
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فقد قضى الله سبحانه وتعالى بعدله وحكمته بوجود العداوة بين أولياء الرحمن بني الإنسان وأولياء الشيطان، فأولياء الرحمن من بني آدم عليه السلام هم الذين اتبعوه على معرفة الله وتوحيده ومحبته، والتوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، والاعتراف بالذنب، والرجوع إلى أمره عز وجل، والاستغفار.
وأولياء الشيطان، وإن كان بعضهم أو كثير منهم ممن انتسبوا إلى آدم، إلا أنهم والوا عدوهم إبليس اللعين، وساروا على طريقته في الإباء والاستكبار والكفر والعناد، والعياذ بالله، فصارت هذه العداوة مستمرة تجري حلقاتها جيلاً بعد جيل على ظهر هذه الأرض.
والله سبحانه وتعالى قد بين لنا حقيقة هذا الصراع منذ أمر آدم بالهبوط إلى الأرض هو وإبليس، فقال سبحانه وتعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف:24]، فهذه العداوة لابد من أن نعرف قواعدها وموازينها؛ لنختار لأنفسنا الفريق الذي ننتمي إليه، حتى لا يخدعنا مخادع عن حقيقة الصراع الذي يجري على وجه هذه الأرض، مما يخدع الشيطان به أولياءه فيظنون أن الصراع ينبغي أن يكون على الملك أو على المال أو على الشهوات أو على الطعام والشراب، فكثير من الناس إنما يصارع من أجل ذلك، فيقع في الفخ الذي نصبه الشيطان، فيكون من جنده، والشيطان وإن أوقع العداوة بينهم إلا أنه لا يرضى لبني آدم إلا الخسران في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.
ويملي سبحانه وتعالى لهم؛ وذلك لمتانة كيده، ولأنه سبحانه وتعالى خير الماكرين، قال عز وجل: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183] .
وقال سبحانه وتعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] .
والله سبحانه وتعالى يكيد بأعدائه الكافرين، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17] .
وبين سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حقيقة الصراع الذي يجري بينهم وبين عدوهم، خاصة من تستمر عداوتهم إلى قبيل قيام الساعة، وهم كفرة أهل الكتاب، كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الملاحم الكبرى أنه: (قبيل الدجال تقع ملحمتهم مع الروم، مع كفار النصارى الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغدرون حتى يأتون تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً، وينتصر عليهم المسلمون بفضل الله عز وجل بأرض الشام)، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أمر الدجال ، وذكر صلى الله عليه وسلم الملحمة الكبرى مع اليهود بعد ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) .
ولقد بين صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الدجال يتبعه اليهود، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة).
فدلت هذه الأدلة على بقاء هذا الصراع إلى الأشراط الكبرى قبيل القيامة، فهذه مسألة عظيمة الأهمية في حياة المسلمين، فلابد من أن يعوا أن الصراع لن ينتهي وإن تفاوتت القوى في المراحل المختلفة والأزمنة والعصور المتفاوتة، فإن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس امتحاناً لعباده المؤمنين للعلة التي تذكرها سبحانه بقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].
ولقد بين سبحانه وتعالى لعباده وأوليائه صفة الكفرة، وحقيقة طريقتهم حتى لا يخدع المؤمنين مخادع، ممن ينتسب إلى الإسلام بلسانه وهو في الحقيقة من أعداء الله عز وجل المنافقين، الذين يلبسون ويصدون عن سبيل إله ويبغونها عوجاً.
ما أحوجنا إلى أن نتدبر هذه الآيات التي تجلي لنا حقيقة عدونا وطريقته في الحياة، قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].
هؤلاء الذين يكذبون آيات الله سبحانه وتعالى ويأبون الانقياد، وهم الكفار من كل نوع، وهؤلاء ينطبق وصفهم على بني إسرائيل كثيراً؛ لأن الله عز وجل ذكرهم فقال: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، فهذه صفتهم الممتدة عبر التاريخ، يكفرون بآيات الله عز وجل، وباءوا بكفر عظيم غليظ بتكذيبهم لأنبياء الله عز وجل واحداً بعد واحد، وباءوا بأشد من ذلك، وهو تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم بعد تكذيبهم لعيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين يكفرون بآيات الله، وإن كانوا يزعمون الانتساب إلى أنبيائه، فإن سبيلهم سبيل التكذيب والكفر والعياذ بالله، هذا وصفهم وحقيقتهم التي لابد أن تجلى وتبين للمسلمين.
