إسلام ويب

استحضار عظمة الله عز وجل تجعل المؤمن واثقاً من نفسه؛ لأنه وضع عظمة الباري نصب عينيه فتلاشت واضمحلت كل أنواع عظمة المخلوقين، وهذا هو سبب ثبات الأنبياء والصالحين أمام أئمة الكفر والطغيان والعناد. وهذا الاستحضار لا يكون إلا بالإيمان بقضاء الله جل وعلا وقدره، فبهذا الإيمان وبهذا اليقين تهون المصائب، وتذل العقبات في سبيل نصرة هذا الدين وإعلاء رايته.

الحكمة من تسليط الله الكافرين على المؤمنين في بعض الأوقات

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فقد قضى الله عز وجل بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]، وجعل الله عز وجل الأيام يتناوب الناس فيها باليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله وهم صفوته من خلقه، وقدر على أوليائه من أتباعهم أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يستضعفون فيها في الأرض، ويكونون قلة أذلة، قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26] .

فقدر الله سبحانه وتعالى ذلك مع كونه عز وجل لا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عباده المؤمنين أنواعاً من العبودية التي يحبها، ولا يمكن أن تظهر هذه الأنواع لو هدى الناس جميعاً، ولو شاء عز وجل لهدى الناس جميعاً، وأمره سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى تكرار وتثنية، قال سبحانه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ [القمر:50] مرة واحدة كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50] فيقع ما أمر به سبحانه وتعالى، وهو عز وجل لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أشد الناس كفراً وعداوة لله عز وجل قادر أن يقلب قلوبهم ويجعلها على الهدى، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] لكنه قدر ذلك للحكم البالغة: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ [القمر:5]، فله الحمد سبحانه وتعالى عليها.

لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد؛ فيجب أن يحمد الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن تقع في قلبه معان إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله عز وجل ليظهر منه الخير، وليخرج سبحانه وتعالى من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، وعلى ما يصيب الإنسان في سبيله، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق، وكذلك ليوقن المؤمنون بوعد الله سبحانه وتعالى، ويستحضروا أن الله هو الذي أعطى، وهو الذي منّ، وهو الذي آوى؛ لأنهم سوف تأتي عليهم فترات يملكون فيها الناس، ويكونون فوق الخلق، ويتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون: صنعنا، وانتصرنا، وغلبنا، وقهرنا، كقول قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [القصص:78] ونحو ذلك مما قص الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أو أنهم سيعلمون أن الله سبحانه هو الذي أورثهم الأرض بمشيئته سبحانه وتعالى لا بقدرتهم، ولا بتخطيطهم، ولا بإعدادهم.

معان إيمانية

وهناك معان إيمانية لا بد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مر بها أنبياء الله سبحانه وتعالى من قبل، وأول هذه المعاني:

أن يشهد المؤمن قضاء الله عز وجل وقدره وحكمته وعدله سبحانه وتعالى، ويشهد أن الأمور كلها بقضائه سبحانه، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وهذا من أعظم ثمرات الإيمان.

وأن يشهد خلق الله عز وجل لأفعال العباد، وأنه هو سبحانه وتعالى الذي جعلهم كذلك؛ ليستحضر عظمة ملك الله، وليستحضر عزته وقهره عز وجل، فانظر وتأمل في قول موسى صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه عز وجل: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88] فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده كذا وكذا من المال والجنود والملك والسلطان، وإنما استحضر أن الله آتاه فقال: (ربنا إنك آتيت) فلم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا من أعظم الأمور أهمية، وهو أن يرى العبد أن من يواجهه من الكفرة والظلمة وأعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخافهم، أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، وعدم استحضار هذا المعنى يجعل الناس يسيرون في ركب الظالمين، ويداهنون الكافرين، ويوالونهم، وقد ذكر الله عز وجل عن المنافقين ذلك؛ لأنهم يخشون أن تكون الدولة للكافرين والظالمين، وأن تكون الغلبة لهم، ويخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس يتبعونهم؛ وذلك لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال عز وجل: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء:138-139] فقد فضحهم الله عز وجل وبين حقيقة ما في قلوبهم، فهم يتولون الذين كفروا؛ لأنهم يبتغون عندهم العزة، ويعاونونهم على الفساد؛ لأنهم يريدون من المفسد مكانة ومنزلة، ولو استحضروا أن الملك لله، وأن الله هو الذي آتى فرعون وملأه زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:88]، وأنه سبحانه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفي قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته سبحانه وتعالى أن يزيلهم من على وجه الأرض، ومع ذلك قدر أن الكافرين يضلون عن سبيله؛ لأن هناك قلوباً خبيثة، وهناك نفوساً قبيحة، فلا بد أن يخرج ما فيها من الخبث، كالمغناطيس يجذبها إلى أمثالها كما قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:36-37].

