www.islamweb.net/ar/

الشعر والشعراء للشيخ : أحمد القطان

  • التفريغ النصي الكامل
  • لقد امتدح الله شعراء وذم آخرين، فمدح الله الشعراء الذين سخروا شعرهم في طاعة الله ونصرة دين الإسلام، وذم الشعراء أهل الغزل والفسق والفجور وحماة الباطل، ولذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعراء ينافحون عنه وعن دين الإسلام، وقد اقتدى الخلفاء والأمراء والملوك بذلك فجعلوا يشجعون الشعر والشعراء. حيث إن للشعر أثراً كبيراً في انهيار العدو، وكشف عوره، ولذلك كان للشعر أثر كبير في دحر الاستعمار وثوران الشعوب عليه، وله أثر كبير كذلك في الوعظ والزهد والرقائق.

    الشعر الممدوح والمذموم في الشرع

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووحدانيته، وأصلي وأسلم على قدوتي ومعلمي وقرة عيني وحبيبي محمد بن عبد الله، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وأوصيكم ما أوصى به محمد صلى الله عليه وسلم أمته: اهتدوا بهدي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.

    اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.

    اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين، نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد.

    اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم أصلح أولادنا وأرحامنا وأزواجنا.

    اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، آمين.

    أما بعد: أيها الأحباب الكرام!

    قال تعالى في كتابه الكريم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الرَّحْمَنُ [الرحمن:1] ثم بين الله صفة ودلائل رحمة الرحمن، فجاءت كل الآيات بعد أن ذكر الرحمن وذكر اسمه سبحانه دلائل على هذا الاسم العظيم.

    كما أنه جاءت أسماء حسنى وصفات عليا لله رب العالمين، لكن معظم سورة الرحمن دليل من الله على أنه رحمن، قال: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4] إلى آخر السورة، فتبين أن من رحمة الرحمن، تعليم الإنسان البيان.

    والبيان: هو التعبير عن مراد الإنسان بالكلمات، ولولا هذا التعبير بالكلمات لما تفاهم الإنسان ولأصبح العيش عليه عسيراً، والله كرمه على سائر المخلوقات أنه علمه جميع الأسماء، ما من أمر يراه الإنسان سواء هذا الأمر من خلق الله، أو من صناعة الإنسان واختراعه وابتكاره، إلا بهذا البيان يجعل له اسماً كائناً ما كان، ولن تجد شيئاً على وجه الأرض ليس له اسم! أي مقدرة هذه وأي رحمة هذه وأي سر أودعه الله في ذلك الإنسان؟!

    سمى الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم سورة كاملة باسم (الشعراء) والإنسان يتفاهم بمراده بأسلوبين: أسلوب الشعر، وأسلوب النثر، فجاء القرآن ليس شعراً وليس نثراً، وإنما جاء قرآن، لا تقل عنه: شعراً؛ حتى يأتي الشعراء ويقولون: نعمل مثله، ولا تقل عنه: نثراً؛ حتى يأتي الأدباء فيقولون: نعمل مثله، إنما هو قرآن.

    تميز عليهم بهذا الاسم: أنه قرآن لا ريب فيه، وهو كلام رب العالمين، لا يعرفه ولا يستطيع مثله الشعراء ولا الأدباء ولا الفصحاء ولا البلغاء، مهما اجتمعوا مع الإنس والجن في كل زمان ومكان، لا ولن يستطيعوا أن يأتوا بآية أو سورة.

    سمى الله سورة من سوره بالشعراء، ثم ذم الشعراء واستثنى منهم المسلمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ثم بهذا الشعر ينصرون المظلوم على الظالم وأثنى الله عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ذم الشعر الماجن الخليع فقال: (لأن يملأ جوف ابن آدم قيحاً فيريه خير له من أن يملأ شعراً) ويريد به النبي صلى الله عليه وسلم الشعر الماجن الخبيث، وأما شعر الحكمة والزهد فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويشجعه، وله شعراء ينافحون باللسان، كما ينافح الجنود بالسنان، فكان من بينهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وكعب بن زهير الذي مدح النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدة طويلة اسمها: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول" وعلي بن أبي طالب ، وغيرهم ممن كان يقول الشعر دفاعاً عن الإسلام.

    وكذلك هناك شاعر قريش المشهور أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، الذي أسلم وقد كان يهاجم الدين فلما أسلم قطع على نفسه عهداً أن يقول في كل بيت هاجم فيه الإسلام بيتاً ينصر فيه الإسلام.

    يقول الله عن هؤلاء الشعراء الطيبين بعد أن ذم الخبثاء الماكرين، وفي زماننا هذا الذين يروجون للجنس والدعارة والمرأة، فيصفونها بصفات قبيحة تثير الغريزة وتلهب الشهوات، ولهم دواوين كثيرة مشهورة، الله أثنى على الصالحين فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227] الحقيقة أن ذكر الانتصار هنا في هذه الآية وهي آخر آية من سورة الشعراء.

    شروط الشعر الممدوح في الشرع

    انظر.. السورة اسمها (الشعراء) وفي آخر آية يبين الله هدف الشاعر وشروط قبول الشعر، وإذا انحرف الشاعر عن هذه الشروط فشعره كله باطل، وهذه الشروط هي:

    الشرط الأول: أن يكون مؤمناً بالله، واليوم الآخر، والملائكة والكتاب، والنبيين، والقدر خيره وشره من الله تعالى والتي هي أركان الإيمان فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227] لاحظت.. أن يكون مؤمناً، ثم لا يكفي أن يكون مؤمناً لأن الإيمان يزيد بالعمل وينقص بالمعصية، انتبه! هذه عقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح ، قال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] أي أن الذي يقول: الإيمان في قلبي ولا أصلي، ولا أسرق.. لا، هذا كذاب لو كان في قلبه إيمان لوجدنا أثره على الجوارح، فلهذا الله عندما قال: الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227] لم يكتف، وإنما قال: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227].

