الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين!
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ما يتعلق بالجن، وتقدم معنا أن هذا الأمر سنتدارسه ضمن ثلاثة مباحث, أولها: في أوجه الاتفاق بيننا وبينهم، وثانيها: في أوجه الافتراق والاختلاف بيننا وبينهم، وقد مر الكلام على هذين المبحثين، وعلى ما فيهما من مسائل وتفصيل.
والمبحث الثالث من مباحث الجن: الصلة بين الإنس والجن، صلتنا بهم، وصلتهم بنا. وقلت: هذا المبحث يقوم على أمور أربعة، كما أن كل مبحث من المبحثين الماضيين قام أيضاً على أمور أربعة، وهذه الأمور الأربعة في المبحث الثالث أولها: حكم استعانة الإنس بالجن، وثانيها: حكم المناكحة بين الإنس والجن، وثالثها: تسلط الجن على الإنس بالصرع، بالمس، ورابعها: تحصن الإنس من الجن.
إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الثالث من هذه الأمور الأربعة. وقلت عند مبحث مس الجن للإنس وصرع الجن للإنس: يدخل معنا في ذلك أمران أيضاً, أولهما: خطف الجن للإنس, كما تقدم معنا تقرير هذا، وثانيهما: تسلط الجن على الإنس بالقتل عن طريق الوخز الذي يصاب الإنسان به، وإذا أصيب به حصل به مرض الطاعون كما تقدم معنا, فهو وخز الجن، فكنا نتدارس وخز الجن، وبينت أنه بسبب إصابة الجن للإنسان يحصل مرض الطاعون كما أشار إلى ذلك نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام. فأثبت هذا وحققته كما تقدم معنا، واستعرضنا مع ذلك أعراض الطاعون.
ثم انتقلنا إلى مبحث ثانٍ: فضل الإصابة به، وقلت: من أصيب به فله أجر الشهادة، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مبحث ثالث في سبب الإصابة بالطاعون. وبقي علينا أدب نبوي ينبغي أن يحافظ عليه المسلمون نحو البلد الذي ينتشر فيه الطاعون.
إخوتي الكرام! فيما يتعلق بفضل الإصابة بالطاعون, ذكرنا في آخر الموعظة الماضية: أن من أصيب بالطاعون فله أجر الشهادة، وهكذا من أصيب بغير ذلك من أنواع الميتات الصعبة الشديدة على الإنسان كالحرق والغرق، والمرأة إذا ماتت بجمع, وقلت: هؤلاء جميعاً لهم أجر الشهادة، وقلت: لكن من أصيب بمرض الطاعون تختلف شهادته وأجره عمن يموت بمصيبة أخرى، والسبب في ذلك: أن مرض الطاعون -الإصابة بالطاعون- وقعت عن طريق أعدائنا من الجن، كما أن القتل في المعركة مصيبة، ووقعت عن طريق أعدائنا من الإنس، ولذلك يستوي عند الله جل وعلا من قتل في المعركة شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله، قتل على أيدي الكفار، مع من قتل بسبب أعداء الله من الجن فأصيب بالطاعون ومات، فقلت: هذان الصنفان من الشهداء منزلتهما واحدة، ومن عدا هؤلاء فلهم أجر الشهادة، ولهم كرامة خاصة، لكن لا يلتحقون بهذين الصنفين كما تقدم معنا. وقلت: إن كل مصيبة يصاب بها الإنسان في هذه الحياة تطهره وتغفر له ذنوبه.
وتقدم معنا إخوتي الكرام! أن الممحصات عشرة: تسعة منها قبل نار جهنم، من طهر بها فلن يدخل النار، ومن بقي عليه شيء من التقصير، فيطهر بعد ذلك بالكير ونار السعير. نسأل الله أن يلطف بنا وأن يتوب علينا وأن يمن علينا بالنجاة من النار, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. وهذه المطهرات إخوتي الكرام! ذكرتها في الموعظة الماضية، وذكرت بعض ما يدل عليها من أحاديث, ووعدت أن أكمل هذا في أول هذه الموعظة إن شاء الله.
