www.islamweb.net/ar/

وقفة مع سورة الأنفال[2] للشيخ : أحمد القطان

  • التفريغ النصي الكامل
  • ما زال الشيخ في هذا الدرس يشرح بدايات غزوة بدر، ويشير إلى أن المعركة كانت لصالح المسلمين بكل المعايير رغم ما حدث من خوف قبلها، وينبه إلى أن ما يعيشه المسلمون هو امتداد لتلك المعركة بين معسكر الكفر والإيمان؛ وذلك لأن المعركة معركة مبادئ وقيم لا أرض وشجر وحجر.

    أحداث في الطريق إلى بدر

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، أحمد الله الذي لا إله إلا هو الحق المبين، وأصلي وأسلم على محمد الصادق الأمين.

    اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

    اللهم إنا نسألك تحرير المسجد الأقصى مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ومهبط عيسى عليه السلام، اللهم ارزقنا فيه صلاة طيبة مباركة غير خائفين ولا وجلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم عليك باليهود وأعوانهم، والنصارى وأنصارهم، والشيوعيين وأشياعهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبقي منهم أحداً، اللهم أرنا في أعدائنا وأعدائك يوماً أسوداً كيوم فرعون وهامان وقارون .

    اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم ابعث الإيمان في قلوبهم، اللهم جدد لهم دينهم، اللهم إنا نسألك لهم قائداً ربانياً يسمع كلام الله ويسمعهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، ويحكم بكتاب الله وتحرسه.

    اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.

    اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك، ولا إلى الناس فنضيع، ثقل ميزاننا، وحقق إيماننا، وفك رهاننا.

    اللهم أمن روعاتنا، واستر عوراتنا، وحقق بالصالحات آمالنا، واختم بالطاعات أعمالنا، وانصر إخواننا المجاهدين في كل أرض يذكر فيها اسم الله.

    اللهم إني أسألك لهذا البلد وسائر بلاد المسلمين أمناً وإيماناً، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، واجعل تدميره في تدبيره، اللهم اجعلنا في ضمانك وأمانك وبرك وإحسانك، احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم أعداءنا، وانصرنا عليهم، اللهم إن نسألك نصراً مؤزراً كنصر يوم بدر ، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم استعملنا فيما يرضيك، ولا تشغلنا بما يباعدنا عنك، واقذف في قلوبنا رجاك، واقطع رجاءنا عمن سواك.

    بارك في أولادنا، وبارك في أرحامنا، وبارك في زوجاتنا، وبارك في جيراننا، اللهم أيما عبد أو أمة من أمة محمد على خطأ وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق رداً جميلاً.

    اللهم ذكرنا إن نسينا، ونبهنا إن غفلنا، وعلمنا إن جهلنا، واهدنا إن ضللنا.

    اللهم إنا جياع فأطعمنا، اللهم إنا مرضى فاشفنا، اللهم إنا عراة فاكسنا، اللهم إنا حائرين فاهدنا سواء السبيل، برحمتك يا أرحم الراحمين، حرم وجوهنا ووالدينا والحاضرين على النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار الأخيار، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    أما بعد أيها الأحباب الكرام: أشهد الله وملائكته والناس أجمعين أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يجمعني وإياكم في ظل عرشه ومستقر رحمته، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    ونعود من جديد إلى دروس التفسير، وإلى سورة الأنفال، وقد فسرت إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] اللهم اجعلنا منهم وفيهم، وألحقنا بهم في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين.

    تغيير الوجهة وأثره على الصحابة

    يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ، ويخلف وراءه أهله وبيته وولده وأصحابه، يخرج بلا عدد، وبلا عُدد، وبلا استعداد، يخرج من المدينة وأصحابه حفاة عراة إلا ما يستر عوراتهم، جياع عالة فقراء، يخرجون بحثاً عن القافلة.

    تتغير الخطة وتصير غزوة، ويسوق الله فضله إلى من يشاء .. غزوة في سبيل الله.

    عند ذلك بدأت بعض القلوب التي لم تكتمل تربيتها الإيمانية يحدث فيها بعض الخوف، والخوف أمر فطري غريزي أوضعه الله في البشر، فأنت تخاف من الشر حتى ينجلي، وتخاف من الأسد حتى لا يأكلك، وموسى فر من الثعبان حتى لا يلدغه، وهذا من النوع من الخوف محمود، ولولاه لهلك الإنسان، ولألقى الإنسان بنفسه في المهالك كما تلقي البهيمة بنفسها.

