إسلام ويب

التقى معسكر الإيمان بمعسكر الكفر في يوم أحد، وشاء الله لحكم جليلة وعظيمة الهزيمة للمسلمين، وكان مرد الهزيمة إلى أعمال القلوب والجوارح، وكان في ذلك خير للمسلمين، حيث ظهر أهل النفاق، وبدت بطولات أهل التوحيد والوفاق، وتمحصت النفوس في هذه الشدة، وعلم المسلمون بأنهم إنما يقاتلون عدوهم بأعمالهم، وأن الذنوب والمعاصي هي سبب في تأخر تغيير هذا الواقع المؤلم، وأن العبرة بالجودة لا بالكثرة.

ظن المنافقين بالله عز وجل يوم أحد

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد:

فيقول الله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:154-160].

ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أنواعاً من ظن الجاهلية، ومن عقائد الكفار وأهل البدع والضلال في تفسيره لقوله عز وجل: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ . ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم: هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ، وقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر، فهم لا يقصدون أن يثبتوا أن الأمر لله، وإلا لما حسن الجواب عليهم بقوله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، وإنما يعنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستمع لنصيحتهم ولم يستمع لكلامهم، وأنه لأجل عدم أخذه لرأيهم حدثت الهزيمة.

وقد ذكرنا من قبل أن كثيراً من الناس عند المصائب والهزائم والمحن يكثر من البحث عن الأخطاء الظاهرة، سواء كانت أخطاء عسكرية، أو أخطاء في القرارات، أو أخطاء في طريقة العمل، وينسى أن هذه الأمور في النهاية هي أمور اجتهادية، وليست هي التي ذكر الله عز وجل في سبب الهزيمة، وأن الأمر ليس أنه كان الأصوب عدم الخروج إلى جيش المشركين خارج المدينة، وكان الخطأ هو خروج المسلمين، فالمسلمين انتصروا بفضل الله في أول المعركة وقد خرجوا، فليس الخطأ العسكري في عدم البقاء في المدينة هو السبب في الهزيمة، فهذا لم يذكره الله قط، ولكن هؤلاء لا يعرفون إلا الأمور الظاهرة، لذلك قالوا: هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ، يعنون أن الرسول لم يسمع كلامهم، فهم لم يقصدوا إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله.

قال ابن القيم : [فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليه بقوله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية] إذ نص هذا الكلام، الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، اعتقاد الحق، وليس يمكن أن يكون اعتقاد الحق هو مصدر ظن الجاهلية، وإنما ظن الجاهلية مصدره عقيدة الجاهلية وسوء الظن بالله، وعدم الإيمان الصحيح.

يقول ابن القيم: [ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم، فيسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية] ولو كان كذا لكان كذا وكذا، فلو لم نخرج لانتصرنا، ولو لم نخرج لما قتل منا من قتل، فهذا الكلام الباطل الذي يقع فيه كثير من الناس، وينسون أن سبب المصائب والمحن والهزيمة والانكسار هو المعصية والمخالفة لشرع الله، وحتى ولو كان الأمر محتملاً أن يكون خطأ عسكرياً فالله عز وجل يجعل من الأسباب الضعيفة أقوى الأسباب، ويجعل من الخطأ الذي هو أمر اجتهادي -طالما أنه دون معاصي ودون ذنوب- ذلك الخير الكثير.

فالعبرة أن نأخذ بالأسباب ولكن لا نقف عندها، بل نتعمق لنفهم أن هناك ما هو أشد تأثيراً من هذه الأسباب، وهو أعمال القلوب وما يكون عليه حال الجيش في الطاعة والمعصية، وحال الطائفة خصوصاً وحال الأمة عموماً.

فلابد أن نعرف أن هذه من أكبر الأسباب، وليس فقط أن السبب مثلاً أن الأسلحة كانت قديمة، أو أن التخطيط العسكري كان خطأ، أو نحو ذلك مما تبرر به الهزائم دائماً، فأعمال القلوب هي السبب في الهزيمة أو الانتصار، وأنت لو تأملت ما يقع في المعارك ستجد أن قضية التفاوت في القوة المادية ليس هو العامل الرئيسي في الهزيمة أو الانتصار وإنما تجد على أرض المعارك أمراً يختلف تماماً عن الموازين المادية المحضة، فتجد أن أعتى القوى والجيوش ربما قد تعجز أمام أفراد معدودة ومحدودة، وعندما تبدأ أعمال القلوب الفاسدة من الغش، والتعلق بالدنيا، وبيع القضايا، وبيع الأديان والأوطان والشعوب بالمال وبالشهوات، هنا يدخل العبث.

فمرد الأمر في الهزائم إلى أعمال القلوب، فكم من هزيمة وقعت، وأرض احتلت، كان سببها أعمال قلوب طائفة من الأمة، أو جيل من الأمة وقعوا في المعاصي والمنكرات، مما أدى ذلك إلى حصول البلاء ونزوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فلذلك قولهم لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أي: لو كان الرسول وأصحابه تبعاً لهم يسمعون منهم لما أصابهم شيء قط، وهذه القضية هي قضية أهل النفاق الأكبر والأصغر.

يقول ابن القيم : فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر، الذي لم يكن بد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، فهذا أمر عظيم الأهمية في المحن والشدائد، وهو شهود القدر، وهذا هو الذي يدفع القلوب إلى تجاوز المحنة وإلى زيادة الإيمان، رغم شهود التقصير، وليس التقصير هو عدم اتخاذ القرار الصحيح عسكرياً مثلاً، بل التقصير كان في مخالفة الأمر: فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152].

إن هذا شهود التقصير مع شهود القدر، وأما شهود التقصير مجرداً عن شهود القدر فإنه يدفع إلى اليأس، وإلى قتل النفس، وإلى قتل المعاني الحميدة التي في النفس، فليس المقصود من لوم النفس وعتابها والسعي في تهذيبها وإصلاحها أن يظل الإنسان يبكتها ويذمها حتى يصل إلى تيئيسها من رحمة الله عز وجل، بل لابد أن يرى الجوانب الإيجابية ويستثمرها، والجوانب السلبية ويعالجها، وليس مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان وأئمة السلف جلد النفس، أي: أن يرى الإنسان نفسه دائماً بأحط المنازل، وأنه الهالك الوحيد، كمن قال مثلاً: إنه ما حاسب نفسه إلا وجد نفسه مرائياً، إلا أن يكون كذلك، لكن أن يرى نفسه على الدوام لم يعمل عملاً صالحاً قط! فليس هذا هو الذي أمر الله عز وجل به، أو يرى أنه لم يخلص لله طرفة عين، فهذا لم يأمر الله به، إلا إذا كان كذلك فنعم، فمثل هذا الإنسان فاسد من الداخل، وهذا يذكر في كثير من كتب التهذيب على أنه مثال لما ينبغي أن يكون عليه الصالحون، وليس كذلك.

