www.islamweb.net/ar/

المذاهب والفرق المعاصرة - الافتراق نشأته وأنواعه للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  • التفريغ النصي الكامل
  • التفرق والاختلاف سنة الله تعالى في خلقه, ولذا أرسل الرسل لإقامة الحق فيما اختلف فيه من الدين, والدعوة إلى عبادة رب العالمين, وكان لهذه الأمة نصيبها من الاختلاف, فكان فيها الاختلاف في الفروع الذي يعذر صاحبه بخلافه فيه, ويؤجر عليه إن كان مجتهدًا, كما وقع في عهد الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم, وكان فيها الخلاف والتفرق في الأصول, وهو الخلاف الذي لا يجوز ولا يعذر صاحبه إذا خالف فيه وجه الحق لقيام الأدلة الشرعية على بيانه ووضوحها, ومرد هذا الخلاف والتفرق إلى جملة من الأسباب, منها الجهل والبدع واتباع المتشابه وغير ذلك, وقد حذر الشرع من هذا الاختلاف في نصوص كثيرة, وبين أن النجاة منه لأهل السنة والجماعة المتبعين لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

    سنة الله تعالى في الاختلاف

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    أما بعد: أيها الإخوة الكرام!

    فإن الله سبحانه وتعالى عندما خلق آدم أراد سبحانه وتعالى أن يكون آدم وذريته خلفاء في هذه الأرض، وأراد سبحانه أن يرسل رسلاً، وأن ينزل كتباً، وأن يعلم الخلق كيف يعبدونه سبحانه وتعالى.

    وتمت إرادة الله سبحانه وتعالى فخرج آدم عليه السلام من الجنة، وهبط إلى الأرض، وكانت في هذه الأرض ملحمة عظيمة وكبيرة استمرت من عهد آدم عليه السلام إلى أيامنا هذه، وستستمر إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها.

    فالله سبحانه وتعالى خلق النوع الإنساني للابتلاء، كما قال سبحانه وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وأراد وقدر أن يختلف الناس وبالذات في أديانهم، فإن الاختلاف في الطول والقصر والألوان والأذواق وفي احتياجات الإنسان البدنية لم يكن يوماً من الأيام مثار نقد، كما لم يرتب الله سبحانه وتعالى عليه الثواب والعقاب، وإنما رتب الله سبحانه الثواب والعقاب على الدين.

    وقد اختلف الناس من زمن نوح عليه السلام، يقول الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213].

    روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره لهذه الآية، أنه قال: كان الناس عشرة قرون على التوحيد، ثم حدث الشرك في قوم نوح عليه السلام، فعندما نزل آدم على الأرض، كان آدم عليه السلام نبياً مكلماً، واستمرت الأجيال التي تليه على توحيد الله سبحانه وتعالى عشرة قرون، أي: ألف سنة، ثم حدث الشرك في قوم نوح، فوقع الاختلاف في الأديان والعقائد من تلك اللحظة، ثم بعد ذلك أهلك الله سبحانه وتعالى الكافرين، وأنجى البقية المؤمنة التي كانت مع نوح في السفينة، ثم استعمرهم الله عز وجل مرة أخرى في الأرض فحصل الخلاف في الناس في أديانهم وفي عقائدهم.

    فالخلاف الذي نشاهده اليوم، والذي نقرأه تاريخياً، والذي سيحصل بعد ذلك، هو سنة كونية أرادها الله سبحانه وتعالى أن تقع في العباد، يقول الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] يعني: خلقهم للاختلاف والتنازع والتفرق في الدين، فهي سنة كونية أرادها الله سبحانه وتعالى، وقدرها سبحانه وتعالى في الناس ليبتليهم أيهم يختار الحق، وأيهم يتركه إلى الباطل.

    وعندما حصل النزاع في الأديان والعقائد في تاريخ الإنسان، أرسل الله الرسل ومعهم الحق المبين، وأنزل عليهم الكتب، وهذه الكتب التي أنزلها الله عز وجل باقية بعد موت الرسل ليبقى الحق في الأرض، ولكن مع هذا تنازع أتباع الرسل فيما أنزل إليه من الحق، فصار التنازع نوعين:

    تنازع في الأديان، وتنازع أتباع الرسل في الحق الذي نزل إليهم بسبب الأهواء، وبسبب البدع كما سيأتي معنا.

    والصراع بين الحق والباطل مستمر منذ تلك الفترة إلى أن بعث الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الله سبحانه وتعالى، وجاهد الجاهلية، وظهر أمر الله ودينه سبحانه وتعالى على أيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا سيستمر الصراع في الأديان والعقائد إلى قيام الساعة.

    موقف الرسل الكرام من اختلاف الناس في الدين

    وعندما أرسل الله عز وجل الرسل الكرام إلى أقوام متنازعين ومتفرقين ومختلفين فيما بينهم، فالعمل الذي قاموا به: هو أنهم دعوهم إلى عبادة الله عز وجل والكفر بالطاغوت.

    يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وكل رسول بعثه الله عز وجل إلى قومه إلا وقال لهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فتضمنت دعوة الرسل أمرين مهمين:

    الأمر الأول: عبادة الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا يقتضي التعبد لله عز وجل وتعلم الحق، وتفهم العقائد الصحيحة، والعمل بها، والكفر بالطاغوت.

    ويتضمن إنكار الباطل، واعتقاد بطلانه، والرد على أهله ومجاهدتهم، وهذا الذي حصل بالفعل من الرسل ومن أتباع الرسل رضوان الله عليهم أجمعين.

    ومن هنا فإن الرد على الباطل ومجاهدته وكشفه وبيان فضيحته، يعتبر من الدين نفسه، بل هو ركن أساسي من أركان الدين، كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    وقوله سبحانه وتعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والعروة الوثقى كما قال المفسرون هي: شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا الفرق)، والمعنى: أنه يفرق بين الحق والباطل، ويوضح الحق للناس لاعتناقه.

    الموقف الشرعي للمسلم تجاه اختلاف الناس في أديانهم

    ومن هنا فالمهمة الأساسية والموقف الشرعي للمسلم في هذه الدنيا وهو يرى حوله تنازع الناس واختلافهم في أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم واتجاهاتهم وفلسفاتهم، هو أن يتعلم الحق ليعتقده، وأن يتعلم الباطل بالجملة ليرده، ويبين بطلانه.