فالله عز وجل جعل الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، مع أن إنفاقهم سيكون بعد ذلك عليهم فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ أي: يتحسرون؛ لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، بل يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله، وفي نهاية الأمر ثُمَّ يُغْلَبُونَ وتأمل ذكر (ثم) في هذا الموضع وهي للتراخي؛ ولكي لا تستعجل، ولكي تطمئن ويسكن قلبك، وتعلم أن الأمور كلها بمقدار، وأن لها موعداً محدداً، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم الله يفسدون في الأرض؟ ثُمَّ يُغْلَبُونَ فسوف يأتي زمن يطول أو يقصر؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء قُدر لحكمة من الله عز وجل الملك الحق المليك المقتدر سبحانه وتعالى.

فهو عز وجل الذي آتى فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثم قال: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ولكي يستجيب أصحاب القلوب الفاسدة كما بين سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة ومن ذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112-113] فتأمل هذه الكنوز القرآنية.

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فالله الذي جعل، وهو أول ما ينبغي أن تلحظه في هذه الآية فقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا ولم يقل: كذلك كان لكل نبي، وإنما قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فالله هو الذي خلق في قلوبهم ذلك: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ وبدأ بشياطين الإنس قبل شياطين الجن؛ لأن خطر شياطين الإنس أشد؛ ولأنهم يضلون الناس أكثر من شياطين الجن.

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ : يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم بعضاً، وينصح بعضهم بعضاً بالفساد والكفر والنفاق.

زُخْرُفَ الْقَوْلِ وهو القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقاً وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم التمييز والقدرة العلمية على معرفة النافع من الضار.

زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا أي: ليغروهم به.

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ واستحضر هذه جيداً، وهو أن هذا الأمر حدث بمشيئته في قوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ إذاً: بإذنه تم ذلك، ولحكمته وقع ما أراد سبحانه وتعالى، فهو الذي قدر وجود الأعداء، وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه؛ ولذلك قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وهذا نوع احتقار، أي: لا تعبأ بهم، ولا تقلق، ولا تضطرب منهم، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن؛ ولذلك قال عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196] فهم أهون على الله سبحانه وتعالى من أن يجعل لهم منزلة وقدراً، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا -بأسرها- تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ولو أن الدنيا بأسرها كانت تساوي عند الله شيئاً ما مد عمر إبليس بطول عمر الدنيا منذ خلق الله آدم وأمر ملائكته بالسجود وأبى إبليس ذلك، وإبليس مخلوق قبل آدم، وقد طلب ذلك إبليس فأجابه الله له.

انظر لتعرف حقارة وتفاهة هذه الدنيا؛ وذلك لأن الله أعطاها لإبليس اللعين حين سأله إياها؛ لأنها أتفه ما يكون؛ ولذلك استحضر أن ذلك بمشيئته سبحانه وتعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ هم يكيدون كيداً والله عز وجل يكيد كيداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17] .

قال عز وجل: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ [القلم:44-45] أي: يمد لهم عز وجل، لكنهم مربوطون فيما أراد الله عز وجل أن يكونوا فيه، فهم مقيدون بمشيئته وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45] لمتانة كيده عز وجل أملى لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء.

قال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45].