فالله عز وجل وصف المؤمنين بأن قلوبهم وجلة، وأنهم يخافون ألا يكونوا أخلصوا لله، لكن لا ينبغي أن يظن بنفسه دائماً بأنه في أحط المنازل، وأنه أسوأ الموجودين، وأنه هو الهالك الوحيد، فليس هذا هو الأمر المطلوب، كما أنه لا يزكي نفسه أيضاً، ولكن يرجو القبول، ويخشى عدم القبول، ويرى الجوانب الإيجابية -وهي فضل من الله ونعمة- فيزيد منها ويستثمرها، والجوانب السلبية فيعالجها، ويشهد القدر في كل ذلك.

يقول: [فأكذبهم الله بقوله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولابد شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن شاءه الناس أم لا، وما جرى عليهم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن لكم، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولابد، سواء كان لهم من الأمر شيء أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة، الذين ينفون القدر، والذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يقع] فالقدرية جعلوا الأمر الشرعي والكوني شيئاً واحداً، ولم يجعلوا لله إلا الإرادة الشرعية، ووجدوا أناساً يخالفون شرع الله عز وجل، فقالوا: هذه المعاصي وقعت بغير إرادة الله! فهم لا يقولون: إن لله إرادة شرعية وإرادة كونية، فقالوا: يقع في ملكه ما لا يشاء، ويقع في ملكه ما لا يريد، ويريد ما لا يقع، ويشاء ما لا يقع؛ لأن الإرادة الكونية عندهم هي الشرعية، فليس عندهم إلا إرادة واحدة، فهذه الآية رد على المكذبين بالقدر وهو أوضح رد عليهم؛ لأن الأمر الذي وقع وقع بإذن الله، وهو أمر مكروه شرعاً، فلابد إذاً أن يكون هناك فرق بين ما أمر الله به شرعاً وبين ما قدره وأراده كوناً.

أمراض النفوس تظهر عند المحن والشدائد

هذه الدروس المستفادة من قصة غزوة أحد يستفيد منها المؤمنون في كل زمن وفي كل مكان، فلا تكاد تقع محنة أو هزيمة إلا وتجد هذه الأمراض تظهر من المنافقين وممن عندهم بعض النفاق، وممن ضعف إيمانهم، وممن وقعوا في بعض المعاصي، حتى من أهل الإسلام والإيمان قد تجد عند نزول المحن والشدائد من لا يقوى شهوده للقدر، ومن لا يقع منه التفات إلى الأسباب الباطنة للهزيمة، وستجد من يقول: إنكم لم تسمعوا كلامنا، ولو سمعتم كلامنا لما جرى ما جرى.

ستجد هذه الأمراض موجودة ولكن بدرجات متفاوتة، فهناك من يكذب صراحة بالقدر، وهناك من يضعف شهوده للقدر، ويتعلق بالأسباب المادية دون الأسباب الباطنة التي هي أعمال القلوب، والتي أدت في الحقيقة إلى الهزيمة والانكسار، نسأل الله العافية.

سوف تجد هذه الأمور موجودة وقائمة في كل هزيمة تقع وتحصل، فلابد أن نستفيد من هذا الواقع، وما أشد حاجتنا في هذه الأوقات إلى الانتفاع بهذه الدروس التي كانت في غزوة أحد، وذلك أن شهود القدر في هذا الموضع مع شهود الأسباب الباطنة أو الأسباب التي هي متعلقة بالأعمال من كونها طاعات ومعاصي من أهم ما يلزمنا في هذا المقام، وتعظيم هذا الشهود حتى يمتلئ قلب الإنسان إيماناً بأن الأمر كله لله، وهذا يدفعه إلى الاستعانة بالله، وكمال التوكل عليه، فإن كمال التوكل على الله، والاستعانة بالله عز وجل تحول كفة الميزان لصالح أهل الإيمان.

فالواقع المرير الذي تعيشه الأمة يؤلم كل من في قلبه شيء من الحياة، وحال المسلمين لن يستمر فلابد أن يتغير، ولن يتغير حتى نتغير تغيراً عميقاً.

الطائفة المنصورة هي المعتبرة في التغيير وليس الكثرة

وحتى نعرف أسباب ما حدث لنا وما يحدث لنا، فالإيمان إنما هو للطائفة المؤمنة وهي المعتبرة، وليست العبرة بالكثرة التي مثلها النبي بأنها كغثاء السيل، وإنما العبرة بالطائفة المؤمنة -التي هي الأمة في الحقيقة، وهي الطائفة المنصورة الظاهرة- على حسب أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وعلى حسب شهود معاني الإيمان عند أفراد هذه الطائفة، فإذا كان التغيير قوياً ألان الله لهم كل صعب، وألان لهم الحديد، وإذا كان التغيير سطحياً ظاهرياً ولم يدخل إلى الأعماق لم تنبت أرض القلب التغير المطلوب؛ لأن القلوب بعد لم تتغير، فهي ما زالت ضعيفة، وما زال الإيمان فيها غير راسخ، ومن هنا يأت استمرار الحال على ما هو عليه، وتسلط الأعداء بطرق مختلفة، فلابد أن يكون التغيير من جذور القلب، فإذا كان التغيير بهذا الوصف لتغير به الكون، بل ولأمكن أن تتغير موازين الأرض والسماوت، فلو أن الإنسان استحضر صفات الرب عز وجل وعمل بمقتضاها لتغير فعلاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، فلو أن الإنسان استحضر بقلبه لماذا شرع تكرير الأذكار؟ لعرف أنه شرع من أجل أن يدخل الذكر إلى أعماق القلب، فهو يحتاج إلى مجهود كبير جداً حتى يصل إلى القلب، وخصوصاً عندما تكون العوامل الخارجية صارفة لقلب الإنسان عن الحضور، ولذلك شرع التكرار، والمشكلة أنه يمكن أن يكرر لكن باللسان المجرد، فلا يتأثر ولا يتغير الواقع، فلو تدبر مثل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أو التسبيح أو تلاوة القرآن، من الممكن أن يغير تغييراً جذرياً، لا أقول في الإنسان، بل في الأرض كلها.

دعاء الأنبياء يغير وجه الأرض

وانظر إلى دعوات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كيف غيرت وجه الحياة على وجه الأرض؟ بل غيرت الأرض والسماوات، فهذه دعوة نوح عليه السلام: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26] فاستوجبت غضب الرب على قوم نوح حتى فتح الله عز وجل أبواب السماء، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12]، فتغير وجه الحياة على وجه الأرض إلى آلاف السنين بنجاة نوح عليه السلام ومن معه، لذلك نقول: إن شهود معاني الإيمان هي: أن تكون حاضرة في القلب، وحتى يتغير الإنسان فلابد من شهود القدر وشهود التقصير الباطل، وستجد في هذا المقطع من هذه السورة ذكر الأسماء والصفات كثيراً جداً في كل المواطن، ومعاني الإيمان كلها حاضرة لمن يحضر قلبه مع هذه الآيات ولمن ينتفع بها، فإذا كان التغيير من جذور القلب ثقلت الكفة أمام الهباء؛ لأن الكفرة والمنافقين كالهباء، ولا قيمة لهم ولا وزن، ولكن المصيبة الآن أن الكفة الأخرى فيها أيضاً ما يماثل الهباء، فلذلك لا تثقل الكفة، لكن لو أن قلة فقط تتغير التغير المطلوب لتغير موازين الأرض كلها، وموازين الكون بأسرها بإذن الله تبارك وتعالى.