    يتربى في الوديان، يحترق بالنيران، يقع في يد الأسود والكواسر، ولكن الله جعل في قلبه جهاز إنذار، كلما أحس بالخطر الجاثم استيقظ وفر منه، وهذا الخوف لا يلام عليه الإنسان، فالله ما لام موسى يوم أن فر من الثعبان، ولكن هناك خوف لا بد أن نمحصه لله رب العالمين، وهو مقام من مقامات العبودية لله وإخلاصها؛ وهو خوف العبادة والخضوع والخشوع والمحبة والرجاء والإنابة والتوكل، كل ذلك نجعله لله رب العالمين، نخاف أن يغضب، ومن ناره وسخطه، وألا نراه، وأن نفقد الجنة والإيمان عند الختام، هذا الخوف محمود وعبادة.

    وهناك خوف ثالث: الخوف من الطواغيت، وأن نمحص الخوف لهم فنظن أن الأرزاق والأعمار بيدهم، ونشركهم مع خوفنا لله، وهذا نوع من أنواع الشرك.

    والقتل والقتال أمر تكرهه طبائع البشر، وأكده القرآن؛ لأنه لا يصطدم مع طبائع البشر: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216].

    إن الله يعلم أن القتال مكروه، لا يوجد أحد يتمنى لقاء العدو وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216] فاعتدل الميزان .. مكروه لكن فيه خير، إذاً: نحن نتحمل المكروه حتى ينزل علينا الخير، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216].

    إذاً: نضحي بما نحبه اتقاء الشر، وكم من الشهوات والرغبات والأماني والأحلام والآمال ضحينا بها ونحن نحبها مخافة أن نقع في الشر الذي حذرنا الله منه، والسبب: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

    اضطراب الأحداث يظهر تفاوت الإيمان

    خرج الحبيب المحبوب صلوات الله وسلامه عليه من المدينة، والناس يتدافعون معه رغبة بالغنيمة، وإذا بالغنيمة تذهب، ويحل مكان الغنيمة السيف والسنان، عند ذلك حدث تغير في بعض القلوب، قالوا: يا ليتنا ما خرجنا، كيف نقاتل بهذا العدد؟ كيف نلقى عتاولة قريش؟ وننتصر ونحن بهذه الحالة؟

    هنا لا بد أن ينبه إلى أن ميزان النصر والهزيمة لا يملكه الإنسان إنما يملكه الله، فكم من جيش جميع التقارير والموازين تقول إنه مهزوم ثم كان من المنتصرين، وكم من جيش بذل كل الأسباب والوسائل وكان من المنهزمين.

    الله هو الوهاب، يهب الخير بسبب وبلا سبب، ويهب النصر بسبب وبلا سبب، لا إله إلا هو وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].

    هذا التغير الطفيف لا بد أن يحدث في بعض القلوب؛ لأن التربية الإيمانية تتفاوت بين إنسان وإنسان، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالعمل الصالح، وينقص بنقصان العمل الصالح وبالمعاصي، والذي تربى على سياط الكفار والرمضاء في الصحراء تحمله يختلف عمن أسلم وهو تحت ظل النخيل، يقتطف الرطب والعنب ويأكلها باردة.

    لهذا نزل القرآن يكشف صفحة ما كنا نراها ولا ندري بها وما علمها إلا علام الغيب، أمور دارت في طيات الأرواح والنفوس علمها الذي يعلم السر وأخفى، فأنزل قرآناً فيها يبين للجماعة المسلمة، ويعلم القيادة المسلمة: أن الجيش الإسلامي والجماعة المسلمة ليسوا ملائكة معصومين .. ليسوا كلهم بمستوى أبي بكر وعمر، وإنما هم بشر بهم الخوف والتردد والوجل.

    إذاً: لا بد للقائد المسلم والجماعة المسلمة أن يستكملوا التربية، ويلتمسوا الأعذار لإخوانهم.

