الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووحدانيته، وأصلي وأسلم على قدوتي ومعلمي وقرة عيني وحبيبي محمد بن عبد الله، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وأوصيكم ما أوصى به محمد صلى الله عليه وسلم أمته: اهتدوا بهدي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين، نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم أصلح أولادنا وأرحامنا وأزواجنا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، آمين.
أما بعد: أيها الأحباب الكرام!
قال تعالى في كتابه الكريم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
الرَّحْمَنُ
[الرحمن:1] ثم بين الله صفة ودلائل رحمة الرحمن، فجاءت كل الآيات بعد أن ذكر الرحمن وذكر اسمه سبحانه دلائل على هذا الاسم العظيم.
كما أنه جاءت أسماء حسنى وصفات عليا لله رب العالمين، لكن معظم سورة الرحمن دليل من الله على أنه رحمن، قال:
الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
[الرحمن:1-4] إلى آخر السورة، فتبين أن من رحمة الرحمن، تعليم الإنسان البيان.
والبيان: هو التعبير عن مراد الإنسان بالكلمات، ولولا هذا التعبير بالكلمات لما تفاهم الإنسان ولأصبح العيش عليه عسيراً، والله كرمه على سائر المخلوقات أنه علمه جميع الأسماء، ما من أمر يراه الإنسان سواء هذا الأمر من خلق الله، أو من صناعة الإنسان واختراعه وابتكاره، إلا بهذا البيان يجعل له اسماً كائناً ما كان، ولن تجد شيئاً على وجه الأرض ليس له اسم! أي مقدرة هذه وأي رحمة هذه وأي سر أودعه الله في ذلك الإنسان؟!
سمى الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم سورة كاملة باسم (الشعراء) والإنسان يتفاهم بمراده بأسلوبين: أسلوب الشعر، وأسلوب النثر، فجاء القرآن ليس شعراً وليس نثراً، وإنما جاء قرآن، لا تقل عنه: شعراً؛ حتى يأتي الشعراء ويقولون: نعمل مثله، ولا تقل عنه: نثراً؛ حتى يأتي الأدباء فيقولون: نعمل مثله، إنما هو قرآن.
تميز عليهم بهذا الاسم: أنه قرآن لا ريب فيه، وهو كلام رب العالمين، لا يعرفه ولا يستطيع مثله الشعراء ولا الأدباء ولا الفصحاء ولا البلغاء، مهما اجتمعوا مع الإنس والجن في كل زمان ومكان، لا ولن يستطيعوا أن يأتوا بآية أو سورة.
سمى الله سورة من سوره بالشعراء، ثم ذم الشعراء واستثنى منهم المسلمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ثم بهذا الشعر ينصرون المظلوم على الظالم وأثنى الله عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ذم الشعر الماجن الخليع فقال: (لأن يملأ جوف ابن آدم قيحاً فيريه خير له من أن يملأ شعراً) ويريد به النبي صلى الله عليه وسلم الشعر الماجن الخبيث، وأما شعر الحكمة والزهد فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويشجعه، وله شعراء ينافحون باللسان، كما ينافح الجنود بالسنان، فكان من بينهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وكعب بن زهير الذي مدح النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدة طويلة اسمها: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول" وعلي بن أبي طالب ، وغيرهم ممن كان يقول الشعر دفاعاً عن الإسلام.
وكذلك هناك شاعر قريش المشهور أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، الذي أسلم وقد كان يهاجم الدين فلما أسلم قطع على نفسه عهداً أن يقول في كل بيت هاجم فيه الإسلام بيتاً ينصر فيه الإسلام.
يقول الله عن هؤلاء الشعراء الطيبين بعد أن ذم الخبثاء الماكرين، وفي زماننا هذا الذين يروجون للجنس والدعارة والمرأة، فيصفونها بصفات قبيحة تثير الغريزة وتلهب الشهوات، ولهم دواوين كثيرة مشهورة، الله أثنى على الصالحين فقال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
[الشعراء:227] الحقيقة أن ذكر الانتصار هنا في هذه الآية وهي آخر آية من سورة الشعراء.