    ومن هنا قال العلماء: من لم يكفر الكافر فهو كافر، والمقصود بالكافر: هو الكافر الأصلي الذي كفره واضح وبين، فمن اعتقد -مثلاً- أن عقائد النصارى حق فهو كافر، أو أن اليهودية والنصرانية والبوذية وغيرها من الأديان الموجودة في الأرض اليوم غير الإسلام أنها حق وأنها ستصل بنا إلى الجنة، فهو كافر بالله رب العالمين.

    ومن هنا فإن موقف المسلم: أن يعرف الحق ويتعلمه ويتلمس أحكامه، وكما أشار أخونا المقدم لهذا الدرس أننا اليوم في زمن ثورة الاتصالات والمواصلات التي ربطت بين شرق العالم وغربه، والتي جمعت الناس في مكان واحد، وكما يعبر كثير من الكتاب أن العالم اليوم أصبح كالقرية الواحدة، فما يدور في طرف العالم يعلمه من في طرفه الآخر، وأصبح هناك دعاة على أبواب جهنم يدعون إلى عقائدهم، ويبذلون الغالي والنفيس في ذلك، وكثير من الناس اليوم التبس عليه الحق بالباطل؛ لأنه لم يتعلم الحق ولم يعرف بطلان الباطل كما أمر الله عز وجل؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].

    فاستبانة سبيل المجرمين مهمة؛ لأنها تكشف باطلهم وتجعل للمسلم حصانة منهم، ولو راجعنا القرآن لوجدنا أنه يحكي أقوالاً لطوائف ويرد عليها، فمن ذلك قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]، وقوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

    وهكذا فالقرآن مليء بذكر أقوال الكفار والرد عليها وبيان بطلانها؛ ليحذر المسلم من الباطل، وكما يقولون: وبضدها تتميز الأشياء، فإذا عرف الإنسان الباطل عرف الحق، ولهذا فإن من وسائل معرفة الحق: معرفة الباطل؛ ولهذا يروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لم يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية.

    وأنتم تعلمون أن أخطر ما نواجهه اليوم هو لبس الحق بالباطل، ومزج الحق بالباطل، ومن هنا كان من الضروري أن يميز الإنسان بين الحق والباطل، ومن طرق تمييز الحق عن الباطل هو: أن نعرف الباطل وأفكاره الأساسية، ونعرف الرد عليها، فيظهر الحق حينئذ ويبين.

    والموضوع الذي سنتحدث عنه: هو الكلام على الخلاف الواقع في الأمة، وسنتحدث عن أمرين:

    الأمر الأول: الفرق التي وقعت في الأمة المسلمة ممن ينتسب إلى الإسلام.

    والأمر الثاني: المذاهب المعاصرة.

    والمقصود بالمذاهب المعاصرة: هي المذاهب التي نمت في الغرب، وانتشرت في فترة الاستعمار، واعتنقها كثير من المسلمين، وأصبح بعض المسلمين يدعو لها، ويضحي من أجلها، ويجاهد لها وهي عقائد كافرة.

    فالأمر الأول: هو الكلام عن الفرق التي وقعت في الأمة المسلمة، وسيكون الكلام عن عدة مسائل:

    أولاً: أنواع الخلاف الواقع في الأمة.

    وثانياً: الأمور الموصلة إلى التفرق والاختلاف المذموم.

    وثالثاً: التحذير من التفرق والأهواء والبدع.

    ورابعاً: بيان حقيقة الناجين من التفرق المذموم، وهم: أهل السنة والجماعة.

    وخامساً: حديث الافتراق، وهل الفرق خارجة عن الإسلام؟ وفوائد متعلقة بحديث الافتراق.

    وسادساً: نشأة الفرق بشكل مجمل.

    وسابعاً: المؤلفات في الفرق.

    وثامناً: هل للكلام في الفرق مبرر؟

    أنواع الخلاف الواقع في الأمة

    المسألة الأولى: وهي أنواع الخلاف الواقع في الأمة:

    لقد بين الله سبحانه وتعالى أن الخلاف الواقع في حياة الأمة هو خلاف قدري كوني كما مضى معنا في الآية السابقة، وهي قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119].

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فلما سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجماعة)، وفي رواية قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

    ففي هذه الآية وهذا الحديث: بيان أن الافتراق والاختلاف الواقع في الأمة هو أمر قدري كوني، أراده الله عز وجل ليبتلي العباد من يتبع الحق ممن يتبع الباطل.

    وهذا هو الذي وقع بالفعل، فقد افترقت الأمة واختلفت في دينها، وأصبحت في مذاهب وأفكار متعددة، كل يفسر الإسلام حسب مذهبه وفكرته.

    وقد يقول قائل: نحن أمام هذا الافتراق، كيف نعرف الحق؟

    نقول: هذا ما سنتحدث عنه -إن شاء الله- في الكلام عن الناجين من الافتراق وهم أهل السنة والجماعة، وسنتحدث كيف استطاع أهل السنة أن يميزوا الحق من الباطل؟

    والخلاف الواقع في الأمة يمكن أن نقسمه بشكل عام إلى قسمين:

    الأول: خلاف غير مذموم ويعذر صاحبه.

    والثاني: خلاف مذموم لا يعذر صاحبه.

    النوع الأول: خلاف غير مذموم ويعذر صاحبه

    أما النوع الأول: وهو الخلاف غير المذموم الذي يعذر صاحبه، فهو الخلاف الذي وقع في زمن الصحابة رضوان الله عليهم في مسائل الأحكام الفقهية، مثل: بعض مسائل الصلاة والزكاة والبيوع، ولم يؤنب بعضهم بعضاً، ولم ينكر بعضهم على بعض.

    والسبب في وقوع هذا الاختلاف بين الصحابة في مسائل الأحكام: هو أن الأدلة الشرعية في القرآن والسنة ليست على درجة واحدة في الوضوح والبيان، وليست على درجة واحدة من وضوح الدلالة، فبعضها قطعي الدلالة، وبعضها ظني الدلالة، ففي بعض الآيات أو الأحاديث التي تكون ظنية الدلالة تختلف أفهام المجتهدين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعدهم في تحديد معناها بشكل دقيق؛ ولهذا حصل هذا الخلاف، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الخلاف: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر).

    وهذا يدل على أن الحاكم أو المفتي أو العالم الذي وصل إلى درجة الاجتهاد، فإذا اجتهد فأصاب الحق كان له أجران، الأجر الأول: أجر الاجتهاد في طلب الحق، والأجر الثاني: أجر الإصابة في الحق.

    أما إذا اجتهد الإمام أو العالم أو المفتي في طلب الحق من الأدلة الشرعية ثم وقع في الخطأ فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد.