يوجد ثلاثة مطهرات في هذه الحياة: أولها: التوبة والاستغفار، ثانيها: المصائب التي يصاب بها الإنسان في ماله .. في نفسه .. في أسرته، تكفر عنه ذنوبه، وتغفر سيئاته، وثالثها: الطاعات الماحية، فمن أصيب بشيء من ذلك في هذه الحياة، واتصف بشيء من ذلك، كانت طاعاته كثيرة:
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
[هود:114]، أو كانت مصيباته كثيرة تغسله من ذنوبه فيمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، أو استغفر وتاب، فمن تاب تاب الله عليه، لكن لو قدرنا أنه ما تاب من ذنبه والمصائب ما كفرت لذنوبه لكثرتها, وطاعاته قليلة ما كفرت الذنوب لكثرتها، فهناك دار أخرى، وهي البرزخ، أيضاً فيها - كما تقدم معنا- ثلاثة مطهرات: المطهر الأول: شدة النزع والسياق وآلام الموت، هذه تغسل الإنسان من ذنوبه وأوزاره، وثانيها: الدعاء له والصلاة عليه والاستغفار له عندما يصلى عليه، ويتبع ذلك ما يهدى له من حسنات بعد الممات، ما يأتيه من قبل المؤمنين والمؤمنات. فإن طهر بهذين الأمرين وإلا سيعذب في البرزخ، وهو المطهر الثالث، وقد يعذب فترة ويطهر فلن يعذب في الآخرة بعد ذلك، وقد يستمر العذاب به مدة الحياة البرزخية ولا يطهر، فيؤول أمره إلى مطهرات ثلاث بعد ذلك في الآخرة، إن طهر بها وإلا سيدخل نار جهنم.
الدار الثالثة -وهي الدار الآخرة- تقدم معنا أن فيها ثلاثة مطهرات قبل النار: أولها: الفزع الذي يعتري الناس والشدائد والأهوال في الموقف تغسلهم من ذنوبهم.
ثانيها: شفاعة الشافعين، وفي مقدمتهم نبينا الأمين خير خلق الله أجمعين، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. فإن طهر الإنسان فبها ونعمت، وإلا فتأتي شفاعة رب العالمين وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى، فيغفر مغفرة لا تخطر على بال أحد، ويدخل قوماً الجنة لم يعملوا خيراً قط, وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. فلو قدر أن الإنسان ما حصل شيئاً من ذلك وذنوبه كثيرة غفر له شيء وبقي عليه شيء فلا بد بعد ذلك من أن يدخل نار جهنم ليطهر. هذه ممحصات ومطهرات عشرة ذكرها أئمتنا.
والنار آخر المطهرات، ولن يخلد أحد من المؤمنين والمؤمنات في الدركات، لا بد من أن يدخلوا الجنة، لكن إما أن يدخلوها من غير عذاب، لما مر عليهم من مطهرات إما في الدنيا وإما في البرزخ وإما في الدار الآخرة، وإما أن يدخلوا الجنة بعد عذاب، وهو المطهر العاشر. نسأل الله أن يمن علينا بعدم الوصول إليه, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أحاديث أخرى تقرر هذا إخوتي الكرام:
والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة، منها: ما ثبت في صحيح مسلم ، والحديث رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد في صفحة (180)، ورواه الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة (308), ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الأول صفحة (346) من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
وقد نهينا عن سب الحمى وعن غيرها من الأمراض، فهي بتقدير رب العباد وأنزلها لكي تطهرك، فعلام تجزع وتسخط وتسب هذا الذي قدر عليك؟ ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في أول الجزء الرابع من زاد المعاد فيما يتعلق بالأمراض -والجزء الرابع من أوله إلى آخره في الطب النبوي- يذكر أنه هو عندما أصيب بالحمى، وتذكر كلام بعض الشعراء:
زارت مكفرة الذنوب لصبها تباً لها من زائر ومودع
ومكفرة الذنوب هي: الحمى.
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي
فقال الإمام ابن القيم: تباً له، يسب ما جعله الله مطهراً من الذنوب؟ ثم عارضه ببيتين آخرين فقال:
زارت مكفرات الذنوب لصبها .........