هذا هو أول وأعظم أسباب عداوتهم، فإنما يعاديهم أهل الإيمان؛ لكفرهم بآيات الله وتكذيبهم رسله، ومن ثم وقعوا في الشرك والكفر والعياذ بالله، فإن من كذب الرسل وكذب بالكتب المنزلة على رسله فقد عبد الشيطان الذي أمر بهذا الكفر، فهو مشرك كافر والعياذ بالله، فتبدو العداوة والبغضاء بين المؤمنين وبينهم أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده، كما قال عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
وهي عداوة لا تتوقف، وبغضاء لا تنتهي حتى يؤمنوا بالله وحده بنص القرآن القاطع الذي لا يحتمل تأويلاً ولا تحريفاً بفضل الله سبحانه وتعالى وإن رأى أهل الزندقة والنفاق والكفر أن يزيلوا هذه الآيات، ولزوال السموات والأرض ممكن دون أن تزول آيات الله سبحانه وتعالى، فقد وعد بحفظها، فلا تزال في القلوب، ولا تزال كذلك في السطور في الصحف التي حفظها الله سبحانه وتعالى.
والجواب: إنما ذمهم الله عز وجل لأنهم وافقوهم على طريقتهم، حيث حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقوا من قبلهم في النية والمقصد وفي السلوك والمنهج، وكذلك من يأتي بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فهناك من يحاول قتل دينه ودعوته، فيحاول إزالة هذا الدين من على وجه الأرض، ويحاول أن يميت صوت الحق الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، ويحاول إزهاق دعوة التوحيد التي جاء بها الأنبياء، فلذلك يكون من الذين يقتلون النبيين بغير حق؛ لأنه وافقهم على طريقتهم، فكل من أراد إيقاف دعوة الحق وأراد قتل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يدعون إلى الله عز وجل، فهو من الذين يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فهذه سبيلهم وطريقتهم.
ولقد ذكر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن بني إسرائيل قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء بكرة نهارهم ثم أقاموا سوق بقلهم في آخر النهار! فهذه عادتهم والعياذ بالله، ولقد كادوا أن يقتلوا رسولاً من أشرف رسلهم وهو هارون عليه السلام، وهو حي بين أظهرهم في حياة موسى، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن هارون عليه السلام: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150]، فهذا فيمن نجوا على يديه، وأخرجهم الله به من ظلمات البلاء الذي كانوا فيه على يديه مع أخيه، ولما غاب أخوه أربعين ليلة كادوا أن يقتلوه عليه السلام مستضعفين له، فإذا كان هذا فيمن صحب الأنبياء منهم فكيف بمن أتى بعدهم؟! فهم يسيرون على النهج والطريق نفسه، والعياذ بالله وهذا الأمر لا يصلح مع أمة الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى؛ إذ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة لا تزول بفضل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، فالله عز وجل يبقي بهؤلاء القوم ما يسوءهم بفضله ورحمته سبحانه وتعالى.
وأما قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس فهي صفة ملازمة لهم كذلك، وهي تابعة لقتل الأنبياء، وذلك أن الأنبياء ما ورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فلكراهيتهم لدعوة الأنبياء أرادوا قتل من يدعو إليها، وأرادوا قتل من يأمر بالقسط من الناس، بل قتلوهم بالفعل، ولا يزال هذا الأمر يقع، ولا يزال الذين يأمرون بالقسط من الناس يتعرضون للبلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى صبرهم وتضحيتهم وثباتهم على دينهم، رغم ما يتعرضون له من البلاء، وهو سبحانه وتعالى قد جعل تضحية الذين يأمرون بالقسط من الناس بأنفسهم وأموالهم وكل ما لديهم سبباً لانتشار الحق، وسبباً لانتصاره كذلك، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم، وهو عز وجل مالك الملك، وهو الذي يدبر الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده عز وجل أن ينزع أرواح هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وأن يوقف نبض قلوبهم، وأن يجفف الدم في عروقهم، وأن يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأن يرسل عليهم حاصباً من السماء، هو قادر سبحانه على ذلك كله، وقادر على أن ينزع ما أعطاهم من الملك، وهو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وتلحظ هذا في كل يوم ولحظة من اللحظات، ولا ينازع في ذلك أحد، وهو أمر مشهود محسوس؛ ومع كل ذلك أمكنهم سبحانه وتعالى وأقدرهم على أن يقتلوا أنبياءه ورسله، وهو سبحانه وتعالى ينتصر لأوليائه، ويغضب على من آذاهم، فكيف بمن قتل نبياً؟! أو رسولاً؟! وكيف بمن قتل أولياءهم وأتباعهم الذين يأمرون بالقسط من الناس؟!