أيها الأحباب الكرام: بعد هذه المقدمة السريعة نعود إلى دور هذه الشعر الذي ينتصر للشعوب المظلومة أيام الاستعمار، الاستعمار غزا العالم العربي والإسلامي -كما تعلمون- وسحق الأبرياء، وقصف الدور، واستغل الخيرات، وامتص الدماء، لكن كيف استطاعت هذه الشعوب الضعيفة أن تثور في وجهه في كثير من ديار المسلمين، وأن تأتيه مجردة بأيديها وبمخالبها، أمام الدبابات والطائرات ثم في النهاية تنتصر عليه؟
لقد كان محركها الأول كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء دور الشعراء والأدباء الذين كانوا يقفون جنباً إلى جنب مع الوعاظ والخطباء في ميادين الجهاد، فيلهبونهم بالخطب، ويطعمونها بالقصائد، فتتحرك قلوب الشعوب، فتثور بعد ذلك على المستعمر وتقضي عليه قضاءً مبرماً.
وبداية هذا الفن أن الاستعمار إذا كان له صولة وجولة وقوة، يبدءون بالأسلوب الرمزي لأن الأسلوب الرمزي يجعل الناس يفهمون المراد، والعدو ليس بيده مستمسك عليهم، وهذا فن من فنون الشعر في محاربة الاستعمار، ونحن يوم أن كنا أطفالاً، كنا ندرس في الابتدائي هذا الشعر الرمزي، لكن مع الأسف الشديد أن المدرس الذي كان يعطينا هذا الشعر لم يبين لنا مقصد قائله، إنما كانوا يعطوننا إياها كمحفوظات فقط، ويشرح معانيها فقط. لكن لماذا قيلت هذه المحفوظات على لسان الحيوانات؟ هذا هو السؤال؟
هناك كتاب قديم اسمه كليلة ودمنة يتكلم على لسان الحيوانات، أيام ما كان الصولجان والسلطان يستبد، فلما جاء الاستعمار على العالم العربي، جاء الشعراء يستخدمون نفس الأسلوب: ديك، هدهد، ثعلب، قط، قرد.. وهكذا الحيوانات يدور بينها حوار، فالناس المظلومون يعرفون مَن المعني ويعرفون من المراد.
يوم أن كنا أطفالاً كنا نحفظ هذه كمحفوظات، لكن هدفها الثوري والسياسي والجهادي لم نكن نعرفه إلا بعد أن كبرنا وفكرنا ودرسنا التاريخ.
قصيدة بعنوان (الثعلب الماكر)
لما دخل
نابليون الفرنسي
مصر ورأى شعبه قوياً كثيراً فتياً احتال عليهم، جاء إلى الأزهر فوجد العلماء يدرسون فيه
صحيح البخاري ، قال لهم: لماذا أنتم تقرءون هذا الكتاب؟
طبعاً وضع على رأسه عمامة كبيرة، ولبس جبة مثل المسلمين.
فقالوا له: نقرأ صحيح البخاري حتى يهزم الله الفرنسيين.
فقال: لماذا تطلبون الهزيمة للفرنسيين، أنا قائدهم نابليون وقد أسلمت؟
انظر إلى الكذاب، فلما سمعوا منه ذلك قاموا يهنئونه، ويهنئون السلطان الذي كان يسير برفقته، ثم كانت النهاية أن هذا الثعلب الخبيث الماكر امتص خيرات أرض مصر المسلمة، حتى قامت عليه بثورة عارمة طردته شر طردة.
وبداية هذا التحريك الجهادي، كان في قصيدة بعنوان (الثعلب الماكر):
تصور الثعلب الماكر أصبح الآن يسب الماكرين:
لاحظ: لأن الثعلب يحب الطيور والدجاج فطالب الشعب أن يزهد في الطير لكي يأكله هو، وهذه هي أول صورة من صور الاستعمار؛ يزهدك في الشيء حتى يأخذه هو:
لماذا اختار الديك؟ لكي يأكله في الظلام.
