اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو للشيخ :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:20-24].
إن نظرة المؤمن إلى حقيقة الحياة وإلى صغر مدتها إنما تنبع من إيمانه بالبداية والنهاية التي بينها لنا ربنا سبحانه وتعالى، وإنَّ هداية هذا الخلق بيد الله عز وجل الذي قدر وجوده، وكتب مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى جعل وجودنا على الدنيا مروراً عابراً، فنأتي على ظهر الأرض سنوات، ثم نبقى ما شاء الله عز وجل في باطنها، ثم بعد ذلك نبعث ليوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك نهاية في نعيم أبداً أو في عذاب أبداً، قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، فنظرة المؤمن لحقيقة هذه الحياة التي نعيشها على ظهر الأرض وصغرها وحقارتها، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، يؤثر ذلك في سلوكه تأثيراً بالغاً في سلم أولوياته في الحياة، وما يقدم وما يؤخر، وما يعظم وما يحقر، وما ينفق فيه الوقت والعمر، وما يبخل به، وما يبخل بالوقت والعمر عن أن ينفقه فيه، وكذلك يؤثر على سلوكه فيما يسابق إليه وينافس عليه، وفيما يسعى إلى التقدم فيه، وكذلك يؤثر على سلوكه فيما يصيبه من مصائب ومحن، ويؤثر على سلوكه في معاملته لغيره، وأصل ذلك الإيمان والعلم بما أمرنا الله عز وجل أن نعلمه، قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20].
(طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، فإن أمر أن يكون في الساقة -وهي مؤخرة الجيش- لم يأب ذلك، بل كان فيها مؤدياً دوره، ولا يقول: إن لم تصدروني في الصفوف الأول، وإن لم تعطوني صدور المجالس؛ فلا أكون معكم، ولا أنفذ ما تأمرونني به، وإنما هو مغمور في وسطهم، مذكور عند الله عز وجل في الملأ الأعلى، لا يعرفه أهل الأرض ولكن يعرفه أهل السماء، وهو إن كان في الحراسة -أي: أمر بأن يكون في الحراسة- كان في الحراسة، فلا يستنكف أن يكون حارساً لغيره ممن له عند الناس منزلة أكبر، وتكون حياته أهم من حياة هذا الحارس، فلا يستنكف عن ذلك طالما أن ذلك في سبيل الله، فهو يبذل ولا يشترط منزلة معينة ولا مكانة معينة، وعلامة ذلك أنه إن استأذن لم يعرف، ولذلك لا يؤذن له، ولا منزلة له عند الناس تجعلهم إذا شفع يشفعونه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، فطوبى لهذا العبد، بخلاف ذاك العبد الأول الذي عبد الدرهم والدينار، وعبد المظاهر وتفاخر بها، وعبد القطيفة والخميلة والخميصة، وعبد الوجاهة لدى الناس، ومن الناس من يكون في عبوديته هذه مشركاً بالله الشرك الأكبر، ومنهم من يكون على أدنى من ذلك -أي: مشركاً شركاً أصغر- على حسب تعظيمه لهذه الشهوات، فمن عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميلة والخميصة بحيث يبيع دينه بالكلية من أجلها، فهو مستعد لأن يبيع دينه بعرض من الدنيا، فإذا أمسى مؤمناً وعرض عليه في الليل شيئاً من الدنيا على أن يبيع دينه باع فيصبح كافراً، وإذا أصبح مؤمناً وعرض عليه في أثناء يومه أن يبيع دينه بشيء من هذه الدنيا باع فيمسي كافراً والعياذ بالله.
فهذه فتن مظلمة تطغى على هذا العبد، وإن سعى إلى السعادة في ظنه فهو تعيس لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه بالتعاسة، فهو مستجاب الدعوة عليه الصلاة والسلام، سواء كان خبراً أو دعاء فهو على أي الوجهين شقاوة ما بعدها شقاوة.
وأما إذا كان يقدم هذه الشهوات على طاعة الله لكن لا يقدمها على توحيده، لا يقدمها على الدين كله، ولا على إيمانه، فإنه يكون فيه من عبودية هذه الأشياء ما يجعله مشركاً شركاً أصغر، وإن لم يصل إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، والحديث يشمل النوعين، فالتفاخر هذا الذي يسعى أكثر الناس إليه ويحرصون عليه نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق التواضع: (الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وإن كان الإنسان من ذوي النسب والشهرة والمنزلة، فليس له عند الله عز وجل إلا عمله الذي يستحقُّ به مرضات الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، فالتفاخر الذي يكون بالوجاهة لدى الناس وبالرئاسة والملك ذلك الذي يتنافس الناس فيه ومن أجله تقام الحروب، ومن أجله يقتل الملايين، ومن أجله تنتهك الحرمات، وتنفق الأموال، وتسفك الدماء فهذا حذرنا القرآن منه، فنعوذ بالله أن يفخر بعضنا على بعض.