فالله سبحانه العليم الحكيم الحليم، قضى ذلك وقدره؛ ليرى ما يحب من عباده المؤمنين من ثباتهم، ومن توريثهم الحق جيلاً بعد جيل، وطائفة بعد طائفة رغم التضحيات، وليظهر قدرته وقوته، وأنه سبحانه وتعالى ناصرٌ دينه وأولياءه وإن قتل من قتل من الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس.
والله سبحانه وتعالى لم يجعل دعوة الحق التي أنزلها في كتبه وعلى ألسنة رسله مرتبطة بأشخاص، وإنما هي دعوة مستمرة بفضل الله سبحانه وتعالى، وليست مرتبطة بموازين المادة على ظهر هذه الأرض، فموازين القوى الظاهرة لا ترتبط بها أبداً، وإنما هي حبل موصول كما قال عز وجل: واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فالوحي المنزل حبل موصول طرفه بيد البشر ونهايته توصل إلى الله عز وجل، فمن استمسك به واعتصم نجا، ووصل إلى مرضاة ربه، ودخل الجنان بفضل الله سبحانه وتعالى، ومن تركه وقع في الهاوية والعياذ بالله!
وهذا الحبل الواصل بين السماء والأرض أراد الله أن يمتحن به عباده في التمسك به والثبات عليه، فقدر ما قدر من وجود هؤلاء الأعداء الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، وهو سبحانه يري الناس آياته، ومنها تمكن الظالمين ومسارعتهم في الكفر، وكأن الأمور بأيديهم، ثم بعد ذلك يحقق الله عز وجل وعده، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].
وقال عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1]، فعملهم وكيدهم في ضلال، كما قال الله: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]، وكما قال: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:37]، فالله سبحانه وتعالى جعل كيدهم إلى بوار، وجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، فكلما أرادوا أمراً حصل عكسه حتى يأذن الله عز وجل بإحباط خططهم ومكرهم، إحباطاً تاماً إذا أذن وأمر سبحانه، قال الله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] .
وأما في الآخرة فلا ثواب لهم عند الله، فعملهم كله حابط؛ إذ إن من أشرك بالله وكفر بأنبيائه ورسله -فضلاً عن أن يقاتلهم ويقتلهم- عمله حابط كله، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] .
فالمشرك حابط العمل لا يقبل الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً، فكل من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فهو مشرك حابط العمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).
فينبغي أن يكون ظاهراً لكل أحد أن قوة الكفرة والظلمة لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى القوة المودعة في الأرض، فلو تزلزلت الأرض زلزالاً يسيراً بدرجات معدودة لدمرت ما فوقها، فكيف بما في باطنها من أهوال، ولو أمرها الله عز وجل أن تخرجها لخسفت بهؤلاء، ولو شاء لأغرقتهم البحار، أو حصدتهم السماء بأمره عز وجل؟!
إن جبريل عليه السلام صاح بقوم لوط صيحة واحدة فأهلكهم عن بكرة أبيهم، وذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى، وصاح بقوم ثمود كذلك صيحة واحدة فأهلكهم الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذين كذبوا الرسل وقتلوا مؤمن آل ياسين إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29].
فالله سبحانه وتعالى جعل في الكون المشهود المخلوق من أنواع القوة والقدرة ما يدلنا على عجز البشر وضعفهم، فكيف يكون لهم ناصر من دون الله عز وجل إن أرادهم بسوء أو بإهلاك، ولو اجتمعوا جميعاً على تناصر بينهم فو الله لن يساووا عنده شيئاً، ولا أدنى من جناح بعوضة، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال عز وجل: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] .
ويمكن للمؤمنين بفضل الله أن يستخرجوا من أنواع القوة التي يدمر الله بها أعداءهم، وذلك بأن يستعينوا بقوة العزيز القوي الجبار، قاهر الخلق ما فوقهم وما تحتهم سبحانه وتعالى.