    ومما ينبغي أن نشير إليه في الحديث عن الاجتهاد أنه لا يصح لأي إنسان أن يجتهد؛ لأن الاجتهاد حق خاص لأهله من أهل العلم، فإن الإنسان يحتاج إلى أدوات الفهم وأدوات الاستنباط والاستدلال من القرآن والسنة، كدراسة اللغة، ودراسة أصول الاستنباط التي كانت عند الصحابة، وهكذا من أدوات الاجتهاد التي يحتاجها المفتي حتى يستنبط من القرآن ومن السنة.

    وهذا في المسائل المشكلة والغامضة، أما المسائل الواضحة فإنه يفهمها كل أحد كمسائل التوحيد، والأمر بالصلاة، ومواقيت الصلاة بشكل عام، فهذه من الأمور الواضحة التي يدركها الإنسان لأول نظرة في القرآن أو في السنة المطهرة، أما مسائل الإفتاء بشكل تفصيلي فلا يفهمها إلا العالم الذي ملك أداة الاجتهاد، وحينئذ يستطيع أن يفتي؛ ولهذا فالمفتون من الصحابة رضوان الله عليهم قليل، عدهم ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: (أعلام الموقعين عن رب العالمين)، فأحصاهم جميعاً، فهم لا يتجاوزون الثلاثمائة مفتي من الصحابة، مع أن عدد الصحابة الذين شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أكثر من مائة ألف، ولم يكونوا جميعاً مفتين، وإنما أهل الفتوى منهم مجموعة من العلماء، مثل: الخلفاء الأربعة، وابن عباس ، ومعاذ بن جبل ، وابن عمر ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو سعيد الخدري ، وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم، لكن غيرهم ممن لم يتفقهوا في الدين بشكل دقيق لم يكونوا من المفتين؛ ولهذا لا يصح أن يتعرض للقرآن والسنة من ليس من أهل العلم ثم يقول: أنا أستنبط من القرآن والسنة مباشرة، فهذا آثم؛ لأنه ليس من أهل العلم والاجتهاد، فهو لا يرجع إلى كتب أهل العلم، وليست لديه أدوات العلم، ولا يجمع الأدلة جميعاً في المسألة الواحدة، فهذا ليس مجتهداً، فالاجتهاد حق خاص لأهله الذين يدرسونه ويعرفونه بشكل دقيق.

    الموقف الشرعي من اختلاف أهل العلم في الفتوى

    ما هو الموقف الشرعي من اختلاف أهل العلم في الفتوى؟

    الموقف الشرعي من اختلاف أهل العلم في الفتوى: هو أن الإنسان يكون أحد ثلاثة أشخاص:

    إما أن يكون عالماً مجتهداً يجتهد في الأدلة الشرعية ويفتي بها، فإن أصاب الحق كتب له أجران، وإن أخطأ كتب له أجر.

    النوع الثاني: أن يكون طالب علم يستطيع فهم النصوص فهماً دقيقاً، وحينئذ قد يجتهد في بعض المسائل ولا يستطيع الاجتهاد في بعضها الآخر، فنقول لمثل هذا: إذا اجتهد في مسألة واستكمل أداة الاجتهاد فيها فإنه يكون ضمن حديث الاجتهاد السابق، وإن غابت عنه مسألة فإنه يكون في حكم العامي.

    النوع الثالث: العامي، الذي لا يستطيع الاستقلال بفهم الكتاب والسنة، ولا يستطيع إفتاء نفسه، فمثل هذا يقول الله عز وجل في شأنه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فالعامي الذي لا يستطيع الاجتهاد يسأل أهل العلم الذين يملكون أداة الاجتهاد، وحينئذ يفتونه وهو ملزم بقبول فتواهم.

    هناك مسائل تفصيلية في هذه الموضوعات لا يسع المجال للحديث عنها بشكل مفصل، بقي أن ننبه إلى أن الاختلاف في مسائل الأحكام ليس دائماً يكون الإنسان مثاباً عليها إلا إذا بذل الجهد وأخلص النية، وجمع الأدلة، ثم توصل إلى قول وأفتى به، فإنه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.

    أما إن قصر في بذل الجهد، أو في الإخلاص، أو في جمع الأدلة، فأفتى بقول مخالف للنصوص، فهذه يسميها العلماء: زلة العالم، وزلة العالم هي الإفتاء بقول لم يبذل فيه الجهد، ولم يستكمل فيه أداة الاجتهاد الشرعية، ووقع في الخطأ، فهذا ليس مأجوراً، بل عليه إثم، والإثم فيه من جهة تقصيره في طلب الحق، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاثة يهدمون الدين:

    زلة العالم، وجدال المنافق للقرآن، والأئمة المضلون.

    أما زلة العالم فهو العالم المعتبر المفتي الذي يقصر في الاجتهاد فيقع في الخطأ، فهذا ليس له أجر، وإنما عليه وزر، والوزر هذا جاء من جهة أنه لم يبذل الاجتهاد.

    وقد تحدث الشاطبي رحمه الله في (الموافقات)، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (رفع الملام) عن موضوع زلة العالم، وأيضاً ابن القيم في (أعلام الموقعين)، وقد فصلوه تفصيلاً دقيقاً، ويمكن الرجوع إليه.

    وأما المنافق الذي يجادل بالقرآن فهو شخص لا يريد الحق وإنما يتلاعب بالقرآن، ويضرب بعضه ببعض، فهذا يهدم الدين؛ لأنه يضل كثيراً من الناس الذين لا علم لهم.

    وأما الأئمة المضلون فهم الحكام الذين يتبنون الضلالة وينشرونها في الناس، أو العلماء الفساق الذين ينشرون الفسق بين الناس.

    وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية بشكل مفصل في كتاب: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) سبب اختلاف أهل العلم في الاجتهاد، وذكر: أن العالم قد يفتي بقول ويفتي العالم الآخر بقول آخر، ويختلفان في فتواهما، فالمخطئ في الفتوى له عذر، إما أن الدليل لم يبلغه، أو أن الحديث لم يصح عنده، أو أنه لم ينتبه لدلالة الآية أو الحديث، أو لأي سبب من الأسباب.

    اختلاف الصحابة في بعض المسائل الفقهية

    وقد وقع للصحابة الاختلاف في بعض المسائل الفقهية التي يفتي بها أهل العلم، ومنها:

    الحادثة الصحيحة الثابتة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عندما قاتل يهود بني قريظة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في فهمها، فقال بعضهم: أراد الاستعجال؛ فلم يصلوا إلا في بني قريظة حتى خرج وقتها، وبعضهم قال: أراد الحث، لكن لا نترك الصلاة حتى يخرج وقتها فصلوا ثم انطلقوا، فلما التقى معهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم ولم ينكر عليهم اجتهادهم في ذلك؛ لأن النص محتمل لكلا القولين؛ ولأنه اجتهاد استكملت أداته الشرعية، فصح ما بين مأجورين على أجرين، وما بين مأجورين على أجر واحد.