(لحبيبها ومحبوبها)
زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلاً بها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا تقلعي
ابقي في جسدي وفي جسمي؛ من أجل التطهير من الذنوب في هذه الحياة.
فقال: كيف يسب ما جعله الله مطهراً للإنسان من الذنوب؟ فهذه المصائب مكفرة مطهرة، لا سيما الحمى، ومن أصيب بها فهي حظه من نار جهنم.
وهذا كما قلت فعل بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام, وأقر نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا غاية ما يقال فيه: أنه جائز، ليست حالة محمودة، أمرنا وندبنا أن نطلبها من الله، ولا نقول أيضاً: حالة مذمومة من فعلها فهو مخطئ. ونسأل الله أن يمن علينا بالحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة،
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
[البقرة:201]. لكن هذا حال أبي رضي الله عنه وغيره.
ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء الثاني صفحة (307)، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: رواته محتج بهم في الصحيح، كلفظ الإمام الهيثمي : رجاله رجال الصحيح، ولفظ الحديث: من رواية فاطمة الخزاعية رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار وهي وجعة، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: كيف تجدينك؟ قالت: بخير يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلا أن أم ملدم برحت بي ). وأم ملدم كنية للحمى، سميت بذلك: من لدم بالشيء إذا أقام فيه وسكن فيه، وبقي فترة طويلة، ويقال: ملذم، بالذال المعجمة، وقولها: (برحت) أي: أثرت وأضعفتني وأنهكتني، فأنا بخير، لكن هذه الحمى أثرت في جسمي وأضعفته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( اصبري, فإنها تذهب خبث ابن آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ). هذا مطهر جاءك من الله فاحمدي الله عليه واصبري.
وورد في معجم الطبراني الكبير أيضاً من رواية عبد ربه بن سعيد بن قيس عن عمته وهي صحابية رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أم ملدم تخرج خبث ابن آدم كما يخرج الكير خبث الحديد ).
وثبت في مسند البزار بسند حسن كما قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الثاني صفحة (306)، وهكذا الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة (300)، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحمى حظ كل مؤمن من النار, فمن أصيب بها لن يدخل نار الآخرة بفضل الله ورحمته ). والحديث رواه ابن أبي الدنيا وابن عساكر في تاريخه من رواية ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.
وثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، الحديث رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار، ورواه ابن أبي الدنيا , قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة (300)، وإسناده لا بأس به، وقال الإمام الهيثمي في المجمع: في الجزء الثاني صفحة (305): في إسناده أبو حصين الفلسطيني لم أر له راوياً غير محمد بن مطرف . كأنه يشير إلى أن فيه جهالة، ولذلك ترجمه الإمام ابن حجر في التقريب فقال: مجهول، ثم رمز له (فق) يشير إلى أنه من رجال ابن ماجه في التفسير، وليس في السنن، روى له الإمام ابن ماجه في التفسير، وتفسير الإمام ابن ماجه ما عندنا خبره الآن، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا. وله شواهد كما تقدمت معنا ترفع الحديث إلى درجة القبول إن شاء الله، ولفظ الحديث: من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحمى كير من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من جهنم ).
وروى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط كما في المجمع في الجزء الثاني صفحة (306)، من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحمى حظ أمتي من جهنم ). قال الإمام الهيثمي : في إسناده عيسى بن ميمون ضعفه أحمد وجماعة، وقال الإمام الفلاس: كان صدوقاً كثير الخطأ والوهم فترك. ومعناه ثابت في الأحاديث المتقدمة. وقد نقل الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في المكان المتقدم عن الحسن البصري وعزا الأثر إلى ابن أبي الدنيا عن الحسن البصري رفعه، فهو مرسل، ومراسيل الحسن تقدم معنا أنها أضعف المراسيل, وهي شبه الريح, لكن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك استحسن هذا الأثر، وقال: جيد جيد. معناه ثابت في الأحاديث, وفيه بشارة لهذه الأمة فاستمعوا له. وهو كما قلت: في الترغيب والترهيب في صفحة (300)، قال: وعن الحسن ، ولم يقل: روي؛ لأنه بين أنه مرسل، وله شواهد, فمعناه ثابت، والأصل أنه دائماً ما هو ضعيف يصدره بلفظ روي. وعن الحسن رضي الله عنه رفعه قال: ( إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة ). رواه ابن أبي الدنيا من رواية ابن المبارك عن عمر بن المغيرة الصنعاني عن حوشب عنه، وقال: قال ابن المبارك : هذا من جيد الحديث، يعني: لما فيه من بشارة لهذه الأمة، ومعناه ثابت مع ما فيه من إرسال وضعف. والله تعالى أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى.