قال الله سبحانه وتعالى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أي: لزخرف القول الغرور وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فمن حكمته سبحانه وتعالى أنه جعل قلوباً تميل إلى هذا الباطل، وتقبله، وتحبه، وترضاه، وتعين وتساعد عليه، وتسعى إلى نشره في الأرض، وهو باطل مر قبيح ولكن كثير جداً من النفوس تميل إليه بسبب انعدام الإيمان وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أي: لتميل إلى هذا القول المزخرف الغرور الباطل، وهي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ أي: وليرضوا بالباطل وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، ولتكون نهايتهم وعاقبتهم كما كانت عاقبة من قبلهم؛ لذلك إذا استحضرنا أن الله هو الذي آتى، وأن الله هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، فستعرف أن الله سبحانه وتعالى يجعل هذا في النهاية مطموساً، ولا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه؛ ولذا دعى موسى عليه السلام ربه: أن يطمس على أموال آل فرعون قائلاً: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:88-89] وبعض أهل التفسير يقولون: بين الدعوة وبين إجابتها أربعون سنة، فالله أعلم متى كان، ولكن الدعوة قد أجيبت، ولا يعني ذلك أنها تقع في نفس اللحظة، فالدعوة المجابة يمكن أن تبقى مدة لا يرى الناس إجابتها في الواقع إلى أن يأذن الله سبحانه؛ لأن كل شيء بمقداره سبحانه وتعالى.

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89]؛ ولذلك كانت الاستقامة على أمر الله من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون، وعدم متابعة الكفرة والظلمة، والمنافقين والفسقة، فكل هؤلاء لا يعلمون، وبالأولى ألّا تكون من الذين لا يعلمون، فإذا كنت نهيت عن اتباع سبيلهم فما بالك بمن يكون منهم؟! ولذلك كان العلم من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنك إذا علمت الحق وأيقنت بوعد الله سبحانه وتعالى فإنك لن تعبأ بما تراه من مقدمات وبدايات.

نقول: هذا هو الدرس الأول والفائدة الأولى أن نستحضر أن الأمور بمقادير، وأن نكون شهوداً على قضاء الله عز وجل وقدره، وأن الملك له وحده سبحانه، وأنه يفعل ما يشاء، وأن الأمور بيده، فهو الذي جعل، وقد تكرر هذا في القرآن كثيراً، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] والله سبحانه وتعالى الذي جعل المجرمين يريدون الإضلال ومع ذلك قال تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ، فهم يريدون هزيمة الحق ومع ذلك: وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا [النساء:45] الناس لا يجدون أي سبيل للنصرة من أهل الأرض فكفى بالله نصيراً: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا .

كما أنه سبحانه وتعالى هو الذي يجعل أئمة الهدى، فإذا نظرت إلى منة الله عز وجل عليك أن جعلك مؤمناً مسلماً وترجو أن تكون محسناً في ظروف وأحوال قد ضل أكثر أهل الأرض فيها وابتعدوا عن سبيل الله، وعندما تشهد منته وفضله العظيم، فوالله! إنه لفضل عظيم أن يصطفيك الله سبحانه بدينه وسط هذا الركام الهائل، ووسط هذه الضلالات والمنكرات والمفاسد، وأن يجعلك ملتزماً بطاعته، فقد اختارك الله سبحانه وتعالى من بين ملايين البشر لتكون مسلماً وقد جعل غيرك يعبدون البقر، ويعبدون الشياطين، ويعبدون الأوثان، ويعبدون البشر، وينسبون إليه الصاحبة والولد ويفعلون ويفعلون، فانظر إلى ما اجتباك الله به، قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ [الحج:78] فالله هو الذي سماكم المسلمين مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78] أي: وفي القرآن لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ [الحج:78] فهذه منة من الله أن سماك مسلماً قبل أن تولد، وقبل أن توجد، وكتبك في اللوح المحفوظ مسلماً متابعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصدر منك شيء، وقبل أن توجد الأرض بمن فيها، فإن الله كتب في الذكر كل شيء، وقد كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فإذا نظرت إلى هذا استحضرت منة الله عليك.