فإذا استعان المؤمنون بالله وأخلصوا دينهم له، دعوه عز وجل بصدق، فقد نزلزل لهم الجبال وتحرك لهم البحار والسموات والأرض، فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قومُه فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، فلم يرد ذلك وقال: (لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله)، فالله سبحانه وتعالى جعل الكفار بلا ناصر، فلا ناصر لهم، ولا ينصر بعضهم بعضاً إذا جاء أمر الله سبحانه وتعالى.
والمعنى: أن آباءهم وأجدادهم قد أوتوا الكتاب، ولكن هؤلاء قد ضيعوه، حتى إن ما بقي بأيديهم من الحق ما التزموا به، وما قبلوه أو طبقوه، فأخبرونا -عباد الله- عن حقيقة هؤلاء القوم في سلوكهم، هل يمتثلون توراة أو إنجيلاً؟ وهل يمتثلون توحيد الله عز وجل الذي أنزله في كتبه كلها؟! فكل كتب الله السابقة -حتى بعدما وقع فيها تضييع وتحريف وتبديل- لا يزال يوجد فيها دعوة التوحيد والحق وتصديق الأنبياء، فالرب رب واحد، هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهذه أول الوصايا في التوراة، وأولها على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام، فهي أول الوصايا في التوراة والإنجيل الموجودين الآن، ومع ذلك هل يطبق (لا إله إلا الله) ويدعو إليها في الأرض أحد غير أهل الإسلام؟! ثم تجد اليوم عداوة عجيبة لهذه الكلمة ولأهلها ومحاولة لإذلالهم، فهم لا يمتثلون كتاب الله، ويُدَعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيأبو ذلك، لا إلى الكتب التي بين أيديهم رغم ما فيها من تبديل وتضييع ولا إلى كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووافقهم في ذلك المنافقون، وتابعوهم على رفض التحاكم إلى كتاب الله، قال تعالى عنهم: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ [آل عمران:23] أي: يتولون عن الإيمان، وعن الكتاب، ويتولون عن الانكسار والانقياد لأمر الله كما قال الله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ أعرضوا عن آيات الله عز وجل بعد إذ أنزلت وبعد إذ بينت.
فهذه سبيلهم وطريقتهم وطريقة أوليائهم، طريقة تتكرر عبر العصور، وذلك أنهم متابعون لإبليس اللعين في إيذائه واستكباره والعياذ بالله، وهذا أبلغ الذم لهم على ما صنعوا، وذلك لفساد اعتقادهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر إيماناً صحيحاً، وإن أقروا بوجود البعث فإبليس يقر به، وإن أقروا بوجود النار فإن إبليس يقر ويعترف بذلك، فلن ينفعهم ذلك.
مع أن مس النار في ثوانٍ معدودة لا يحتمله الإنسان في الدنيا، وربما بقي سنين معذباً بسبب ثوان معدودة من نار الدنيا، فكيف بنار جهنم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين ضعفاً، فنار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.
هذا الأمر إذا استحضره أهل الإيمان كان ذلك من أعظم أسباب ثباتهم على دينهم رغم ما يرون من القوة المادية لأعداء الله التي تكاد في الظاهر تملأ السهل والوادي، بل الآن -فيما يبدو للناس- تملأ الأرض والسماء القريبة من الأرض، ومع ذلك فالله مالك الملك، وهو سبحانه يؤتي الملك من يشاء، فقد كان هؤلاء قبل سنوات معدودة لا وزن لهم، وكانوا مشردين في العالم، وكان من يوالونهم من النصارى كذلك لا قيمة لهم، بل كان مجتمعهم يتصارع ويتقاتل ولم يكن لهم من القوة ما لهم، كانت القوة عند غيرهم فنزع الله عز وجل منهم تلك القوة والملك وأعطاهما هؤلاء امتحاناً لعباده.
فالله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير سبحانه وتعالى، فالأمر كله بيده سبحانه، يخلق ما يشاء، وأفعاله كلها خير، فلا يرجى الخير إلا منه، وهو عز وجل يخلق الخير والشر، وخلقه للشر وجعله الكفار يفسدون في الأرض ذلك -والله- من الخير، من حيث لا يدري الناس إلا النزر فالله عز وجل قد يملك بعض الناس ملكاً يعزه به في ظاهر الأمر وقد يذله في باطنه، لأن العزة الحقيقية هي في طاعة الله، والذل الحقيقي في طاعة الشيطان، وإن بان للناس غير ذلك، أي: يخيل إلى بعضهم أن العز هو أن يكون الإنسان مطاعاً في الناس، أو أن يكون له من الجنود والأتباع والقوة التي يقتل بها ويسفك الدماء ويفسد في الأرض ما له، مع أن الله عز وجل قد جعل الإهانة فيمن لم يسجد له، كما قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18] .