    بعض المسلمين مع الأسف الشديد يضع المجهر والكشاف على كل مسلم ملتحي، ويظن أن هذه الشعيرات، وهذا الثوب القصير، وهذا السواك جعل إيمانه (100%) وجعله بمصاف جبريل وميكائيل وإسرافيل، من قال لك ذلك؟!

    كراهة النفس القتال وهو خير لها

    الصحابة هم خير القرون، وتلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم، ولما تغير موضوع الخروج من غنيمة إلى قتال، اسمع ماذا يقول القرآن: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5] إذاً: الكارهون أقلية، والأكثرية راضون، سبحان الله!

    يقول الله لنا ذلك، فريق من المؤمنين كارهون، والتعبير عن هذا الكره للقتال أنتج الجدال مع القيادة العامة للقوات الإسلامية المتمثلة بمحمد صلى الله عليه وسلم، طيات الحوار وعبراته ومواقفه لم يذكرها القرآن، لأنه لا يهتم بهذه الأمور، القرآن يذكر بإيجاز وإعجاز أصل الأصل، أما ثنايا الحديث فالذي قاله أحد الصحابة وماذا رد الله عليه الرسول .. فإن القرآن لا يتدخل في هذه القضايا، فهو يقرر الحقائق والأصول، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال:6].

    لا إله إلا الله! أصبحت الحالة عند بعضهم كالمحكوم عليه بالإعدام ومسحوب إلى المشنقة .. كيف يكون حاله؟! تدور عينه، ويصفر وجهه، ويجف ريقه، وترتجف أوصاله، ويظن أن عمره أصبح ثوان، ينتظر الخشبة تنفتح من تحته ليتدلى، الله أكبر هكذا! بعضهم أحس نفسه في ذلك الموقف .. بعد ليلة أو يوم ستأكله سيوف الكفار، ويفقد الزوجة الحبيبة، والأولاد، والزروع والثمار التي نضجت، والبيت.

    هذا ليس عند المنافقين، يجب أن ننتبه أنه حتى نزول هذه الآيات ما كان في المدينة منافق واحد، وإنما ظهروا بعد معركة بدر، أي: عند نزول هذه الآيات ووجود هذه الحادثة كان الناس على نوعين: كفار ومؤمنين فقط، لكن بعد انتصار المسلمين في معركة بدر، ظهرت فرقة ثالثة، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، لأنه أصبح للدولة الإسلامية شوكة وقوة وجيش ضارب، أذل قريش وهي المركز الديني والسياسي في الجزيرة، فظهرت فرقة النفاق.

    إذاً: هذا الصنف شهد الله أول ما شهد له بالإيمان، مع أن حالتهم النفسية كالذي يساق ويسحب إلى الموت سحباً، ويخيل لي والعلم عند الله: أن هذا الفريق قد يكون ثوابه وأجره عند الله لثباته مع هذه الحالة النفسية واستمراره يمشي مع الجيش حتى قابل العدو وتم الامتحان وقبل النصر بلحظات - على حسب فهمي لمقاصد الشريعة الإسلامية - أن ثوابه وأجره أكثر من أجر الثابتين والشجعان؛ لأنه لا يستوي من يصارع نفسه الدنيا، ومرة يدفعه الخير ومرة يجذبه الشر كمن أطمأن وسكن.

    بعض الناس قد يكون غير متدين، لكن نفسه تعاف الخمر، شيء مكروه عنده ومبغوض، فهو أصلاً لا يريده، سواء كان حراماً أو غير حرام، فإن نفسه لا ترغب به، هل يستوي هذا والذي يحب الخمر أو ذاقه ثم هداه الله، فامتنع طاعة لله رب العالمين، وكلما اشتاقت نفسه إليه كبحها وجمحها وصارعها محبة لله، هل يستوي هذا مع هذا؟!

    لا. هذا ثوابه أعظم.

    إذاً: هم رضوان الله عليهم -من المؤمنين الكارهون- بلغ شعورهم كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون، لكنهم ما فروا وانهزموا، وقالوا: يا رسول الله! نحن لا نقدر أن نمشي معك، لا تفتنا، لا. بل كتموا ذلك في قلوبهم، ناقشوه قليلاً في نفوسهم ثم بعد ذلك توكلوا على الله رب العالمين ومشوا والموت والشهادة هي الشهادة، والإنسان يموت مرة واحدة، فليمت مع محمد خير من أبي جهل، وواصلوا مع هذا الصراع، فلما علم الله ما في قلوبهم ثبتهم وطمأنهم وأيدهم ونصرهم سبحانه وتعالى.