وأثر ثانٍ عن الحسن أيضاً رواه ابن أبي الدنيا قال: كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة لما مضى من الزمن. كان يقصد من تقدمه من التابعين والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، يرجون بحمى ليلة أن تكون كفارة لما مضى من الذنوب. فالمصائب مكفرة، وللذنوب غافرة بفضل ورحمة أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى.
وثبت في صحيح البخاري وغيره من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً )؛ لأنه صار عليك عذر, فالسفر عذر, والمرض عذر، فإذا لم تتمكن من القيام بأعمال صالحة يكتب لك ما كنت تقوم به في حال صحتك، وهنا كذلك.
وكما قلت: ما أعلم حسب علمي بالنسبة للشيوخ الصالحين الذين أدركتهم وهكذا بعض إخواننا ممن توفوا يصاب بمرض قبل موته ثم يقبض. وهذه بشارة خير، أولاً غفران الذنوب، ثم المريض إذا كان مؤمناً ينكسر إلى الله ويتذلل له، ويزهد في الدنيا، ويتعلق بربه سبحانه وتعالى، فعندما يبشر بلقاء الله يفرح، والله للقائه أفرح منه. وهذه من علامات حسن الخاتمة: أن يمرض الإنسان قبل موته، فلو قدر له الشفاء غسل وطهر، ولو قبض غفر له ورحمه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى. هذه بشارة عظيمة لمن يصابون بمرض أن يتأسوا بهذا, وأن يسمعوه، وأن يعلموا عظيم الأجر الذين يحصلونه عند ربهم جل وعلا.
ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح كالشمس، وإسناد الأثر على شرط الشيخين كما قال الحاكم وأقره عليه الذهبي, وانظروا الأثر في المستدرك في الجزء الثاني صفحة (445) وفي الجزء الرابع صفحة (388)، عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: ( ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل؟ أفضل آية .. أعظم آية .. أرجى آية، ألا أخبركم بها؟ قالوا: بلى، قال: أخبرني بها نبي الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم تلا هذه الآية:
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
[الشورى:30]. ثم قال علي رضي الله عنه: من أذنب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا فهو كفارة له، والله أكرم وأعدل من أن يثني العقوبة على عبده مرة أخرى. ومن أصاب ذنباً فستره الله وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه ). فهذه أفضل وأرجى وأعظم آيات القرآن.
إذاً: ذنوبنا وعيوبنا لها حالتان: إما أن تعجل لنا العقوبة عليها في هذه الحياة فتطهر، أو يعفو الله عنها ويغفرها، فلن يحاسبنا عليها في الآخرة، فهو أكرم الأكرمين, وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
وهذه الآية الكريمة كان سيدنا عمران بن حصين رضي الله عنهما يتسلى بها في مرضه الذي أصيب به، ولقي بعد ذلك بسببه ربه سبحانه وتعالى، وأثره ثابت في معجم الطبراني الكبير بسند حسن كما في المجمع في الجزء الثاني صفحة (302) عن الحسن رضي الله عنه وأرضاه قال: دخلنا على عمران بن حصين نعوده من المرض الذي أصابه، فقال له الحسن : إني لأرثي لك مما أرى بك، يعني: حالتك تدعو إلى التفجع والحزن والتألم لما حل بك من هذا المرض الذي أصبت به, رضي الله عنه وأرضاه. وهو قد أصيب بمرض الاستسقاء، وهو الانتفاخ في البطن مع مرض البواسير رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك كان صابراً محتسباً، والملائكة كانت تسلم عليه في مرضه رضي الله عنه وأرضاه، فقال عمران للحسن : يا ابن أخي! لا تقل هذا، إن أحبه إليّ أحبه إلى الله عز وجل. هذا أمر قدره الله وشاءه، وما يقدره الله فنحن نفرح به ونرضى به، ثم قال له: هذا بما كسبت يداي يا ابن أخي! هذا بما كسبت يداي، فلا تتضايق ولا تتفجع وتتوجع من أجلي، هذا بما كسبت يداي، ثم يأتيني عفو ربي فيما بقي، يشير إلى هذه الآية، ثم قال:
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
[الشورى:30]. يقول له: هذا بسبب ذنوبي وعملي، ولن أحاسب عليها بعد أن عوقبت بها، وإذا بقي شيء فيأتيني عفو ربي فيما بقي. والأثر كما قلت في معجم الطبراني الكبير وغيره، وإسناده صحيح.