    ثم إن طبيعة الشعر يلهي ولو كان شعراً صالحاً، الإنسان عندما يفكر فيه، ويأتي بالتفعيلات والأوزان، ويقدم كلمة ويؤخر كلمة، ويبدأ يصفف ويعرضها مرتين، قد تأخذ منه القصيدة الواحدة شهراً، فجاء بعد الإيمان والعمل الصالح ذكر الله، حتى لا يلهى بكثرة الترداد والتفكير والسهر في كتابة قصيدة فقال: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الشعراء:227] فذكر الله يقدم على ذلك.

    ثم الشرط الخامس قال: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227] أي: ليكن شعرك في خدمة المظلومين والمعذبين والمضطهدين والفقراء والمساكين والمسجونين من الدعاة الصادقين والمهاجرين والأنصار الذين طردوا من ديارهم وفي كل زمان قال: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227].

    ثم أعطانا الله نتيجة هذا الشعر وهو تهديد من الله يوجه إلى جميع الظالمين، فإذا أنتم أيها الظالمون لم تعتبروا بنصيحة الشعراء وحكمة الحكماء، فاعلموا أن منقلبكم عند الله أسوء منقلب، ومصيركم إلى النار وبئس القرار فقال في آخر الآية: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].

    والسين هنا تفيد قرب العقوبة، فالله لم يقل: (وسوف يعلم الذين ظلموا) لأن سوف في اللغة العربية تفيد التراخي والزمن البعيد، لكن السين هنا تفيد قرب الزمن أي: يا ظالم.. انتظر عقاب الله عاجلاً غير آجل، في الدنيا قبل الآخرة، وكم رأينا بيتاً واحداً من الشعر حرك القوة على الظالمين فقضى عليهم ببيت واحد.

    ولا ننسى مذبحة البرامكة في عهد هارون الرشيد رحمة الله عليه، عندما أرادوا أن يسيطروا على الخلافة الإسلامية، وأخذوا يبثون قوتهم في كل مكان، وكسبوا قلوب الناس، فبيت واحد من الشعر سمعه هارون الرشيد وهو غضبان وحزين وخائف على الخلافة، يقول فيه الشاعر:

    واستبدت مرة واحدة      إنما العاجز من لا يستبد

    أي: أنت عاجز، ولو أنك استبديت بهؤلاء، وأقمت عليهم حد الله سبحان الله تعالى لما أفسدوا في الأرض؛ فقال هارون الرشيد: لأستبدن بإذن الله، فلما أصبح الصبح قطع رءوسهم أجمعين، فاستقر الملك، واندحر الخوارج ، وقتل الشعوبيون، وعاد الإسلام مستقراً فيجاهد هارون الرشيد عاماً ويحج عاماً، بعد أن تحرك ببيت واحد من الشعر.

    إذاً عقوبة الله تحل بالظالم: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].

    الشعر ودوره في انتصار الشعوب على الاستعمار

    أيها الأحباب الكرام: بعد هذه المقدمة السريعة نعود إلى دور هذه الشعر الذي ينتصر للشعوب المظلومة أيام الاستعمار، الاستعمار غزا العالم العربي والإسلامي -كما تعلمون- وسحق الأبرياء، وقصف الدور، واستغل الخيرات، وامتص الدماء، لكن كيف استطاعت هذه الشعوب الضعيفة أن تثور في وجهه في كثير من ديار المسلمين، وأن تأتيه مجردة بأيديها وبمخالبها، أمام الدبابات والطائرات ثم في النهاية تنتصر عليه؟

    لقد كان محركها الأول كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء دور الشعراء والأدباء الذين كانوا يقفون جنباً إلى جنب مع الوعاظ والخطباء في ميادين الجهاد، فيلهبونهم بالخطب، ويطعمونها بالقصائد، فتتحرك قلوب الشعوب، فتثور بعد ذلك على المستعمر وتقضي عليه قضاءً مبرماً.

    وبداية هذا الفن أن الاستعمار إذا كان له صولة وجولة وقوة، يبدءون بالأسلوب الرمزي لأن الأسلوب الرمزي يجعل الناس يفهمون المراد، والعدو ليس بيده مستمسك عليهم، وهذا فن من فنون الشعر في محاربة الاستعمار، ونحن يوم أن كنا أطفالاً، كنا ندرس في الابتدائي هذا الشعر الرمزي، لكن مع الأسف الشديد أن المدرس الذي كان يعطينا هذا الشعر لم يبين لنا مقصد قائله، إنما كانوا يعطوننا إياها كمحفوظات فقط، ويشرح معانيها فقط. لكن لماذا قيلت هذه المحفوظات على لسان الحيوانات؟ هذا هو السؤال؟

    هناك كتاب قديم اسمه كليلة ودمنة يتكلم على لسان الحيوانات، أيام ما كان الصولجان والسلطان يستبد، فلما جاء الاستعمار على العالم العربي، جاء الشعراء يستخدمون نفس الأسلوب: ديك، هدهد، ثعلب، قط، قرد.. وهكذا الحيوانات يدور بينها حوار، فالناس المظلومون يعرفون مَن المعني ويعرفون من المراد.

    يوم أن كنا أطفالاً كنا نحفظ هذه كمحفوظات، لكن هدفها الثوري والسياسي والجهادي لم نكن نعرفه إلا بعد أن كبرنا وفكرنا ودرسنا التاريخ.