فلذلك كان شهود المعاني التي أرشدنا القرآن إليها والدروس المستفادة من واقعة أحد، لابد أن نستفيد منها، وأن نشهد المعاني الإيمانية التي وردت في كتاب الله عز وجل: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى بقوة شديدة إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ، وهذا متكرر في مواطن كثيرة قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:121-123]، فإذا استحضره استصغر كل قوى الباطل، وشعر أنهم يلعبون، فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور:12]، لعب لا قيمة له، ولكن الذين آمنوا هم يلعبون أيضاً، فالقضية عند المسلمين اليوم قضية تغيير مظهري فقط، تغيير ليس ضارباً بجذوره في أعماق القلوب، فلم تتغير الأعمال والقلوب والأخلاق كما ينبغي، فما زال التغيير سطحي.

إذاً: لابد من شهود القدر الشهود النافع الذي لا يعني: إهمال الأسباب التي في مقدمتها الأسباب الباطنة التي هي أعمال القلوب، ومتى ما استقر هذا في القلب لابد أن تتحول الموازين بإذن الله تبارك وتعالى، ونسأل الله العافية.

سبب تأخر تغيير الواقع

لماذا تطول فترة وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [هود:122]؟

تطول لأجل أن التغيير المطلوب ليس كالذي وقع للصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا قريباً منه، فالتغيير الذي وقع للصحابة رضي الله عنهم كان في فترة المحنة، ومن يتأمل التاريخ الإسلامي يجد أن فترة المحنة في مكة هي الفترة التي قام عليها الإسلام، فالإيمان في قلوب المهاجرين رضي الله تعالى عنهم كان أعظم مما في قلوب الأنصار رضي الله تعالى عنهم، ولذلك تجد أن من غير وجه الحياة أكثرهم من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، فهم قادة الأمة علماً وعملاً وتربية وسلوكاً، وجهاداً ودعوة، ثم الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لماذا؟ لأنهم تغيروا التغير المطلوب في فترة الشدة، والأنصار واجهوا أيضاً من هذه الأمور مواجهة عظيمة، والصحابة جملة تغيروا التغير الذي هيأهم لأن يسودوا العالم بإذن الله تبارك وتعالى، وكانت غزوة أُحد أَحد نقاط التحول في حياة الصحابة جميعاً رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

حكم من هزيمة المسلمين يوم أحد

يقول ابن القيم : ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير، وهي: ابتلاء ما في صدورهم، واختبار ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافق ومن في قلبه مرض لابد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه، ثم ذكر حكمة أخرى وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، فقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ، ليبتلي أي: ليختبر عز وجل ما في قلوب المؤمنين من ازدياد الإيمان في فترات المحن؛ لأن نقص الإيمان في فترات المحن أعظم خطراً؛ لأن الله عز وجل قال: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، ففترات المحن من ربنا عز وجل لازدياد الإيمان، فإذا لم يزدد الإيمان فيها فمتى يزداد؟ هل يزداد عندما تفتح الدنيا، وعندما يأتي الرخاء؟! وهذا الأمر لابد أن ننتبه إليه، فإن الدنيا أخاذة يصيد بها الشيطان قلوب كثير من الناس، فإذا لم يكن الإنسان عند الشدائد بعيداً عن الغلو والغفلة فمتى ينتبه؟ أينتبه عندما تفتح عليه الدنيا التي يجري وراءها الأكثر من البشر؟ سوف يزداد غفلة نسأل الله العافية، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يبكي عندما تأتي الفتوحات، ويقول للصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر، نسأل الله العافية.

فهذا التمحيص هو لتحصيل زيادة الإيمان، وليبتلي عز وجل ما في قلوب المنافقين من نفاق، ولكي يظهر علناً وتظهر الصفات القبيحة، وتظهر المنكرات من ألسنتهم وأعمالهم ليعرفهم المؤمنون، ولكي لا يكون لهم الدور الذي سوف يكون لهم في المجتمع المسلم القادم، فإنه حين فتحت البلاد كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يقود أمة ويغير أمة كذلك، ولم يكن للمنافقين دور في ذلك، لأن هذه الفترة كانت فترة انتباه.

حتى أن الله أظهر نفاقهم من خلال أعمالهم وأقوالهم، حتى يحذر المؤمنون على أنفسهم، ولذلك عقبه بقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ثم عقبه بقوله: وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ .

يقول ابن القيم: ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وتخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى.

خمس خصال تضاد ما أودع في القلب من خير

هذه خمس خصال لنقص الإيمان أو ما يضاده: أولاً: غلبة الطبع؛ وليس كل ما طبع عليه الإنسان طباع سوية، فالله عز وجل قد خلق الخلق من الأرض بأنواعها: منها السهل، ومنها الوعر، فهل أنت على طبعك، أم أنك هذبت بتهذيب الشرع؟ وهل تزكت نفسك، أم أنك ما زلت على غلبة الطباع، وما يغلب على طبعك؟ مثل هذا لابد أن ننظر فيه، غلبة الطبع، ميل النفوس، شهوات النفوس، فإن النفس لا تخلو من الصفات المذمومة قال تعالى: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، والهوى هو: الشهوات والمحرمات، والشهوات موجودة في كل إنسان، فهو مبتلى بها لكي يهذبها، فلو أن رجلاً في طبعه الجرأة، والثاني في طبعه الجبن، هل من في طبعه الجرأة ضبط الجرأة بحيث تصبح متوازنة بعيدة عن التهور، والذي طبعه الجبن، هل تغلب عليه بحيث لا يفر مما وجب عليه، ولو أن رجلاً فيه قلة حياء، وآخر عنده حياء، فلابد أن يغير كل واحد طبعه؛ لأن الناس متفاوتون في الطباع، فمن عنده جرأة غير محمودة لابد أنه يهذبها ويوجهها إلى أن تكون في الحق فقط، ولا ينبغي أن يكون عنده قلة الحياء، والذي عنده حياء غير شرعي يوجهه حتى يصبح حياءاً شرعياً، وتجد إنساناً فيه كرم والثاني فيه بخل، فكل واحد عليه أن يهذب طبعه، فالكريم يجب عليه أن لا ينفق أمواله في سرف، والبخيل يجب أن يعود نفسه على الإخراج في مواضع الإخراج، ولا يمنع الواجب، ويجاهدها لتنفق في المستحب، وهكذا.

