين الأذان والسحور قدر خمسين آية، أي: وقت قليل بمقدار خمس دقائق.

    وفيه أن الأولى للإنسان أن يؤخر السحور ما لم يخش طلوع الفجر، وهذا هو الأفضل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن سالم بن غيلان عن سليمان بن أبي عثمان عن عدي بن حاتم الحمصي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور) ].

    وهذا الحديث في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف، لكن الحديث له شواهد.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغداء المبارك، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن حذيفة رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع)، وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود ، قاله النسائي ، وحمله على أن المراد قرب النهار، كما قال تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] أي: قاربن انقضاء العدة، فإما إمساك بمعروف، أو ترك للفراق ].

    وهنا المراد: إلى قرب النهار، والنهار المراد به: طلوع الفجر، أي: يبدأ النهار من طلوع الفجر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه: أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر، حتى إن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك.

    وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر، وروي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وعن طائفة كثيرة من التابعين، منهم: محمد بن علي بن الحسين وأبو مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحكم بن عتيبة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد ، وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد، ولله الحمد ].

    وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها.

    قلت: وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه، لمخالفته نص القرآن في قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ].

    لأن هذا القول إن قال به أحد فهو قول فاسد لمخالفة النص والإجماع، القول بأنه يجب الصيام من طلوع الشمس فقول خطأ لا وجه له؛ لأنه مخالف للنص والإجماع، لا يعول عليه ولا يحتج به.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم؛ فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) لفظ البخاري ].

    فالصواب أنه يمسك في الفجر، والآية الكريمة: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، رد على هذا القول، وإن قال به قائل فهو قول فاسد.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكن المعترض الأحمر)، ورواه الترمذي، ولفظهما: (كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر) ].

    يعني: لا يؤثر عليكم الفجر الساطع المصعد، فهو الفجر الكاذب، وهو معترض في كبد السماء ثم يزول، وإنما الفجر الصادق هو الذي ينتشر في المشرق ويكون في أفق السماء ثم يزول.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن شيخ من بني قشير قال: سمعت سمرة بن جندب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر) ].

    وهذا سنده فيه مبهم، لكن له شواهد، والحديث صحيح في هذا.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سوادة بن حنظلة عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكنه الفجر المستطير في الأفق) ].

    الفجر المستطيل -باللام- هو كذنب السرحان، وهو الفجر الكاذب، ولكن الفجرهو المستطير -بالراء- أي: المنتشر في الأفق فالأول مستطيل مثل ذنب السرحان، والثاني: مستطير منتشر، وهو الفجر الصادق.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح- حتى يستطير) رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم -هو ابن علية- مثله سواء.

    وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال: حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره، أو قال: نداء بلال فإن بلالاً يؤذن بليل -أو قال: ينادي- لينبه نائمكم وليرجع قائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا..) ].

    قوله: (وليرجع قائمكم)، يعني: يرده، مثل قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ [التوبة:83] فهو من الرباعي، أي: الأذان الأول يرد القائم الذي يصلي طويلاً في أول الليل، فإذا أذن الأول عرف أن الفجر قريب، فيرده عن الإطالة، وهذا يدل على الأذان الأول يكون قريباً من الفجر، بحيث يوقظ النائم حتى يقوم ويتوضأ ويصلي، والقائم يترك الإطالة ويوتر، ولهذا ينبغي أن يكون الأذان الأول قريباً، لا أن يطول الوقت بينه وبين أذان الفجر، كأن يكون ساعة، أو ساعة إلا ربعاً، أو نصف ساعة وما أشبه ذلك.

    قوله: (وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول: هكذا) أي: ليس الفجر أن يقول هكذا -مثل ذنب السرحان، وهو الكاذب- حتى يقول هكذا، يعني: ينتشر، وهو الفجر الصادق.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه من وجه آخر عن التيمي به.

    وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثني أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفجر فجران: فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئًا، وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام) وهذا مرسل جيد ].

    قوله: [ وحدثني ] معطوف على ابن جرير.