فأتى الديكَ رسولٌ (الذي أرسله الاستعمار):
ثم أخذ الديك يعطيه سنداً تاريخياً للجرائم التي فتك فيها الاستعمار في أجداد الديوك:
قصيدة بعنوان (الليث ملك الضواري)
ثم ينقلنا شاعر آخر إلى صورة أخرى، وذلك أن سلطاناً من السلاطين مات وزيره، وكان عادلاً حصيفاً حكيماً تنعم به العباد والبلاد، ولكن الغفلة التي عند ذلك الصولجان جعلته لم يستشر ولم يستخر، وإنما اختار الحمار وزيراً له، فلما جاء هذا الحيوان البليد، وأراد أن ينفذ ويخطط، انقلبت الحياة كلها فوضى، هذه الصورة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، الشاعر الرمزي لا يستطيع أن يوجه إصبع الاتهام أو النصيحة مباشرة، لكن باستخدام الحوار بين الحيوانات يعطي ذلك المعنى الساخر الذي يعري ذلك المجرم.
استمع.. هذه أيضاً كنا نحفظها وندرسها:
الليث: هو الأسد، والضواري: هي الوحوش-:
طبيعة الشعب دائماً يهتف باسم السلطان: يعيش ويعيش، قبل أن يطلب الحاجة التي يريدها:
هذا الليث يحتج يقول: أنا ليس في تاريخي ولا في جدودي واحد مهزلة مثلي!:
فهذا الأسلوب الساخر أخذ يحرك القلوب النائمة ويوقظها، وبدأت تتلقفه الألسن، وتحفظه الذاكرة وتنشره.
قصيدة الهدهد والنملة
وتجد الشاعر مرة يعطي صورة للحق المسلوب من الضعيف بواسطة القوي، وخاصة القوي إذا كان له سلطان يدعمه، فيجعل الضعيف نملة، ويجعل صاحب التاج هدهد، ثم يكون الحق المسلوب حبة قمح، حبة قمح هي الخبز الذي يعيش عليه كل إنسان، وإذا فقد الخبز من المجتمعات مات الكبير والصغير، وهناك ثورات قامت في دول من أجل لقمة الخبز.
ولا أنسى الثورة الإنجليزية عندما قامت، واجتمع الناس يريدون تحطيم القصر الملكي، ونظرت الملكة إلى الشعب الجائع وبجوارها ابنتها الصغيرة بيدها كعك، فقالت الطفلة الصغيرة: ماذا يريد الشعب؟ لماذا يصرخ؟!
فقالت الملكة: يصرخ لأنه لم يجد خبزاً، فقالت الصغيرة: إذا لم يجد خبزاً فليأكل الكعك!
انظر ماذا قالت حسب معيشتها وفهمها فهي في القصر لا تجوع أبداً، إذا لم تجد خبزاً أكلت كعكاً، فهي تظن أن الشعب هكذا دائماً وأبداً، لماذا هو غضبان؟ لا يجد خبزاً إذن لماذا لا يأكل كيكاً أو بسكوتاً؟
الشاعر يقول:
وهذا الوقوف سيقفه كل ظالم في الدنيا أو في الآخرة، كل سارق؛ لأن الذنب كما يقول الحسن البصري رحمة الله عليه: [إن للمعصية في القلب وعلى الوجه ظلمة، ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه] …
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
[الشعراء:227] هذا الهدهد وفوق رأسه التاج لا ينام ولا يهنأ، ولا يأكل ولا يشرب؛ لأن صدره من الداخل ملتهب، سافر إلى الفرات ودجلة فشرب منها فلم تذهب الحرارة، سافر إلى النيل وشرب منه فازدادت الحرارة، الماء كالبنزين يشعل صدره من الداخل، فلما أتى إلى قاضي القضاة يشتكي إليه ذلك الالتهاب المتفجر في قلبه، قال: السر أنك أنت ظالم سارق رد الحقوق إلى أهلها، عند ذلك يعود ليلك هانئاً، وطعامك هانئاً، وتستطيع بعد ذلك أن تعيش.
