
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الواقع الذي نعيشه كمن يستلقي على الفراش ويقرأ صحف الصباح، هذه هي المشكلة لدى الكثيرين منا إن لم يكن لدينا جميعاً، نسأل الله العافية.
لا شك أن الأمر لبني إسرائيل بأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة هو أمر لنا كذلك؛ لأن شريعتنا أتت بمثل ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير).
والقوة المذكورة هنا هي في أمر الدين؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فتبين بذلك أن القوة البدنية إذا لم يكن معها قوة في النفس وقوة في القلب في مرضاة الله سبحانه وتعالى لم تكن نافعة؛ لذا نقول: إن هذا الأمر أمر لنا، وهو أمر من الله إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، فقال له: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وهذا موسى عليه السلام قال الله عز وجل له: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145] .
وقال سبحانه وتعالى ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12].
فهذا أمر الله للأنبياء، ولذا فهو أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم وأمر لنا بالتبع؛ لأننا نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونتبع أنبياء الله عز وجل.
لا شك أن المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم مرحلة حاسمة وخطيرة، وإذا بذل كل فرد من أفراد المجتمع المسلم جهده وكل ما عنده من قوة، عند ذلك يرجى أن يتغير الواقع، ويرجى أن يأتي الفرج من عند الله سبحانه وتعالى، وأن تتبدل الأحوال التي قد يظن كثير من الناس أنها لا مخرج منها، وأنها وصلت إلى طريق مسدود.
تكلم أهل العلم عن نوعين من أنواع القوة يحتاجها كل سائر في أي طريق، ويحتاجها السائر إلى الله سبحانه وتعالى بالأولى.
النوع الأول: القوة العلمية المبصرة التي يرى بها طريقه.
النوع الثاني: القوة العملية، قوة الإرادة وقوة العزم، وقوة التحرك بالفعل، ولا تغني واحدة من القوتين عن الأخرى، فلابد من قوة علمية مبصرة، فالإنسان عندما يسير بسيارته مثلاً في طريق مظلم، وهذا الطريق مليء بالعقبات ومليء بالتفرعات الخطرة التي لو لم يكن الإنسان يعرف الطريق جيداً ويبصر لن ينجو منها، ويوشك أن يهلك في أحد الأودية المهلكة، التي يقع فيها من ينحرف عن هذا الطريق، كما أن في هذا الطريق قطاع طرق كثيرون، ينتظرون أي إنسان تتعطل مسيرته فيهجمون عليه ويمزقونه إرباً، أو يأخذونه أسيراً عندهم فضلاً أن يستولوا على ماله ولو كان معه شيء آخر كأهله وأولاده وغير ذلك لاستولوا عليه، وهذا والله نحن بصدده كمثال، فلابد أن يكون السائر على صراط الله عز وجل ذا قوة مبصرة، فهذا السائر بسيارته لا يمكن أن يسير في الطريق المظلم بدون نور في السيارة، وإلا يصطدم بالعقبات، أو يضل الطريق عند الانحرافات والتفرعات، أو يسقط في أحد الأودية المهلكة، كذلك لا يمكن أن يكون الموتور متوقفاً؛ لأنه لو توقف حتى ولو كان معه نور لأوشك النور أن ينطفئ، كما قال أحد السلف: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، فإن لم تكن متحركاً عاملاً بعلمك أوشك هذا النور الذي أعطاك الله إياه أن ينطفئ، إذا لم تكن تزكي هذا العلم بالعمل أوشك هذا العلم أن يرحل ويزول، كنور السيارة حين ينطفئ إذا لم يكن المحرك يعمل، فلابد أن يكون هناك محرك حتى يستمر النور، وإلا انطفئ بعد قليل.
وكذا إذا لم يكن المحرك يعمل فقطاع الطرق يريدون أخذ كل شيء معك، يريدون أخذ قلبك حتى يفرغوه من الحق الذي فيه، ويملئوه بباطلهم وزخرفهم، ويريدون أخذ أموالك ليستغلوها في الربا والميسر والخرافات والخزعبلات، ويريدون أخذ أولادك ليكونوا عبيداً والعياذ بالله لمناهجهم المنحرفة، وجاهليتهم العفنة، ويريدون أخذ أهلك من أجل أن تكون نساء الأمة مباحات لمن يشتهي ويريد في الهيئة وفي الفعل وفي غير ذلك، ويريدون وقف عقل الأمة بالكلية.