    وهذا الحديث مرسل منقطع؛ لأن المرسل هو الذي سقط منه الصحابي.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: هما فجران: فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً، وهو الفجر الكاذب [ ولكن الفجر الذي يستنير على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب ].

    أي: يحرم الشراب على الصائم.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال عطاء : أما إذا سطع سطوعاً في السماء -وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً- فإنه لا يحرم به شراب للصيام ولا صلاة، ولا يفوت به الحج، ولكن إذا انتشر على رءوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج ].

    قوله: [ ولا صلاة ] يعني صلاة الليل.

    وقوله: [ ولا يفوت به الحج ] يعني: في ليلة العيد، ففي ليلة العيد إذا طلع الفجر الصادق بالنسبة للمتأخر فاته الحج، أما من جاء ووقف بعرفة قبيل الفجر فقد أدرك الحج.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا إسناده صحيح إلى ابن عباس وعطاء، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله ].

    حكم صيام من طلع عليه الفجر وهو جنب

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ مسألة:

    ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أن من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم).

    وفي حديث أم سلمة عندهما: (ثم لا يفطر ولا يقضي).

    وفي صحيح مسلم عن عائشة : (أن رجلاً قال: يا رسول الله! تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: لست مثلنا يا رسول الله؛ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) ].

    واضح في الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم).

    فدل هذا على أن الإنسان إذا استيقظ وهو متأخر في آخر الليل وعليه جنابة فإنه يبدأ بالأكل والشرب، فيأكل ويشرب ويمسك قبل أن يغتسل ولو بعد طلوع الفجر، وصومه صحيح، لكن عليه أن يبادر حتى يدرك الجماعة.

    وكذلك الحائض والنفساء إذا طهرتا قبيل الفجر، فإنهما تبدءان بالسحور، فتتسحر المرأة وتأكل وتشرب ثم تمسك، ثم تغتسل ولو بعد طلوع الفجر وصومها صحيح، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وهو الذي عليه الأئمة سلفاً وخلفاً والجماهير من أهل العلم.

    ولم يدل السحور على أن الأذان الأول خاص به، بل هو مشروع في السنة كلها، لكن إذا أذن المؤذن للأذان الأول فلابد من يكون هناك مؤذن آخر للأذان الثاني حتى يدرك الناس ذلك، أو يؤذن هو مرة ثانية في الفجر، وهذا مشروع، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليرد القائم وليوقظ النائم) فالنائم يوقظه حتى يقوم ويتوضأ ويصلي ويمسك، والقائم يرده عن القيام، أو يعلم أن وقت الفجر قريب فيتسحر.

    وبعض المؤذنين يؤذن أحياناً الأذان الأول وأحياناً لا يؤذن، والأحسن أنه يستمر على الأذان الأول، فمادام أنه يؤذن الأول فليؤذن الثاني أو ليؤذن رجل آخر، وإذا ترك الأذان الأول وأذن الثاني فقد يظن بعض الناس أن هذا هو الأول.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نودي للصلاة -صلاة الصبح- وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ) فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى، وهو في الصحيحين عن أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه، فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا، ومنهم من ذهب إليه ].

    أي: أعله بأنه غير مرفوع، لكن قال في الأول: إنه مرفوع في الصحيحين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ومنهم من ذهب إليه، ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري .

    ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنباً نائماً فلا عليه، لحديث عائشة وأم سلمة، أو مختاراً فلا صوم له؛ لحديث أبي هريرة ، يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن .

    ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه، وأما النفل فلا يضره، رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي ، وهو رواية عن الحسن البصري أيضاً.

    ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديث عائشة وأم سلمة ، ولكن لا تاريخ معه.

    وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية، وهو بعيد أيضًا، إذ لا تاريخ، بل الظاهر من التاريخ خلافه.

    ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال (فلا صوم له) لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز، وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها، والله أعلم ].