وخلاصة الكلام: أن هذه المصائب تكفر ذنوب الإنسان وتطهره منها, ولذلك إذا أصيب الإنسان بمرض الطاعون أو بغيره كفرت عنه ذنوبه، ومرض الطاعون -كما تقدم معنا- له مزية على غيره من الأمراض والبلايا، فهو ملحق بدرجة الشهادة التي تكون عند قتال الكفار؛ لأن كلاً من هاتين المصيبتين وقعتا على الإنسان بواسطة أعدائه الكافرين من شياطين الإنس، أو شياطين الجن.
قال الإمام ابن حجر في الفتح في الجزء العاشر صفحة (193): لا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات لا يلزم من ذلك مساواة المؤمن الكامل في المنزلة, قال: لأن درجات الشهداء متفاوتة، كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهداً في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وهي مقبل غير مدبر، عاص قتل في سبيل الله وهو مقبل غير مدبر، وصديق قتل في سبيل الله وهو مقبل غير مدبر، فهل هما في منزلة واحدة عند الله؟ قطعاً لا, كما سيأتينا هذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، مع أن الكل شهيد عند الله جل وعلا، وأحياء عند ربهم يرزقون، لكن لا يلزم استواؤهما في الدرجة والرتبة والمكانة.
قال: ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة, لا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم لتقاعسهم عن إنكار المنكر. يعني: أحياناً من أسباب وقوع الطاعون انتشار المعاصي وفي مقدمتها فاحشة الزنا نسأل الله العافية، فقد يصاب به بعض الصالحين ممن لا يخطر الزنا بباله فضلاً عن فعله، كما تقدم معنا في ترجمة أمين هذه الأمة سيدنا أبي عبيدة بن الجراح عندما مات مطعوناً، فهذا قطعاً ليس بسبب ذنب فعله من ناحية فاحشة أو كذا، وأصيب بالطاعون، مع أنه كما قلت: الأصل في انتشاره ووجوده في ذلك المكان وجود معصية، ثم بعض الناس لم ينكر تلك الفاحشة لكنه يصاب، وبعضهم وإن أنكر أيضاً يصاب؛ من أجل أن يكون ذلك رفعة في منزلته وعلواً في درجته عند الله جل وعلا، فهم يتفاوتون في المنزلة عند الله جل وعلا.
وقد تقدم معنا أن الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد دنيا وآخرة، وهو شهيد الحرب، وشهيد الآخرة، وهو من مات بميتة من هذه الميتات، فلهم أجر الشهادة عند الله، يمتاز عنهم من يموت بسبب الطاعون بأنه يلحق بأولئك أيضاً بالآخرة، ومنزلته أعلى من منزلة من عداه، ولا يعني هذا أنه في الدنيا كأحكامهم؛ لأن هذا أمر خفي عنا، ولا نعلق الأحكام بأمر خفي، إنما تتعلق بأمر ظاهر.