ما أكثر قطاع الطرق من أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين! فهم متربصون بكل طريق، فهل آن لنا أن نشعر بالخطر حتى نستمر في طريقنا بكل قوة، ونحافظ على النور الذي معنا، ونندفع كذلك على الطريق الصحيح بأقصى ما عندنا من قوة، أم ما زلنا نتحرك وما زلنا نعمل بطريقة كمن يستلقي على الفراش وينظر ويتأمل ويتعاطف مع هذا الفريق ضد هذا الفريق؟
هذا أمر خطير لابد أن ننظر في علاجه جيداً، فإننا منذ مدة طويلة قد بدأ كثير منا الالتزام، لكن هل حققنا ما هو مطلوب منا في نوعي القوة: القوة العلمية، والقوة العملية؟
سوف نذكر بعض التفاصيل الضرورية لكل واحدة منهما؛ لينظر كل واحد منا إلى نفسه أولاً قبل أن ينظر إلى الآخرين، ماذا حقق في هذا الجانب؟
فتبين بذلك أن من خصال النفاق ومن خصال المنافقين عدم التفقه في دين الله عز وجل، وعدم العلم بدين الله سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه وتعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97].
وكان السلف يعدون من ذلك أشياء لو نظرنا إلى عامة من يظهر منه الالتزام اليوم لوجدناها موجودة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كان زيد بن صوحان رحمه الله أحد التابعين في درس له في المسجد وكان في المجلس أعرابي، وكان زيد قد قطعت يده اليسرى في إحدى الغزوات، فقال الأعرابي: إن كلامك ليعجبني وإن يدك لتريبني! فاستغرب زيد فقال: وما يريبك منها؟ إنها الشمال، فقال: والله ما أدري أتقطعون اليمين أم الشمال؟ فقال زيد : صدق الله: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97].
فالأعرابي لا يدري أي اليدين تقطع اليمين أو الشمال، وهذا يدل على وجود شيء من النفاق في قلبه، وإن لم يكن من النفاق الأكبر، والعياذ بالله، لكن علامة من العلامات، وهو يدل أيضاً على أن الجهل أمر فظيع.
إذاً: فلينظر وليقف كل منا إلى مجموع طائفتنا كم منا من يعرف أن اليمين هي التي تقطع أم الشمال؟ فإذا قلنا: من أين تقطع؟ أتقطع من المرفق أم تقطع من الكوع الذي هو الرسغ أم تقطع من الإبط مثلاً كما يقول الخوارج؟ وفي أي شيء تقطع؟ فالحقيقة إذا نظرنا إلى هذا الأمر لوجدنا أن كثيراً جداً من الملتزمين لا يعرفون أصلاً أن اليمين هي التي تقطع، وأنها تقطع مثلاً من الكوع، وهذا أمر كان عند السلف في وقت من الأوقات علامة على الجهل الشنيع، يعني: كون الشخص لا يدري من أين تقطع اليد في السرقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً: ضياع العلم علامة على الخطر العظيم، فنقول: هناك علم طلبه فريضة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
هذا هو النوع الأول من أنواع العلوم، وهو كما ذكرنا علم الإيمان والإسلام والإحسان، ففرض على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم من علم الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وما تدل عليه هذه الكلمة من نفي الشرك، ومن بطلان أي عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أصول التوحيد الواجبة التي لابد أن يحققها حتى تصح شهادته وتنجيه من النار، والجهل بأنواع الشرك المنتشر في الناس الذي يوشك الناس أن يقعوا فيه، ومن وقع فيه فصاحبه لا يكفر حتى تقام عليه الحجة؛ لأنه وقع فيه عن جهل، لكن هذا لا يعفيه من الإثم، فلا نعني بالعذر بالجهل أنه معذور، بمعنى زال عنه الإثم تماماً، طالما كان مقصراً في طلب العلم فهو آثم إثماً عظيماً؛ لأنه يجهل أمراً من أمور دينه وتوحيده.
أما ما يسميه بعض المنحرفين الذين يستهزئون بأنواع من الفقه: فقه دورة المياه، مع أنه من الفروض العينية على كل مسلم ومسلمة فلا يلتفت إليه ولا يؤبه له.