فالذي أهانه الله هو من أبى أن يسجد، وهو جعله الله عبداً لعدوه، وهو عبداً للشيطان، وهو الذي يفعل الكفر والفواحش ويفسد في الأرض، وهل يختلف اثنان في أن اليهود والنصارى في زماننا يفسدون في الأرض أعظم الفساد، وأنهم ينشرون الفواحش في الأرض، ويريدون أسوأ مما كان يفعل قوم لوط، حتى شرعوا زواج الأمثال والعياذ بالله، ورضوا بذلك، ويريدون أن يفرضوه على العالم، أبهذا أمر المسيح عليه السلام؟! أبهذا أمر موسى صلى الله عليه وسلم؟! أبهذا نزلت التوراة والإنجيل؟!
فهذه الفواحش المنتشرة والغل والفساد الذي يجري في العالم كله هو من ورائهم وبلائهم، ألا يدل ذلك كله على ذلهم؟! وأن الله أهانهم أعظم إهانة؟! وذلك لأن العز الحقيقي هو عند الله عز جل وبيده، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وقال عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10]، وسائر الأمم غير المسلمين كذلك في ضلال وهوان أشد؛ لأنهم أبوا أن يوحدوا الله، فمن أعزه الله ظاهراً وأذله باطناً فذلك امتحان من الله لعباده، وذلك نافذ بمشيئته، ويجعل الله فيه خيراً كثيراً من أنواع العبودية من أهل الإيمان والإسلام، الذين يصدقون في عبادتهم لربهم عندما يحيط بهم الأعداء، وعندما تشتد عليهم الأمور، وعند ذلك يزدادون طاعة وعبودية، فالله يحب أن يرى ذلك، وهذا من الخير الذي بيده سبحانه وتعالى.
يقول الله سبحانه: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] -ظاهراً وباطناً- بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] .
من أدلة ذلك: إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، وهذا أمر به تقوم الأرض والسماء، وبه تقوم الحياة، فهل ينازع في ذلك أحد؟ وهل يستطيع أحد أن يقول: أنا الذي أؤخر الشمس اليوم حتى يتقدم شروقها أو يطول النهار أو يقصر الليل؟! فنحن نلحظ أن الظهر قد يتقدم قليلاً وكذلك العصر والمغرب والعشاء والفجر، وفي كل لحظة يولج الله الليل في النهار والعكس، فيزيد من هذا ويقصر من ذاك، ويدخل من هذا في هذا حتى يطول النهار ويقصر الليل، والعكس يكون في فصل الشتاء، حيث يقصر النهار ويطول الليل، كما قال تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [آل عمران:27].
يقول تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27] وهذه آية أخرى تراها أمام عينيك كل لحظة، فهذه النباتات التي تخرج من الأرض الميتة من الذي أخرجها؟! ومن الذي أحيا هذه المادة بعد أن كانت ماء وتراباً ميتاً، فإذا بها تصبح حية منتعشة منتشرة فيأكلها البشر والبهائم فتنتقل إلى حياة أخرى؟!
ومن الأدلة على عظم ملكه سبحانه: أنه يخرج الحي من الميت فيخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وترى أمماً وشعوباً كانت على ضلال فهداها الله عز وجل، وكان أجدادهم على الكفر، فأخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وهناك أمم أخرى كان أجدادهم قمماً في الطاعة والعبودية، وإذا بأبنائهم وذريتهم يخالفون آباءهم، ويكفرون بما كانوا عليه، ويموتون على الكفر والعياذ بالله، وكلا التفسيرين صحيح.
قال تعالى: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] .
ثم إن التقاة أمر يلتبس على كثير من الناس، ويستعملونه في غير موضعه، ويتولون الكفار بغير لوازم التقاة، فحذرهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم ونفوسهم، وأنه عز وجل ينتقم ممن خادع المؤمنين، وزعم أنه يستعمل التقاة وهي في غير موضعها، فقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] ثم الحساب بين يدي الله غداً وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28] ، وما أفلح عند الحساب من ندم وهذا أمر لا مفر منه، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30-31] .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم انصر الدعاة إليك والمجاهدين في سبيلك في كل مكان، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , اليهود قتلة الأنبياء للشيخ :
https://audio.islamweb.net