    قصيدة بعنوان (الثعلب الماكر)

    لما دخل نابليون الفرنسي مصر ورأى شعبه قوياً كثيراً فتياً احتال عليهم، جاء إلى الأزهر فوجد العلماء يدرسون فيه صحيح البخاري ، قال لهم: لماذا أنتم تقرءون هذا الكتاب؟

    طبعاً وضع على رأسه عمامة كبيرة، ولبس جبة مثل المسلمين.

    فقالوا له: نقرأ صحيح البخاري حتى يهزم الله الفرنسيين.

    فقال: لماذا تطلبون الهزيمة للفرنسيين، أنا قائدهم نابليون وقد أسلمت؟

    انظر إلى الكذاب، فلما سمعوا منه ذلك قاموا يهنئونه، ويهنئون السلطان الذي كان يسير برفقته، ثم كانت النهاية أن هذا الثعلب الخبيث الماكر امتص خيرات أرض مصر المسلمة، حتى قامت عليه بثورة عارمة طردته شر طردة.

    وبداية هذا التحريك الجهادي، كان في قصيدة بعنوان (الثعلب الماكر):

    برز الثعلب يوماً     في ثياب الواعظينا

    ومشى في الأرض يهد     ي ويسب الماكرينا

    تصور الثعلب الماكر أصبح الآن يسب الماكرين:

    ويقول الحمد لله     إله العالمينا

    يا عباد الله توبوا     فهو خير التائبينا

    واطلبوا الديك يؤذن     لصلاة الصبح فينا

    لاحظ: لأن الثعلب يحب الطيور والدجاج فطالب الشعب أن يزهد في الطير لكي يأكله هو، وهذه هي أول صورة من صور الاستعمار؛ يزهدك في الشيء حتى يأخذه هو:

    وازهدوا في الطير     إن العيش عيش الزاهدينا

    واطلبوا الديك يؤذن     لصلاة الصبح فينا

    لماذا اختار الديك؟ لكي يأكله في الظلام.

    فأتى الديكَ رسولٌ (الذي أرسله الاستعمار):

    فأتى الديك رسولٌ      من إمام الناسكينا

    عرض الأمر عليه     وهو يرجو أن يلينا

    فأجاب الديك عذراً     يا أضل المهتدينا

    ثم أخذ الديك يعطيه سنداً تاريخياً للجرائم التي فتك فيها الاستعمار في أجداد الديوك:

    عن جدودي من ذوي التيجان     ممن دخل البطن اللعينا

    إنهم قالوا وخير القول     قول العارفينا

    مخطئ من ظن يوماً     أن للثعلب دينا

    قصيدة بعنوان (الليث ملك الضواري)

    ثم ينقلنا شاعر آخر إلى صورة أخرى، وذلك أن سلطاناً من السلاطين مات وزيره، وكان عادلاً حصيفاً حكيماً تنعم به العباد والبلاد، ولكن الغفلة التي عند ذلك الصولجان جعلته لم يستشر ولم يستخر، وإنما اختار الحمار وزيراً له، فلما جاء هذا الحيوان البليد، وأراد أن ينفذ ويخطط، انقلبت الحياة كلها فوضى، هذه الصورة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، الشاعر الرمزي لا يستطيع أن يوجه إصبع الاتهام أو النصيحة مباشرة، لكن باستخدام الحوار بين الحيوانات يعطي ذلك المعنى الساخر الذي يعري ذلك المجرم.

    استمع.. هذه أيضاً كنا نحفظها وندرسها:

    الليث: هو الأسد، والضواري: هي الوحوش-:

    الليث ملك الضواري     وما تضمه الصحاري

    سعت إليه الرعايا     يوماً بكل انكسار

    قالت تعيش وتبقى     يا دامي الأظفار

    طبيعة الشعب دائماً يهتف باسم السلطان: يعيش ويعيش، قبل أن يطلب الحاجة التي يريدها:

    قالت تعيش وتبقى     يا دامي الأظفار

    مات الوزير فمن ذا      يسوس أمر الضواري

    قال الحمار وزيري      قضى بذاك اختياري

    فاستضحكت ثم قالت      ماذا رأى في الحمار

    وخلفته وطارت      بمضحك الأخبار

    حتى إذا الشهر ولى      كليلة أو نهار

    لم يشعر الليث إلا      وملكه في دمار

    القرد عند اليمين      والكلب عند الشمال

    والقط بين يديه      يلهو بعظمة فار

    قال من في جدودي      مثلي عديم الوقار

    هذا الليث يحتج يقول: أنا ليس في تاريخي ولا في جدودي واحد مهزلة مثلي!:

    أين اقتداري وبطشي      وقوتي واعتباري

    فجاءه القرد سراً      وقال بعد اعتذار

    يا عالي الجاه فينا      كن عالي الأنظار

    رأي الرعية فيكم      من رأيكم في الحمار

    فهذا الأسلوب الساخر أخذ يحرك القلوب النائمة ويوقظها، وبدأت تتلقفه الألسن، وتحفظه الذاكرة وتنشره.

    قصيدة الهدهد والنملة

    وتجد الشاعر مرة يعطي صورة للحق المسلوب من الضعيف بواسطة القوي، وخاصة القوي إذا كان له سلطان يدعمه، فيجعل الضعيف نملة، ويجعل صاحب التاج هدهد، ثم يكون الحق المسلوب حبة قمح، حبة قمح هي الخبز الذي يعيش عليه كل إنسان، وإذا فقد الخبز من المجتمعات مات الكبير والصغير، وهناك ثورات قامت في دول من أجل لقمة الخبز.