وكذا يلزم المسلم أن يتعلم ما يصح به صومه، وما يبطل به، وما يحرم عليه أثناء صومه؛ لأنه لا تصح العبادة إلا بتعلم ذلك.
أما عروض التجارة والأموال القائمة فعند جمهور أهل العلم أنها تحسب على الأحظ للفقير، مراعاة للأصل الذي هو أن الزكاة تجب في كل مال، إلا ما استثناه الشرع وهو ما لم يبلغ نصاباً، فإذا كان يبلغ نصاباً بالفضة ولا يبلغ نصاباً بالذهب فيخرج على نصاب الفضة.
كان عمر رضي الله عنه يأمر كل من يجلس في السوق أن يتعلم فقه البيع والشراء؛ حتى لا يأكل الربا وهو لا يشعر، وحتى لا يقع في الغرر والميسر وهو لا يشعر، فكل من أجر أو استأجر أو استؤجر كل هؤلاء لازم عليهم أن يتعلموا فقه الإجارة، ويكون تعلم ذلك بالقراءة، وبالسؤال وبسماع دروس العلم عبر مجالس العلم أو الأشرطة ونحو ذلك.
إذاً: كل من يتعامل في معاملة معينة يلزمه أن يتفقه فيها، يعني: من يتعامل مثلاً في المضاربة والشركة يلزمه أن يتعلم فقه المضاربة والشركة، كم هائل جداً من المشاكل والاختلافات والأمور المحرمة ترتكب ممن يظهر الالتزام ويكون ظاهره أنه متبع للكتاب والسنة ومتبع لأهل العلم ومع ذلك إذا ضارب يفعل العجب، إذا شارك يفعل أغرب الأمور، ويقول لك: لم أكن أعلم! لا، لا يجوز أن تقدم على المضاربة حتى تتعلم كيفية المضاربة، وتتعلم ما يلزمك في هذا الباب، هذا فرض على كل من تعامل بهذه المعاملة.
كذلك يلزم كل من أراد أن يطلق أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يقع طلاقه وفق الشرع، ولا يقع طلاقاً بدعياً محرماً مثلاً، كذلك المرأة فرض عين عليها أن تتعلم فقه الطلاق قبل وقوعه، وإذا لم تكن تعرفه يلزمها أن تعرفه وقت وقوع الطلاق، وفي الغالب الأعم أن أي امرأة تطلق من زوجها فأول عمل تعمله تأخذ ملابسها وتمشي إلى بيت والدها، مع أن ربنا سبحانه وتعالى يأمر بعدم الخروج من بيت الزوج، حيث يقول: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1] يعني: لابد أن تكون في فترة العدة كلها موجودة في بيت الزوج، ويجب عليها أن تعرف العدة.
فهذه الأبواب التي لا يكاد يصل إليها إلا من نعتبره عندنا متخصصاً أو طالب علم مهتماً جداً كأن يكون قرأها ودرسها على المشايخ، ومع ذلك هناك من طلاب العلم المتخصصين في الدراسات الشرعية من تكون هذه الأبواب عنده غامضة جداً؛ لأن الطلاب في الغالب الأعم لا يكادون يصلون إليها، وإنما قبل الامتحان ينظر الطالب في المسائل المحتملة أن تأتي في الامتحان، وليس نيته أن يدرس دين الله عز وجل ويتعلم الدين، فهذا الأمر خطير بلا شك، ولذلك تجد في هذه المسائل أعاجيب حتى ممن قد يكون قد حصل على شهادات رسمية وأهل في هذا الجانب.
نقول: إن تعلم الإسلام فرض عين، فهل نحن أخذنا هذا الأمر بجد وبقوة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؟ فرض عين على المسلم أن يتعلم علم الإيمان، أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأن يتعلم من هو المسلم ومن هو المؤمن ومن هو الكافر؛ لأن هذه الأمور يترتب عليها الولاء والبراء، ويترتب عليها الحب والبغض، ويترتب عليها كثير من المعاملات من الحلال والحرام فيما يجوز بين المسلم والمسلم، وما لا يجوز مع الكافر.