لو اجتمعت لجنة أطباء وأخذوا له أشعة (x) حتى يروا العلة الموجودة لم يجدوا في صدره شيئاً، لكن في صدره ذنب ومعصية وخطيئة:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً
[طه:124] وهذه هي المعيشة الضنك.
قصيدة القط ومخاطبته للسمك في البحر
قصيدة الوزير عميل الاستعمار
شعر الحكمة ينتقل من مرحلة الرمزية إلى المرحلة العلنية الواقعية الحقيقية، نجده أيضاً يتكلم بنفس الوضوح والقوة، استمع ماذا يقول هذا الشاعر عن ذلك الوزير الذي يعمل للاستعمار، وما هو إلا أداة يحركها أو حجر شطرنج:
أي: المستشار الإنجليزي، كان كل وزير له مستشار إنجليزي، يسمونه خبيراً أو مستشاراً لا يستطيع أن يتصرف إلا بأمر هذا الصاحب المستشار.
وفعلاً ثارت معظم الشعوب على أمثال أولئك الوزراء، وعلى مستشاريهم من الخبراء الاستعماريين، وأجلوهم عن معظم الأوطان العربية والإسلامية، بأنفاس أمثال هذه القصائد التي تقول:
ولا ننس مليون قتيل في أرض الجزائر حتى استطاعت أن تخرج الاستعمار الفرنسي من أرض الجزائر.
قصيدة تُبين حال الملوك الظلمة
كما ينقلنا شاعر الحكمة أيضاً نقلة ثانية ليس بالأسلوب الرمزي، وإنما بالأسلوب الواقعي الحقيقي.
ثم يعطينا صورة عجيبة، هذه الصورة تتكلم عن فئة من الناس، يشبعون إذا جاع الناس، ويلبسون إذا عري الناس، ويصحون إذا مرض الناس، ويغنون إذا فقر الناس، ويبكون إذا فرح الناس، ويفرحون إذا بكى الناس، أولئك فئة يرقصون على الأشلاء والدماء، ويقيمون في كل مكان مناحة ولا يبالون، إمامهم في ذلك فرعون الذي شعاره:
يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
[القصص:4] وهذه صفة ليست مقصورة لزمن معين وهو الزمن الفرعوني.. لا، ما دام هناك على وجه الأرض حق وباطل فهما في صراع إلى يوم القيامة.
استمع ماذا يقول الشاعر عن هذه الفئة:
الناس تكد عليهم وهم جالسون فقط يأكلون ويشربون!:
سخينة من نخالة: أي قليل من نخالة حتى لا يعطون الشعب:
تصوير عجيب لهذه الفئة من الناس المتكررة في كل زمان ومكان.
قصيدة تبين إرادة الاستعمار للشعب أن يكون مكبلاً
ثم نرى شاعر الحكمة أيضاً أمام كل مناد بالبيان الإلهي الذي ذكره:
الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ
[الرحمن:1-4] من أراد أن يبين البيان مباشرة أقلق وصودر فكره وكلامه، يقول شاعر الحكمة عن ذلك:
وهذا الذي أراده العدو والاستعمار الترنم والتغني، أعداؤنا يأتوننا بالسلاح، الغزو الفكري، والغزو العسكري، وكنا نحن أكثر من ثلاثين سنة نسهر ليلة الجمعة "هل رأى الحب سكارى مثلنا" غناء من الساعة العاشرة إلى أن يطلع الفجر وتصفيق للغناء مستمر كل ليلة جمعة.
إذاً كما يقول الشاعر:
ترنحوا من الخمر، وترنموا بالغناء؛ لأن السكران إذا سكر يغني.
أنتقل بعد ذلك إلى الزهد، والزهد لا تظنون عندما أذكره أنه توهيمات روحية لدراويش موجودين في زوايا، لا. وإنما هناك نوع من أنواع الزهد عبر فانتقل إلى عالم الظالمين، ولكن ليس في الدنيا إنما في البرزخ، النهاية المصيرية الحاسمة، فهذا
أبو العتاهية استمع ماذا يقول، عش معي بقلبك:
ولئن نجوت (أي يوم القيامة)
أين الألى؟ أي: أين الملوك الأولين؟
أرأيتم؟
شعر زهد، لكن عبر به إلى ذلك العالم الذي ينتقل فيه الإنسان، الذي يعيش على ديباج من حرير ويضع أجمل البخور، فإذا هو مجندل في الحجارة تحت الأرض!!