    القرآن يعالج عقبة الخروج للجهاد

    كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ [الأنفال:5] الخطاب موجه مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه تسلية وتسرية وتعزية على قلبه، وكيف لا يكون ذلك والله يقول له: الذي أخرجك ربك وحبيبك ومولاك بقدر أنت لا دخل لك فيه.

    إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم هنا في غاية الاستسلام والتوكل والتفويض لله رب العالمين.

    وكلمة: (ربك) عندما تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم غالباً يكون في طياتها التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتسرية والتخفيف عنه .. فعندما اشتد عذاب الكفار عليه وعلى أصحابه الله سبحانه وتعالى قال له: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14] تكررت مرتين تعزية وتسلية لنفسه وروحه المتعبة صلى الله عليه وسلم.

    فأنت يا محمد خرجت تريد القافلة، هذا هو مرادك، ولكنه ليس مراد الله، مراد الله غير مرادك ومراد أصحابك، أنت تريد والله يريد ولا يكون إلا ما أراد الله، كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ وذكر البيت هنا مهم، فقد كان الله قادراً على أن يقول: (كما أخرجك ربك للقتال) لماذا ذكر البيت؟

    قضية انتزاع الإنسان لنفسه من البيت لمجرد الوظيفة التي وراءها معاش ثقيل .. انظر ذهابك أنت في صباح السبت وانظر ذهابك يوم الخميس لأنه نصف دوام، يختلف! وكيف خروجك يوم الجمعة؟ يوم الجمعة تفكر برحلة وخروج مع الأهل، ولحم ومشويات وتستأنس، وخروجك يوم السبت قد يكون المسئول مزاجه معكر، يستقبلك بكلمتين، بعض المعاملات متراكمة لازم تمشيها، متثاقل.

    فقضية انتزاع المسلم نفسه من أجل الله من البيت هذه بحد ذاتها عبادة، والبيت المذكور هنا في القرآن: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ [الأنفال:5] لا تظن أنها بيوت الروضة، أو ضاحية (عبد الله السالم) ذات الأعمدة الرخامية، والأسود التمثالية، وأشجار الورود والخدم والحشم، لا. وإن الذي يملك بيتاً مثل هذا ما الذي سوف يخرجه؟ هل لأنه يريد أن يجاهد في سبيل الله، لا -إلا من شاء الله سبحان وتعالى، وقليل ما هم- ولكن البيت الذي انتزع الله منه محمداً وأخرجه منه كان يفترش فيه التراب، ويلتحف السماء، فيه قطعة من الحصير إذا نام عليه أثر في جنبه، وارتسم على ضلوعه، وفيه حفنة من التمر اسمه: الدقل؛ وهو أسوء أنوع التمور، حشف جاف، ولا يوقد فيه نار شهرين أو ثلاثة، إنما يعيشون على الأسودين: التمر والماء، وكل الأثاث الذي فيه: قصعة يأكل منها صلى الله عليه وسلم، ووسادة من ليف، مرة أم المؤمنين زادت عليها طية فنام نومة عميقة صلى الله عليه وسلم حتى كادت أن تفوته صلاة الليل!

    هذا كل ما يملك محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الآية ما نزلت على زمانه وحده، إنما الآية نزلت ممن يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم أن الناس سيتطاولون في البنيان، ويصبح الواحد يملك عشرين (دشاشة) وثوب، له سنترال وأثاث وحرير، وأطعمة مخزنة، وزوجة حسناء، وسيارة (أتوماتيك) هذا الواحد لما يخرج نفسه من هذا البيت لا بد وأن يكون بطلاً من الأبطال، يخرج نفسه من هذا البيت ويذهب في لجنة هناك في مجاهيل أفريقيا؛ لكي تقرصه ذبابة (التيس تسي) فينام نومة لا قيام بعدها؟ مستحيل! إلا من طلب الجنة ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً.

    الذي ينزع نفسه من هذا البيت إلى أفغانستان هناك لكي يجوع ويشقى ويتعب، فالآية عندما تذكر بيتك، تعالج عقبة من العقبات موجودة في قلوبنا جميعاً أيها الأحباب.