وليس معنى ذلك أن المرء يقر بوجود الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ويحفظ خمس كلمات أو ستاً، لا، بل عليه أن يعلم تفاصيل ضرورية في هذه الأركان، لابد أن يعلم توحيد الله، من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل، وليس المقصود أن يعلم حجج وشبهات أهل الباطل والرد عليها، لكن يعلم ما تصح به عقيدته في الله عز وجل، يعلم أن الله بكل شيء عليم، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى واسع المغفرة، وحتى يؤدي العبادات الواجبة التي هي داخلة في أمر الإحسان عليه، وأن يخلص لله عز وجل، وأن يخاف الله عز وجل، وأن يرجوه، وأن يطمع في رحمته، وأن يدعوه رغباً ورهباً، وأن يتوكل عليه، وكله مبني على معرفة الأسماء والصفات؛ لأن هذه عبادات واجبة من لم يؤدها كان ناقص الإيمان أو منعدم الإيمان، كما قال تعالى: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال عز وجل: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، وقال سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال الله عز وجل: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال الله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وقال الله تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
أي: لابد أن تعلم أن النعمة من عند الله فتشكرها، ولابد أن تصبر على ما يصيبك؛ لأنك تعلم أنك لله وأنك إليه راجع، وأن الله هو الذي يقدر الأمور سبحانه وتعالى بقدرته وعلمه وحكمته، ولابد أن تعلم أن الله حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، لابد أن تعلم هذه الأصول العظيمة من الإيمان بأسماء الله وصفاته التي تترتب عليه العبادات الواجبة، التي هي ضمن أمر الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا مبني على علم الإيمان الذي أوجبه الله عز وجل.
كذلك لابد أن تعلم الإيمان بالملائكة، وكيف أنها خلقت من نور، وأنهم يطيعون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، قال تعالى عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ولابد أن تعتقد أمانتهم واجتهادهم في العبادة.
كذلك لابد أن تؤمن بالرسل الذين أرسلهم الله عز وجل وما يجوز لهم وما لا يجوز عليهم، وما يمكن أن يقع منهم، وكيفية معاملتهم؛ وإلا فقد يضل الإنسان بسبب جهله وسبب عدم معرفته بحق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما تلك البدع المنتشرة فيما يتعلق بالرسل وبالأولياء وغير ذلك إلا من جهل كثير من الناس؛ لأنهم لو علموا أن الرسول بشر من البشر وبالأولى الولي لعلموا أن الرسول أو الولي لا يملك أن يغيث، ولا أن يسمع كل الأشياء، ولا أن يبصر كل شيء، ولا أنه يقسم الأرزاق مثلاً، فينبغي أن يعلم المعلم أن صفات الرب عز وجل ليست صفات للنبي ولا صفات للولي، فلا يتوجه إلى هؤلاء بصرف العبادة لهم ودعائهم.
لابد أن يعلم أصول الإيمان باليوم الآخر، بما في ذلك أشراط الساعة، وما يكون من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من أهوال القيامة، هذه فروض عين على كل إنسان أن يتعلمها، ولا يجوز أن يجهل هذه الأمور.
وسأضرب مثالاً على ذلك: لماذا حدث اضطراب عظيم جداً عند الناس نتيجة أن ممثلاً في تمثيلية قال يوماً: لا يوجد شيء اسمه عذاب القبر؟ فالناس أصابهم ذهول وشك ولا يدرون حقيقة الأمر؛ لأنه لا يوجد عندهم علم راسخ، فهم يأخذون الآن اعتقاداتهم من تمثيلية نسأل الله العافية!
وهناك كتب كثيرة جداً تناولت أشراط الساعة فيها الكثير من البدع والمنكرات، وأصحابها أصحاب دراسات عليا في الشريعة أو في الأزهر الشريف، يقول أحد هؤلاء الكتاب: إن المسيح الدجال يظهر في ربيع (1992م)، وآخر يقول: المسيح الدجال سيظهر من مثلث برمودا، وغير ذلك من الأعاجيب، لماذا هذا الخلل العظيم وهذا التقصير الشديد حتى من أناس داخل دائرة الالتزام ظاهرياً.