يضاف إلى هذا: شهيد المعركة إذا لم يمت في ساحة المعركة، لو جُرح ثم حول إلى المستشفى ثم مات بعد ذلك فله أجر الشهادة، لكن لا يقال: شهيد دنيا الآن؛ لأنه عاش بعد هذا فترة، ودخل في أحكام أهل الدنيا، فيغسل بعد ذلك ويكفن ويعامل معاملة من يموت على فراشه, مع أن له أجر الشهادة، إنما هذا ينبغي أن يموت في المعركة، أو أن تثخنه الجراح وإن حمل لكن ما تأخرت به الحياة، لكن لو قدر أنه جرح وأخذوه إلى المستشفى, بقي شهراً ليعالج ويداوى ثم مات، هذا ما ينال تلك المنزلة أيضاً.
وهنا كذلك: لأن الذي يصاب بالطاعون بقي على حالته يأكل ويشرب ويزاول الأعمال، ثم بعد ذلك ذهبت منه الحياة, نسأل الله حسن الخاتمة. فيعامل معاملته في الآخرة فقط.
ثم قرر الحافظ ابن حجر هذا بحديثين اثنين سأذكرهما, وأختم بهما الكلام على هذه المسألة وهذا التعليق بإذن الله جل وعلا:
الحديث الأول: حديث عتبة بن عبد ، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، وانظروه في موارد الضمآن صفحة (388)، ورواه الدارمي والبيهقي في السنن الكبرى، وقال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس صفحة (291): رجاله رجال الصحيح، غير المسمى الأملوكي ، وهو ثقة، فجميع رجال الإسناد مخرج لهم في الصحيح إلا المسمى الأملوكي وهو ثقة, ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة فضلاً عن الصحيحين. والحديث في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة (316)، وقلت: من رواية عتبة بن عبد السلمي من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( القتلى ثلاثة )، منازلهم متفاوتة، ثم كل صنف من هؤلاء الثلاثة منازلهم متفاوتة حسب ما يعلم الله جل وعلا، ( رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى قتل، فذلك الشهيد الممتحن في جنة الله تحت عرشه, لا يفضله النبيون إلا بفضل درجة النبوة )، هذا مؤمن كامل الإيمان، جاهد في سبيل الله بنفسه وماله، فإذا لقي العدو صبر وقاتل حتى قتل، فهذا الشهيد الممتحن، قال الإمام المنذري : بفتح الحاء المهملة، وهو المشروح صدره، ومنه قول الله:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى
[الحجرات:3], أي: شرحها ووسعها.
وفي رواية المسند في المطبوع (فذلك الشهيد المفتخر) هذا في المسند، ولعله فيما يظهر تصحيف، والعلم عند الله جل وعلا، والإمام المنذري هنا ضبطه يقول: الممتحَن بفتح الحاء المهملة، وهو المشروح صدره، ومنه قول الله:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى
[الحجرات:3].
قال: ( ورجل فرق على نفسه )، أي: خائف، من الفرق وهو الخوف، ( فرق على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله, حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فتلك مصمصمة محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء للخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء )، فإن لها ثمانية أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
هذا الآن مؤمن آخر، خائف على نفسه من الذنوب والخطايا، لكنه لما لقي العدو صدق وقاتل وصبر حتى قتل، فعندما قتل (تلك مصمصمة), يعني: ضربة بالصمصام وهو السيف، محت عنه ذنوبه وخطاياه، ( إن السيف محاء الخطايا, فغفرت له ذنوبه وخطاياه، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء ).
والصنف الثالث نعوذ بالله منه, قال: ( ورجل منافق جاهد بنفسه وماله، حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله عز وجل حتى يقتل, فذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق ). والمراد بالنفاق هنا: النفاق الأكبر قطعاً وجزماً؛ لأن نفاق العمل يدخل في دائرة المعصية، والإنسان يكون فرقاً منه وخائفاً على نفسه, نفاق العمل، إذا حدث كذب ووعد أخلف وخاصم فجر وعاهد غدر. هذا كله نفاق العمل، أما النفاق الأكبر وهو: أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر نسأل الله العافية، فهذا وإن قاتل في سبيل الله حتى قتل، فإن السيف لا يمحو النفاق.