وإذا كنت ممن رفع الله همته أكثر فجعله يعمل من أجل الإسلام فهذا والله لهو الشرف، وإذا كانت تعمل بالإسلام فذلك شرف لك، وإذا كنت ملتزماً بالدين في وسط الكفرة والمنافقين وبين آلاف الملايين من البشر فذلك من عظيم الشرف لك، إذا أضفت إلى ذلك وهو في الحقيقة ضمن العمل للإسلام أن تعمل من أجله، ومن أجل إعلاء كلمته، وتدعو إليه، وتسعى لتكون كلمة الله هي العليا فهذا شرف أعظم وإكرام من الله سبحانه وتعالى، ولا تقول لنفسك إنك صاحب فضل، ولا تشهد أنك تقف وإنما اشهد أن الله أوقفك وأعانك، وأن الله سبحانه جعلك جندياً في وسط المحنة، تنصر الدين وتسعى إلى نصرته، ولا شك أن هذا يختلف عمن جعله الله جندياً في وسط إشراق هذا الدين، فقد تحدث الإنسان نفسه أنه لو كان وُلد في غير هذا الزمان، في زمن الصحابة والتابعين مثلاً، أو كان من أبنائهم أو أتباعهم ليكون مشاركاً في هذه الفتوحات العظيمة التي ملأت المشارق والمغارب، فالله عز وجل أعلم، وهو سبحانه وتعالى أحكم يضع الأشياء في مواضعها.

فحقيقة هذا الحديث -كما ذكرنا- أن الإنسان يرجو هذا الشرف ليكون ناصراً للدين، ولكن هل من جعله الله سبحانه وتعالى ينصر الدين في وسط إشراقه وانتصاره أفضل، أم من جعله الله ينصر الدين في وسط إظلام الدنيا وإدبارها وابتعاد الناس عن الدين؟

فقد سبق السابقون من المهاجرين والأنصار؛ لأنهم التزموا حينما كانت الدنيا ظلاماً، والتزموا حينما كان أكثر أهل الأرض على الكفر وهم على الإيمان، وأصبح البشر بقايا لا تعمل لأجل إعلاء كلمة الله في الأرض؛ لأنها اكتفت بأن تعبد الله في الصوامع والبيع، فنال السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار شرفاً عظيماً؛ لأنهم سبقوا إلى الله في هذه الدلجة عندما كانت الدنيا مظلمة فسْبقهم لا يصل إليه أحد؛ ولأن الله سبحانه وتعالى جعلهم هم الإسلام في حين أن الأرض كانت مظلمة.

وكل من شابههم في جزء من صفاتهم كان له نصيب من ثوابهم، فكثيرون هم الذين يتسمون بالإسلام والحمد لله على ذلك، لكن أكثرهم لا يعمل به، ولا يعمل من أجله فجعلك الله سبحانه وتعالى تلتزم به وتدعو إليه في هذه الظروف؛ لأنه سبحانه وتعالى اجتباك لذلك، واصطفاك وشرفك بأن تعمل للدين في أحلك الظروف، فإذا شهدت قضاء الله وقدره ومنته وفضله لم تعجب بنفسك، ولم تصب بالكبر والغرور، ولم تنسب الفضل إلى نفسك الجاهلة الظالمة بل عرفت أن الله سبحانه وتعالى هو الذي منّ عليك بالإسلام والإيمان، فإن كنت صادقاً فلا تمن على أحد بطاعتك وعملك وإسلامك: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] .

فإذا شهدت قضاء الله وقدره فيمن يخالف الإسلام، وشهدت قضاء الله وقدره فيمن يطيع الله سبحانه وتعالى، وتعبدت لله بمقتضى ذلك من شهود فضله، وشهود ملكه، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله سبحانه وتعالى، وإذا علمت أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وشهدت ذلك شكرت نعمة الله سبحانه وتعالى عليك.

ثم هذا الشهود بقضاء الله وقدره وملكه وسلطانه وربوبيته هو الذي يجعلك تنتقل إلى مشهد ومقام الاستعانة: وهو طلب العون من الله وحده لا شريك له، وهو من أسبق المقامات في مراتب العبودية وأحد العبادات، ولقد ذكرت هذه العبادة مؤكدة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، فأمرنا الله أن نقول: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فالاستعانة عبادة لله عز وجل وبدونها لا تتم العبادة، ولا تكون العبودية له سبحانه.