    انظر نشاطك لصلاة المغرب ولصلاة الفجر، هل هو واحد؟

    أقسم بالله رب العالمين أنهما نشاطين مختلفين، صلاة المغرب يمتلئ فيها المسجد، وصلاة الفجر الإمام والمؤذن وثلاثة أو أربعة صفوف فقط، ما السبب؟ البيت، الفراش الدافئ، النوم الهانئ، العشاء الدسم، الزوجة الحسناء، السهر طول الليل عند التلفزيون.

    لفتة قرآنية ربانية، لماذا نحن نعاتب هؤلاء الذي كرهوا الموت؟ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال:6].

    هم على الأقل أحسوا بذلك، لكنهم قاتلوا، وكان إحساس مؤقت، ولكن عموم المسلمين اليوم يعيشون في الجو النفسي الرهيب، فالذل يشترك فيه الحاكم والمحكوم، عندما أستشعر أن اليهود يدوسون الحرم الإبراهيمي، ويبولون هم ويدخلون الكلاب لكي تبول في المسجد الأقصى، وأصبح الذل مشترك .. أربع أو خمس هزائم تتحملها الأمة العربية والإسلامية وتصبح القضية عندنا صعبة جداً.

    نعم. والله لو كنا نعيش في خنادق لما هبنا ولا خفنا، لكن يقابل هذا الذل دنيا فتحت يديها وذراعيها وتربع الناس عليها والتزمتهم وأسرتهم.

    يا عابد الدنيا الدنية إنها      شرك الردى وقرارة الأكدار

    دار إذا ما أضحكت في يومها      أبكت غداً تباً لها من دار

    غاراتها لا تنقضي وأسيرها      لا يفتدى بجلائل الأخطار

    وإذا أردت أن تتأكد وتعرف: تخيل أنه أذيع في إذاعة الكويت نداء: هيا وحي على الجهاد، أخرج الأولاد كلهم وأنت معهم إلى معسكرات تدريب، واستعداد .. ثم أسبوع أو أسبوعين فتكون شهيداً، هل أنفسنا مهيأة لذلك؟

    لا بد أن نكون واقعيين، عندما ندرس هذه الآيات لا أريدها أن تكون ترفاً ذهنياً، وهو أن الشيخ جزاه الله خيراً في يوم فسر القرآن، وتنتهي عند هذه القضية، لا. نحن نريد أن نتربى على سورة الأنفال كما ربى محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، فجميع معارك المسلمين، أجنادين، اليرموك، القادسية، الجسر، نهاوند، ذات السلاسل ... كل المعارك التاريخية والفتوحات الكبرى كانت تتلى فيها سورة الأنفال.

    ما السر في تلاوتها؟

    تجديد العهد والبيعة، وبعث الإيمان، وانتشار الروح المعنوية في كل خلية من خلايا الجسم، فيتحول كل مقاتل إلى قنبلة إيمانية تنفجر في وجه العدو.

    هكذا نريد أن نبعث الناس من جديد.

    كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال:5-6].

    أحداث ما قبل معركة بدر

    وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7] هذا موضوع آخر له علاقة بالموضوع الأول ولكنه منفصل عنه نسبياً.

    إن الله وعد نبيه بالوحي أو بالرؤيا أنه سينتصر، فإن كانت القافلة فإنها له ولأصحابه، وإن كانت المعركة فإنها له ولأصحابه، فالله وعده إحدى الطائفتين: إما القافلة أو النصر، فأصبحت النتيجة مضمونة بيد محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا لما استغاث الله ماذا قال؟ (اللهم إني أناشدك وعدك الذي وعدت) لأن الله قال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ [الأنفال:7] وعد من الله، فرفع يديه: (اللهم إني أنشادك وعدك الذي وعدت) وليس هو وعد واحد بل وعود، الوعود بدأت من الله من مكة : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] هذه آية مكية، الصحابة يعذبون تحت أيدي قريش، والقرآن ينزل: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر:45] جمع قريش سيأتي عليه يوم يهزم فيه سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45-46].