ثم يقول في قصيدة ثانية:
من رب ذلك؟ الله.
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
[الطارق:9].
أبو العتاهية يعظ هارون الرشيد على لسان الملاحين
لما آلت الخلافة إلى
هارون الرشيد جاءه الشعراء من جميع الأصناف، منهم من يطريه ويمدحه ما ليس فيه، وتأخر
أبو العتاهية فأودعه
هارون في السجن، ثم ركب يوماً الزورق الملكي، الذي يسمونه في زماننا هذا "يخت" فلما مشى في نهر
دجلة وإذا الملاحون يتغنون بكلام غير لائق، الملاحون والبحارة أناس ثقافتهم الدينية والعلمية خفيفة قليلاً، فيقولون كلاماً غير طيب، فسمعهم الخليفة فغضب، وقال: من الشاعر الذي يسوق لهم قصيدة يحفظونها هي خير من هذا الكلام؟
قالوا: إنه أبو العتاهية، الذي وضعته في السجن، قال: أخرجوه، ثم أمره أن يكتب قصيدة ويُحفظها الملاحين حتى إذا الخليفة تمشى في (اليخت) يسمع كلاماً ينفعه، ولا يسمع موسيقى أو يسمع كلاماً ماجناً كما تفعل بعض الأغاني.. لا، فـأبو العتاهية نظم قصيدة وحفظها الملاحين، وخرج الخليفة فأخذ الملاحون ينشدون بها، اسمع ماذا قالوا:
رحن في الوشي: أي العروسة يلبسونها ليلة العرس فتصبح ميتة، الله يكفينا الشر.
يوجه الكلام إلى هارون الرشيد :
فلما سمع هارون الرشيد ذلك الكلام من الملاحين بصوت جماعي بكى حتى اخضلت لحيته من الدموع، وهون من الرحلة، ورجع مرة ثانية إلى بيته يقرأ القرآن ويبكي في الصلاة.
فأصبحت للكلمة البيانية الشعرية أثر في تعديل اعوجاج المعوجين، وإصلاح ظلم الظالمين.
قصيدة أبي العتاهية في الآداب
وأختم درسي هذا من شعر الزهد والحكمة بقصيدة فريدة من نوعها لـ
أبي العتاهية وهي أرجوزة، أجمع النقاد والأدباء أنها احتوت على لباب الحكمة، وقد احتوت هذه الأرجوزة على أربعة آلاف بيت، ما استطاع الأدباء إلا أن يجمعوا هذا العدد القليل، يقول:
سمت: من السوم، أي أنك إذا ذهبت لتشري بضاعة لا تنشف ريق صاحب الدكان، يقول لك: بعشرة. تقول: لا، بسبعة، بستة، بخمسة ونصف.. لا، لماذا هذا؟ لم لا تكون سمحاً حتى يكون الله سمحاً.
أي: إنه إذا كان قرينك ورفيقك سيئ لا تتوقع أنه يصلحك أبداً، إذا السكين بينها وبين اللحم صداقة يكون بين الصالح والفاسق صداقة، نعم:
هذا الذي ضيع شبابنا؛ شباب، فراغ، ومال، أصبح يحط المسجل على أغاني جاكسون ولا يبالي صدم الناس أو آذاهم.
أي: لا تغالِ وتصبح من الذين يتعصبون وكن وسطاً.
أيها الأحباب الكرام.. وإلى لقاء آخر إن شاء الله مع شعر الزهد والحكمة، لكي نأخذ خلاصة عقول العقلاء، ولب الألباء، فنسأل الله تعالى أن يجعل ما سمعنا لنا نوراً في قلوبنا، وفهماً في أذهاننا، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، يجري الخير على أيدينا إلى يوم القيامة.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته، ولا مسافراً إلا حفظته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا عدواً إلا قصمته برحمتك يا أرحم الراحمين!
هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.