فيجب على الإنسان أن يهذب طباعه، فهذه قضية الطبع وقضية الشهوة وميل النفس قضية أخرى، فشهوة الطعام والشراب والجنس وحب المال والوجاهة في الناس موجودة عند كل الناس، لكن يمكن للإنسان أن يوجهها ويتحكم فيها حتى لا تسيطر عليه هذه الرغبات كما هو حال أكثر العالم، فأكثر البشر يتركون أنفسهم على ما هي عليه من الطباع، فلا يفكر في علاج الطباع السيئة ولا يحاول تهذيبها؛ لأن الأخلاق تكتسب، فهي قابلة للتغيير وإلا لما وجد معنى لمدح كمال الخلق ولا لذم سوء الخلق، فلا يمدح صاحب الخلق إلا لأنه استطاع أن يهذب خلقه، وليس المراد أن يقتلعها بالكلية، ولكن يوجهها إلى شيء معين.

ثانياً: ميل النفوس إلى الشهوات، والشهوات ليس المطلوب قلعها بالكلية، حتى لا يبقى عند الإنسان رغبة في الأكل والشرب والنساء والمال، وإنما المطلوب هو تهذيبها، بحيث يكون هو الذي يتحكم في الشهوات وليست الشهوات هي التي تتحكم فيه، وأكثر العالم تتحكم فيهم شهواتهم، ولذلك تجد الشهوات في الشعوب المنحطة والطوائف السافلة هي التي تحركهم، كشهوة المال وشهوة الجنس، ومن أجل طعام أو شراب تباع كل القيم والعياذ بالله، وهذا أمر يحصل حتى ممن ينتسب إلى الدين، فحكمة الابتلاء هي التمحيص من هذه الأمور، من غلبات الطبائع وميل النفوس.

ثالثاً: حكم العادة، وهي من أقوى الأشياء التي لا يستطيع الإنسان تغييرها إلا من رحم الله، فأنت إذا نظرت إلى حياة الناس تجد أنها في نكد وشقاء لا يعلمه إلا الله، وتجد أن الناس في تعب شديد، ومع ذلك تجدهم حريصين على هذه الحياة؛ لأنهم تعودوا عليها، فما هو الذي يجعل الإنسان يشرب السجائر؟ هل هي شهوات النفس؟ لا، فشهوة النفس أن يستنشق هواءً نظيفاً، إذاً هي العادة، فهو تعود أن يشرب السجائر والعياذ بالله، وآخر تعود النظر إلى التلفاز مع أن الدراسات العلمية الغربية تقول: إن التلفاز مضر، ويتعب الأجيال المتتابعة كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، لكن الناس تعودوا على النظر إليه، وأيضاً الكرة ترى الناس في حزن شديد إذا أصيب فريقهم بخسارة، فالناس لم يعد ينقصها الحزن فالشقاء كبير، إذاً: فما هو الذي جعلهم يحزنون؟ إنها العادة، لقد تعودوا على هذا، فهل يستطيع الإنسان أن يهذب عادته وأن يتحكم فيها؟ وهل يستطيع أن يترك عادته ويفارقها؟ إن أكثر الناس لا يستطيعون ذلك، ولذلك كان ثواب الهجرة عظيم، وكان الخروج للحج عبادة عظيمة الأثر في نفس المؤمن؛ لأنه يغير كل عاداته، فهو يأكل ويشرب وينام على خلاف عادته، وفي الحج أشياء كثيرة المقصود منها أن يغير الإنسان عادته، ومع ذلك تجد أن نفسه لا تستطيع ذلك، مثل المبيت بالمزدلفة والمبيت بمنى، فيجد فيها مشقة بالغة، مع أن الإنسان تكفيه حاجات يسيرة جداً بإذن الله تبارك وتعالى، وأيضاً الزواج صعب في حياتنا بسبب العادات، مع أن الأصل هو تيسير أمر الزواج، لكن الناس تعودوا على مغالاة المهور وعلى اشتراط أشياء لم تكن معروفة من قبل، ولذلك تجد بعض الناس ينتحرون بسبب العادات، فأحدهم انتحر لأنه لم يستطع أن يحضر لأولاده دفاتر وكتب وحقائب جديدة للمدرسة! وهذه حقائق موجودة، وآخر انتحر في العيد لأنه لم يستطع أن يشتري لنفسه ولعياله الملابس الجديدة! مع أن المطلوب من الإنسان هو أن يستر عورته، لكنه يريد أكثر من ذلك خشية أن يتكلم عنه الناس، ولأنه أيضاً قد تعود على شيء معين.

رابعاً: تزيين الشيطان، وأكثر الناس في غفلة عن هذا الأمر، فالخواطر التي تأتي على الإنسان ينبغي للإنسان أن يفكر من أين أتت هذه الخوطر؟ هل أتت من الشيطان أم من النفس الأمارة بالسوء أم من الملك وهذا من فضل الله عز وجل؟ تجد أن أكثرنا لا يفكر في ذلك بسبب مشاغل الحياة، ففترة المحنة تجعل الإنسان ينتبه لتغيير عاداته، ويبتعد عن شهواته، وينتبه لقضية الشيطان، ويفيق من الغفلة، فهو حين يرى الناس يموتون من حوله، فينتهي كل شيء كانوا يبحثون عنه، وينتهي كل شيء كانوا جمعوه، فيبتعد عن الغفلة، ففترات المحن تجد أنه يتغير فيها أشياء كثيرة في لحظات، ويوشك الإنسان أنه يقدم على ما هو أشد من هذه البلايا والمحن، فالناس في الحروب يجدون أهوالاً عظيمة توقض النفوس، فهذا مات أخوه، وهذا يهدم بيته، وهذا فقد أسرته، وهذا فقد ذراعه، فيرون أشياء كثيرة تذكرهم بالأهوال القادمة التي هم مقدمون عليها لا محالة، فتذكرهم الأهوال بسكرات الموت، وبوحشة القبر، وبأهوال البعث، وبموقف الحشر، وبالجنة والنار، فاستيلاء الغفلة يبعد الإنسان عن كل ذلك، ففترات المحن تذكر بهذه الأمور، وبقرب نهاية الحياة، فكل هذه الأمور تجعل القلب يحيا.

قال ابن القيم : فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منها، فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك.

فكانت نعمته سبحانه وتعالى عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم على عدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا.

فهذا كلام مفيد عظيم الأهمية، فنعمة الهزيمة تساوي نعمة النصر والظفر، ولو تأملت أحوال الأمة في زماننا لقلت: لو تمكنوا ونصروا لوقع من الفساد أضعاف ما يقع، ولو فتح عليهم من الأرزاق والغنى والسعة والقوة والسلطان والظفر بالأعداء لظهرت نفوس لم تتهذب، ولم تتزك التزكية المطلوبة، ولخرجت أضغان الله أعلم بها، ولوقع من الفتن والفساد ما نحمد الله عز وجل على عدم حصول النصر والتمكين على تلك الهيئة، فله الحمد سبحانه وتعالى على البلية وله الحمد على النعمة؛ لأن هناك إصلاحات واجبة لم تتم، فإذا تمت في الطائفة المنصورة، لأن الأمم كلها لا تتغير، ولا الأرض كلها كذلك، فالصحابة الذين غير الله بهم وجه العالم معدودون، يقول تعالى عن نوح: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] ودائماً عبر العصور وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، لكن الطائفة هذه إذا تغيرت التغير المطلوب، فهي المؤهلة لأن تقود العالم بعد ذلك.