    لما نزل جبريل على ثنايا النقع يقود جيش الملائكة، خرج محمد صلى الله عليه وسلم يثب، يعني: يقفز على رجل واحدة، ويأخذ من حصباء التراب في الأرض ويضرب وجوه الكفار، ويقول: شاهت الوجوه سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ويصرخ بها صلى الله عليه وسلم .. نشاط وحيوية وعسكرية وجدية لا تعرف الانهزام.

    وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7] لكن الود القلبي عند البعض أيضاً يذكره القرآن؛ لأن القرآن يشخص الواقع، يجب أن ننتبه أيها الأحباب أن الكتاب هذا ليس كتاب مثاليات، أو برج عادي، القيادة موجودة فيه باللاسلكي، وتصنف على كيفها، لا. إنما القرآن يشخص مجتمعاً وأمة وجماعة نقلت هذا القرآن من واقعه النظري إلى الوقع العملي، فصار كل واحد منهم قرآن متحرك.

    سر اختيار الله للشوكة بدلاً من الغنيمة

    قال الله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] والمودة: هي غاية الرغبة والطلب المنبثق من أعماق القلب؛ لذا جعلها الله بين الزوج والزوجة: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] ومعنى هذا: أن بعض الصحابة لما ذكرت القافلة والمعركة، قال: آه يا ليتها القافلة، أخرجها من الأعماق، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ والله يسميها ذات الشوكة .. المعركة كأنها شوكة تنخز الجنب، تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] هذا مراد البعض، ولو تحقق مرادهم، ماذا سيكتب التاريخ إن كان منصفاً، سيقول: خرج محمد وأصحابه يستردون بعض مالهم الذي تركوه في مكة ، هذا إذا كان التاريخ منصفاً، أما إذا كان التاريخ له لسان استشراقي استعماري علماني يهودي صهيوني شيوعي، ماذا سيقول؟ خرج محمد مع عصابة لصوص كقطاع طرق إلى قافلة آمنة مطمئنة مسالمة، تمثل المركز الديني -وهذا من حرصهم على الدين- والمسجد الحرام فاقتطعوا طريقها، وقتلوا من فيها، وسفكوا دماءهم، ونهبوا أموالهم، ومثلوا بأجسادهم .. كما هو حال الصحف، حتى أصبح الملتحي إذا عطس قالوا: وضع متفجرات، ولكن ماذا كتب التاريخ عندما حقق الله النصر في بدر؟

    سواء المنصف أو العدو، أرغم رغم أنفه أن يكون منصفاً، حتى الأعداء، هل سيقول الأعداء: إن عدد جيش محمد يتساوى مع جيش أبي جهل؟ مستحيل! فهذا الكذب الواضح هل سيقول: إن خيوله كخيولهم، وإبلهم كإبلهم، وطعامهم كطعامهم؟ لا أبداً، هذه الأمور لا يمكن التزوير فيها، لا يمكن أبداً؛ لأنها قضايا مادية محسوسة ملموسة.

    فاضطر التاريخ -بحزن- أن يذكر انتصر محمد بثلاثمائة وثلاثة عشر على تسعمائة وتسعة وتسعين، لا يستطيعون القول بأنهم ألف رجل، كي يقللوهم، ولكن هذه أو تلك، نتيجة القافلة شيء ونتيجة المعركة شيء آخر، نتيجة المعركة انتصار معسكر الإيمان بالإيمان المجرد على معسكر الكفر المادي، انتصار حزب الرحمن على حزب الشيطان، انتصار من يقول: الله أكبر على من يقول: أعل هبل، انتصار من يقول: لا شريك لك على من يقول: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.

    قضيتنا مبادئ منذ القدم

    القضية ليست قضية معركة عابرة كسائر المعارك، لا. لا بد من التفصيل القرآني فيها، لهذا هذه الآيات استوعبت جميع أو معظم صنائع المعركة، وكأن القائد الذي يقودها ليس محمداً الذي على الأرض صلى الله عليه وسلم، وإنما القائد الحقيقي الذي يوجه الجنود ويبين لهم نوع وموقع ومكان الضرب ويشخص الموقع الاستراتيجي ويدفع الجنود إليه، ويرغم العدو على القتال عليه، هو الله، أعد قراءة سورة الأنفال وستجد أن القائد الذي يدير المعركة هو الله.