    ولا أنسى الثورة الإنجليزية عندما قامت، واجتمع الناس يريدون تحطيم القصر الملكي، ونظرت الملكة إلى الشعب الجائع وبجوارها ابنتها الصغيرة بيدها كعك، فقالت الطفلة الصغيرة: ماذا يريد الشعب؟ لماذا يصرخ؟!

    فقالت الملكة: يصرخ لأنه لم يجد خبزاً، فقالت الصغيرة: إذا لم يجد خبزاً فليأكل الكعك!

    انظر ماذا قالت حسب معيشتها وفهمها فهي في القصر لا تجوع أبداً، إذا لم تجد خبزاً أكلت كعكاً، فهي تظن أن الشعب هكذا دائماً وأبداً، لماذا هو غضبان؟ لا يجد خبزاً إذن لماذا لا يأكل كيكاً أو بسكوتاً؟

    الشاعر يقول:

    وقف الهدهد في      باب سليمان بذله

    وهذا الوقوف سيقفه كل ظالم في الدنيا أو في الآخرة، كل سارق؛ لأن الذنب كما يقول الحسن البصري رحمة الله عليه: [إن للمعصية في القلب وعلى الوجه ظلمة، ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه] … وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227] هذا الهدهد وفوق رأسه التاج لا ينام ولا يهنأ، ولا يأكل ولا يشرب؛ لأن صدره من الداخل ملتهب، سافر إلى الفرات ودجلة فشرب منها فلم تذهب الحرارة، سافر إلى النيل وشرب منه فازدادت الحرارة، الماء كالبنزين يشعل صدره من الداخل، فلما أتى إلى قاضي القضاة يشتكي إليه ذلك الالتهاب المتفجر في قلبه، قال: السر أنك أنت ظالم سارق رد الحقوق إلى أهلها، عند ذلك يعود ليلك هانئاً، وطعامك هانئاً، وتستطيع بعد ذلك أن تعيش.

    وقف الهدهد في      باب سليمان بذله

    قال يا مولاي كن لي      عيشتي صارت ممله

    ملت من حبة بر      أحدثت في الصدر غله

    لا مياه النيل ترويها      ولا أمواه دجله

    وإذا دامت قليلاً     قتلتني شر قتله

    فأشار السيد العالي     إلى من كان حوله

    قد جنى الهدهد ذنباً      وأتى باللؤم فعله

    ما أرى الحبة إلا      سرقت من بيت نمله

    إن للظالم صدراً      يشتكي من غير عله

    لو اجتمعت لجنة أطباء وأخذوا له أشعة (x) حتى يروا العلة الموجودة لم يجدوا في صدره شيئاً، لكن في صدره ذنب ومعصية وخطيئة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] وهذه هي المعيشة الضنك.

    قصيدة القط ومخاطبته للسمك في البحر

    هناك قصائد أخرى كنا نحفظها أيضاً ونحن أطفال تمثل هذا اللون من الظلم والاستبداد ومن ذلك:

    وقف القط المستعمر الظالم المغتصب، والقط مشهور بالسرقة، إذا أنت رميت للقط بلحمة يأكلها وهو واقف، انظر إليه وهو يسرق على غفلة يهرب على الجدار والسطح، القط يعرف العطية من السرقة، تضع له ماعوناً يشرب، لكن يأخذ على غفلة يهرب، فالخطيئة خطيئة حتى في عالم الحيوان.

    لهذا الإمام ابن القيم أجرى تجربة، فقال: مرة رأيت قطاراً من نمل يمشي، وكان في الأرض نصف جرادة، فأخذتها فوضعتها قريباً من النمل، فجاءت نملة وحاولت أن تسحبها فما استطاعت، فتركت الجرادة وذهبت إلى قطار النمل وأتت ومعها سبع نملات حتى يساعدنها، فرفعت الجرادة؛ فأخذوا يدورون ويدورون في نفس المكان فما وجدوا شيئاً -فطبعاً غضبوا- رجعوا مرة ثانية، فوضعت الجرادة، فجاءت النملة وشاهدتها فذهبت ونادتهم بسرعة فأتوا معها فرفعت الجرادة، فلما لم يجدوا شيئاً أحاطوا بالنملة من كل جانب، وأمسكوا بها من كل طرف ومزقوها قطعاً..!

    يقول ابن القيم: فاكتشفت أن الكذب حتى في مملكة النمل محرم، فكيف بالإنسان المكلف! كانوا يظنون أنها كذابة كذبت عليهم أول مرة وثاني مرة فكانت النتيجة أن قتلوها.

    الشاعر يقول:

    وقف القط على البحر      يناجي في خضوع

    يناجي لمن؟ للسمك الذي هو رمز للشعب، والقط مفترس:

    قائلاً جئت حزيناً      وبعيني الدموع

    قد تألمت لعريان      بماء وصقيع

    العريان هو السمك، المفروض أن السمكة تلبس رداء لكي تنزل في الماء، ما دام أنك تشعرين بالبرد تعالي وأنا أدفيك ببطني!

    سمك البحر فقير      وهو في عيش وضيع

    لم لا يقفز للشط      ويحيا في الزروع

    لم لا يسكن بيتي      فهو في حصن منيع

    طبعاً: القصد من تسكينه في بيته لكي يفترسه أو يأكله ويلف ما يشاء.

    هذا الأسلوب كان له دور خطير، وإن بدا فيه من السخرية والنكتة شيء، إلا أنه حرك شعوباً، وأقلق استعماراً، ودوخ طاغوتاً، وأصبح هذا الشعر المحبب الخفيف الظريف يحفظه الذكر والأنثى والكبير والصغير والعامي والمتعلم، ويردده هنا وهناك، حتى ضاقت الأرض بما رحبت على الظالمين.