    هل المصيب في المسائل الخلافية واحد أم غير ذلك؟

    وهل الحق في المسائل التي يختلف فيها أهل العلم واحد أم أن الجميع مصيب؟

    نقول: الحق في المسائل الفقهية المختلف فيها واحد، والثاني خطأ، لكنه خطأ لا يأثم عليه المجتهد؛ لحديث الاجتهاد السابق، والدليل على أن الحق في هذه المسألة واحد لا يتعدد، آيات وأحاديث كثيرة، منها: قول الله عز وجل: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، فالحق واحد لا يتعدد.

    ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فدل على أن أحد الاجتهادين خطأ والآخر صواب.

    فالمسائل الفقهية التي يختلف عليها أهل العلم الحق فيها واحد، والثاني: خطأ، ولا يأثم بخطئه؛ لأنه قد اجتهد اجتهاداً شرعياً فلا يأثم حينئذ.

    حكم تتبع رخص العلماء

    وهنا مسألة مهمة جداً وضرورية، وهي مسألة: هل الإنسان عندما يقرأ لأهل العلم أكثر من فتوى في مسألة واحدة مختلفة، هل هو مخير بأن يأخذ هذا القول أو يأخذ القول الثاني أو القول الثالث؟

    الجواب: ليس مخيراً، يعني: ليست هناك خيارات عندك لتأخذ هذا القول أو تتركه، فإن كنت عامياً فاسأل أهل العلم، فإذا أفتاك أحدهم ممن تثق بدينه فإنه يلزمك هذا القول، ولا يجوز أن تتركه إلى قول آخر؛ لأن الله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].

    وإذا اختلف أهل الذكر فاسأل أعلمهم وأورعهم؛ لأن دليله واضح مثلاً، وحينئذ تتبع هذا الحق.

    أما الذين يتخيرون في المذاهب وينتقون فيها فهؤلاء يسميهم العلماء: المتتبعين للرخص، ففي مسائل الصلاة يختارون المذهب الحنفي، وفي مسائل الزكاة يختارون المذهب المالكي، وفي مسائل الحج يختارون قول الحنابلة، فهذا تلاعب، وسيشكل من تتبع أقوال أهل العلم بشكل اختياري ديناً جديداً ما أنزله الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا نص أهل العلم على أن تتبع رخص أهل العلم زندقة، والزندقة هي: النفاق، وإذا كان الإنسان يتتبع بهذه الطريقة، فهذا يدل على أنه يعبد الهوى، ثم يبحث عنه فينسبه إلى عالم.

    قصة لأحد المفتين الذين يفتون الناس بأهوائهم

    ويمكن لي أن أذكر لكم مثالاً ذكره الشاطبي رحمه الله، وهي قصة لأحد المفتين الذين يفتون الناس بأهوائهم، ويستندون في ذلك إلى أقوال بعض أهل العلم، وهم ممن لم يجتهدوا في المسالة ولم يبحثوا عنها.

    قال الشاطبي رحمه الله في قصة محمد بن يحيى بن لبابة ، وهذا الرجل كان قاضياً، وكان في مجلس الشورى في زمن دولة الناصر في الأندلس، ثم عزله القضاة؛ لأن في دينه خلل، ثم حصل أن الناصر احتاج إلى الإفتاء في مسألة، فقال رحمه الله تعالى: كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة المشهور، فإنه عزل عن قضاء ألبيرية، وألبيرية هي بلدة مشهورة في الأندلس، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زيد وأمر بإسقاط عدالته، وإلزامه بيته، وألا يفتي أحداً، ثم إن الحاكم الناصر -وهو رجل مشهور جاهد الروم وله مواقف مشهورة- احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى، أي: أوقاف المرضى المعروفة، وهي أوقاف للمرضى، تهيأ وتجهز وتنظف من أجل أن يسكن فيها المرضى الذين لا سكن لهم وكان ذلك بقرطبة، في عدوة النهر، فشكا إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلته منزهه، وتأذيه برؤيتهم، يعني: برؤية المرضى، أوان تطلعه من عاليه، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه، يعني: لا يجوز لك أن تشتري هذا الوقف؛ لأن هذا الوقف على أناس محددين إلى قيام الساعة، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس، فقال له: تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه، فلعلهم أن يجدوا في ذلك رخصة، فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلاً، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر وتوبيخهم، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر، فرفع إلى الناصر أحد من أصحابه الفقهاء أنه يقول: إنهم حجروا عليه واسعاً، ولو كان حاضراً لأفتاه بجواز المعاوضة، يعني: يشتري هذا الوقف، وتقلد حقاً وناظر أصحابه فيها، فوقع الأمر في نفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابه إلى الشورى على حالته الأولى، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة، فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها، وهل تجوز المعاوضة فيها؟ فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه، وهذا هو الذي يفتي به الإمام مالك ، وهم كانوا في الأندلس على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وابن لبابة ساكت، فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء، وأما قول أهل العراق -يعني: الأحناف- فإنهم لا يجيزون الحبس أصلاً، وهم علماء أعلام يقتدي بهم أكثر الأمة، وإذ بأمير المؤمنين وما به من الحاجة إلى هذا المجشر، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنة فسحة، فقال: وأنا أقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأياً، فقال له الفقهاء: سبحان الله! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به، ولا نحيد عنه بوجه.

    إلى أن قال: فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم بأنفسكم في ذلك؟ قالوا: بلى.

    قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا به مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء، فكلهم قوة، فسكتوا.

    فقال للقاضي: أنهي إلى أمير المؤمنين هذا الذي يقوله ابن لبابة ، فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب أن يأخذ بفتيا محمد بن لبابة وينكث ذلك، ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة وكانت عظيمة القدر جداً تزيد أضعافاً على المجشر.

    ثم بعد ذلك بين الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام وجه الخطر عند هذا القاضي الذي أفتى بهذه الفتيا، وهو أن عنده قولين: قول مالك بمنع بيع الأوقاف، وقول الأحناف بأنه لا يجوز أصلاً الإيقاف، فترك قول مالك وأخذ بقول الأحناف لا لحجة شرعية عنده، وإنما ليرضي أمير المؤمنين، وهذا هو الباطل؛ لأن إرضاء أمير المؤمنين ليس شريعة.