    والأقرب: أن يقال: إنه وهم من بعض الرواة، أو إنه منسوخ، أما القول بأنه لنفي الكمال فليس بواضح، فقد يهم الراوي ولو كان حافظاً، والأحاديث الكثيرة والسابقة صريحة في أن صومه صحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً ثم يصوم، فإما أنه وهم من بعض الرواة وإما أنه منسوخ.

    ويحتمل أن يقال: إنه شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة الكثيرة، ولم يذكر أحد من العلماء الشذوذ.

    بيان معنى قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً، كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم).

    وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) أخرجاه.

    وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً).

    ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به، وقال: هذا حديث حسن غريب.

    وقال أحمد -أيضاً- حدثنا عفان حدثنا عبيد الله بن إياد سمعت إياد بن لقيط سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: (أردت أن أصوم يومين مواصلة، فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فإذا كان الليل فأفطروا).

    ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال، وهو أن يصل يوماً بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئاً.

    قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تواصلوا. قالوا: يا رسول الله! إنك تواصل! قال: فإني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، قال: فلم ينتهوا عن الوصال، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل لهم).

    وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به، وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من حديث أنس وابن عمر .

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني).

    وقد ثبت النهي عنه من غير وجه، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ].

    الوصال هو: أن يصل الليل بالنهار في الصيام فلا يأكل بينهما ولا يفطر، بل يصوم الليل مع النهار، أي: يصوم يومين مع الليل، وقد يصوم يومين أو ثلاثة، وهذا الوصال كان يفعله عليه الصلاة والسلام، حيث إنه كان يواصل اليومين والثلاثة، ولا يأكل في الليل، فواصل الصحابة رضوان الله عليهم اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن الوصال، وبين أن الوصال من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تواصلوا) يعني: بادروا بالإفطار عند غروب الشمس، فقالوا: (يا رسول الله! إنك تواصل!) أي: نريد أن نقتدي بك، فقال عليه الصلاة والسلام: : (إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).

    واختلف العلماء في هذا الإطعام والإسقاء، فقال بعض أهل العلم: إنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة، وهذا قول ضعيف؛ لأنه لو كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة لما كان صائماً.

    والصواب أن قوله: (يطعمني ربي ويسقيني) معناه يجعل فيه قوة الطعام والشراب، أي: ما يفتح الله عليه من مواد أنسه ونفحات قدسه واللطائف الربانية، فيغنيه عن الطعام والشراب، وإلا فلو كان يأكل أو يشرب من طعام وشراب الجنة لما صار صائماً، وهذا هو الصواب، لكن الصحابة رضوان الله عليهم أرادوا أن يقتدوا به، فواصلوا، فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يومين في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، فصاموا اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين مع آخر الليل، ثم رأوا الهلال ولم يتم الشهر، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل لهم) من باب العقوبة حين لم ينتهوا.

    وهم رضوان الله عليهم لم ينتهوا رجاء أن يسمح لهم ويرخص لهم في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام لمزيد الأجر والثواب، وهذا هو مقصودهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الوصال رحمة بهم وشفقة، فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين -الثامن والعشرين، والتاسع والعشرين- إلى الليل، ثم رأوا الهلال فأفطروا، وقال: لو بقي الهلال وتم الشهر ثلاثين يوماً لزدتكم يوماً ثالثاً تواصلونه. من باب التعزير؛ ليبين لهم أنهم لا يستطيعون، وأن هذا فيه مشقة عليهم، لكن الصحابة رضوان الله عليهم إنما واصلوا تأسياً به صلى الله عليه وسلم؛ رجاء أن يرخص لهم لمزيد الأجر والثواب.

    فالوصال منهي عنه، واختلف العلماء في النهي هل هو للتحريم أو للكراهة على قولين، والصواب أنه للكراهة الشديدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بهم، ولو كان محرماً لما فعله بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل المحرم، فهو للكراهة الشديدة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم فعله بالصحابة.

    وأما في حقه صلى الله عليه وسلم فهو من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنوياً لا حسياً، وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي ].