يقول ابن القيم : ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، فهم لم يكونوا منافقين، إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أقسام الأعمال

يقول ابن القيم : إنه بسبب كسبهم وذنوبهم استزلهم الشيطان حتى تولوا، واستزلهم أي: أوقعهم في الزلل والخطأ، فالأعمال جندك وجند عدوك.

وأعمالك تنقسم إلى قسمين:

قسم يعاون العدو، فيكون مدداً للعدو، فيستزلك ويوقعك في الزلل، وقسم يكون مدد لك حسب نوع العمل وحسب قوته وكثرثه؛ لأن المدد إما أن يكون فيه مقاتلون أقوياء، وإما أن يكون فيه مقاتلون ضعفاء، والناس تفرح بالمدد بالقائد الكبير والقوي والمقاتل الشديد، ولا تفرح كثيراً بالمدد الضعيف، فكذلك أعمال القلوب والأبدان والجوارح والأقوال، فكسب الإنسان عبارة عن جند له أو لعدوه.

فالانتباه إلى هذا الأمر، (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا )) مهم.

من عقوبة المعصية المعصية بعدها

من عقوبة المعصية المعصية بعدها، لماذا نقع في المعاصي والمنكرات؟ لأننا وقعنا في منكرات قبلها ولم نتداركها بتوبة، ولم نسارع إلى الرجوع، فترتب على ذلك أن أوقعنا الشيطان فيما هو أخطر وأشد، ألا وهي الكبائر، فالفرار من الزحف كبيرة، ولكن برحمة الله عز وجل أنه بادر إلى ذكر العفو عنهم سبحانه وتعالى، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ، قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ، ولأن اليأس مدخل شيطاني خطير، فكان لابد من ذكر العفو حتى تعافى الطائفة المؤمنة من هذا المرض، ولو لم يذكر الله عز وجل العفو عنهم لأوشك أن يصيبهم اليأس، وهم الذين يعدون إلى المنازل العالية، فكان لابد من ذكر عفوه عز وجل.

يقول ابن القيم: فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، فازداد بها عدوهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولابد.. فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها.

لذلك قال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم.

ودون الإمام البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه: باب عمل صالح قبل القتال.

فمن أين تأتي الهزائم؟ من الأعمال.

يقول: فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله؛ لأن فراره منه وهو لا يطيقه غير مذموم، وإنما أذن الله في الفرار من أكثر من الضعف، ولم يأذن في الفرار من الضعف، ووعد إذا كانت الأعمال تامة بأن يغلبوا عشرة أضعافهم، ولذلك البشارة لم تنته في سورة الأنفال، بل هي باقية، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ [الأنفال:65-66]، فالبشارة لم تلغ وإنما هي قائمة، ولكن التكليف هو الذي نسخ، وهو وجوب الثبات للتسعة أضعافهم، فيحرم أن يفر المسلمون من مثليهم، ويجوز أن يفروا من أكثر من ذلك، ولو قويت قلوبهم وأعمالهم لانتصروا على عشرة أضعافهم، وعلى أكثر من ذلك.

السؤال: ما معنى قوله: يشعر ويتعامى؟

الجواب: أي: يجعل نفسه كالأعمى فهو يعلم بأن أعماله هي التي تأتي له بهذه البلايا والمحن، ولكن يقول: أنا أعمل خيراً كثيراً، فلا يريد أن يصلح نفسه ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل يتركها ولا يغير من طباعه، ولا يتحكم في شهواته، ولا يغير عاداته ويتحكم فيها، ولا انتبه لوسوسة الشيطان، وإن تذكر أمر الآخرة رأى نفسه من المقربين، وأنه ينافس المهاجرين والأنصار، وأن منزلته الفردوس الأعلى بغير حساب ولا عقاب!!

اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا.

قال ابن القيم : فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه -وهو قادر على أن يقف أمامه- إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به.

ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها، وهذا من رحمة الله عز وجل، وهذا الذي لابد أن تستحضره في مثل هذه المقامات، مع صفات العفو والمغفرة والرحمة وسعة فضله عز وجل حتى تعظم الرغبة، وحتى لا يصل الشيطان بك إلى اليأس، فالحساب الشديد الذي يصل بالإنسان إلى اليأس ليس مأموراً به، بل إن الذي يغفل جانب العفو من الله عز وجل يضر بنفسه أعظم الضرر.

هزيمة المسلمين يوم أحد كانت بسبب ذنوبهم

يقول ابن القيم : ثم كرر عليهم سبحانه: أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم، وبسبب أعمالهم، فقال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، يقول: وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية، أي: فيما هو أعم من الهزيمة، بل كل المصائب من مرض وفقر وشدة، وغيرها، قال ابن القيم : فقال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي: أنها بسبب نفسك، ومن الله خلقاً وإيجاداً، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] أي: خلقاً وإيجاداً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي: تفضلاً منه عز وجل، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي: بسبب كسبك، وبسبب عملك، وهو من الله الذي قدره وأوجده وخلقه، فهي من الله خلقاً وإيجاداً، ومن العبد تسبباً وكسباً.

قال: فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله من بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك وإن كانت من الله خلقاً وإيجاداً، ولذلك لا يوجد تعارض بين َمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ، والآية التي قبلها: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78].

يقول: فالأول: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فضله

والثاني: وََمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه، فختم الآية الأولى بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والآية هي: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] بعد قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب، وأن السبب الباطل من الأعمال، وهذا المشهد وهو شهود أن الله على كل شيء قدير، وشهود قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول وهو: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ينفي الجبر، والثاني: وهو: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ينفي القول بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، فذكر مشيئة العبد، وأثبت أنها تابعة لمشيئة الرب.

نكتة في قوله تعالى: (إن الله على كل شيء قدير)

يقول ابن القيم : وفي ذكر قدرته ههنا نكتة لطيفة، وهي: أن الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، لما تنزل مصائب أخرى فاعلموا أن الله على كل شيء قدير، فتوبوا إلى الله مما هو من عند أنفسكم من الذنوب وتلجئوا إلى الله القدير على كل شيء.

يقول: فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتكلوا على سواه، وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] وهو الإذن الكوني القدري لا الشرعي الديني، لأن الله عز وجل لم يأذن شرعاً أن يقتل المسلمون، فإن سفك دم امرئ مسلم عظيم عند الله عز وجل، فلا يقال: شرع الله للكفار قتل المسلمين؟! فهذا مستحيل، لكن بإذن قدري كوني قدر الله ذلك، كقوله في السحر: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].

ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير، وهي: أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية، فيتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان من حكمة هذا التقدير: تكلم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون وسمعوا رد الله عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدى النفاق، وما يؤول إليه، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف، وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر وما لهما وعاقبتهما.

تعزية الله لنبيه وللمسلمين في شهداء أحد

ثم عزى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأولياءه فيمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:169-170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه سبحانه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، والفرح أكمل أحوال الرضا، أي: أن لحظة الفرح هذه أعظم سعادة من مجرد الرضا، والرضا أكمل درجات الصبر وأعلاها، فالصبر يجعل الإنسان في ألم ولكن في سكون، وبالرضا يزول الألم، والفرح سعادة ولذة، وهذا هو الذي حدث للشهداء، رغم أن الذي يبدو لنا تقطيع الأعضاء، وبقر البطون، وأكل الأكباد.. وغير ذلك مما يؤلم كل من ينظر إلى المقتول؛ لكنه إذا كان في سبيل الله فهو فرح فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، استبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة وهي الآية التي قبل هذه الآيات، وهي قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164] فالإنسان إذا أراد أن يخرج من ألم المصيبة فلينظر إلى النعمة، فإن المصائب قد تجعله في هم وغم وضيق، وكرب شديد، فكيف يزول عنه ذلك، وكيف يعالج نفسه من الغم والكرب؟ ينظر إلى نعم الله، وأعظمها نعمة الإسلام، فيرى أن كلما فقده من الدنيا لا يساوي شيئاً، فتزول وتضمحل، وتتلاشى آلام المحن في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة.

يقول: وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير فالمطر يبل الثياب، لكن به حياة الناس ومعاشهم، فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتوكلوا عليه ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاهم -أي: جعلهم يسلون عن ألم المصيبة وينسونه- بما أعطاهم مما هو أجل قدراً، وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوهم فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.

الأسئلة

حكم دعاء المذاكرة

السؤال: ما حكم دعاء المذاكرة الذي ينتشر بين الناس؟

الجواب: دعاء المذاكرة كونه يسمى دعاء المذاكرة حتى صار عند بعضهم سنة، وهو ليس بسنة بل بدعة، لكن على الإنسان أن يدعو الله أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، فالدعاء ينبغي أن يكون في الأمور الدنيوية بالعلم النافع، والاستعاذة من علم لا ينفع، فتسأل الله علماً نافعاً، وتسأل الله عز وجل فهماً وإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، أما المذاكرة والدراسة فيمكن أن تكون خيراً للعبد ويمكن أن تكون شراً، لكن يأخذ بالأسباب ويجتهد ويسأل الله علماً نافعاً.

لسنا أنبياء فيستجاب لنا من أول مرة

السؤال: هل يصح أن نقول: نحن لسنا أنبياء ولا مرسلين حتى يستجيب الله دعاءنا من أول مرة؟

الجواب: إن الرسل على مكانتهم لم يدعوا ربهم جل وعلا مرة واحدة فقط، فقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة في غزوة بدر يدعو، وظل طوال الليل في غزوة الأحزاب يدعو، واستنصر وهو في مكة ثلاثة عشر سنة، فقارن إذاً بين الأحوال الإيمانية للرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة -ثلاثة عشر سنة بمكة وعشر سنين في المدينة غيروا بها وجه العالم- وبين أحوالنا الإيمانية، يقول أحد الإخوة: لنا ما يزيد عن خمسين سنة ونحن ندعو الله أن ينصر المسلمين في فلسطين وغيرها، ومع ذلك لا يزداد الأمر إلا سوءاً؛ لماذا؟ لأن الأحوال مختلفة، وهل يعني ذلك أن الأمة كلها ليس فيها رجل أو امرأة صالحة؟ لا، فليست العبرة بالواحد، فماذا سيفعل الواحد لو انتصرت الأمة؟ ومن الذي سيتولى المسئولية؟ فحكمة الله تقتضي أن أمة من أجل رجل صالح أو عشرة أو مائة وليس فيها من يتحمل المسئولية بمقتضى الشرع، وإنما هم الفجرة والفسقة الذين يظهرون التزامهم، فتراهم يتولون المسئوليات ويتولون الأمانات ثم يضيعوها، ولن أبرئ الملتزمين، فأنا لا أتكلم عن غير الملتزمين وإنما أتكلم عن الملتزمين وسلوكياتهم وأعمالهم، فلو أن الدنيا التي سببت الفتن بينهم كانت أكبر مما بأيديهم ماذا كانوا سيعلمون؟ الله أعلم.

الواقع لا يتغير حتى يتميز المفسدون

السؤال: هل الواقع السيء لن يتغير حتى يخرج المفسدون ويتميزون عن غيرهم من بقية الأمة، ولن يتغير من عند الله إلا بهذا السبب؟

الجواب: لابد أن يأتي من عند الله، لكن بأسباب الناس، فعلينا أن نأخذ بالأسباب.

حكم من قال: لابد أن يتغير المجتمع كله حتى يستجيب الله لنا

السؤال: ما رأيكم بمن يقول: إننا وبرغم وجود الصالحين فينا فلن يستجيب الله لنا حتى يكون المجتمع كله بتمامه صغيره وكبيره مجتمع ملائكة؟

الجواب: من الذي قال: إن المجتمع كله يجب أن يكون مجتمع ملائكة؟! فمجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن كله مجتمع ملائكة، فالمجتمع المدني كان فيه منافقون مردوا على النفاق، وكان فيه رءوس النفاق، لكن أغلب الناس كانوا صالحين، وقد وجدت الطائفة المؤهلة للتغيير بعد التغير المطلوب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فينا ولا الصديق أبو بكر ولا الفاروق عمر فكيف المخرج إذاً؟ المخرج هو: أن يكون المجتمع في الطائفة الظاهرة المنصورة حتى يكون أصلح حالاً، لأن الطائفة المنصورة إذا صلحت، أو صلح أغلبها فإن الله سيضع الدنيا في أيديها، لكن الدنيا منزوعة من أيديها رحمة بها من الله عز وجل، وإلا فإن الأمة بكل ما فيها من الغثاء تمتلك من الدنيا الشيء الكثير، فلا يوجد نقود أكثر من نقود الأمة الإسلامية، وأسباب القوة موجودة لديها لكن لأن الأمانات وضعت في غير أهلها، فالطائفة الملتزمة هي الطائفة المنصورة التي عقيدتها وأعمالها وسلوكياتها إذا لم تكن صالحة الصلاح المطلوب فإنه لن يحدث تغيير ولابد من إعادة إصلاحها.

حكم من يعمل أعمال الجوارح ويشعر بالفتور في أعمال قلبه ولا يعلم السبب

السؤال: أحياناً أتقرب إلى الله بأعمال القلوب والجوارح، وفي بعض الأحيان أشعر أني مستمر في أعمال الجوارح وأشعر بالفتور في أعمال القلب وأشعر بضعف الإيمان من غير أن أعلم السبب، فما هو السبب؟

الجواب: ابحث عن الخواطر والأحوال، وجاهد أن يكون القلب حاضراً حين تصلي وحين تقرأ القرآن وحين تقول الأذكار وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].