أما عن قضية الإيمان بالقضاء والقدر، فهي قضية بلا شك مزلة أقدام، وموضع ضلال للكثيرين الذين لم يتعلموا منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، وإنما أخذوا اعتقادهم من مجرد حديث يسمعونه أو من كلمة قد يقولها قائل في الطريق، ولم يهتموا بهذه المسألة ولم يبحثوا فيها، ولم يتعلموا هذه المسألة العظيمة التي هي ركن من أركان الإيمان، والتي لو أنفق الواحد مثل أحد ذهباً في سبيل الله وكان مخلصاً لما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر كما قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن الإيمان بهذه الأصول الستة شرط في قبول العمل، حتى ولو كان العمل خالصاً فإنه لا يقبل إلا بالإيمان بهذه الأصول.
فهذه أصول الإيمان يلزم كل مسلم أن يتعلمها، بل وفرض عين كما ذكرنا حتى يحقق معاني الإيمان.
وأما الإحسان فالواجب كما ذكرنا هو أن يعبد الله سبحانه وتعالى مخلصاً خائفاً راجياً، يعني: يحقق معاني العبودية كأنه يرى الله سبحانه وتعالى.
فالقدر الواجب من ذلك أن يوجد في قلبه التوكل الواجب، والحب الواجب، والخوف الواجب؛ لأن كل هذه العبادات فيها قدر واجب أشار إليه القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وقال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
وقال عز وجل: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
فسمى الله تعالى من كان حب هذه الأشياء في قلبه أكبر من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاسقاً، والعياذ بالله من ذلك.
وسائر عبادات القلب من شكر نعمة الله، والرضا بقضائه سبحانه وتعالى، والرضا به رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً.
كذلك الولاء والبراء، يعني: الحب في الله والبغض في الله، كل هذه من الواجبات التي هي أعمال القلوب الضرورية التي لا يثبت الإيمان إلا بها، وهي ضمن الإيمان في الحقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعلها باسم الإحسان تنبيهاً على أهميتها وشرفها ومراقبة الرب سبحانه وتعالى في أدائها، والله أعلم.
هذا هو النوع الأول من العلم المطلوب.
يعني: فرض عين على كل طائفة، أو كل جماعة من المسلمين في مدينة أو قرية أو حصن أن ينتدبوا منهم من يطلب جميع أحكام الديانة من أولها إلى آخرها، ويتعلم القرآن كله، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام وغيرها، ثم يرجع ليعلمهم أمور دينهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في دينهم ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين المفتين ولو بعدت ديارهم، كما يقول ابن حزم : ولو كانوا بالصين.
ومعلوم أن الناس لا يرحلون كلهم لطلب العلم؛ لأنهم مشغولون بمكاسبهم وأرزاقهم، ولذا فلابد أن يوجد في كل مدينة أكثر من عالم؛ لأن المدينة يسكنها ملايين من الناس فلا يكفيهم عالم واحد بلا شك، بل أطرافها يصعب الانتقال بينها.
والنوع الأول من العلم لا يمكن أن يوجد لدى الناس إلا إذا وجد هذا النوع الثاني، فإن الرجل الذي يريد أن يطلق فلا بد أن يتعلم فقه الطلاق، لكن كيف يتعلم فقه الطلاق إذا لم يجد عالماً في بلده يسأله؟! وهذا الشخص لا يلزمه أن يكون متفرغاً تماماً لدراسة كل أنواع العلم ليدرك كل المسائل بالدليل الراجح؛ لأن هذا أمر يعسر على كثير من الناس، ولا يمكن أن يكون واجباً على الجميع، لكن الواجب أن يسأل أهل العلم إن كان لا يعلم.
إذاً: وجود أهل العلم واجب وهو فرض على الكفاية، فالمثال الذي ذكرناه سابقاً: هو مثال قطع اليمنى من اليسرى في السرقة هذا من علوم فرض الكفاية بلا شك، إذا وجب على الناس أن يقطعوا يد سارق وجب عليهم أن يعلموا تفاصيل ذلك، ولكن هذا الأمر إنما يحصل مع انتشار العلم، وقبض العلماء هو شر؛ لأنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، ومعنى ذلك أن قبض العلماء وقلة العلم من علامات وأشراط الساعة، وفي ذلك دلالة على أن الدنيا يصيبها الخراب بقلة العلم والعلماء، وقلة العلم ليس حاصلاً في عامة المسلمين فقط، بل في كثير ممن يعتقدون أنهم الملتزمون بالدين وأنهم أهل الدعوة إليه ونحو ذلك.