    والطعام المعنوي هو: ما يفتح الله به عليه من مواد أنسه ونفحات قدسه واللطائف الربانية مما يغنيه عن الطعام والشراب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولكن كما قال الشاعر:

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد

    وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله! قال: إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني)، أخرجاه في الصحيحين أيضاً ].

    وهذا الوصال إلى السحر جائز، فيجوز للإنسان أن يواصل إلى السحر، بمعنى أنه لا يأكل إلا أكلة واحدة في السحر، فيجعل عشاءه سحوراً، وسحوره عشاء مرة واحدة، فلا يأكل إلا مرة واحدة في آخر الليل، وهذا جائز، لكن تركه أولى.

    والأفضل أن يبادر الإنسان بالفطر من حين غروب الشمس، لما سبق في الأحاديث، ومنها أن الرب عز وجل يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً)، وقوله: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)، وأما تأخير الفطر إلى السحور فجائز، فإذا أراد أن يواصل فإنه يجعل عشاءه سحوراً، أو سحوره عشاء، فيأكل أكلة واحدة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) إذا كان ولابد، ولكن الأفضل أن يبادر بالفطر.

    أما كونه لا يأكل بالليل -أي: يصل الليل بالنهار- فهذا مكروه أو محرم على قولين لأهل العلم للنهي عنه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: (أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فدعاها إلى الطعام، فقالت: إني صائمة، قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر) ].

    وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن علي عن علي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر).

    وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة، وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة، والله أعلم.

    ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة، كما جاء في حديث عائشة : (رحمة لهم)، فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه؛ لأنهم كانوا يجدون قوة عليه ].

    وهذا مشهور عن عبد الله بن الزبير وابن عمرو وجماعة، كان يصومون فيواصلون الأيام المتعددة، وابن جرير يقول: إن هذا رياضة لا عبادة. والصواب أنهم فعلوه عبادة يريدون به الأجر والثواب اجتهاداً منهم، ولعلهم لم تبلغهم النصوص، أو أنهم فهموا أن النصوص المراد بها الإرشاد، وليس المراد بها النهي، وإنما المراد التخيير كما قال ابن جرير رحمه الله، أو أنهم حملوا النهي على من لا يجد القوة، وأن من وجد في نفسه القوة على الصيام فلا يشمله النهي، وإنما هذا في حق من كان يضعف ولا يستطيع، أما هم فهم يتحملون، وبذلك فهم قد حملوا النهي عن الوصال على من لا يقدر، أما من وجد في نفسه قوة وقدرة ونشاطاً فإنه لا يشمله النهي، فيكون النهي للإرشاد، ولكنهم محجوجون بالأدلة، والصواب أن هذا غير مشروع، وأنه مكروه أو محرم.

    وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يصوم سبعة أيام متوالية، وأنه أفطر على السمن والصبر حتى لا تتخرق الأمعاء من الطعام والشراب، وهذه قوة عظيمة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر؛ لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولاً.

    وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم.

    وقال أبو العالية : إنما فرض الله الصيام بالنهار، وإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل ].

    وهذا الصيام المروي عنهم كان من النوافل، وكان سبعة أيام من الجمعة إلى الجمعة، فيصوم ولا يأكل في الليل ولا في النهار، وهذا من النوادر.

    بيان معنى قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].

    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه.

    وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] أي: لا تقربوهن مادمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره، وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية ].

    معلوم أن المعتكف ممنوع من النساء، والاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق والاشتغال بخدمة الخالق، فيلزم مسجداً بنية طاعة الله، فالمعتكف يلزم معتكفه، ولابد من أن يكون في المسجد، قال بعض العلماء: لابد من أن يكون في مسجد جامع، حتى لا يخرج إلى الجمعة، والأقرب أنه يصح الاعتكاف في المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس، ولو لم يكن جامعاً، ويذهب للجمعة ويرجع، ولكن كونه في الجامع أولى، ولا يخرج من معتكفه إلا لما لابد منه، كأن يخرج للوضوء، أو للبول والغائط وللأكل إذا لم يكن هناك من يأتي له بالأكل، فإذا وجد من يأتي له بالأكل فلا يخرج، ولا يزور مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا إذا اشترط كما قال طائفة من أهل العلم، وهو ممنوع من الجماع.