    يقول الشاطبي رحمه الله: فتأملوا كيف اتباع الهوى، وأولى أن ينتهي بصاحبه، فشأن مثل هذا لا يحل أصلاً أن يفتي من وجهين:

    أحدهما: أنه لم يتحقق من المذهب الذي حكم به؛ لأن الأحناف ليسوا جميعاً يقولون أن الوقف لا يجوز، بل بعضهم يجيز بعض الأوقاف، وبعضهم ينهى عن البعض الآخر، فهو لم يبحث المسألة بشكل دقيق.

    والثاني: إن سلمنا صحة القول إلى أهل العراق، فلا يصح للحاكم أن يرجح في حكمه أحد القولين بالصحبة، فيرجح قولاً على قول؛ لأن هذا يحتاجه صحابي، أو بالإمارة أو قضاء الحاجة، إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعاً، وهذا متفق عليه بين العلماء، فكل من اعتمد على تقليد قوله غير محقق أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الدقة، واستند إلى غير شرعه، عافانا الله من ذلك بفضله.

    تساهلات القرضاوي في بعض الفتاوى

    وهذا يدعونا إلى الإشارة إلى أن كثيراً من الناس الذين ينظرون إلى القنوات الفضائية ثم يختارون ما يشاءون من قول أهل العلم، وأيضاً يدعون إلى الإشارة إلى قول بدعي لأحد المفتين في القنوات الفضائية، فقد قال في كتاب له بعنوان (فتاوى معاصرة) إنه إذا وجد في المسألة رأيان لأهل العلم فإنه يفتي بأيسرهما، أي: بأخف الرأيين على الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، وهذا خطأ عظيم وكبير في الإفتاء؛ لأن المسلم إذا كان عنده رأيان، فعلى أي أساس يأخذ الرأي أو يترك هذا الرأي، فعند الدكتور القرضاوي أن هذا أسهل على الناس، وهل الأسهل على الناس معتبر شرعاً؟

    فليست القضية أن هذا مباح والآخر مباح وأنت تأخذ الأيسر منهما، فهذه أقوال مبنية على اجتهادات فهم الأدلة؛ ولهذا لا يجوز أبداً أن يفتي العالم بقول لأن فيه تسهيلاً للناس؛ ولهذا أفتى مثلاً: بجواز كشف المرأة للأجانب، وبجواز سفرها بدون محرم، وبجواز اختلاطها مع الرجال، وبجواز سماع الغناء، وبجواز العلاقة مع الكفار، وأن العلاقة بيننا وبين الكفار ليست علاقة محاربة دينية، وإنما هي محاربة في مصالح مشتركة قومية، ونحو ذلك من الفتاوى الغربية العجيبة؛ لأنه يرى أن في ذلك تيسيراً على الناس، وهذا باطل؛ لأن الإفتاء للناس بما يشتهون ليس حقاً أبداً، وإنما الإفتاء يكون بما اتضح من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تراجعوا كتب أهل العلم في مسألة تتبع الرخص، فقد تحدث عنها ابن القيم رحمه الله في (أعلام الموقعين) حديثاً طويلاً، بين فيها خطورة تتبع الرخص، وأن هذا من الزندقة؛ لأنه ينشى جيلاً جديداً لا يمت إلى الإسلام بصلة.

    وهناك حديث يردده بعض الناس وهو قولهم: اختلاف أمتي رحمة، فيقولون: إن الخلاف الموجود هو خلاف رحمة، وهذا الحديث لم يثبت بهذا اللفظ أبداً، وكذلك قولهم: اختلاف أصحابي رحمة، وهذا أيضاً لم يثبت بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف، بل هو مكذوب موضوع، ثم إنه مخالف للنصوص الكثيرة التي تذم الخلاف والتفرق.

    حكم الردود في المسائل الفقهية

    وإذا اختلف أهل العلم في مسألة من المسائل الفقهية، هل يجوز الرد فيها أو لا يجوز؟

    الجواب: يجوز الرد فيها، وقد رد الصحابة بعضهم على بعض، فرد ابن مسعود على عثمان بن عفان ، وكان أمير المؤمنين عندما أتم في منى وفي عرفات، وردت عائشة رضي الله عنها على ابن عمر ، ورد ابن عباس على عائشة رضي الله عنها.

    وهكذا فإن الصحابة رد بعضهم على بعض، لكن بأدب الخلاف وأدب الرد ما دام أنه داخل تحت دائرة الخلاف المعتبر، ولم يصل إلى درجة الخلاف المذموم الذي سيأتي الحديث عنه.

    فإذا أفتى عالم بقول، وأفتى عالم آخر بقول آخر، فإنه يجوز للعالم المصيب أن يرد على العالم المخطئ بأدب الحوار والرد؛ لأن هذا المخطئ ليس بآثم، بل هو مجتهد، والمجتهد له أجره، فلا يصح التعنيف عليه.

    النوع الثاني: خلاف مذموم لا يعذر صاحبه

    النوع الثاني من أنواع الخلاف هو الخلاف المذموم الذي يعاقب عليه الإنسان ولا يعذر صاحبه: وهو الخلاف في أصل الدين، مثل: خلاف اليهود والنصارى والبوذيين، فهو خلاف مذموم غير معتبر وهذا واضح.

    النوع الثالث: الخلاف في قاعدة كلية من قواعد الدين، كتأويل الصفات، أو القول بأن الإيمان هو مجرد التصديق، أو جواز التوسل بالأولياء والصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم، أو نحو ذلكم من المسائل التي تكون في قاعدة من قواعد الدين المتفق عليها بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن الخلاف المذموم: الخلاف في المسائل الفقهية المبنية على الهوى، فإن الهوى يصير المسألة الفقهية التي هي من مسائل الاجتهاد إلى التفرق والخلاف المذموم، عندما يكون منشأ الخلاف هو الهوى، فإن الهوى ذمه الله سبحانه وتعالى، وهو داخل ضمن ذم التفرق.

    فالخلاف في الأسماء والصفات أو في الإيمان أو في القدر أو في اليوم الآخر أو في أي باب من أبواب العقيدة، أو أصول الأحكام المجمع عليها، الخلاف في هذا خلاف مذموم، وهو بدعة، ثم تختلف درجته بحسب نوعية المسألة المختلف فيها، ودرجة المخالفة.

    الأمور الموصلة إلى التفرق والاختلاف المذموم

    المسألة الثانية: الأمور الموصلة إلى التفرق كثيرة، ومنها ما يلي:

    الأول: الجهل، فإن الجهل يوصل إلى التفرق؛ لأن الإنسان عندما يبني عقيدته على جهل، فإنه يبنيها بناء غير شرعي يوصله إلى باطل.