ونحصل على هذه الاستعانة من شهود أن الأمر بيد الله، وأن الملك ملكه، وأن نواصي الخلق كلها بيده، واسمع إلى قول المستعينين حقاً بالله سبحانه وتعالى من أنبياء الله عز وجل وكيف كان موقفهم ممن يمكرون بهم، قال عز وجل عن نوح عليه السلام فيما ذكر عنه وفيما قال لقومه، أنه قال: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] ولم يقل لهم: كفوا عني، وابتعدوا عني، ولا تؤذوني، وإنما قال لهم: أجمعوا لما عندكم (أنتم وشركاءكم) وكيدوني كلما قدرتم عليه ولا تؤخروني لحظة َأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي: لا تتردوا ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ؛ لأنه توكل على عز وجل سبحانه وتعالى.

وقال هود عليه والسلام مثلها حين قالوا له: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55] كيدوني: اجتمعوا على كيدي، فلا تؤخروني، ولا تعطوني مهلة، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

فهذا القدر العظيم من التوكل على الله والاستعانة به جعله يحثهم استهتاراً بمكرهم، واستهانة بملكهم وتخطيطهم، على أن يكيدوا له، وأن يجتمعوا على ذلك؛ لأنه متوكل على من نواصي الخلق كلهم بيده: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا .

وكان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك كل ليلة عندما يقول قبل أن ينام: (اللهم! رب السماوات السبع، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن - وفي رواية والفرقان- أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) وفي الرواية الأخرى: (أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيتها، اللهم! أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك إذا أتى مضجعه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك نقول: إن الاستعانة تحصل في قلب العبد إذا ستشعر أن الله هو الذي بيده نواصي الخلق، وأن أمورهم كلها بيده، وكذلك إذا استحضر أنه ملكٌ لله يفعل به ما يريد وهو مطلوب منه أن يفعل ما أمر به من العبادة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (إني أحبك، والله! إني لأحبك فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فاستعن بالله على أن تضل ثابتاً، وعلى أن تضل عابداً وشاكراً.

وقد طلب موسى عليه الصلاة والسلام المؤازرة بهارون لكي يسبحه كثيراً، قال الله على لسانه: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:33-36] فالله سبحانه وتعالى يحب من يذكره، والاستعانة بالله عز وجل تنبع من شهود أن الأمر بيده، ومن شهود القضاء والقدر، ومرتبة الاستعانة -أي: طلب العون من الله- إنما هي استعانة على عبادته سبحانه وتعالى.

مراتب الناس في الاستعانة

وقد جعل الله عز وجل الناس مراتب وأنواعاً في هذا:

فمنهم من يستعين بالله سبحانه على قضاء مصلحة دنيوية فهو يتوكل على الله في أمر الرزق، وفي أمر الأولاد، وفي أمر الوظيفة، وفي أمر العمل وغير ذلك، وهذا وإن كان حسناً إلا أنه ليس هو المطلوب فقط.

وكثير من الناس يستعين بالله عز وجل ويدعوه لنيل المحرم والعياذ بالله، فهو يتوجه إلى الله وليس في باله أن يطيع الله عز وجل، فربما وجدت من يخرج لأكل الربا ويقول: توكلت على الله، وما أكثر ذلك، وهناك من يخرج لظلم الناس ويقول: توكلت على الله، وتجده فعلاً يسأل الله التوفيق في ذلك العمل؛ لأنه حصل له الجهل المركب والعياذ بالله ولم يعبأ ببحثه عن الشرع، ولم يتعلم شرع الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ظن الجاهل أنه يتوكل على الله في نيل معصيته وربما حصل له ذلك، فإبليس لم يتوجه لغير الله في طلب المد في عمره قال: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] فقد سأل ربنا سبحانه وتعالى، وأعطاه الله ما سأل، لكي يستعين إبليس بهذا العمر الطويل على إضلال الناس ومحاربة الله، أفيظن أن الله لا يدري، ولا يعلم ما في نفسه؟! حتى إنه كتم هذا الأمر إلى أن تأكد أن الله أنظره، ثم قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40]، لكنها نوعية عجيبة وغريبة من المخلوقات، فهي تستعين بالله على الكفر به ومعاداته ومعصيته، وتطلب منه ما تستعين به على ذلك، لكنها موجودة بالفعل.

وأعلى الناس قدراً في أمر الاستعانة هو من يستعين بالله على عبادته، وعلى طاعته؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر على الطاعة إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى.

مقام الصبر وأنواعه

ثم ينتقل بعد ذلك إلى مقام الصبر بأنواعه الثلاثة، وهي مجتمعة فيمن يطيع الله في فترات الشدة والمحن؛ لأن الصبر:

صبر على الطاعات، وهو أعلى أنواع الصبر.