    وقد يقول قائل: هل يجوز للمرء أن يعتكف فيذهب إلى أي مسجد آخر؟

    والجواب: يخرج إلى أي مسجد، لكن لا يخرج إلا لما لابد منه.

    والمعروف في العصور السابقة إلى القرن السادس أنه ليس هناك جوامع، فقد كان لا يعرف إلا مسجد جامع واحد في البلد، ولم يكن هناك تعدد، ولم يكن يعرف الناس إلا جامعاً واحداً في البلد.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لابد للمعتكف من أن يصوم، والصواب أنه لا يشترط الصوم، بل يجوز الاعتكاف بدون صيام، ولهذا قال الجمهور: أقل مدة في الاعتكاف يوم يصوم فيه، والصواب أنه لا يشترط؛ لما ثبت في الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك)، والليل ليس فيه صوم، فدل على أنه لا يشترط الصوم.

    والاعتكاف ليس خاصاً بشهر رمضان، بل في أي وقت، لكن الاعتكاف في رمضان أفضل، خاصة في العشر الأواخر منه، وحكم الاعتكاف في رمضان وفي غيره أنه سنة مستحبة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل قالوا: لا يقربها. وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء مادام معتكفاً في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لابد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه ].

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف كان إذا دخل لا يسأل عن شيء إلا وهو مار في الطريق فيسأل عن حال فلان، فالسؤال عنه وهو في الطريق لا بأس به.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء، ومنها ما هو مختلف فيه، وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام، ولله الحمد والمنة.

    ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف، اقتداء بالقرآن العظيم، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم، وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام، أو في آخر شهر الصيام، كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

    وفي الصحيحين: (أن صفية بنت حيي رضي الله عنها كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلاً، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا -وفي رواية: تواريا، أي: حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه-، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي) أي: لا تسرعا، واعلما أنها صفية بنت حيي ، أي: زوجتي، (فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً) ].

    هذا هو رسول الله فكيف بغيره عليه الصلاة والسلام؟! خشي أن يكون مشكوكاً في أمره، فغيره من باب أولى، أي: إذا خشي أن يظن به أحد فإنه يزيل التهم عن نفسه ويخبرهم بمن معه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الشافعي رحمه الله: أراد عليه الصلاة والسلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها؛ لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، والله أعلم ].

    فعلى الإنسان أن يتبرأ من أي تهمة حتى لا يقذف الشيطان في قلب غيره شيئاً، ولا يكون هناك خواطر رديئة.

    قوله: [ وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً].

    أي: الصحابيان الأنصاريان اللذان مرا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    مفهوم المباشرة في قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به؛ فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة).

    بيان معنى قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [

    وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187] أي: هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه، وما أبحنا فيه وما حرمنا، وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه (حدود الله) أي: شرعها الله وبينها بنفسه، فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] أي: لا تجاوزوها وتتعدوها.

    وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: المباشرة في الاعتكاف.

    وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني: هذه الحدود الأربعة، ويقرأ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] حتى بلغ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] قال: وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا.

    كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [البقرة:187] أي: كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ].

    واعلم أن حدود الله نوعان:

    النوع الأول: حدود المعاصي والمنهيات والمخالفات، فهذه لا يقربها الإنسان ويبتعد عنها، كما قال سبحانه في هذه الآية: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] فهو ينهى عن اقترابها، وهي المعاصي والمنهيات والمآثم.

    والنوع الثاني: الأوامر والواجبات، فهذه ينهى عن تعديها ومجاوزتها، كما قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] بعد أن ذكر الأحكام، مثل النكاح، والخلع، والطلاق، أي: فلا تتجاوزوها.

    فحدود الله الأوامر والواجبات لا تعتدوها ولا تتجاوزوها، وأما المنهيات والمحرمات فلا تقربوها.