    والثاني: البدع، فإن البدع توصل إلى التفرق، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159] قال الإمام البغوي : هم أهل البدع والأهواء، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وواقع الفرق الضالة يشهد على هذا، فإن الشيعة افترقوا إلى اثنين وسبعين فرقة، والخوارج اختلفوا، والقدرية اختلفوا، والجهمية اختلفوا، والصوفية اختلفوا، وكل هذه الفرق اختلفت، وهكذا الباطل يفرز باطلاً آخر، وينشئ باطلاً آخر.

    الثالث: اتباع المتشابه والهوى، وقد أنزل الله عز وجل القرآن وفيه آيات محكمة واضحة الدلالة، وآيات متشابهة محتملة الدلالة.

    والموقف الشرعي في ذلك أن الواضح يبقى واضحاً، وأما المتشابه فيرد إلى الواضح، كما قال الله عز وجل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، يعني: أصل الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7] يعني: الذين في قلوبهم هوى، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] إلى آخر الآية.

    فهذه الآية بينت أن القرآن على نوعين: نوع واضح الدلالة يسمى: المحكم، ونوع مشتبه الدلالة ويسمى: المتشابه.

    كما أن طرق الناس في التعامل مع هذه النصوص الشرعية على طريقين:

    الطريق الأول: طريق الراسخين في العلم، وهم الذين يردون المتشابه إلى المحكم ويسلمون به.

    والطريق الثاني: هم أهل الزيغ والهوى والرغبة النفسية الذين يلوون أعناق النصوص حتى تأتي على رغباتهم وشهواتهم، فهؤلاء قال الله عز وجل عنهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] إلى آخر الآيات.

    الأمر الرابع: ترؤس علماء السوء وجهال الناس.

    وهذا الأمر فيه حديث مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (قبل الساعة سنوات خداعة؛ يصدق فيهن الكاذب، ويكذب فيهن الصادق، ويخون فيهن الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيهم الرويبضة، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرويبضة قال: هو الرجل التافه يتكلم في أمور العامة).

    ومنها أيضاً: الحديث المشهور: (إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور الناس، وإنما يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق إلا رؤساء جهال، سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

    الخامس: اتباع الآباء والأجداد والعوائل، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، يعني: مهما يكن من الأمر، ما دام أبي على هذا المذهب فأنا عليه، حتى ولو كان باطلاً؛ فهذه نعرة جاهلية كما هو معلوم.

    وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

    وهذا لا شك أنه باطل وأنه سبب التفرق والتحزب والتعصب.

    السادس: اتخاذ مصدر للعقيدة وفهم للأدلة الشرعية غير القرآن والسنة، فإن القرآن والسنة هما مصدر العقيدة الأساسي الذي يؤخذ منه العقائد، فإذا أخذ الإنسان العقائد من غير الكتاب والسنة ضل؛ لأنه عند التنازع وعند التفرق لا بد أن يرد إلى القرآن والسنة، كما قال الله عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، والرد إلى الله يكون بالرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول يكون بالرد إليه في حياته، أو إلى سنته بعد وفاته.

    ومن هنا فالذين يأخذون العقيدة من العقل المجرد، هؤلاء مبتدعة وهم أساس التفرق.

    والذين يأخذون العقيدة من الإمام المعصوم -كما تظن الشيعة- هؤلاء أيضاً من أهل البدع.

    والذين يأخذون العقيدة من الكشف بطريقة رياضية نفسية معينة، وهم الصوفية، فهؤلاء أيضاً مبتدعة، وهم يفرقون الناس ويفرقون الأمة ويمزقون وحدتها.

    السابع: استعمال المصطلحات المجملة، كاستعمال أهل الكلام للجوهر والعرض والحيز والجهة ونحو ذلك، فيستخدمون مصطلحات يضمنونها معاني معينة ثم يحاكمون الناس إليها، فإذا قلت مثلا: أنا أفرد علو الله على خلقه، قالوا: إذاً أنت تثبت الجهة، قلنا: إن قصدتم بالجهة أن الله محصور في مكان واحد فهذا باطل، ولا نقول به، وإن قصدتم بالجهة أن الله في العلو فهذا حق دل عليه القرآن؛ ولهذا فإن قاعدة أهل السنة والجماعة في استعمال المصطلحات المجملة: هو ألا تنفى مطلقاً ولا تثبت مطلقاً، وإنما يستفصل عن مراد صاحبها، فإن بين مراده أقر الحق ورد الباطل.

    التحذير من التفرق والأهواء والبدع

    المسألة الثالثة: التحذير من التفرق والأهواء والبدع، والآيات والأحاديث في هذه المسألة كثيرة، فمنها: قول الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

    وقول الله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

    وقوله: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

    وقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].

    وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159].

    وقوله: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].

    ومن أعظم أسباب التفرق: النظر في أدلة القرآن والسنة بغير طريقة الصحابة رضوان الله عليهم؛ ولهذا فإن فهم الصحابة معتبر في فهم القرآن والسنة، وهذا ما يسميه أهل العلم بمنهج الاستدلال، والدليل على اعتبار فهمهم: قول الله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) إلى آخر الحديث.

    فهذا يدل على أن فهمهم وقولهم معتبران، وأن طريقتهم في فهم النصوص معتبرة، فمن ابتدع طريقة جديدة في فهم النصوص غير طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فقوله رد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

    الناجون من التفرق المذموم

    المسألة الرابعة: بيان حقيقة الناجين من التفرق المذموم وهم أهل السنة والجماعة، أهل السنة الجماعة هم أهل الحق الذين نجوا من التفرق والاختلاف، وهم الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم وعلى طريقتهم ممن جاء بعدهم إلى قيام الساعة؛ فليسوا حزباً معيناً، أو جماعة محددة، أو في بلد معين أو مكان محدد، وإنما ساروا على الحق الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم، ويمكن أن يكونوا في بلاد واحدة أو في بلدان مختلفة، ويمكن أن يعرفوا وألا يعرفوا، يزيدون في بعض الأوقات وينقصون في البعض الآخر، وهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، وفي لفظ: (منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : ظاهرين بالحجة أحياناً، وبالسيف أحياناً. يعني: ظاهرين بالحجة والحق دائماً، وقد يكون بالسيف أحياناً.

    والحديث عن تاريخ أهل السنة حديث طويل، فالجيل الأول هو جيل الصحابة، والجيل الثاني جيل التابعين، ثم جاءت الأجيال ممن بعدهم، نسأل الله عز وجل أن نكون على منهاجهم وطريقتهم.