وصبر عن المعاصي وحبس النفس عنها.

وصبر على أقدار الله المؤلمة.

والإنسان قد تصيبه أشياء مؤلمة على أي الأحوال، فالحياة لا تخلو من الألم، فمنذ نزول آدم عليه السلام والإنسان يشقى، كما قال عز وجل: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117] هي الدنيا ضنك، وألم لابد منهما، ولكن من الناس من يجري عليه الألم وهو في معصية الله.

وهناك من يجري عليه الألم بغير طاعة ولا معصية، وإنما هي مصيبة تصيبه.

وهناك من يجري عليه الألم وهو من الكفار فتصيبهم آلام يعذبون بها وهم في الكفر والعياذ بالله، أترون مثلاً من يحاربون المسلمين في كل المشارق والمغارب، ألا يصيبهم من الجراح والقتل والمتاعب والشقاء الشيء الكثير؟

ومع ذلك فهم على ما هم عليه من الكفر.

يقول لي أحد الإخوة: كنت أعرف رجلاً من قبل شهر ونصف في كمال القوة والعافية، وكان من عادته أن يظلم كثيراً من الناس فيقول: مررت به الأسبوع الماضي وقد أصيب بورم سرطاني، فأُخذت حنجرته كلها، وأصبح في هزال شديد، وهذا كله في خلال شهر ونصف فقط.

وهكذا أي إنسان، حتى لو كان إنساناً طيباً وعلى حاله ولا دخل له بشيء فإنه يصيبه المرض، فمن ذا الذي لا يصيبه المرض؟ بل قد يقوم الواحد من النوم فيجد شيئاً يؤلمه، فالآلام لا بد أن توجد.

لكن هناك من يجيء له الألم بسبب طاعته لله سبحانه وتعالى، وهذا في الحقيقة في حلاوة.

وأنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة مجتمعة فيمن يطيع الله عز وجل في فترات الشدة؛ لأن الطاعة أثناء الشدة تحتاج إلى صبر مضاعف، فالكل يريد أن يبعدك عن الطاعة، وقد يقال لك: ابتعد عن هذه الطاعة حتى تسير حياتك بسهولة، لا والله! الحياة لا تسير بسهولة بغير طاعة، وإن ظن الناس أنهم يعيشون حياة سهلة.

وانظر إلى متاعب الناس الذين ابتعدوا عن الإسلام، وابتعدوا عن الدين: هل يعيشون حياة سهلة أم ضنكا؟ والله أنهم يعيشون حياتهم في ضنك وشقاء بأنواعه حتى الأغنياء منهم، وحتى الملوك والرؤساء والكبراء، وحتى السادة المبرزين والمشهورين، فإن حياة الضنك لا تفارقهم كما توعد الله عز وجل فقال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:132-126].

ولو لم يكونوا في ضنك فلماذا يشربون الخمر؟! ولماذا يدخنون المخدرات؟! ولماذا يريدون أن يسيحوا في الأرض وينطلقوا بحثاً عن اللذات؟! فلو أن هذا الإنسان سعيد لما بحث عن مصادر السعادة الأخرى، ولما أراد أن يغيب عقله بالمسكرات أو المخدرات.

فشعوب الغرب والشرق لا تستغني عن الخمر لحظة، ولابد أن يشربوها كل يوم، فشرب الخمر عندهم كشرب الماء عندنا، والمرفهون عندنا يضعون المياه الغازية، وعندهم يضعون الخمرة، حتى في احتفالاتهم وبروتوكولاتهم فلابد من الخمرة، فلا يستغنون عنها، فلو أنهم سعداء في حياتهم فلماذا يشربونها؟! ولماذا يريد الإنسان أن يغيب عنه العقل؟ لماذا يريد أن يعيش في حياة أخرى غير التي يعيشها؟ الجواب: لأنه تعيس في حياته، وانتشرت فيهم المخدرات بأنواعها المختلفة وهم الذين يصدرونها لنا، ويسعون في نشرها للناس.