    قال المؤلف رحمه الله: [ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] أي: يعرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحديد:9] ].

    فقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ليست للترجي، وإنما هي للتعليل؛ لأن الله تعالى لا يخاف أحداً ولا يرجو أحداً، فالمعنى: لكي تتقوا فتحذروا بطش الله، و(لعل): للتعليل، يعني: لتتقوا الله عز وجل، فتخافوه وترجوه سبحانه وتعالى وتحذروا محارمه وتؤدوا فرائضه، وليست هنا للترجي؛ لأن الله تعالى لا يخاف أحداً ولا يرجو أحداً، وإنما هي للتعليل.

    الأسئلة

    بيان معنى المعية مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين

    السؤال: إن سؤال منازل الأنبياء من التعدي، والله سبحانه يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69]، فكيف يجمع بين هذين الأمرين؟

    الجواب: المعية لا تقتضي أن يكون معهم في منازلهم، وفي الحديث الآخر: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء)، فالمعية لا تقتضي أن يكون معهم ويجتمع معهم، بل كل واحد له منزلته.

    فالمؤمنون كذلك يجتمع بعضهم مع بعض، وهم على منازل متفاوتة، جاء في الحديث: (أن الرجل من أهل الجنة يلقى أخاه من ذوي المراتب العالية، فيروعه أول ما يلقاه ما عليه اللباس، فلا ينتهي حديثه حتى يخيل له أن ما عليه مثله أو أحسن؛ لأنه ليس في الجنة حزن).

    فهذا في مرتبة عالية والتقى به واجتمع به، والمنازل شيء آخر، كالناس في الدنيا يجتمعون كلهم في بيت، كأن يكون عندك قصر مسافته كذا وكذا، والفقير ليس له بيت إلا بالإيجار، أو له بيت صغير، فأتت تجلس معه وتقرأ معه وتصلي معه، فقد تصل إلى منزله، وهو يصل إلى منزلك.

    حكم الأخذ من آثار المسجد والتمسح بها لعلاج العين

    السؤال: إذا أصاب العائن غيره فإنه قد يُبالغ في أخذ الشيء من العائن، خاصة إذا لم يكن العائن معروفاً، فيؤخذ من أثره، أو من الأواني التي يشرب منها، أو يُمسح على الأبواب التي يقوم بلمسها، فما حكم هذا العمل؟

    الجواب: هذا لا أصل له، فمسح الأبواب وأخذ التراب من المسجد لا أصل له، لكن إذا عرف الشخص الذي عانه وأصابه بعينه فإنه يطلب منه -كما جاء في الحديث- أن يغسل طرف ركبتيه وطرف قدميه وداخله إزاره، فيمكن أخذ شيء من العائن بهذه الطريقة، وهذا مجرب، أما كونه يأتي إلى المسجد ويأخذ من التراب ويلمس الأبواب فهذا لا أعرف له أصلاً.

    حكم الأكل أثناء الأذان

    السؤال: أنا أحياناً آكل السحور أثناء أذان الفجر، وبعده بخمس دقائق تقريباً، ظناً مني أن المؤذنين يبكرون بالأذان احتياطاً من التقويم، وأن الفجر لم يظهر بعد بقوة، خاصة في صيام التطوع، فهل يجوز هذا العمل؟

    لا ينبغي هذا العمل، وأنصحك بألا تعمل هذا، بل تمسك مع الأذان؛ لأن الأذان يفيد غلبة الظن، والتقويم مقارب الآن، وانظر إلى طلوع الشمس الآن، فإنك ستجده مقارباً، بل يكاد يكون دقيقاً، وكذلك غروب الشمس، وكذلك طلوع الفجر، فالذي ينبغي لك إذا سمعت الأذان أن تمسك، وهذا هو الذي يحتاط له الإنسان، ولا يأكل بعد خمس دقائق ولا بعد الأذان، لكن لو كان الإنسان في يده كأس وشرب مع الأذان فأرجو ألا يكون عليه حرج، لكن كونه يبحث عن الكأس ويبحث عن الطعام بعد الأذان فهذا لا ينبغي.