    ولا ننسى أسلوب القرآن: أبو لهب لما سب النبي صلى الله عليه وسلم، أنزل الله فيه قرآناً ساخراً جعله مهزلة أمام صبيان قريش مشتق من اسمه، النبي صلى الله عليه وسلم بكل جدية واحترام صعد على الصخرة، وقال: (يا معشر قريش.. ما تقولون لو قلت لكم: أن جيشاً خلف هذا الوادي مصبحكم أو ممسيكم؟

    قالوا: ما عهدنا عليك كذباً قط، قال: إني رسول الله إليكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب : تباً لك يا محمد، من أجل هذا جمعتنا منذ الصباح؟!)

    فنزل القرآن: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3] فما إن تلاها محمد صلى الله عليه وسلم عليهم وهم أهل ذاكرة قوية -الكبار والصغار- حتى حفظوها مباشرة وبدءوا يركضون في كل مكان: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3]حتى سمعت أم جميل بالخبر فأخذت حجارة طويلة، وسنتها لكي تذبح الرسول صلى الله عليه وسلم بها.

    فجاءت والرسول صلى الله عليه وسلم جالس عند الكعبة وبجواره أبو بكر ، قال: (يا رسول الله! هذه أم جميل ما جاءت إلا لشر، قال: دعها يكفيني الله سبحانه وتعالى، فوقفت تخاطب أبا بكر وهي لا ترى النبي! قالت: أين صاحبك الذي قال في زوجي كذا وكذا.. لئن رأيته لأثلغن رأسه بفهر الحجارة هذه؟ ثم انصرفت، قال أبو بكر : يا رسول الله! إنها تتكلم عنك وكأنها لا تراك، قال: نعم، لقد حال الله بيني وبينها.).

    ونزل القرآن متجهاً عليها مباشرة: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:4-5] إن الذي يوضع الحبل على رقبته ويجر هو الحمار، فالله صورها بهذه الصورة في رقبتها حبل من مسد وعلى ظهرها حطب، والذي يوضع على ظهره الحطب ويجر بالحبل هو الحمار.

    يا جماعة! هذا أسلوب القرآن الذي يفهمه يبتسم ابتسامة فيها نوع من السخرية والاستهزاء بهذا الصنف من الناس، وهذا هو الذي يريده الله سبحانه وتعالى بهذا التصوير العجيب: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا [المسد:4-5] الجيد: هي الرقبة الناعمة، وما قال الله: في رقبتها بل قال: فِي جِيدِهَا [المسد:5] هذه الرقبة الناعمة المفروض أن يضعوا عليها قلادة من لؤلؤ البحرين ، يوضع فيها حبل من ليف خشن، ويجرونها وعلى ظهرها الحطب.

    والقرآن لا يخلو من هذا الأسلوب في تعرية المجرمين، تتبعوها -خاصة- في السور المكية، لأن القرآن كان مع قريش في حرب والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا به: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52].

    قصيدة الوزير عميل الاستعمار

    شعر الحكمة ينتقل من مرحلة الرمزية إلى المرحلة العلنية الواقعية الحقيقية، نجده أيضاً يتكلم بنفس الوضوح والقوة، استمع ماذا يقول هذا الشاعر عن ذلك الوزير الذي يعمل للاستعمار، وما هو إلا أداة يحركها أو حجر شطرنج:

    بيع للأطماع فيها      حقكم بيع الخساره

    فكأن الحكم والعـ     ـدل به قط وفأره

    كم وزير هو كالوزر      على ظهر الوزاره

    مقحم لو كان لفظاً      شخصه كان استعاره

    ووزير ملحق كالذيل      في عجز الحماره

    ذنب أصبح للحكم      به أقبح شاره

    ذنب يستوجب الإخلاص      والصدق انبتاره

    قل لأرباب الوزارة      عذلاً أضرمت ناره

    أنتم الأصنام لولا      نزقات مستطاره

    أحلوم كفراش      وقلوب كحجاره

    أم جيوب زرها      الدهر على كل شناره

    أم وجوه لو بدت      للشمس لم تنشر حراره

    أمع الذلة كبر     أم مع الجبن جساره

    كيف لا تخشون      للأحرار في البطش مهاره

    يا بني الأوطان هبوا      وانقضوا هذه الغراره

    إن وجه الحق باق     كسراج في مناره

    أدركوا الحق فقد      شنت على الحق الإغاره

    لا تسل عنه وزير      القوم واسأل مستشاره

    أي: المستشار الإنجليزي، كان كل وزير له مستشار إنجليزي، يسمونه خبيراً أو مستشاراً لا يستطيع أن يتصرف إلا بأمر هذا الصاحب المستشار.

    وهو لا يملك أمراً     غير كرسي الوزاره

    يأخذ الراتب إما      بلغ الشهر سراره

    ثم لا يعرف من      بعد خراب أم عماره

    حدث الناس عن      اللؤم وعن هذه الخشاره

    فلعل الشعب منهم      بدم يغسل عاره

    وفعلاً ثارت معظم الشعوب على أمثال أولئك الوزراء، وعلى مستشاريهم من الخبراء الاستعماريين، وأجلوهم عن معظم الأوطان العربية والإسلامية، بأنفاس أمثال هذه القصائد التي تقول:

    فلعل الشعب منهم      بدم يغسل عاره

    ولا ننس مليون قتيل في أرض الجزائر حتى استطاعت أن تخرج الاستعمار الفرنسي من أرض الجزائر.

    قصيدة تُبين حال الملوك الظلمة

    كما ينقلنا شاعر الحكمة أيضاً نقلة ثانية ليس بالأسلوب الرمزي، وإنما بالأسلوب الواقعي الحقيقي.