    الجنود المساكين بعضهم يريد القافلة، الله يقول: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] من هذا الموقع قبل أن تبدأ المعركة، من هذا الموقع والجيش يمشي، أيضاً الذي يقود هو الله، ويقود بماذا؟

    يقود بقدره، بإرادته، بدفع الأسباب والنواميس والقوانين لتحقق النصر، احتفال هائل في السموات السبع، اختيار جنود معينين وقائد معين اسمه جبريل، لهذا يقول الله بعد ذكر هذه القضية: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7] والله لولا هذه الآية لما استطعنا أن نأكل لقمة واحدة، لولا أن من عقيدتنا أن الذي يقطع دابر الكافرين هو الله، ما خرجت أنا من بيتي، وما جئتكم إلى هنا، نخاف، ولكن عقيدتي: أن الذي يتتبع دابر الكافرين في حالة نصره وإدباره ليقطعه هو الله، عند ذلك لا أبالي بأحد، ولا أخاف أحداً إلا الله.

    نزول هذه الآية في هذا الجو النفسي والتردد القلبي؛ بعضهم يريد القافلة وبعضهم يريد غير ذات الشوكة، وإقرار هذه الحقيقة: أن الله هو الذي يحق الحق وأنه هو الذي يقطع دابر الكافرين، لا سيوفكم، ولا عددكم ولا عُددكم، هذه تكون برداً وسلاماً على القلوب المضطربة.

    لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8] أبرز صفة فيهم الإجرام، ولعلك تلمس الإجرام في المكر والكيد والإِشاعات والكذب المبثوث والتخطيط، تلمس الإجرام في سلب الأعراض، وهدر الدماء، وأخذ الأموال، تلمس الإجرام في التفنن في تشويه وتلوين وإثارة الغبار على سمعة الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، تلمس الإجرام ينبثق من السجون والمعتقلات والعذاب الذي يصب على الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها، هذا يهدد بأمه العمياء يريدون أن يهتكوا عرضها أمامه، وهذا بزوجته، وهذا بابنته، وهذا بمقامه، وهذا بلقمة عيشه ... إجرام!

    القضية ليست قضية كفر، قد يكون مع الكفر رجولة، ولكن الإجرام لا رجولة معه، أبو سفيان كان كافراً ولكنه كان رجلاً، ما استطاع أن يكذب على محمد كذبة واحدة أمام هرقل قيصر الروم؛ لأن العرب ترفض الكذب، عار أن يكذب أبو سفيان، أما اليوم فإن الذي يقود ليس أبا سفيان إنما أبو جهل، الذي طعن سمية في مكان عفتها فقتلها، مجرم، لا يستطيع أن يخوض معركة إلا بعد أن يشرب الخمر ويأتي بالفنانين يغنون. والله لا نرجع إلى مكة حتى نأتي مياه بدر فننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف فوق رءوسنا القيان -يعني: الفنانين- وتسمع بنا العرب، فتهابنا أبد الدهر.

    إذاً: هو مجرم ليس بكافر عادي، بل كافر من نوع ممتاز، القرآن يقرر هذه الحقيقة، لكن الأمر مختلط على الناس، والله يعلم بإجرامهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم يعلم بإجرامهم، والمؤمنون الصادقون يعلمون بإجرامهم، لكن أمام الناس لا يعلمون، الناس عندهم أبو الحكم هو مسئول الكعبة .. يوفر لها الماء والإحرام .. حكيم قريش.

    لهذا يريد الله أن يبين للناس أن معركتكم ليست معركة مصالح، أو إصلاح اجتماعي، أو مؤقتة، لا. إنما المعركة معركة مبادئ، يجب أن ننتبه لهذه القضية، إن معركتنا مع الباطل في القديم والحديث معركة مبادئ، الله يقول الله عنها: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8] أي: ليحق المبدأ رغم أنفهم.

    لهذا المجرمون بأيدهم أجهزة إعلام، وترفيه، وتشويه، وميزانيات، وخبراء ومستشارين، وكل شيء بأيدهم، والصحوة الإسلامية تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها مثل النمل، وما يفعلونه لا يؤتي ثمرة؛ لأن الله قال: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:8].

    الدعوة تنتشر بـأمريكا واليابان ولندن وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا بلاد شيوعية والدعوة تنتشر فيها، من الذي ينشرها؟! الذي يحق الحق ويبطل الباطل.