وأحوال القلب تتغير وتتقلب دائماً، وقلب الإنسان عموماً بين تقلب مستمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يأتيه ذلك الغيم والفتور عن الذكر، فغيره بالقطع أولى وبدرجة أكبر.

حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي

السؤال: من المذنبين من يقول: إنه وقع في الذنب بقدر الله فهل هذا صحيح؟

الجواب: هذه كلمة حق من المذنبين غير التائبين يراد بها باطل، وذلك أن هذا قدر الله ولكن بسبب من؟ (( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))، فهذا بقدر الله، ولكن السبب من نفسك، لكن لا يكون حجة له على عدم التوبة، ولا يكون له حجة على الشرع.

حكم من يريد الزواج وهو مريض ولا يريد العلاج خشية انكشاف عورته

السؤال: شاب في مقتبل العمر يفكر في الزواج، وهو مبتلى ببعض الأمراض ويحتاج إلى جراحة، ولا يريد أن تكشف عورته فما حكمه؟

الجواب: هذا الأمر مما أجازه الشرع، فقد أجاز كشف العورة للضرورة وللحاجة، وننصحه بإجراء الجراحة لعل ذلك يكون خيراً له، وخصوصاً أن المرض الذي ذكره ربما يكون فيه بعض المضار إذا لم يعالج، فأنصحه بالأخذ بالأسباب، والاجتهاد في ستر العورة ما أمكن.

حقيقة مثلث برمودا والأطباق الطائرة

السؤال: مثلث برمودا والأطباق الطائرة تحت ضوء الشمس، هل هذا مما شغلنا به العدو أم هو حقيقة فعلاً؟

الجواب: هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر، أما أن المسيح الدجال يدير العالم من مثلث برمودا فمن سخافات الجهلة وأهل البدع والضلال، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسيح الدجال مقيد في إحدى الجزر في البحار قبل الشرق وليس قبل الغرب، وهذه أخبار كلها تأتي من الكفار، ونحن ما سمعنا ذلك من المسلمين ولا رأيناها، ولكنها أخبار تذكر، فلا أثبت ولا أنفي.

أما مسألة أن هناك مخلوقات تأتي من السماء فلا شك أن الكون مليء بالمخلوقات، لكن لا ينبغي الاهتمام ولا الانشغال بها، بأنه يوجد غزو من الفضاء يهدد الكرة الأرضية، فالكرة الأرضية يهددها أعمال بني آدم ومنكراتهم، فهي أعظم خطراً من أي كوكب فضائي، أما أن الكون مليء بالمخلوقات فقد قال الله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] فالله عز وجل على كل شيء قدير، ولكن يجب أن أنشغل بالأذكار فأقولها بلساني مع قلبي لا بلساني فقط حتى آخذ أجوراً عظيمة جداً فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلما قال)، وإن كان تحريك اللسان بها من غير حضور القلب فإنه يؤجر، لكن الأجر الموعود به إنما هو لمن قالها باللسان والقلب معاً، غير أن من قالها باللسان حتى ولو كان مجرداً من حضور القلب فهذا أفضل من السكوت.

معنى قول الشنقيطي: إن آيات الصفات ليست من المتشابه

السؤال: ما معنى قول الشيخ الشنقيطي : إن آيات الصفات ليست من المتشابه؟

الجواب: يقصد أنها ليست من المتشابه المجهول المعنى بالكلية، وهذا الإطلاق نفسه غير صحيح، وأما كون آيات الصفات من الذي لا يعلم معناه بالكلية فقول خطأ، فإن آيات الصفات معلومة المعاني، فنحن نعلم معاني: العليم والخبير والقدير والحكيم والسميع والبصير بلا شك، ويعلمها أدنى طفل يعرف لغة العرب، ويدرك معاني الكلمات فضلاً عمن دونه، ويمكن ترجمتها باتفاق العقلاء إلى اللغات الأخرى، ولو كانت مجهولة المعاني لما أمكن ترجمتها.

وأما أنها من المتشابه باعتبار آخر فهذا مما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه، لكن قول الصحابة: إن آيات الصفات من المتشابهة ليس بمعنى ما ذهب إليه المتأخرون، من أنها مجهولة المعاني، وأن لها معاني مجهولة لا ندري عنها شيئاً، وأنها بمنزلة الكلام الأعجمي، فهذا كلام باطل، وهو كلام كثير من المتأخرين وليس هو المقصود، وإنما المقصود -بأن الصفات من المتشابه-: أنها تشتبه على أهل الزيغ والضلال، فيظنون بها غير الحق، ومعنى ثاني لقولهم: إنها مجهولة الكيفية، وهذا حق لا شك فيه؛ لأنها غيب، وذلك مثل: الوعد والوعيد من المتشابه، والجنة والنار من المتشابه، بمعنى أنا لا ندري كيفية ما في الجنة من أنواع النعيم، ولا ندري كيفية ما في النار من العذاب، وإنما نفهم معاني دون أن ندري حقيقية الكيفية، وكل أمور الغيب كذلك.

فـابن عباس رضي الله عنه قال: ما بال هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه؟!

حكم الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات

السؤال: ما أصل الأحاديث الموضوعة التي يطلق عليها بالإسرائيليات؟

الجواب: السؤال من أصله خطأ، فالأحاديث الموضوعة ليست الإسرائيليات، فبعض الناس يظنون أن الإسرائيليين، أي: اليهود وضعوا في كتبنا أحاديث وهذا من الوهم، فالإسرائيليات هي أخبار بني إسرائيل، والأحاديث الموضوعة هي التي كذبها الكذابون ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينها أهل العلم، وأخبار بني إسرائيل منها ما يصدق وهو ما يوافق الكتاب والسنة، ومنها ما يكذب وهو ما يخالف الكتاب والسنة، ومنها ما يتوقف عنه فلا نجزم بأنها صحيحة أو ضعيفة، وقد عرف بالنقل عن أهل الكتاب: كعب الأحبار وكان ممن أسلم من أهل الكتاب وكعب الأحبار رجل ثقة عالم، وإن كان ينقل أخبار أهل الكتاب، فلا يعني هذا أنه أدخلها بسوء نية، بل كعب الأحبار رجل علم.

وكذلك وهب بن منبه وهو أحد الزهاد والفضلاء، وقد نقل عنهم أخباراً كثيرة، ولكن الأخبار التي رواها عنهم إنما هي من باب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) أي: فيما لا يعرف كذبه، والإسرائيليات تحتاج إلى التنقيح؛ لأنه قد يغيب عن المسلم شيء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قد يغفل أن بعض هذه الأخبار مخالف للكتاب أو للسنة الصحيحة فلا ينتبه.