إذاً: عندنا شهيد بينه وبين الأنبياء درجة النبوة فقط عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، المؤمن القوي الإيمان، الذي لقي العدو فثبت حتى قتل، ودونه إنسان قارف الذنوب والخطايا وفعل الأوزار والرذائل، لكن لما لقي العدو قاتل بصدق حتى قتل، فهذه مصمصمة محت ذنوبه وخطاياه وكفرت أوزراه.
والصنف الثالث: منافق قاتل في سبيل الله حتى قتل، فهذا في النار، ( لأن السيف لا يمحو النفاق ). هذا الحديث الأول. مما يدل على أن الشهداء يتفاوتون في المنزلة، فالشهيد الأول والثاني كل منهما مؤمن، لكن ذاك مؤمن تقي، وهذا مؤمن عاصٍ، فتفاوتا في المنزلة.
الحديث الثاني: حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، رواه الإمام أحمد في المسند، انظروه في الجزء الأول في مسند الإمام أحمد صفحة (23), ورواه الترمذي في السنن وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد نص الشيخ أحمد شاكر على أن إسناد المسند أيضاً إسناد حسن في التعليق على المسند في الجزء الأول صفحة (221)، والحديث في الترغيب في الجزء الثاني صفحة (322)، وعزاه إلى الإمام البيهقي أيضاً، وهو بمعنى المتقدم. ولفظ الحديث: عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الشهداء أربعة ). هناك ذكر ثلاثة أصناف، وليس هذا من باب الحصر، فهنا سيعد مع أولئك صنفاً آخر، فاستمعوا لذلك: ( رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا، ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، قال الراوي: فلا أدري قلنسوة
قال: ( ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو )، فهذا منهمك في البلايا والرذائل، ( أسرف على نفسه لقي العدو، فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الرابعة ). عندكم في الترغيب والترهيب (فذلك في الدرجة الأولى) وهذا خطأ قطعاً وجزماً، فصححوه.
إذاً: عندنا الآن أربعة أصناف، وليس فيهم واحد منافق: الصنفان الأولان كل منهما جيد الإيمان، لكن واحد تقدم بصدق وعنده جرأة، والثاني أصابه جبن وفزع ورعب، فالأول في الدرجة الأولى، وما بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة، والثاني دونه, ثم الصنفان الآخران كلاهما صاحب ذنوب وعيوب، لكن واحد عمل عملاً صالحاً وآخر سيئاً، والثاني أسرف على نفسه، أي: ذنوبه كثيرة, فهو في عداد المسرفين، فالأول منهما في الدرجة الثالثة، والثاني منهما في الدرجة الرابعة، وما ذكر النفاق.
وهكذا فهم يتفاوتون في المنزلة عند الله جل وعلا، فلا يلزم إذا أصيب أبو عبيدة رضي الله عنه بمرض الطاعون وأصيب بعد ذلك صعلوك مثلي بمرض الطاعون أن نستوي مع أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه في درجات الجنة، ولا يخطر هذا بالبال، لأن ذاك عنده من الأعمال الصالحات ما هو أعظم من الجبال الراسيات، وأما نحن فحالنا لا يعلم به إلا ربنا. ونسأله أن يسترنا في الآخرة كما سترنا في الدنيا, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
هذان حديثنا ثابتان صحيحان يقرران هذا الأمر, ألا وهو: أن الشهداء يتفاوتون في المنزلة عند الله، فلا يلزم من كون من يصاب بالطاعون شهيداً أن يلحق في المنزلة بشهيد المعركة، ولا يلزم أيضاً من كون من يصاب بالطاعون شهيداً أن يستوي كل من يصاب بالطاعون في المنزلة، ولا يلزم أن يكون من يموت في المعركة شهيداً أن يستوي مع غيره أيضاً في المنزلة، هؤلاء كلهم لهم ثواب الشهادة، لكنهم يتفاوتون في المنزلة على حسب أحوالهم عند ربهم. نعم كلهم له وصف الشهادة، ويمتازون على غيرهم بأن لهم مكانة خاصة، وأجراً عظيماً، لكن بعد ذلك يتفاوتون فيما بينهم في المنازل. والعلم عند الله جل وعلا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر