www.islamweb.net/ar/

دور الإيمان والحال بعد الموت للشيخ : أحمد القطان

  • التفريغ النصي الكامل
  • يتحدث الشيخ عن الرحلة إلى الدار الآخرة؛ عن حياة البرزخ ... يوم المحشر .. الصراط .. حوض الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقارن بين مصير المؤمن ومصير الكافر، كما بيَّن فضل الأخوة في الله وثمرتها يوم القيامة. إن المؤمن يسعد في دنياه وأخراه، وأما الكافر فإن له معيشة ضنكا.

    بشرى المؤمن في أنفاسه الأخيرة

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على قدوتي وحبيبي وقرة عيني ومعلمي محمد بن عبد الله.

    اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، اللهم حرم وجوهنا ووالدينا والحاضرين عن النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار الأخيار.

    اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم استر عوراتنا، وأمن روعاتنا، وخفف لوعاتنا، واغفر زلاتنا، واجعلنا برحمتك في الفردوس الأعلى.

    اللهم من أراد بهذا البلد سوءاً فأشغله في نفسه، ومن كادنا فكده، واجعل تدميره في تدبيره.

    اللهم اجعلنا في ضمانك وأمانك ونعمتك وإحسانك، واحرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا أرحم الراحمين.

    أما بعد:

    أيها الأحباب الكرام .. لقد كنت اليوم مريضاً، ولكنني جئت أطلب الشفاء من الله بحضوري هذا الدرس؛ فلا يوجد دواء مثل ذكر الله رب العالمين في مجالس الذكر، قال تعالى في كتابه الكريم: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82].

    وخير موضوع أبدأ به - أيها الأحبة: - هو فرحتي وفرحتك يوم أن ننتقل من عالم الظالمين إلى عالم أرحم الراحمين، يوم أن ننتقل من عالم المغتابين إلى جنات النعيم بإذن رب العالمين.

    وإن هذه اللحظة يقول الله عنها ويأمر نبيه أن يبشر أمته فيقول: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً [الأحزاب:47] قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِـمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] وهل هناك أعظم من أن تنـزل عليك ملائكة الرحمة بعد أن كنت في طاعة الله ونعمته!

    أما قلبك فمعلق بالمساجد.

    وأما قدمك فتسعى في سبيل الله.

    وأما أناملك فتنعقد على التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير.

    وأما مالك فقد زكا ونما بأداء الصدقات والزكاة.

    وأما ليلك فبقيام الليل أمام ربك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] وكان ثواب الطاعة الطاعة بعدها، وهكذا ينقلك ربك من خير إلى خير، فما أن تنتهي من فريضة الظهر، حتى تشتاق إلى فريضة العصر، فإذا انتهيت منها اشتقت إلى فريضة المغرب، وهكذا يسوقك الله إلى الخيرات إلى أن تلقى الله.

    فإذا جاءت اللحظة الحاسمة جاء الدعاء: اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقياك: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

    أفراح المؤمنين تبدأ -أيها الأحباب- في الدنيا .. الناس في الظلمات وهو في النور، الناس في معيشة ضنكاً وهو في معيشة يسرى من اليسر والخير، كما قال سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] أي: في الدنيا وفي الآخرة، الناس تتلقفهم شياطين الجن والإنس، وهو تحفه الملائكة أينما سار، أليست هذه هي فرحة الدنيا يوم أن تدخل بيتك فترى أولادك ذاكرين شاكرين مصلين؟ يوم أن تدخل بيتك فترى زوجتك من المؤمنات المسلمات الغافلات اللواتي لا تعرف إلا الله ودينه، غافلة عن شهوات الدنيا وشياطينها؟ ألا إنها السعادة، ألا إنها الفرحة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96] وهذا الود الذي سيجعله الرحمن تجده في احترام ولدك لك، وفي طاعة زوجتك لك، وفي رضا والديك عليك، ولولا هذا الود الإلهي لأصبحت حياتنا جحيماً لا تطاق.

    الحياة البرزخية للمؤمن والكافر

    إذا جاءت اللحظة الأخيرة، ولا بد أن تأتي كما قال سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35] إذا جاءت هذه اللحظة نزل معها الثبات من الله رب العالمين؛ لأن الله يقول: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فقط، مواصفات خاصة من الثبات لصنف واحدٍ هم الذين آمنوا: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    في هذه اللحظات .. عندما يكون العبد في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، قـال صلى الله عليه وسـلم: (يرى ملائكة الرحمة على مد البصر بيض الوجوه بيض الثياب، بيدها كفن من كفن الجنة، وملك الموت ينادي روحه: أيتها الروح المؤمنة..) لا هوية .. لا جنسية .. لا لون .. لا لغة .. لا عنصرية .. لا عصبية .. لا إقليمية .. لا نداء في هذه اللحظات إلا نداء الإيمان تنزل: (أيتها الروح المؤمنة! اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتنزل روحه من فمه كما تنزل قطرة الماء من فَمِ القربة، فيحملها ملك الموت إلى ملائكة الرحمة، فتلفها بكفن الجنة ولها رائحة كأطيب ريح مسك على وجه الأرض، وتشيعه إلى السماء الدنيا، فتقول ملائكة السماء الدنيا: رَوح مَن هذه الطيبة؟ فيقولون: رَوح فلان بن فلان، بأحب الأسماء التي يُسمى بها في الدنيا، فتفتح لها أبواب السماوات السبع وتشيعها من كل سماء ملائكتها إلى عرش الرحمن).

    وما أدراك ما العرش! أعظم مخلوق من مخلوقات الله، السماوات والأرض والكرسي في العرش كالحلقة في الفلاة، هذا العرش الذي استوى عليه الرحمن، روحك -بإذن الله- تزفها ملائكة السماوات السبع عند ذلك العرش: (فيسمعون الرب يقول: اعلموا يا ملائكتي أني قد رضيت عن عبدي، فأفرشوه من الجنة) أي: افرشوا طريقه كله من مادة الجنة (وأروه مكانه في الجنة، واجعلوا روحه في عليين) (عليين) هذا مستقر أرواح المؤمنين في عالم البرزخ، وسِجِّين: مستقر أرواح الكافرين في عالم البرزخ كفانا الله الشر.

    عند ذلك بعد هذا الأمر الإلهي، بعد ثلاثة أوامر كلها خير وفرحة: (أفرشوه من الجنة، وأروه مكانه في الجنة، واجعلوا روحه في عليين) عند ذلك تبدأ الملائكة بالهبوط بالروح إلى الجسد، ليسأل السؤال الخطير في عالم البرزخ، ثم بعد ذلك ينفذون أوامر الله له، الناس يبكون من حوله، ويحملون حبيب قريب انتقل من عالم الدنيا إلى عالم الأموات، والشاعر يقول فيه:

    كل باكٍ فسيُبكى     كل ناعٍ فسيُنعى

    كل مدخور سيَفنى     كل مذكورٍ سيُنسى

    ليس غير الله يبقى     من علا فالله أعلى

    إنما شيء كفيناه     له نسعى ونشقى

    وهو: الرزق. كفيناه ونسعى له، وما أمرنا به لا نؤديه، الإنسان ظالم لنفسه: (فإذا كانت روحٌ مؤمنة تقول: عجلوا به، عجلوا به عجلوا به، إلى خير يوم منذ ولدته أمه) فإذا جاءوا إلى القبر، وألحدوه في اللحد، ودفنه الناس .. وأكرم ما يقدمون إليه أن يهيلوا عليه التراب، عند ذلك يسمع وقع نعالهم وهم ينصرفون، فيضمه القبر ضمة تختلف عن ضمة الكافر، ضمة الكافر تختلف منها أضلاعه، وضمة المؤمن تنبهه إلى الحق الذي كان ينتظره من الله، يقول عنها النبي: (لو نجا منها أحدٌ لنجا منها سعد بن معاذ ) رضي الله عنه، فإذا ضُم هذه الضمة جاءه في قبره بعد التفريج عنه رجل حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول للميت: (أبشر بالخير، فيقول الميت: من أنت؟ إن وجهك الوجه يجيء بالخير، يقول: أنا لا أفارقك أبداً، أنا عملك الصالح) وإذا بالعمل الصالح يجسمه الله إنساناً يؤنس الميت في قبره إلى البعث، هذه حقيقة مذكورة في الحديث النبوي الصحيح، العمل الصالح؛ صلاتك .. صيامك .. زكاتك .. حجك .. صلتك لوالديك .. ذكرك لله .. سعيك إلى المساجد .. أمرك بالمعروف .. نهيك عن المنكر، كل ذلك يجمعه الله ليؤنسك بإنسان يبشرك في قبرك بالخير، فيقول لك: يأتيك الآن ملكان يسألانك -يعلمك- فيأتي الملكان فيقولان: من ربك؟ تقول: ربي الله، أما الكافر فيقول: هاه. هاه. لا أدري! فيدعوان عليه: لا دريت ولا تليت، ثم يسألانك: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، أما الكافر فيقول: هاه. هاه. لا أدري! فيسألانك: ماذا فعلت بالرجل الذي بعث فيكم؟ فتقول: هو محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: انظر عن شمالك، فتنظر نافذة قد فتحت إلى نار يحطم بعضها بعضاً، فيقولان: قد كان هذا مكانك لو كفرت بالله، ثم يأمران بإغلاقها، فتغلق، فيزداد فرحة على فرحة، مثل الغريق الذي أشرف على الموت، ثم امتدت يد رحيمة فأنقذته من الهلاك.. مثل من كان على رقبته حبل المشنقة، ثم قُدر ففرج عنه (هذا مكانك لو أنك كفرت بالله).

    أنت في هذه اللحظة ماذا تتذكر؟ تتذكر تلك الخطرات الشيطانية التي مرت في قلب كل إنسان، الشيطان بين الحين والحين يأتيك ويقول لك: من خلق الخلق؟ تقول: الله، فيقول لك: ومن خلق الله؟ وهنا الرسول يعلمنا أن نقول: (آمنت بالله، لا إله إلا الله) لتكبح الشرك مباشرة بالتوحيد، في هذه اللحظة تقول: الحمد لله أنها كانت خطرة ومرت، ونجاني الله منها، وإلا فسيكون هذا مكاني.

    ثم يقولان له: (انظر عن يمينك، فينظر عن يمينيه فتفتح له نافذة إلى الجنة -يرى نعيمها وأزهارها وأطيارها وأنهارها وأشجارها وثمارها- ويقولان: هذا مكانك، فيستعجل من الفرحة، فيصيح: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة؛ لأذهب إلى أهلي ومالي، فيقولان له: ليس الآن، نم في قبرك نوم العروس، فتمر عليه مرحلة القبر -البرزخية- كصلاة ظهر أو كصلاة عصر) أي: مدتها الزمنية، ولو امتدت آلاف السنين فإن شعوره فيها ربع ساعة أو عشـر دقائق فقـط؛ لهذا عـندما تقرءون القـرآن: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31] فعلاً غير بعيد، من يوم أن يموت المؤمن تصبح الجنة قريبة منه، كما يقول الله: غَيْرَ بَعِيدٍ ربع ساعة في البرزخ، وربع ساعة في المحشر، وإذا هو على الصراط، وعند باب الجنة مع محمد صلى الله عليه وسلم، بعكس الكافر الذي يمتد عليه الزمن، ويمتد يومه إلى خمسين ألف سنة: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4].

    فيأتيه من رَوحها وريحانها، ويجعل الله قبره مد البصر، ويجعله روضة من رياض الجنة، ويأتيه استغفار ودعاء أولاده والصالحين له (كل عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ثم دعوات المؤمنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (دعوتك لأخيك في ظهر الغيب مجابة، فإذا دعوت قال الملك: ولك مثل ذلك).

    والميت -يا أحبابي- في أمس الحاجة إلى تسبيحة واحدة، والله لو جئتم إلى أهل القبور، وقدر الله أن تتحدثوا إلى واحدٍ منهم فتقولون له: ماذا تريد بعد عودتك؟ لقال: أريد تسبيحة واحدة أثقل بها ميزاني، فهي أغلى عندي من جميع أموال الدنيا وكنوزها (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والقرآن حجةٌ لك أو عليك) هكذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    وإذا مرت الحياة البرزخية، وأذن الله لإسرافيل أن ينفخ في الصور، وما أدراك ما الحياة البرزخية!

    كان أحد الصالحين يقول: كنت أزور المقابر، أمر عليها في طريقي كل يوم، فأدعو للموتى قائلاً: اللهم آنس وحشتهم، وارحم غربتهم، واغفر زلتهم، واقبل حسنتهم، يقول: فمررت ذات يوم، وكنتُ متعباً، فلم أدع بهذا الدعاء، وإنما صليت ركعتين خارج المقبرة، ووضعت رأسي على صخرة، ونمت، فإذا بي أرى في المنام أصحاب القبور قد خرجوا منها شعثاً غبراً حفاةً عراة، يقولون: يا أخانا! ما لك تركت الدعاء؟ فقد كان الله يؤنسنا به ونحن في قبورنا، يا أخانا! أمثلك من ينام؟ فإن والله ركعتيك التي ركعتهما لتساوي عندنا معاشر أهل القبور الدنيا وما عليها؛ فإنك في دار عمل، ونحن في دار جزاء.

    الرسول صلى الله عليه وسلم رآه الصحابة يوماً مهموماً مغموماً فسألوه، فقال: (كيف أنعم؟ وقد التقم صاحب القرن القرن) القرن هو: البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل فتنبعث أرواح الناس في الأجساد، رآه الحبيب صلى الله عليه وسلم وقد أخذ البوق ووضعه على فمه لكي ينفخ، منذ ألف وخمسمائة عام، فماذا بقي من الدنيا، النبي يهتم ويغتم لما رأى ذلك المنظر المهول، كيف أنعم؟ وكيف أهنأ وقد التقم صاحب القرن القرن؟ وحنى جبهته ينتظر الإذن من الله؟

    أحوال الناس يوم الحشر والنشور

    فإذا نفخ في الصور خلق الله الأجساد، ما امتصته الأرض يعيده الله كما كان، كل ما في جسم ابن آدم يعود إلى عناصره الأولى من عجب الذنب، هذه هي بذرتك وبذرتي، منها يعيد تخليق الله الإنسان من جديد، بمطر ينـزل على الأرض أربعين يوماً تنبت منه أجساد العباد، أما الذين احترقوا، أو تمزقوا، أو تفجروا، أو بلعتهم الطيور والسباع، وتشتتوا في الكون أو صاروا رماداً يخلقهم الله بكلمة (كُن) فيكونون: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وتنبعث الخلائق في ذلك اليوم المهول: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار:1] انفجارٌ هائل في السماء، بين الحين والحين نسمع انفجاراً لضغط هوائي تولده الطائرات الحربية في الفضاء، فترتجف قلوبنا وتهتز منازلنا، فكيف إذا انفجرت السماوات السبع سماء بعد سماء! إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:1-2] .. إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:1-5].

    ثمرة االأخوة الإيمانية على أرض المحشر

    وبعد هذه البعثرة للقبور لا تدري من هو الأول؛ لأن القبر الذي دفنت فيه قد دفن فيه قبلي عشرات، منذ خلق آدم إلى الآن وأجيال من البشر غطوا الأرض وذهبوا وماتوا، وجاء بعدهم أجيال.

    سر إن استطعت في الهواء رويداً     لا اختيالاً على رفات العبادِ

    رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً     ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ

    ودفين على بقايا دفين     من قديم العصور والآبادِ

    كلهم يتخلقون، وتنشق الأرض عنهم، ولا تدري أنت الأول أم الأخير، ولكنك تدري عندما ترى الأرض تتصدع من فوق رأسك، وتزحف من قبرك، والخلائق معك كالجراد المنتشر: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:6-8] هذا يوم عسر، على مَن؟ على الكافرين فقط، أما المؤمنون فهم في مكان آخر فبعد البعث والحشر يناديهم الرحمن الرحيم: (أين المتاحبون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).

    الخلائق كلها تزدحم، يأخذها العرق، الشمس فوق الرءوس على قدر ميل، حفاة عراة غرلاً، أما الملوك والجبارون فتحت أقدام الناس على هيئة الذر، والرب -جل جلاله- ينادي الخلائق: (أين المتحابون في؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلى ظلي، على منابر من نور، يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء بمقامهم عند الله يوم القيامة).

    إذاً: حبي لك، وحبك لي كنـز لا يقدر بثمن.

    أخوتي وأخوتك ليس لها ثمن على وجه الأرض: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران:196-197] وفز بكنـز الأخوة يا أخي فهو ثمين: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

    وتبقى الأخوة التي لا تقدر بثمن، يقول الله عنها: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63] لو أنك تنفق ما في الأرض حتى تجمع بين قلب شخص آخر وبين قلبي هذا لا تستطيع، ولكن الله هو الذي ألف تأليفاً إلهياً ربانياً يستمر ولا ينقطع يوم أن تنقطع كل التأليفات، والمسرحيات، والتمثيليات، والخرافات، والشعارات، وكل الزيف، والدجل، والدفاع، والنفاق، والدبلوماسية، والمجاملة، وكل هذه الأمور تنتهي: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:67-68] لا خوف مما هو آت، ولا حزن على ما فات، ما الذي فات؟ دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

    ويبعث الله الخلائق، وتكون الفرحة عندما ينادى العبد: (يا عبد الله! فيقوم إلى الله، فيقول: أَي عبدي! -وقد أرخى عليه ستره يكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان- أتذكر ذنب كذا؟ فيقول: أذكر ربِّ، وذنب كذا؟ أذكر ربِّ، وذنب كذا؟ أذكر ربِّ، يذكره الصغائر ولا يذكره الكبائر، وعبد الله من كبائره مشفق، حتى إذا ظن أنه هلك قال: أَيْ عبدي! سترتك في دنياي، وهأنذا أسترك في آخرتي، بدلوا سيئاته حسنات، وخذ كتابك بيمينك).

    بالله عليكم هل هناك فرحة أعظم من هذه الفرحة في ذلك الموقف؟ وأي موقف؟! يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] .. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ [المعارج:11-14].

    في ذلك اليوم يقول الله للعبد المسلم المستور في الدنيا: خذ كتابك بيمينك، بدلوا سيئاته حسنات، سترتك في دنياي وأسترك في آخرتي.

    لا تلوموه إذا خرج يقفز بين الناس على عرصات يوم القيامة وهو يحمل كتابه ويقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:19-21].

    أحوال الكفرة والعصاة في أرض المحشر

    أما الكافر ففي عيشة ضنكاً: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] الأعمى في الدنيا لا يستقيم إلا ومعه دليل يقوده، والدنيا فيها منبهات، وطرق مرصوفة، وأجهزة آلية، وأناس ينبهون، وشوارع نظيفة، الأمان يحيط بك من كل الجوانب، ومع هذا لا يستطيع السير إلا بدليل، فكيف يسير الأعمى في يوم القيامة الذي يقول الله عنه في كتابه الكريم: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه:105-107] ذلك اليوم الذي يقول الله عنه: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47] لا يوجد أحدٌ يهرب يميناً أو شمالاً، أو يصعد بواسطة، لا. الكبير والصغير والسيد والحقير والأمير والوزير والملِك والطاغوت والجبار والأسود والأبيض والذكر والأنثى والوحش والطير والإنس والجن والملَك كلهم محشورون في ذلك المكان: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99] أمواج من المخلوقات، فكيف يمشي الأعمى في هذه الأمواج؟ كيف؟ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] يوم القيامة أعمى: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس:66] نطمس العين، ونقول: هيا الصراط أمامكم، الذي يريد الصراط يصل إليه. كيف يصل إليه؟ العين مطموسة، الذي لا يفتِّح عين بصيرته في دنياه من أجل آخرته يطمس الله بصره كما انطمست بصيرته في الدنيا: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48] صفاً واحداً.

    إذا ذهبت أنت إلى الخباز لتشتري الخبز منه، ووجدتَ أمامك ستة، فإنك ستمل، وتقول: ما هذا؟ متى سيأتي الدور؟ وأعصابك ستكون مشدودة، فماذا تقول في صف تمتد فيه البشرية فقط؟ هذا غير الجن، والملَك، من آدم إلى آخر إنسان يموت يوم القيامة صف واحد. متى سيأتيك الدور! اليوم مدتُه خمسون ألف سنة، من يطيق ذلك: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الكهف:48-49] كل واحد له كتاب: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] كتاب هائل .. كتاب عظيم يقول الله عنه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14].

    إذا كنت جالساً في مكان بارد، والإنارة جيدة، وأعطيتَ كتاباً جميلاً فيه أحاديث، إذا قرأت أول حادثة فيه فإنك تمل وتغلقه، فكيف تستطيع أن تقرأ كتابك يوم القيامة، وفيه:

    عند أذان الفجر سمعت المؤذن فلم تقم إلى صلاة الفجر.

    عدتَ إلى فراشك ونمت حتى طلعت الشمس.

    عندما استيقظت بدأت بطعام الإفطار ولم تبدأ بالصلاة.

    ثم أخرت الصلاة لكي تصليها في الدوام.

    في طريقك إلى الدوام نظرت إلى النساء عند إشارات المرور.

    لقد ابتسمت لمسئولك في الدوام عشرين ابتسامة:

    الأولى: نفاقية. الثانية: مجاملة. الثالثة: مصلحية. الرابعة:.....

    هذا فقط في مدة ساعتين، كيف أكمل هذا الكتاب الذي يمتد ثمانين سنة من عمري؟! الملَك على رأسك: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14] ثم بعد ذلك الله أعطاك الحل: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [الإسراء:15] الله يريحه من هذه المشكلة، اهتدى، إذاً: ضعوه تحت العرش وكفى .. لا يقرأ، ثم بعد ذلك إلى حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم يشرب منه فيرتوي، ثم إلى الصراط ثم إلى الجنة.

    حسرة من عبد غير الله في يوم النشور

    في يوم القيامة قبل أن يدخل الله عز وجل الكافر النار يخزيه ويفضحه: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192] وأول نوع من أنواع الإخزاء: أنه يستدعي إلهه الذي كان يعبده من دون الله، هذه أول فضيحة.

    فالذي يعبد البقرة تأتي الملائكة له بالبقرة، والذي يعبد الفأر تأتيه الملائكة بالفأر، والذي يعبد الشمس تأتيه بالشمس، والذي يعبد القمر تأتيه الملائكة بالقمر، وبلغ عدد الديانات في الهند فقط: ثلاثة آلاف ديانة .. من عبادة الفأر، إلى عبادة الفرج - كرمكم الله - إلى عبادة النمل، إلى عبادة السمك، يقول أبو الحسن الندوي : فأصبح كل شيء في الهند يتحرك يُعبد من دون الله.

    يستدعي الله كل هذه الآلهة المزيفة، وعلى رأسها الحكام الذين يشرعون غير شرع الله، ويحكمون بغير حكم الله، والذين يستبدون بشعوبهم، فينهبون ثرواتهم، يستدعيهم الله، ماذا يقول الله عن هذه الحقيقة؟ العابد والمعبود أمام رب العالمين، يقول الله جل ثناؤه في كتابه الكريم: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الكهف:51-52] نادي إلهك! ومن يعبد الفأر كيف ينادي الفأر؟! والذي يعبد النملة كيف ينادي النملة أمام رب العالمين؟! خزي -يا إخوان- يرى الملائكة وأهوال يوم القيامة وما يستحي، ويقول: أيتها النملة، أنتِ إلهي، وأنا عبدكِ، أنقذيني من هذا الموقف، كيف يكون؟! أليس هذا خزي؟ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ [الكهف:52] كل واحد يدعو، كلهم يصيحون، ضجيج هائل يوم القيامة بين الآلهة المزيفة وبين عابديهم. قال الله: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [الكهف:52] بين الإله المزيف وبين الذي عبده جعلنا موبقا: مهلكة .. نار .. حادث رهيب: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الكهف:52-53] ففي هذه اللحـظات تنفجر النار: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً [الكهف:53] نحن نسمع هذه الآيات دائماً، نسمعها من الإمام يقرأها علينا في الصلاة، فهل تفكرنا في هذا المعنى الخطير؟!

    الحمد لله أننا لا نعبد إلا الله؛ لأننا لو وقفنا هذا الموقف، وأمرنا الله أن ندعو إلهنا، لقلنا: لا إله إلا الله؟

    قال نوح لأولاده: لو أن السماوات والأراضين السبع كانتا حلقة واحدة، ثم جاءت ( لا إله إلا الله ) لقصمتهن.

    انظر إلى هذه الكلمة الخفيفة التي إذا قلتها شعرتَ براحة، وما تكلفك شيئاً ( لا إله إلا الله ) تقصم السماوات السبع والأراضين السبع، ولا يثقل معها في ميزان الله شيء أبداً، ولو كان للعبد تسعة وتسعون سِجلاً من الذنوب على مد البصر، فإنها لا تثقل على (لا إله إلا الله) إذا كانت خالصة من قلب المؤمن، وينفذ مقتضاها من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان،وحج البيت.

    قال تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:52-54] يجادل: هل الله موجود أم ليس بموجود؟ قرآن كامل بين أيدينا، وآيات الله منها: السماوات، والنجوم، والأفلاك، والبحار، والجبال.

    البدوي في الصحراء اهتدى ببعرة، قال: [البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، وصحراء ذات فجاج، ألا يدل ذلك على العليم الخبير] وحتى هذا اليوم العلمانيون الذين يدرسون على جامبول سارتر، وجورج كراين وفرويد وأمثالهم، ويأتوننا بثياب عربية، ولكنهم يحملون في قلوبهم قلوب النصارى واليهود، يجادلون: هل الله موجود أم ليس بموجود؟ أنا لا أصدق أن الله موجود حتى تثبت لي وجوده بالمختبر .. هكذا يقولون، ويسمون: دكاترة، ومثقفين، ويصلون إلى مقام المسئولية! الله ذكرهم في القرآن، يقول: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ تصريف كامل .. لِلنَّاسِ لجميع الناس .. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54].

    مشاهد أخيرة من يوم القيامة

    إن الفرحة تتم للمؤمنين وهم تحت ظل عرش الرحمن بأن يناديهم الحبيب صلى الله عليه وسلم: (أن هلموا إلى حوضي) وحوضه يصب فيه ميزابان من ذهب متصلان بالجنة، يتدفق من خلالهما نهر الكوثر، ماؤه أبرد من الثلج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أكوابه بعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة واحدة لا يظمأ بعدها أبداً.

    ووقفت الملائكة تحرس الحوض؛ لتذود عنه الخلائق المتدفقة المتزاحمة كما تُذاد غرائب الإبل، الإبل الغريبة عندما ترى حوض الماء ربما تندفع بكل قوة من شدة الظمأ، والرعاة يمسكون العصي ويضربون غرائب الإبل، حتى لا تختلط مع إبل الغير. فالزبانية والملائكة تضرب الخلائق كما تضرب غرائب الإبل، حتى لا يصلوا إلى حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    أنا أقول لمن يأكل الربا: أما تستحي أن تمد يدك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند حوضه، فتقول: اسقني منه شربة. وأنت الذي تأكل وتشرب الشراب من أموال الربا!

    من يقطع والديه.. أحدهم يقول منذ عشر سنوات ما رأيت أمي، وتنتظرني كل عيد، فأقول له: لماذا؟ فيقول: لأنها عند أخي، لماذا لا تذهب؟ قال: لا أعرف بيت أخي. وماتت أمه ولم يصلها، ماذا سيفعل من يندفع إلى ذلك الحوض وقد أخذ الظمأ منه كل مأخذ، وهو يسمع بأخبار الجائعين، نصف قارة كاملة تموت الآن من الجوع، وهو ينام شبعاناً، ويستيقظ شبعاناً، ويعالج عند الطبيب تخمته، ولم يخرج من جيبه ديناراً واحداً يسد به جوع جائع، أيعتبر هذا نفسه أنه من أمة محمد؟! وينتظر من يده شربة ماء هنيئة في ذلك الموطن؟! إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] (البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان).

    نصب الميزان يوم القيامة

    وبعد أن تشرب الخلائق يأذن الله لهم، ويأذن بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وقوف طويل للخلائق، فيأتي فيخر عند العرش بعد خمسين ألف سنة من الوقوف، خمسون ألف سنة كصلاة ظهر أو كصلاة عصر عند المؤمنين تحت ظل العرش.

    من الذي يتحكم بالمكان؟ الله.

    من الذي يتحكم بالزمان؟ الله.

    لأنه الله قال للنار: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فسلب منها خاصية الإحراق؛ لأن الله على كل شيءٍ قدير. (ارفع رأسك، وسَل تعط، واشفع تشفَّع) فيقول: (اللهم أمتي أمتي) فيأذن الله بنصب الموازين، وتنصب الموازين، وهذا الموقف الذي لا يُظلم فيه مخلوق بذرة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] يقول السلف الصالح رضوان الله عليهم: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو كان بمثقال ذرة، فإنك إن رأيته في ميزان حسناتك سرك، ولا تحقرن من الشر ذرة، ولو رأيته في كفة سيئاتك ساءك؛ لأن ميزان الله حساس، يزن مثاقيل الذر، انظر إلى الذرة التي تطير، لا تحس بها، ولا تراها بعينك، ولو وضعت في كفة الميزان تحرك الميزان؛ لأنه صنع إلهي، ليس صنعاً بشرياً، ونحن عندنا في الكويت نسمي الميزان الحساس، أو الميزان الإلكتروني، لا. هذا ليس بشيء أمام ذاك، يقول الله عن الميزان: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] يتكلم الله بصيغة العظمة: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ .

    ويحاسب الخلائق عند موازينهم كلهم في وقت واحد، لا يشغله سمع عن سمع، ولا بصر عن بصر، ولا دعاء عن دعاء، ولا صوت عن صوت، ولا نداء عن نداء، ولا أمر عن أمر، كلهم في وقت واحد، من يقدر على ذلك غير الله .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] سبحانه! هذا ربكم الذي تعبدونه، لهذا يقول المؤمنون في الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

    والله أتفكر يوماً من الأيام وأقول: كيف حالي لو أني هندوسي، أو سيخي، نعم والله يا إخوان! أنا بشر وذاك بشر، أنا من سلالة آدم، وذاك من سلالة آدم، من الذي ميزني فأوجدني مسلماً مؤمنا؟ الله رب العالمين. الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام والقرآن.

    وترجح الموازين عند المؤمنين وتطيش السيئات: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] فقد أعد الله لذلك اليوم تسعة وتسعين رحمة! ليأتي إنسان يرى أنه بحاجة إلى حسنة واحدة، يذهب إلى أمه، تقول: أي بني، أنا مشغولة بما أنت مشغول فيه، نفسي نفسي .. إلى أبيه .. إلى أخيه .. إلى زوجته .. إلى ولده، شعار الناس ذلك اليوم: نفسي نفسي، والأنبياء: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم سلِّم سلِّم، هذا شعار الأنبياء، أما الناس: فنفسي نفسي ... فيلتفت في عرصات يوم القيامة، وإذا برجل جالس يقول له: يا أخي! ماذا تريد؟ قال: حسنة، وقف ميزاني على حسنة، قال: خذها فأنا لا أملك غيرها، ادخل بها الجنة، وأدخل أنا النار، فيأخذها وينطلق ويضعها في كفة الحسنات، والله لا تعجزه حسنة، الله يمينه سَحَّاء، ينفق على مخلوقاته منذ خلقهم إلى يوم القيامة ولم ينقص من ملكه شيء، كما يقول سبحانه: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد، ثم سألوني ما عندي، فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).

    المخيط مِلك مَن؟ الله.

    والبحر مِلك مَن؟ الله.

    والبلل الذي على المخيط مِلك مَن؟ الله.

    إذاً: هل نقص من ملك الله شيء؟ لا. (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

    فيضع حسنته في ميزانه، فترجح، وتطيش كفة السيئات، فيقول الله له: من أين لك هذه؟ وهو أعلم، فيقول: من عبدك فلان، فيقول للملائكة: أحضِروه، لمَ فعلت ذلك؟ قال: إن أخي هذا يبحث عن حسنة، وليس عندي غيرها، فقلت: يدخل بها الجنة، وأدخل أنا النار، قال: لن تكون أفضل مني على عبدي، خذ بيد أخيك وادخلا الجنة.

    إنها تسعة وتسعون رحمة لذلك الموقف العظيم، هذا عطاء الله .. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

    الصراط وحال العابرين عليه يوم القيامة

    وإذا رجح الميزان وانطلق العبد إلى الصراط المستقيم وهو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، تكتنفه الظلمات، ولا نور إلا نور الإيمان والوضوء، والمنافقون يتساقطون، ويصيحون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد:13] والمنافقون إذا هموا بالرجوع، ضرب الله بينهم وبين المؤمنين بسور، ثم هوى بهم الجسر في الدرك الأسفل من النار.

    واجتاز آخر مسلم الصراط وهو يحبو مثل الطفل علي يديه ورجليه، صراط مثل الشعرة، يمسك ويحبو، ويتخيل الإنسان نفسه، يتخيل وهو يضع رجله على الصراط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الصراط مدحضة، مزلة، لا تثبت عليه قدم إلا من ثبته الله) مدحضة: يهز الواقف، وهو مستوٍ وواقف. ومزلة: يـزل من يقف عليه، ولا يثبت إلا من ثبته الله.

    وبعد هذا العبور الهائل، منهم كالبرق، ومنهم كلمح البصر، ومنهم كالريح المرسلة، ومنهم كالحصان الذي يشتد، ومنهم كالرجل الذي يجري، أو يهرول أو يحبو، ومنهم من تخطفه الكلاليب فتكردسه في النار حتى ينقى، ثم يعود على الصراط ليواصل الحبو، فإذا اجتمعت الخلائق عند الباب طرق محمد باب الجنة، وحوله سبعون ألفاً يدخلون بلا حساب ولا عذاب، يقول رضوان: من؟ يقول: محمد، يقول: لك أُمرت أن أفتح، فتفتح أبواب الجنة الثمانية، وهنا كمال الفرحة: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35] الملائكة تزفهم إلى الجنة، وهم يبتعدون داخل الجنة، والملائكة تشير: هؤلاء الذين دخلوا .. لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .

    قال صلى الله عليه وسلم عن المزيد: (يطلع الله على أهل الجنة اطلاعة، فيقول: أيْ عبادي! هل أرضيتكم؟ فيقولون: كيف لم ترضِنا وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، ثم ينـزع الحجاب عن وجهه الكريم، فينظرون إلى وجه الله فينسون كل نعيم في الجنة) .. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وكأنك تراهم على الأرائك، يقول عنهم مولاهم: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:22-28].

    اللهم اجعلنا من المقربين، اللهم اجعلنا من المقربين.

    اللهم ثقل ميزاننا، وحقق إيماننا، وفك رهاننا، وأخسئ شيطاننا، واجعلنا برحمتك في الفردوس الأعلى.

    اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وحقق بالصالحات آمالنا، واختم بالطاعات أعمالنا.

    اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

    اللهم انصر أولياءك المجاهدين، اللهم حرر المسجد الأقصى، وارزقنا فيه صلاة طيبة غير خائفين ولا وجلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.