    ثم يعطينا صورة عجيبة، هذه الصورة تتكلم عن فئة من الناس، يشبعون إذا جاع الناس، ويلبسون إذا عري الناس، ويصحون إذا مرض الناس، ويغنون إذا فقر الناس، ويبكون إذا فرح الناس، ويفرحون إذا بكى الناس، أولئك فئة يرقصون على الأشلاء والدماء، ويقيمون في كل مكان مناحة ولا يبالون، إمامهم في ذلك فرعون الذي شعاره: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4] وهذه صفة ليست مقصورة لزمن معين وهو الزمن الفرعوني.. لا، ما دام هناك على وجه الأرض حق وباطل فهما في صراع إلى يوم القيامة.

    استمع ماذا يقول الشاعر عن هذه الفئة:

    هم يعدون بالمئات ذكوراً      وإناثاً لهم قصور مشاله

    ولهم أعبد بها وإماء      ونعيم ورفعة وجلاله

    تركوا السعي والتكسب في الدنيا      وعاشوا على الرعية عاله

    الناس تكد عليهم وهم جالسون فقط يأكلون ويشربون!:

    تركوا السعي والتكسب في الدنيا      وعاشوا على الرعية عاله

    يتجلى النعيم فيهم فتبكي     أعين السعي من نعيم البطاله

    يأكلون اللبات من كد قوم     أعوزتهم سخينة من نخاله

    سخينة من نخالة: أي قليل من نخالة حتى لا يعطون الشعب:

    فكأن الأنام يشقون كداً      كي تنال النعيم تلك السلاله

    وكأن الإله قد خلق الناس      لمحيا آل السلاطين آله

    نعموا في غضارة الملك عيشاً      وحملنا من دونهم أثقاله

    فإذا صاول العدو خرجنا      دونهم للوغى نرد صياله

    وإذا هم جروا الجرائر يوماً      فعلينا تكون فيها الحماله

    وإذا ما استهل فيهم وليد     فعلينا رضاعه والكفاله

    قد رضينا بذاك لولا عتو      أظهروه لنا على كل حاله

    ما بهم ما يميزهم عن بني      السوقة إلا رسوخهم في الجهاله

    هم من الناس حيث لو غربل      الناس لكانوا نفاية وحثاله

    ومن الجهل حيث لو صور     الجهل لكانوا بين الورى تمثاله

    حملونا من عيشهم كل عبء      ثم زادوا أصهارهم والكلاله

    فكفينا أصهارهم مئونة      العيش فكانوا ضغثاً على إباله

    تلك والله حالة يقشعر     الحق منها وتشمئز العداله

    تصوير عجيب لهذه الفئة من الناس المتكررة في كل زمان ومكان.

    قصيدة تبين إرادة الاستعمار للشعب أن يكون مكبلاً

    ثم نرى شاعر الحكمة أيضاً أمام كل مناد بالبيان الإلهي الذي ذكره: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4] من أراد أن يبين البيان مباشرة أقلق وصودر فكره وكلامه، يقول شاعر الحكمة عن ذلك:

    يا قوم لا تتكلموا      إن الكلام محرم

    ناموا ولا تستيقظوا      ما فاز إلا النوم

    وتأخروا عن كل ما      يقضي بأن تتقدموا

    ودعوا التفهم جانباً      فالخير ألا تفهموا

    وتثبتوا في جهلكم      فالشر أن تتعلموا

    أما السياسة فاتركوا      أبداً وإلا تندموا

    إن السياسة سرها      لو تعلمون مطلسم

    وإذا أفضتم في المباح      من الحديث فجمجموا

    والعدل لا تتسموا      والظلم لا تتجهموا

    من شاء منكم أن يعيش     اليوم وهو مكرم

    فليمس لا سمع ولا      بصر لديه ولا فم

    لا يستحق كرامة إلا      الأصم الأبكم

    ودعوا السعادة إنما      هي في الحياة توهم

    فالعيش وهو منعم      كالعيش وهو مذمم

    وإذا ظلمتم فاضحكوا      طرباً ولا تتظلموا

    وإذا أهنتم فاشكروا      وإذا لُطمتم فابسموا

    إن قيل هذا شهدكم     مر فقولوا علقم

    أو قيل إن نهاركم      ليل فقولوا مظلم

    أو قيل إن ثمادكم      سيل فقولوا مفعم

    أو قيل إن بلادكم      يا قوم سوف تقسم

    فتحمدوا وتشكروا      وترنحوا وترنموا

    وهذا الذي أراده العدو والاستعمار الترنم والتغني، أعداؤنا يأتوننا بالسلاح، الغزو الفكري، والغزو العسكري، وكنا نحن أكثر من ثلاثين سنة نسهر ليلة الجمعة "هل رأى الحب سكارى مثلنا" غناء من الساعة العاشرة إلى أن يطلع الفجر وتصفيق للغناء مستمر كل ليلة جمعة.

    إذاً كما يقول الشاعر:

    أو قيل إن بلادكم      يا قوم سوف تقسم

    فتحمدوا وتشكروا      وترنحوا وترنموا

    ترنحوا من الخمر، وترنموا بالغناء؛ لأن السكران إذا سكر يغني.