    وليس قول الإنسان أنه من أهل السنة كشعار كاف في أنه معتبر منهم، فقد يقول الإنسان في بعض الأحيان أنه من أهل السنة وليس هو من أهل السنة، كقول الأشاعرة مثلاً: نحن من أهل السنة، وكقول الصوفية نحن من أهل السنة، وكقول غيرهم من الطوائف أنهم من أهل السنة، وعند التمحيص نجد أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، فليسوا شعاراً ينتسب الإنسان إليهم وكفى، وإنما لهم عقائد معينة ومحددة ومفصلة، وهي العقائد التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده.

    وتقريباً ظهر المصطلح هذا في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، عندما وقعت الفتنة كما سيأتي معنا عن نشأة الفرق.

    يقول ابن سيرين كما في مقدمة صحيح مسلم : كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فنقبل أهل السنة ونرد أهل البدعة، أو كما قال.

    حديث الافتراق

    المسألة الخامسة: حديث الافتراق، وهو حديث مشهور وصحيح وطويل في المعاني، تحدث الشاطبي رحمه الله عن هذا الحديث في كتابه (الاعتصام) في باب مستقل وهو الباب التاسع، وسماه: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين، وهو باب طويل تحدث فيه عن هذا الحديث، وبين ما فيه من الدرر وما فيه من المعاني المفيدة للإنسان.

    فوائد مستنبطة من حديث الافتراق

    ومن هذه الفوائد: أن المراد بالفرق في هذا الحديث: هي الفرق المنتسبة إلى الإسلام لا الكفر، فهذه الفرق التي افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، هذه الفرق ليسوا كفاراً، لكنهم من المسلمين المبتدعة، فمن كان من أهل هذه الفرق من المسلمين فهو مبتدع وداخل في حديث الافتراق.

    أما من وقع في بدعة مكفرة كبدع الباطنية وغلاة الصوفية كبدع ابن عربي الطائي مثلاً، وكبدع الجهمية، فليس داخلاً في حديث الافتراق.

    والدليل على أن المعني هم المسلمون: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة)، وفي لفظ: (ستفترق أمتي)، والمقصود بهذه الأمة وأمتي أي: المسلمون.

    ويدل أيضاً على أن المقصود هم المسلمون: المقابلة باليهود والنصارى، فإنه ذكر افتراق اليهود والنصارى ثم ذكر افتراق هذه الأمة، فالمقصود بهذه الأمة هم المسلمون؛ لأنه لو كان المعنى هو الافتراق العام في الأديان؛ لما ذكر افتراق اليهود والنصارى.

    إذاً: المعني بهذا الحديث هم الفرق المسلمة لكنها مبتدعة وضالة ومنحرفة عن الصراط المستقيم، وهناك فوائد أخرى ذكرها الشيخ يمكن أن تراجع في (الاعتصام).

    المؤلفات في الفرق

    المسألة السادسة: المؤلفات في الفرق والمذاهب المعاصرة، وهي كثيرة جداً، منها مؤلفات قديمة مثل: الفرق بين الفرق للبغدادي ، والملل والنحل للشهرستاني ، والفصل في الملل والنحل لـابن حزم الأندلسي ، والتنبيه والرد للملطي ، وفرق الشيعة للنوبختي ، والبرهان وغيرها.

    وليس كل هذه الكتب سالمة من الأخطاء، فكتاب الفرق بين الفرق مؤلفه من الأشاعرة، وكتاب الملل والنحل مؤلفه أيضاً من الأشاعرة وهو الشهرستاني ، وكتاب الفصل لـابن حزم ، وابن حزم له بعض الآراء التي وافق فيها الجهمية، وهكذا غيرها.

    ومن أفضل الكتب على الإطلاق التي صاحبها من أهل السنة هو: التنبيه والرد للملطي ، وليس كل المقالات المذكورة في هذه الكتب موجودة الآن، فبعضها قد انقرض وبعضها ما زال باقياً، فليست هي من الكتب التي تقرأ حتى يحذر الإنسان من الفرق، وإنما هي كتب علمية احتفظت بمقالات كثيرة من الفرق المبتدعة، وجاءت بعدهم فرق وافقتهم في هذا القول، كما سيأتي في الحديث عن نشأة الفرق بإذن الله تعالى.

    مبررات الكلام عن الفرق

    المسألة السابعة: هل للكلام في الفرق مبرر؟ بعض الناس يقول: لماذا تدرسون الفرق والمذاهب؟ أنتم تريدون أن تفرقوا المسلمين بهذه الطريقة، ونحن نسعى إلى وحدة المسلمين، ولا يصح أن تدرس هذه المذاهب بهذه الطريقة، وهذا ليس منهجاً صحيحاً.

    نقول: هذا القول مبني على جمع كلمة المسلمين، حتى ولو كان هذا مخالفاً لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يرى بعض هؤلاء الناس أن الخلاف مع الأشاعرة والصوفية والقدرية والمرجئة خلاف فرعي، بل إن بعض هؤلاء كان يقول: إن الخلاف مع الشيعة خلاف فرعي، وصرح بعضهم أن الخلاف بيننا وبين الشيعة كالخلاف بين الحنابلة والشافعية، وهذا قول باطل وخطير؛ لأن الخلاف بين أهل السنة والشيعة هو خلاف في حقيقة الدين، أي: في السنة أو البدعة أو الإسلام أو الكفر، ليس مثل الخلاف بين الحنابلة والشافعية في فهم الأدلة الشرعية، وكلهم معذورون؛ لأنهم اجتهدوا في طلب الحق.

    إذاً: هذا القول ليس بصحيح؛ لأنه مبني -كما سبق- بناء غير صحيح، ولو أننا وضعنا رءوسنا في الرمال، كما تفعل النعامة، وتغافلنا عن هذه الفرق، وحاولنا أن نتجاهلها، وقلنا: إنها ليست موجودة أو سكتنا عنها، فهل سنجمع كلمة الناس؟ وإذا جمعنا كلمة الناس فإنا سنجمعهم على خليط منسوج، مثل إنسان يجمع ماء صافياً مع سمن ولبن وأي شيء من القاذورات الأخرى التي لونها أسود، وسيحصل من هذا المزيج شيء آخر غير الماء القراح الذي كان يريده هذا الإنسان.

    ولهذا فالذين يريدون جمع هذه الفرق جميعاً، ويقولون: نحن نجمع كلمة المسلمين بهذه الطريقة، فهؤلاء يخالفون سنن الله في الكون، فإن جمع المسلمين جميعاً غير متحقق، ونحن مطالبون بأن نجمع ما نستطيع من المسلمين، لكن الخلاف واقع فيهم، فالواجب أن يتبع المسلم الحق ويسعى له.