فمن أراد النزهة الحقيقية فليذهب للصلاة أو العمرة، أو ليصم يوماً، أو ينفق في سبيل الله، أو يطعم مسكيناً، فسيحس بفسحة فعلاً في صدره، لأن الانشراح والضيق شيء في داخل قلب الإنسان قبل أن تكون من خارجه؛ ولذلك سوف يستريح بهذه الأعمال، وربما كان يراه الناس في ضيق، فضلاً أن أكثر شعوب الأرض تعيش في ضيق دنيوي أيضاً، فوعد ربنا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] والعياذ بالله من ذلك.

ولذلك نقول: إن الصبر على الطاعة في فترات الشدة يكون أعظم؛ لإنك تجد الناس يقولون: ابتعد عن الطاعة حتى تعيش حياة سهلة، وهم لا يعيشون أيضاً حياة سهلة، ولكن أكثر الناس يستجيبون لذلك، فلذلك كان الصبر على الطاعة في فترات الشدة أهم وأوجب وأعظم.

أما الصبر عن المعاصي فالكل يدعوك إلى المعاصي، وانتشار الفساد يجعل المعصية سهلة، ويجعل المعاصي في متناول كل إنسان.

فإذا أراد شاب مثلاً أن ينال من فتاة شيئاً، فهل يصعب ذلك عليه في وسط هذا الكم الهائل من المعاصي؟! ولذلك فالصبر في هذا المقام أعظم من الصبر عن هذه المعصية في مجتمع مسلم كل الفتيات فيه محجبات، والرجال فيه رجال يمنعون نساءهم من الاختلاط المحرم الفاسد، ويمنعون بناتهم وأخواتهم من ذلك، والمجتمع كله يذم من يزني، ويذم من ينظر، ويذم من يعاكس ويتوعده بالعقاب، أي الصبرين أعظم؟ مع أنه لو صبر في المجتمع المسلم وهو مأمور بالصبر لكان ثوابه عظيم، فكيف لو صبر في وسط الفساد المنتشر في الأرض، والمبثوث في كل مكان الذي يسهل معه أن ينال ما يريد إذا لم يتقِ الله سبحانه وتعالى؟

أما الصبر على أقدار الله المؤلمة فإنما يعيبه بسبب طاعته؛ لأنه يتوعد ويخوف كما قال تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36] وقد يصيبه من ذلك ما يصيبه، ويحتسب عند الله سبحانه وتعالى، ويصبر ويكون بذلك قد حصل أعظم أنواع الصبر قال تعالى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128].

فإن الله سبحان وتعالى يورث الله سبحانه وتعالى الأرض لعباده المتقين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فاليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، والصبر على دينه في فترات الشدائد، كل ذلك من أعظم الواجبات، واليقين بوعد الله من أعظم مقامات العبادة والإيمان، فتوقن: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128] وتوقن أن العاقبة للمتقين، فلا تغتر بما ترى من بدايات؛ وأن الموازين لصالح أهل الكفر، وأن القوة في العالم بأسره بأيدي المشركين، فوالله أن ذلك اختبار لك؛ لكي تستحضر ما أخبر الله سبحانه وتعالى به من أن المؤمنين هم المنتصرون، وتتذكر ذلك لتزداد يقيناً بوعد الله، هذه الآية الكريمة من المبشرات، قال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقد قال عز وجل في معنى هذه الآية آيات كثيرة لكي نستيقن بوعد الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106].

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ أي: في جنس الكتب المنزلة على الأنبياء وهي الكتب التي تزبر، أي: -تكتب- مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي: من بعد الكتابة في اللوح المحفوظ: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ .

إذاً: فعليك أن تحقق الصلاح، وتجتهد في العبودية لكي تكون ممن يرث الأرض: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) إذاً: فنحتاج في هذا المقام إلى الاجتهاد في العبادة، إلى أن نكثر من الصلاة والصيام والدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، وخصوصاً إذا خوفت كما قال عز وجل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175] ولذلك أنت تحتاج إلى أن تتبع رضوان الله، فافعل ما يرضي الله، وأكثر من الطاعة، وأكثر من العبادة، ومن الذكر، ومن الدعاء فإن ذلك من أعظم ما يعينك على الثبات على دين الله سبحانه وتعالى.