وهكذا في عموم جنس الإنسان كل منا يخلو وحده بعد ذلك، فما أحراه في حال الحياة أن يكون كذلك باحثاً عما يقدمه لنفسه، منفرداً يعامل ربه وحده، ولا يجعل كثرة المال والولد غاية مقصودة، ولا يجعل مكاثرته لهذه الدنيا هدفه المنشود، قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2]، فقد كانوا من كثرة تفاخرهم وتكاثرهم يذهبون إلى المقابر؛ ليعدوا أمواتهم؛ وليفتخروا بهم على عادة العرب في الجاهلية، وقيل: زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ معناه: أن الإنسان يبقى فيها مدة، ثم يرتحل عنها إلى الآخرة، فكأنها زيارة، والذي يظهر -والله أعلم- هو الأول، فإن عادة العرب التكاثر بمن مات، ولو كانوا من أزمنة بعيدة، وكان ذلك من عاداتهم المعروفة، قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:1-5] أي: لما فعلتم ذلك؛ ولو علمتم علم اليقين لآثرتم الآخرة وتركتم الدنيا، لَتَرَوُنَ الْجَحِيمَ [التكاثر:6]، فأكد الله عز وجل أن من ألهاه التكاثر فسوف يرى الجحيم، ثم يعذب به بعد ذلك، قال تعالى: ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:7-8].
فهكذا الدنيا مثالها واضح، وإن كانت تأخذ في عمر الزرع أشهراً، وفي عمرنا نحن تأخذ سنوات طالت أو قصرت، ولكن في نهاية الأمر لابد من أن يكون الإنسان حطاماً، ويكون ما جمعه حطاماً، قال تعالى: وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ [الحديد:20]، فهذا الذي يجب أن يعمل له المؤمن أن يفر من العذاب، ويطلب المغفرة والرضوان، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور [الحديد:20]، أي: المتاع الذي يغر ويخدع، فلا تنخدعوا به.
إن الإنسان يحرص على أن يكون هو المقدم، وهذا إذا كان في طاعة الله، ولم يخدع الشيطان صاحبه حتى يجعل له الدنيا وقد ألبسها صورة الطاعة، وهو ينافس على الدنيا في الحقيقة وإن كان بستار ولباس الدين، فإنه إذا كان التنافس على الآخرة حقيقة زاد الأمر وداً وحباً، وإذا وجدت التنافس يؤدي إلى البغضاء والكراهية فبالقطع واليقين أنَّ هذا ليس الذي أمر الله به؛ لأن ما أمر الله به يؤدي إلى ما يحبه ويرضاه، وهو لا يحب البغضاء حالقة الدين، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان يؤدي إلى الحسد فالله لا يحبه ولا يشرعه، كيف وقد هلك إبليس به، وهلك ابن آدم الأول به، نعوذ بالله.
إذاً: إذا وجدت البغضاء والكراهية والحسد وإن كان فيما يبدو تنافساً على الدين فأيقن أنه ليس كذلك، وأيقن أن هذا ليس تنافساً على الدين، بل دخلت الدنيا حتماً واستقرت في القلوب، ثم لبست لباس الدين وفيما أُظهر الناس أنهم يتنافسون على مرضاة ربهم والحقيقة أنهم يتنافسون على المنازل في قلوب العباد وفي نظرهم نعوذ بالله من ذلك، وذلك كله راجع إلى شدة الانشغال بالدنيا والتكاثر فيها، ونسيان المغفرة والجنة، فكلما أكثرت الفكر في يوم القيامة، وفي الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكلما تفكرت في الموقف، وفي الحساب والحشر وصفة القيامة، وكلما صغرت الدنيا في عينيك وفي قلبك، وكلما تنافست فعلاً على الآخرة، وهان عليك أن تخذل من الدنيا، وهان عليك وسهل أن تكون سمحاً في معاملتك، غير بخيل ولا آمرٍ الناس بالبخل، فلا بد أن تعرف أن طاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ولذلك كان السباق على الآخرة لابد أن يأتي بالخير، فإذا وجدنا شراً فلنتهم أنفسنا، فإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد.