    فالذي يصحح مذاهب الناس جميعاً قوله باطل، وليس موافقاً لأي قول من الأقوال، فلو سألت الصوفية فقلت: ما رأيكم في أهل السنة؟ لقالوا: هؤلاء ضالون مشبهة، أو لا يهتمون بتزكية النفوس.

    وإذا سألت الجهمية: ما رأيكم في أهل السنة؟ قالوا: هؤلاء يشبهون الله بخلقه، وإذا سألت القدرية: ما تقولون في الجبرية؟ قالوا: هؤلاء ضلال بل يكفرونهم، والجبرية يقولون في القدرية: إنهم كفار؛ لأنهم أنكروا علم الله عز وجل.

    إذاً: جمعهم بهذه الطريقة غير ممكن أبداً، والشيء الذي نعمله هو أن نأخذ الحق من مصدره، ولا نجمع الناس على الباطل، بل نجمعهم على الحق الذي في القرآن وفي السنة.

    والذي يجمع الناس على الحق الذي في القرآن والسنة سيجد له مخالفين، كالقدرية والمرجئة والشيعة وغيرهم، فلا يعبأ بذلك، وما دام أنه على الحق وأنه تأكد من صحة ما عليه من الحق فهو لا يعبأ بالمخالف؛ لأن منطلقه أقوى من منطلق ذاك، فمنطلقه من القرآن والسنة، ومنطلق هؤلاء من البدعة والضلالة.

    ولهذا فالكلام في الفرق له مبرر لما يلي:

    أولاً: أن الكلام في الفرق من تمييز الحق على الباطل، ومن الدعوة إلى الكفر بالطاغوت، واجتنابه، وهذا هو مهمة الرسل ومنهجهم، فالرسل لم يجمعوا الناس جميعاً، وإنما خطوا خطاً وأمروا الناس بأن يسيروا على هذا الخط وهو ما أمرهم الله به.

    ثانياً: أن محاربة الخارج عن السنة والمخالف لأمر الله وللعقيدة التي شرعها الله عز وجل تعتبر من جنس الجهاد في سبيل الله.

    ولما مرقت الخوارج على الصحابة أمروهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وناظرهم ابن عباس ، ورد منهم جماعة إلى الحق، فلم تبق منهم إلا مجموعة قاتلهم الصحابة بالسيف في النهروان وأبادوهم عن بكرة أبيهم.

    ثم كيف تقول: نريد أن نجمع المسلمين كلهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد ذم المبتدعة والضالين والمنحرفين عن السنة، وذم القدرية، فقال: (هم مجوس هذه الأمة)، والخوارج فقال: (هم كلاب النار)، فلا يمكن أن تجمع بين من يمدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من يذمه؛ ولهذا فمواجهة المبطل الذي يكون على بدعة هو من جنس الجهاد في سبيل الله.

    سئل الإمام أحمد عن أيهما أفضل: هل الرجل الذي يصلي ويصوم ويقرأ القرآن ويذكر الله ولا يرد على أهل البدع، أم الرجل الذي يرد على أهل البدع ويصلي ويصوم؟ فقال: الثاني أفضل، أي: الذي يرد على أهل البدع أفضل؛ لأن نفع الثاني متعدٍ. فعندما ترد على أهل البدع فأنت تحذر طائفة كبيرة من المسلمين من هذه العقيدة الضالة فيتركونها، وحينئذ تكون قد وضحت الحق وبينته ودعوت المسلمين إليه.

    قال الحافظ ابن طاهر المقدسي : سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول: عرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي: ارجع عن دينك وعن مذهبك، لكن يقال: اسكت عمن خالفك فأقول: لا أسكت.

    فهذه الفرق التي نتحدث عنها ليس كما يقول بعض الناس: إنها قديمة اندثرت وانتهت، فهذه الفرق لها وجود واقعي في حياة الناس، ولها مؤلفات ومؤلفون، ولها جماعات وأتباع، ولها قنوات، ومجلات، ولها تأثير بكل أنواع التأثير، وهي موجودة في التعليم، فكثير من مناهج التعليم في كثير من بلدان المسلمين على غير السنة، وموجودة في الإفتاء، فبعض بلدان المسلمين الإفتاء فيها على منهج الإباضية مثلاً، ويوجد أيضاً في الكتب والرسائل الجامعية، فهناك مؤلفات ما زالت تطبع إلى اليوم، سواء من كتب المتقدمين تحقق، أو كتب جديدة تخرجها الساحة لأشخاص جدد يتبنون هذه المذاهب.

    وهكذا الحياة العامة، فأنت إذا خرجت إلى كثير من بلدان المسلمين تجد أن الصوفية واقع حي في حياة المسلمين، وأن هناك من دعاة الصوفية اليوم من يريد جمع طرق الصوفية في العالم من أجل أن يجتمعوا للدعوة ولنشر التصوف في حياة المسلمين.

    وإذا خرجت إلى كثير من بلدان المسلمين تجد أن القبور قد شيدت، وأصبح لها خزنة يجمعون لها التبرعات، ولها أماكن تسال فيها الدماء للذبح ونحو ذلك، فالحياة العامة تشهد بهذا وتدل عليه، بل إن بعض الدول تبنت بعض عقائد هؤلاء كالشيعة مثلاً وغيرهم، فقد تبنتهم الدولة الصفوية قديماً، وإيران حديثاً وهكذا.

    فالفرق ما زالت موجودة إلى اليوم، فالحديث عنها حديث واقعي، ومن أبرز مجالات نشر الفرق: القنوات الفضائية، فنحن اليوم في هذا الزمان أمام غزو فضائي هائل، انتشر في حياة المسلمين، وأصبح كثير من المسلمين يتلقاه وهو في بيته وفي غرفة نومه، ويستمع إلى تقرير العقائد بألوان مختلفة وطرق متعددة، وأصبح كثير من الناس ما بين متبع للباطل، أو أشخاص لا يدرون ما هو الحق من الباطل، وهذا هدف أصيل عند بعض المفسدين من المنافقين، وهو أن يجعل الإنسان لا يعرف الحق من الباطل، وهذا باطل في ذاته.

    ومن هنا: فالحديث عن هذا الموضوع حديث مهم، ولن يكون حديثنا بقراءة أخبار الفرق الماضية التي اندثرت وغيرها، وإنما سنتحدث عن الفرق الواقعية التي لها أثر في حياة المسلمين.