    شعر الزهديات والرقائق

    أنتقل بعد ذلك إلى الزهد، والزهد لا تظنون عندما أذكره أنه توهيمات روحية لدراويش موجودين في زوايا، لا. وإنما هناك نوع من أنواع الزهد عبر فانتقل إلى عالم الظالمين، ولكن ليس في الدنيا إنما في البرزخ، النهاية المصيرية الحاسمة، فهذا أبو العتاهية استمع ماذا يقول، عش معي بقلبك:

    خالف هواك إذا دعاك لريبة      فلرب خير في مخالفة الهوى

    ولئن نجوت (أي يوم القيامة)

    ولئن نجوت فإنما هي رحمة الملك      الرحيم وإن هلكت فبالجزا

    أين الألى؟ أي: أين الملوك الأولين؟

    أين الألى شادوا الحصون وجندوا      فيها الجنود تعززاً أين الألى

    أين الحماة الصابرون حمية      يوم الهياج لحر مختلف القنا

    وذوو المنابر والعساكر والدساتر      والحضائر والمدائن والقرى

    وذوو المواكب والكتائب والنجائب      والمراتب والمناصب في العلى

    أفناهم ملك الملوك فأصبحوا      ما منهم أحد يحس ولا يرى

    وهو الخفي الظاهر الملك الذي      هو لم يزل ملكاً على العرش استوى

    وهو المقدر والمدبر خلقه      هو الذي في الملك ليس له سوى

    وهو الذي يقضي بما هو أهله      فينا ولا يقضى عليه إذا قضى

    أرأيتم؟

    شعر زهد، لكن عبر به إلى ذلك العالم الذي ينتقل فيه الإنسان، الذي يعيش على ديباج من حرير ويضع أجمل البخور، فإذا هو مجندل في الحجارة تحت الأرض!!

    ثم يقول في قصيدة ثانية:

    أما ورب البيت ذي الأستار     والمسعى وزمزم والهدايا المشعرات

    من رب ذلك؟ الله.

    فلينظر الرجل اللبيب لنفسه      فجميع ما هو كائن لابد آت

    فتجاف عن دار الغرور وعن      دواعيها وكن متوقعاً للحادثات

    أين الملوك ذوي العساكر والمنابر      والدساتر والقصور المشرفات

    والملهيات فمن لها والغاديات      الرائحات من الجياد الصافنات

    هم بين أطباق الثرى فتراهم      أهل الديار الخاويات الخاليات

    هل فيكم من مخبر حيث استقر      قرار أرواح العظام الباليات

    من كان يخشى الله أصبح رحمة      للمؤمنين ورحمة للمؤمنات

    وإذا أردت ذخيرة تبقى فنافس      في ادخار الباقيات الصالحات

    وخف القيامة ما استطعت فإنما      يوم القيامة يوم كشف المخبآت

    يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9].

    أبو العتاهية يعظ هارون الرشيد على لسان الملاحين

    لما آلت الخلافة إلى هارون الرشيد جاءه الشعراء من جميع الأصناف، منهم من يطريه ويمدحه ما ليس فيه، وتأخر أبو العتاهية فأودعه هارون في السجن، ثم ركب يوماً الزورق الملكي، الذي يسمونه في زماننا هذا "يخت" فلما مشى في نهر دجلة وإذا الملاحون يتغنون بكلام غير لائق، الملاحون والبحارة أناس ثقافتهم الدينية والعلمية خفيفة قليلاً، فيقولون كلاماً غير طيب، فسمعهم الخليفة فغضب، وقال: من الشاعر الذي يسوق لهم قصيدة يحفظونها هي خير من هذا الكلام؟

    قالوا: إنه أبو العتاهية، الذي وضعته في السجن، قال: أخرجوه، ثم أمره أن يكتب قصيدة ويُحفظها الملاحين حتى إذا الخليفة تمشى في (اليخت) يسمع كلاماً ينفعه، ولا يسمع موسيقى أو يسمع كلاماً ماجناً كما تفعل بعض الأغاني.. لا، فـأبو العتاهية نظم قصيدة وحفظها الملاحين، وخرج الخليفة فأخذ الملاحون ينشدون بها، اسمع ماذا قالوا:

    خانك الطرف الطموح      أيها القلب الجموح

    لدواع الخير والشر      دنو ونزوح

    هل لمطلوب بذنب      توبة منه نصوح

    كيف إصلاح قلوب     إنما هن قروح

    أحسن الله بنا أن      الخطايا لا تفوح

    فإذا المستور منا      بين ثوبين فضوح

    كم رأينا من عزيز      طويت عنه الكشوح

    صاح منه برحيل     صائح الدهر الصدوح

    موت بعض الناس في      الأرض على البعض فتوح

    سيصير المرء يوماً     جسداً ما فيه روح

    بين عيني كل حي     علم الموت يلوح

    كلنا في غفلة      والموت يغدو ويروح

    لبني الدنيا من الدنيا      غبوق وصبوح

    رحن في الوشي: أي العروسة يلبسونها ليلة العرس فتصبح ميتة، الله يكفينا الشر.

    رحن في الوشي وأصبحن      عليهن المسوح

    كل نطاح من الدهر      له يوم نطوح

    نح على نفسك يا مسكين ……

    يوجه الكلام إلى هارون الرشيد :

    نح على نفسك يا     مسكين إن كنت تنوح

    لست بالباقي ولو      عمرت ما عمر نوح

    فلما سمع هارون الرشيد ذلك الكلام من الملاحين بصوت جماعي بكى حتى اخضلت لحيته من الدموع، وهون من الرحلة، ورجع مرة ثانية إلى بيته يقرأ القرآن ويبكي في الصلاة.

    فأصبحت للكلمة البيانية الشعرية أثر في تعديل اعوجاج المعوجين، وإصلاح ظلم الظالمين.