فانظر إلى هذا الفقه العظيم! وكيف كان تنافسهم على الطاعة لا يثمر حقداً ولا ضغينة ولا بغضاء، هذا أبو بكر يوم السقيفة يقول للأنصار، وقد أرادوا أن يجعلوا أميراً منهم بالإضافة إلى أمير المهاجرين، وبين لهم أن هذا الأمر لا يصلح إلا لهؤلاء الملأ من قريش قال: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة ، وإذا بـعمر يطلب من أبي بكر أن يبسط يده ليبايعوه، فيؤاثر ولا يؤثر إلا ما يعلم أنه الحق وأنه النصح للأمة، وأبو بكر كان صادقاً فيما نصح، وهو قد رضي لهم ذلك، وإن كان هو الأفضل رضي الله تعالى عنه، وعمر رضي الله عنه له فضل عظيم في تقديم أبي بكر لهذه الأمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فهكذا كان السباق على الآخرة يؤدي إلى مزيد الحب ومزيد الود، وهكذا طبيعة حقيقة التنافس على مغفرة الله؛ لأن الإنسان المؤمن إنما يحب في الله، وهو إذا ظهرت طاعته في الأرض أحب ذلك حباً لله عز وجل، وحباً لظهور دينه، فكيف يمكن أن يكره ظهور الطاعة في الأرض لأجل أنها ظهرت على غير يديه، أو لأنها ظهرت من غيره، وأي عمل يعمله في الحياة إلا أنه يريد أن تظهر عبودية الله في الأرض، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى، فأما إذا كان يريد كبراً وعلواً فهذا الذي يشرق إذا ظهرت الطاعة على يد غيره، ولا يقبل ذلك ولا يستسيغ ذلك، فتجد الدنيا من وراء ستار الدين، نعوذ بالله من ذلك.
فانظر إلى هذا الملك العظيم، فهي جنة كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21]، فتحقيق الإيمان هو الذي يهدف له المؤمن، وهو الذي يسعى له بكل طريق؛ ليكون مؤمناً حقاً كما وصف الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].
فالله سبحانه وتعالى جعل من المؤمنين من هو مؤمن حقاً، فدل ذلك على أن هناك من يقول: أنا مؤمن وليس مؤمناً حقاً كمسلمة الأعراب الذين قال عز وجل فيهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].
فذلك أن الإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وليس مجرد كلمة تقال، ولا إعلان يعلن، والالتزام حقيقة في الباطن والظاهر، وفي السلوك والعمل والعقيدة، فلابد أن يكون الإنسان مجتهداً في تحقيقه من جميع جوانبه؛ ليفوز بهذه الجنة، قال تعالى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، فاعلموا إذاً أنكم لن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، واعلموا أنكم لن تنالوا هذا الفضل إلا من ذي الفضل العظيم وبمشيئته، فأيقنوا بقدره، وفروا من الله عز وجل إليه، والجأوا إليه سبحانه وتعالى في أن يفضلكم على من سواكم من الخلق، فإن الله عز وجل جعل اصطفاءه واختياره لأهل الجنة من عباده واحداً في الألف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى لآدم يوم القيامة: (يا آدم أخرج بعثا النار؟ فيقال: من كل كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)، فحتى تكون أنت الواحد في الألف الذي ينجو إلى الجنة فاعلم أن ذلك لن تناله إلا بتوفيق الله عز وجل، فاضرع إليه سبحانه وتعالى أن يمن عليك بفضله، وأن يرزقك طاعته، وأن يعينك على عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وفي حديث أبي هريرة (يا أبا هريرة ! جف القلم بما أنت لاق)، أي: جف القلم على علم الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
فاللوح المحفوظ قد جف قلمه، وطويت صحفه، وأما الكتب الأخرى فهي نسخ تقبل المحو والإثبات، أما اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات، قال تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، قال ابن عباس: الكتاب كتابان.
فالله سبحانه وتعالى جعل في نفس المؤمن الإيمان بالقدر؛ لكي لا يأسى على ما فات، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، أي: من قبل أن نبرأ الأرض، أو من قبل أن نبرأ النفوس، أو من قبل أن نبرأ المصيبة، أي: نخلقها، أو من قبل أن نبرأ الخليقة كلها، فيشمل التقديرات كلها، وهذا أحسن التفسيرات في هذا المقام، فقبل أن يبرأ الله كل ذلك، وقبل أن يوجده، قدر الله هذه المقادير، وذلك أن الذي يترك التنافس على الدنيا سوف يفوته منها، وأن الذي ينافس ويسابق على الآخرة سوف يصيبه من أنواع البلايا والمحن ما يصيبه، فلابد إذاً أن يكون مهيأ النفس مستعداً لتحمل ذلك بغير شقاء ولا تعاسة.