أما عن القيام بالنوافل التي أوجبها الله عز وجل على المسلمين في أول الإسلام؛ إعداداً لأمة الإسلام، وإعداداً للطائفة المؤمنة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى تهيأ للواجبات العظيمة الملقاة على عاتقها فعبادة قيام الليل، وترتيل القرآن فيه ونحو ذلك مما كانت واجبة، ثم نسخ الوجوب بإجماع أهل العلم ولكن أداء ذلك يؤهلنا إذا كنا نريد فعلاً أن نغير وجه التاريخ.
الملتزمون الآن لا يريدون خلافة على منهاج بني أمية، ولا على منهاج بني العباس، ولا على منهاج المماليك، وإنما يريدون خلافة على منهاج النبوة، فلا شك أنها تحتاج إلى أنواع أخرى من الناس، أنواع تشبه نوعية الصحابة رضي الله عنهم وإن لم تدركها.
وكذلك لابد أن يكون مجتنباً للغيبة والنميمة، وأن يكون صادق الحديث، يفي بالوعد بحيث إذا وعد شخصاً اطمأن وعلم أنه سوف يؤدي ما طلب منه، إلا أن يعجز.
فمثل هذه الأخلاق حين تتغير فينا سوف يتغير شيء كثير فيما بيننا، لو لم نتمكن من أن نبلغ الناس الكلام المباشر فسلوكنا سوف يكون دعوة بلا شك.
فهذه الرابطة القوية التي لابد من الحرص عليها لا تكون هي آخر المهمات، لابد أن تكون القلوب مترابطة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً). من يرضى من الناس أن يسكن في بيت الجدران فيه مجرد أحجار مرصوصة دون أن يكون بينها مادة لاصقة من أسمنت أو غيره؟ من يرضى أن يسكن في بيت من ألواح خشب مرصوصة بعضها فوق بعض لا توجد بين أخشابه مسامير؟ فمجرد أي محاولة لإسقاطه سوف يسقط، هل حالنا فعلاً حال الجدار الصلب القوي؟! هل حالنا حال الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟! هل نتفقد الغائب منا؟! هل نعود المريض؟! هل نبحث عن المحتاج؟! هل نسعى إلى هذه العلاقة القوية التي مهما حاول أحد أن يزعزعها عجز عن ذلك، لابد أن نهتم بهذه المسألة جداً فإنها من السلوك العملي المطلوب؛ لأن الحرص على تقوية الروابط حتى نكون كجسد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأمور أهمية في تحقيق ما يلزمنا تجاه ديننا.
أمر عادي جداً أن يختلط الواحد منا كل يوم بعشرات المنكرات، أنا تعودت بحكم طبيعة العمل أن يكون معظم الذين أتعامل معهم من النساء، بحكم أنهن أمهات الأطفال ونحو ذلك، فأنا لا أحصي كم مرة أقول: إن شاء الله تتحجبي ولا تأتي المرة الثانية إلا بالحجاب، وتأتي لي في المرة الثانية من غير حجاب، وأقول: يلزمني أني أقول لها مرة ثانية؛ فمثلاً: في ثلاث ساعات أو ساعتين في محل عملي أقول لسبعين أو ثمانين امرأة: إن الحجاب فرض، غير التي تمشي في الشارع، فكم من منكرات في المدارس والجامعات وغيرها من الأماكن، فلو أن كل واحد فينا اجتهد أن يوصل كلمة الحق؛ فإن مرتكب المنكر سيجد نفسه محاصراً؛ لأنه سيجد كل يوم واحد يقول له: إنك ترتكب منكراً، وبهذا ينهدم الباطل ويزهق، قال تعالى: إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وسيزول ويضمحل ويتفكك.
لو أن الناس يسمعون الحق مرات عديدة، ووجدوا من يخبرهم ويقول: هذا هو الحق، وهذا هو شرع الله سبحانه وتعالى، بالتأكيد أن الوضع سيتغير، فلابد أن يكون هناك نوع من الاجتهاد في هذا الجانب؛ لأن الواجب علينا كثير جداً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , خذوا ما آتيناكم بقوة للشيخ :
https://audio.islamweb.net