    قصيدة أبي العتاهية في الآداب

    وأختم درسي هذا من شعر الزهد والحكمة بقصيدة فريدة من نوعها لـأبي العتاهية وهي أرجوزة، أجمع النقاد والأدباء أنها احتوت على لباب الحكمة، وقد احتوت هذه الأرجوزة على أربعة آلاف بيت، ما استطاع الأدباء إلا أن يجمعوا هذا العدد القليل، يقول:

    حسبك مما تبتغيه القوت      ما أكثر القوت لمن يموت

    الفقر فيما جاوز الكفاف      من اتقى الله رجا وخاف

    إن كان لا يغنيك ما يكفيك     فكل ما في الأرض لا يغنيك

    إن القليل بالقليل يكثر      إن الصفا بالقذى ليكدر

    هي المقادير فلمني أو فذر      إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

    ما انتفع المرء بمثل عقله      وخير ذخر المرء حسن فعله

    إن الفساد ضده الصلاح      ورب جد جره المزاح

    يغنيك عن كل قبيح تركه      يرتهن الرأي الأصيل شكه

    لكل قلب أمل يقلبه     يصدقه طوراً وطوراً يكذبه

    يا رب من أسخطنا بجهده      قد سرنا الله بغير حمده

    من لم يصل فارض إذا جفاك      لا تقطعن في الهوى أخاك

    لن يصلح الناس وأنت فاسد     هيهات ما أبعد ما تكابد

    لكل ما يؤذي وإن قل ألم      ما أطول الليل على من لم ينم

    لا تطلع الشمس ولا تغيب      إلا لأمر شأنه عجيب

    لكل شيء معدن وجوهر      وأوسط وأصغر وأكبر

    وكل شيء لاحق بجوهره      أصغره متصل بأكبره

    من لك بالمحض وكل ممتزج     وساوس في الصدر منه تختلج

    ما زالت الدنيا لنا دار أذى      ممزوجة الصفو بألوان القذى

    الخير والشر بها أزواج      لذا نتاج ولذا نتاج

    من لك بالمحض وليس محض      يخبث بعض ويطيب بعض

    لكل إنسان طبيعتان     خير وشر وهما ضدان

    إنك لو تستنشق الشحيح      وجدته أنتن شيئاً ريحا

    والخير والشر إذا ما عدا      بينهما بون بعيد جدا

    عجبت حتى غمني السكوت      صرت كأني حائر مبهوت

    كذا قضى الله فكيف أصنع      الصمت إن ضاق الكلام أوسع

    الترك للدنيا النجاة منها      لم تر أنهى لك منها عنها

    من لاح في عارضه القتير     فقد أتاه بالبلى النذير

    من جعل النمام عيناً هلك     مبلغك الشر كباغيه لك

    المكر والعتب أداة الغادر      والكذب المحض سلاح الفاجر

    سامح إذا سمت ولا تخشى الغبن      لم يغلُ شيء هو موجود الثمن

    سمت: من السوم، أي أنك إذا ذهبت لتشري بضاعة لا تنشف ريق صاحب الدكان، يقول لك: بعشرة. تقول: لا، بسبعة، بستة، بخمسة ونصف.. لا، لماذا هذا؟ لم لا تكون سمحاً حتى يكون الله سمحاً.

    سامح إذا سمت ولا تخشى الغبن      لم يغلُ شيء هو موجود الثمن

    من عاش لم يخلُ من المصيبة     وقلما ينفك عن عجيبة

    يا طالب الدنيا بدنيا الهمة      أين طلبت الله كان ثمة

    يوسع الضيق الرضا بالضيق     وإنما الرشد من التوفيق

    أستودع الله أموري كلها      إن لم يكن ربي لها فمن لها

    ما أبدع الشيء إذا الشيء فقد     ما أقرب الشيء إذا الشيء وجد

    يعيش حي بتراث ميت     يعمر بيتاً بخراب بيت

    صلح قرين السوء للقرين      كمثل صلح اللحم والسكين

    أي: إنه إذا كان قرينك ورفيقك سيئ لا تتوقع أنه يصلحك أبداً، إذا السكين بينها وبين اللحم صداقة يكون بين الصالح والفاسق صداقة، نعم:

    صلح قرين السوء للقرين      كمثل صلح اللحم والسكين

    لم يصف للمرء صديق يمذقه      ليس صديق المرء من لا يصدقه

    معروف من منَّ به خداج      ما طاب عذب شابه أجاج

    ما عيش من آفاته بقاؤه      نغص عيشاً طيباً فناؤه

    إنا لنفنى نفساً وطرفا      لن يترك الموت لإلفٍ إلفا

    وللكلام باطن وظاهر      في ساعة العدل يموت الجائر

    إن الشباب والفراغ والجدة      مفسدة للمرء أي مفسدة

    هذا الذي ضيع شبابنا؛ شباب، فراغ، ومال، أصبح يحط المسجل على أغاني جاكسون ولا يبالي صدم الناس أو آذاهم.

    إن الشباب والفراغ والجدة      مفسدة للمرء أي مفسدة

    إن الشباب حجة التصابي      روائح الجنة في الشباب

    اصحب ذوي الفضل وأهل الدين     فالمرء منسوب إلى القرين

    إياك والغيبة والنميمة      فإنها منزلة ذميمة

    لا تذهبن في الأمور فرطا      لا تسألن إن سألت شططا

    أي: لا تغالِ وتصبح من الذين يتعصبون وكن وسطاً.

    لا تذهبن في الأمور فرطا      لا تسألن إن سألت شططا

    ولا تغالِ أو تزد فرطا      وكن من الناس جميعاً وسطا

    أيها الأحباب الكرام.. وإلى لقاء آخر إن شاء الله مع شعر الزهد والحكمة، لكي نأخذ خلاصة عقول العقلاء، ولب الألباء، فنسأل الله تعالى أن يجعل ما سمعنا لنا نوراً في قلوبنا، وفهماً في أذهاننا، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، يجري الخير على أيدينا إلى يوم القيامة.

    اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا سوءً إلا صرفته، ولا عيباً إلا سترته وأصلحته، ولا مسافراً إلا حفظته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا عدواً إلا قصمته برحمتك يا أرحم الراحمين!

    هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.