إن المصائب تشقي الناس إذا لم يؤمنوا بالقدر، وإذا لم ينظروا إلى البداية والنهاية، وأما إذا أيقنوا بالنهاية هانت عليهم المصيبة، وإذا أيقنوا بالبداية نظروا إلى حكمة الله الذي علم وقدر وكتب، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ووضع الأشياء في مواضعها، وله الحكمة والملك والحمد، يحيي ويميت وهو على شيء قدير، فليس فقط له الملك بغير حمد حتى يتصرف في ملكه كما يتصرف أهل الدنيا ممن أعطاهم الله الملك؛ للشهوات والرغبات الدنيئة التي يستحقون عليها الذم، كما أنه ليس له حمد بغير ملك بل هو سبحانه وتعالى مع كمال ملكه يستحق أكمل أنواع الحمد، قال تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن:1]، وأكثر الخلق إذا كان ملكاً تصرف على هواه، وكثير ممن له حكمة يتصرف بها لا يكون قادراً، ولا يكون ملكاً متصرفاً ليمضي الحكمة في مواضعها، والله عز وجل له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
فإذا نظر الإنسان إلى البداية والنهاية فعند ذلك تهنأ نفسه بالحياة وتستقر، ويستقر قلبه ويسكن ولا يجزع عند المصائب، قال عز وجل: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] أي: كتابة كل مقادير الخلائق على الله يسير، وفيه إثبات قدرة الله، وفيه إثبات أسمائه وصفاته ومعرفة علمه وفعله عز وجل بالكتابة، حيث كتب المقادير وأمر بكتبها، ومعرفة مشيئته وقدرته، ومعرفة خلقه لأفعال عباده، هكذا أخبر الله عز وجل، قال تعالى: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [الحديد:22-23] أي: من الدنيا، فأنت إذا نافست على الآخرة فاتتك الدنيا وإذا زهدت في الدنيا، فاتك بالتأكيد من شهواتها، ومع ذلك لا تحزن ولا تأسَ ولا تغضب من أجلها، إنها تافهة يسيرة، إنها أقل من أن تغضب من أجلها أو تحزن على فواتها، قال تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ [الحديد:23]، وقرئت (بما أتاكم) أي: ما آتاكم من الدنيا، وأما قراءتنا آتَاكُمْ ٍ أي: بما أعطاكم الله منها.
وأما هذا الفرح المذموم فليس مجرد السرور الذي يحصل للإنسان طبعاً وفطرة عند حصول ما يوافقه من أهل أو مال أو ولد، ولكن ذلك الفرح الذي حذر الصالحون من قوم قارون منه، حيث قال: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، فليس الفرح هو السرور، ولكن الفرح الذي هو الكبر والبطر والغرور بالنفس وأن يقول: هذا لي، كما قال قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].
فهذا الذي ينسب لنفسه الفضل، ويرغي ألسنة الناس بذلك مباشرة وبغير مباشرة، كأن يأمرهم أن ينادوا وأن يقولوا كما نادى فرعون في قومه: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:51-52]، فأراد أن ينادي بذلك في أرجاء مملكته كما يفعل أكثر ملوك الأرض حين يسخرون من ينادون في الناس بملكهم وحكمهم، والثناء عليهم بفضائل ليست لهم، فسبحان الله هذا هو الفرح إذا فرح، فالإنسان لما أعطي فعلاً فرح الكبر والبطر، ومدح النفس والثناء عليها، وظن أن فضل هذا ليس من الله كان ذلك فرحاً مذموماً، فكيف بمن يفرح بما لم يؤت وبما لم يأته: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188].
فالله سبحانه وتعالى لام من ينسب لنفسه الفضل فيما أُتي من الخير والحسنات، فكيف بمن ينسب لنفسه فضلاً ليس له؟ قال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ، وهذا من أسباب الشقاء في الحياة.
فتأمل كيف انتظمت عقيدة القدر والإيمان بالله ورسله علاج كل هذه الأمراض القلبية المشقية للإنسان في دنياه وأخراه: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].
فهذه ستة أمراض: مرض الأسى والحزن على الدنيا، ومرض الإعجاب بالنفس والثناء عليها، ومرض الاختيال، ومرض الفخر، ومرض البخل، ومرض أمر الناس بالبخل والعياذ بالله، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24]، فهو سبحانه وتعالى الغني الحميد، فله الغنى التام وعباده كلهم فقراء إليه، وله الحمد التام سبحانه وتعالى لا يحصي الخلق ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فهذا الإيمان بأسماء الله وصفاته هو الذي يريح الإنسان أعظم راحة، وإذا تحقق هذا الإيمان في قلبه بمعرفة معاني أسماء الله وصفاته، والتعبد له عز وجل بها؛ اكتمل إيمانه بإذن الله، فجميع أركان الإيمان نابعة من معرفة الله والإيمان به، ومحبته عز وجل بمقتضى أسمائه وصفاته.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة وبضاعة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين.
اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط بذنوبنا من لا يرحمنا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو للشيخ :
https://audio.islamweb.net