ومن أعظم ما يحتاج إليه المؤمن في الإعانة على الثبات كذلك: أن يكون مع إخوانه في الله، يوثق علاقته بهم، ويتعاون معهم على نصرة الدين وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى في الأرض ولا يبتعد عنهم.

فنحن كركاب السفينة الكبيرة التي غرقت وبقيت قوارب نجاة يجتمع فيها بعض الركاب، وأسماك القرش في البحر المتلاطم الأمواج تحيط بقوارب النجاة من كل جانب وتنهش في جوانبه، وهي قوارب ليست كالسفينة في شدتها بل هي مطاطية، فأسماك القرش ربما تأخذ من جوانبها وتفزع كل من فيها، ومع ذلك أتظنون أن عاقلاً يقول: إن أسماك القرش تحيط بالقارب فسأنقذ نفسي بإلقائها في البحر، أيكون مثل هذا عاقلاً؟! فهذا الذي يلقي بنفسه إلى أسماك القرش ويترك قارب النجاة الوحيد لا شك أنه هالك.

وأما العاقل فهو يسعى إلى سد ثغرات القارب، ونزح المياه التي تأتي إليه من البحر، وهناك أشياء يأتي منها الخطر فلا بد أن نسدها، ولا بد أن نتعاون على حفظ القارب سليماً.

المجتمع الذي كان في يوم من الأيام مجتمعاً مثالياً يعيش الناس فيه بالإسلام منذ مئات السنين غرق تدريجياً إلى أن صار بعيداً عن حقيقة الالتزام بالإسلام، وبقيت فيه قوارب النجاة وهي من يدعو إلى الله عز وجل من أهل المساجد، ومن أهل الخير، وممن يسعون إلى إقامة دين الله فهؤلاء هم قوارب النجاة، وأسماك القرش التي من حولك هم دعاة الفتن الذين يقولون لك: ابتعد عن هؤلاء لكي تطمئن، فالحذر كل الحذر في أن تلقي بنفسك إلى أمواج الفتن، وأن تبتعد عن أسباب طاعة الله سبحانه وتعالى.

وهذه أمور لا بد أن تكون على بينة منها؛ لكي تثبت على دين الله سبحانه وتعالى، ولكي تستمر على طريق الهداية رغم كل أنواع المعوقات والعقبات التي تمر بنا في الطريق.

حياة القلوب فيما أنزل الله

وصية أخرى نختم بها كلامنا: وهي أن أعظم ما يحيي القلوب هو ما أنزله الله روحاً من عنده وهو كتاب الله سبحانه وتعالى، فلا بد أن نستمد منه الحياة كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53] ولا أعني بذلك مجرد تصحيح اللسان وحفظ الحروف والكلمات، وإن كان ذلك هو الخطوة الأولى اللازمة، لكن لا بد له من تدبر وإمرار على القلوب قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] وليكن تصحيحك للحروف والكلمات وسيلة إلى تدبر قلبك لها كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً) لزينت لك القرآن بصوتي تزييناً، فأنت إنما تريد بتصحيح الكلمات والحروف أن تتفهم القرآن أكثر؛ لأن من لا يحسن القراءة ربما يفوت عليه خير كثير من التدبر بسبب عدم إتقانه له.

وأنا أقول لكم كتجربة شخصية: إن السورة التي أبذل مجهوداً في مراجعتها ولا أحسن حفظها؛ لأني حفظتها على كبر، إذا وقفت لأصلي بها أو أتلوها أظل مشغولاً بألفاظها وحروفها فيضيع معظم التدبر، أما ما حفظته صغيراً فهو مستقر في النفس فأجد السبيل إلى التدبر أسهل وأيسر مفتوحاً بإذن الله تبارك وتعالى.

فنصيحتي إلى إخواني الشباب وأبنائي الشباب أن يستغلوا هذه الفرصة، فأنت في مرحلة التمكن من الحفظ، ولكن لا يكن همك أنهم سيقولون عليك: متقن، أو ستعطى إجازة تفتخر بها وتعلقها على الجدران، أو تعمل بها في أوقات تحتاج إلى العمل بها، لكن اجعل ذلك وسيلة إلى الغاية المقصودة؛ فإنما أنزله الله للتدبر قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونسأل الله مقلب القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه، اللهم! يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , استعينوا بالله واصبروا للشيخ :

https://audio.islamweb.net