    اللهم نصرك الذي وعدت

    ثم ينقلنا القرآن نقلة من ميدان المعركة، أو بالأصح من مسير الجيش، والهواجس والوساوس والخواطر التي تدور في الظلام والله يراها ويسمعها ويعلمها .. ينقلنا القرآن نقلة إلى غرفة العمليات، من فيها؟

    اثنان: محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، والحرس الخاص في الخارج بقيادة سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، وماذا يدور داخل غرفة العمليات؟ أنت عندما تسمع عن غرفة العمليات تظن أن جدرانها مصنوعة من الإزفلت بعمق مترين وعرض مترين، حتى لو وجه صاروخ بواسطة (هيلوكبتر) لا يقضي على القيادة العامة للقوات المسلحة.

    غرفة العمليات هنا مصنوعة من جريد النخل، وحبال الليف .. عريش متواضع بسيط ولكنه متصل بالسماء، هذا هو الفرق، غرف العمليات اليوم مبنية على ماء، ترتج ولو كانت من الكوكرت والأزفلت والرخام، أما عريش محمد صلى الله عليه وسلم ليس مبنياً على ماء، إنما متصل بالسماء، قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].

    إذاً: غرفة العمليات لا يدور فيها تخطيط معين، إنما يدور فيها أصل أصيل مفقود اليوم، وهو اعتراف القائد بعبوديته وعجزه وذله أمام الله رب العالمين.

    العمليات في عالمناً تجري اعتماداً على أنفسنا وقواتنا وأسلحتنا الاستراتيجية، وضربنا في الأعماق، نحقق النصر، أما محمد صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى الله ويبكي حتى تسقط بردته على التراب، فيحملها أبو بكر ويعيدها على كتفيه، ويظل يرفع يديه حتى يظهر بياض إبطيه، ويقول: (يا رب، اللهم إني أسألك وعدك الذي وعدت، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد على الأرض) وأبو بكر يقول: [كفى مناشدتك لربك يا رسول الله! إن الله منجز لك ما وعد].

    والرسول يستغيث حتى تعب، فجلس فأخذته نعسة خفيفة، ولكن هذه النعسة حدث فيها أمر خطير، جاءت خلالها جيوش الرعب ودخلت الميدان، وجاءت بشرى الله بالنصر، وجاءت وخمسة آلاف من الملائكة نزلوا، وانتفض محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أبشر يا أبا بكر ، إن الله وعد بالنصر، فهذا جبريل على ثنايا النقع يقود الملائكة) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9] بسرعة، فالتعقيب مباشرة فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:9-10] حتى الملائكة يا رب؟ حتى الملائكة، حتى جبريل؟ قال: حتى جبريل.

    جبريل أمام العرش كالحلس البالي من الذل أمام الله، تعرف الحلس البالي؟ الدواسة التي يدوس عليها الناس عند الباب، وجبريل إذا ظهر في الكون يسد ما بين المشرق والمغرب، وله ستمائة جناح، ورفع قرى ومدن وحضارات ... وضرب الأرض فانفلقت، الأخدود الإفريقي الممتد عبر الكرة الأرضة نصفين يكفيه بضربة واحدة من جناح واحد له عليه السلام، ومع هذا يقول: حتى هذا جبريل ليس بيده أن يحقق النصر لكم إنما النصر من الله.

    إذاً: الذين يركنون إلى أمريكا ، وروسيا ، أين أمريكا وروسيا من جبريل الذي لا يأتي منه النصر، إنما يأتي النصر من الله رب العالمين؟

    من يؤمن بهذه الحقيقة من قادتنا اليوم؟

    وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم ٌ الأنفال:10] عزيز لا يغلبه أحد، حكيم يضع الأمور في نصابها ومكانها.

    ونقف أيها الأحباب عند هذه الآية، لنبين بعد ذلك هل نزلت الملائكة فقاتلت بحقيقتها أم تحولت إلى طبيعة بشرية، أم كانت مجرد تطمين ومشاركة وجدانية، أم هي مشاركة فعليه ومادية وقتالية، كل ذلك إن شاء الله في الدرس القادم نفصله.

    اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور.

    اللهم اجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.

    اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.

    اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.