فأخبار بني إسرائيل تعرض على الكتاب والسنة، فما وافقهما قبل، وما خالفهما رد، وما لا يوافق ولا يخالف نسكت عنه، وأما الأحاديث الموضوعة فمعلومة؛ لأن الكذابين والوضاعين معروفون، وهم الذين نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الإسرائيليات فلا تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تنسب إلى بني إسرائيل، إلى سيدنا موسى وسيدنا عيسى وغيرهم من الأنبياء.. فالإسرائيليات تروى عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان ينقل الإسرائيليات حيث أنه وجد زاملتين فيها كتب لأهل الكتاب فأخذ بكلام النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وليست الإسرائيليات كلها سيئة، بل إن فيها أخباراً موافقة للكتاب والسنة، والكتب التي بين أيديهم الآن لو أن رجلاً قرأها لوجد فيها أموراً توافق ما عندنا نحن المسلمين، وهذا الأمر مما تصح روايته عنهم، فإذا قلنا: إن عبد الله بن عباس ، يروي عن كعب فقد وجدت أخبار كثيرة جداً نجزم ونوقن أنها مأخوذة عن أهل الكتاب.

حكم من يستشهد بروايات من التاريخ ضعيفة لإثبات قصة التحكيم ومقتل الحسين وفساد الأمويين

السؤال: يستشهد أعداء أهل السنة والجماعة بروايات من كتبنا مثل تاريخ الطبري وتاريخ الحافظ ابن عساكر والكامل لـابن الأثير ، وكتاب بدائع الفوائد لـابن القيم لإثبات صحة ما هم عليه في قضية تحكيم معركة صفين وفساد دولة بني أمية، ورواية مقتل الحسين ، فهل معاوية ويزيد من الحكام الظلمة؟ ولماذا يذكر علماؤنا تلك الروايات رغم ضعف سندها، الأمر الذي يجعل أعداء السنة يسيئون لأهل السنة؟

الجواب: أنت اعتمدت كتب التاريخ، وكما قال الإمام أحمد : ثلاث لا أصل لها: السير، والمغازي، والتفسير، فالسير والمغازي كثير منها بلا أسانيد فهي تروى للاستشهاد بها، وهناك أشياء شبه متواترة، فكون الحسين قتل، وكون يزيد هو الذي وجه الجيوش إليه، نحن لا نستطيع أن ننفي ذلك، لأنه أمر مقطوع به ولا يمكن إنكاره، وكونه وقع تحكيم في معركة صفين فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولكن ما هي صفة التحكيم؟ الأخبار الواردة في هذا الأمر أكثرها بلا أسانيد، وما ثبت منها فالصحابة معذورون مجتهدون متأولون فيه، أو مجتهدون مصيبون لهم أجران، وكثير من الأخبار التي فيها طعن على الصحابة رضي الله عنهم لا تثبت، وقد ذكرها أصحابها وذكروا معها السند لكي به يعرف طلاب العلم ضعف أو صحة هذه الأخبار والآثار، فهم قد أدوا ما عليهم بذكر الأسانيد، فالأمر واسع أن يبحث فيه بعد عصرهم، وكما ذكرنا نحن لا نحتج كثيراً بذلك، وليس كلما ذكر في هذه الكتب صحيح، كالكتب المعتمدة فهل قبول الأمة للبخاري ومسلم مثل قبولها لتاريخ الحافظ ابن عساكر ؟ لا، وهل قبول الأمة للترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة في الجملة كقبولها لتاريخ ابن الأثير ؟ قطعاً لا، فهم أتوا بها للدراسة، وهم حين أسندوها قد أدوا ما عليهم.

وأما ما سألت من وجود تحكيم في معركة صفين فلا شك أنه وقع تحكيم، لكن أن عمرو بن العاص خدع أبا موسى الأشعري فهذا مما لا يجوز أن يقال، وعمرو بن العاص رضي الله عنه أجل من أن يكون طالب دنيا، بل هو اجتهد وأراد رد الأمر إلى أهله، وهذا هو الظاهر من أمر التحكيم، فقد رأوا فيه أن يرد أمر الخلافة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه رأى أن هذا أمر فيه نقض لبيعته من غير دليل ومن غير بينة، ومن غير سبب شرعي يقتضي نقض هذه البيعة التي ثبتت، وهذا هو الصحيح، فأمر التحكيم وقع ليس بالخداع، بل أحالوا الأمر لكبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ والصحيح أنه كان لابد من إلزام الناس ببيعة علي رضي الله عنه، وكان هذا هو الواجب، فـعمرو بن العاص لم يخدع أبا موسى ولم يأمره معاوية ؛ لأن معاوية لم يطلب الإمارة أصلاً في حياة علي ، وما طلب الخلافة إلا بعد موت علي، وهذا هو الصحيح.

أما أنه وقع في دولة بني أمية فساد، وخصوصاً بعد عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، فلا شك في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى هذا ملكاً عاضاً، وحذر من رأس الستين صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنه وقع فساد، وليست هذه الخلافة الراشدة، بل هو ملك، وأعدل الملوك هو معاوية؛ لأنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أبداً أن يطعن في معاوية، وله رضي الله عنه من الحسنات والفضائل على هذه الأمة ما لا يمكن إنكاره، وما ينجبر معه ما قد يكون وقع منه من اجتهاد أو تقصير أو حتى ذنوب، فهم ليسوا معصومين من الصغائر ولا من الكبائر، ولكن لـمعاوية رضي الله عنه ولـعمرو بن العاص ولطائفة الصحابة رضي الله عنهم في الجملة؛ من الفضائل والدرجات والأعمال والجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام وتعليم العلم ما يغمر مساويهم إذا كانت لهم مساوئ وثبتت، كيف وهي لم تثبت؟!

كيف وما ثبت عنهم كان لهم فيه اجتهاد، فمنهم المجتهد المصيب، ومنهم المجتهد المخطئ المغفور له خطأه المثاب على اجتهاده، فلا يصح أن يذم معاوية رضي الله عنه.

أما يزيد فلا شك في نقصه، ولا شك أنه أتى على أهل الإسلام بأشياء منكرة، وقد سأل الإمام أحمد رحمه الله ابنه: هل تحب يزيد بن معاوية ؟ فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وقد فعل بأهل المدينة ما فعل؟ فوقعة الحرة كانت وقعة عظيمة هائلة، وقد قتل فيها صحابة وتابعون وفضلاء، وهو أمر عظيم الخطر، قال عبد الله بن أحمد لأبيه: فهل تلعنه؟ فقال: وهل سمعت أباك يلعن أحداً؟!

ونحن عندنا قضية الموازنة وهذا أمر مهم جداً، فقد كان يزيد قائد أول جيش غزا القسطنطينية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)، وكان هذا في حياة أبيه قبل أن يكون خليفة، فله الفضل في هذا الباب، لكن كونه قد أتى بمنكرات فلا شك في ذلك؛ وكونه ظلم فلا شك أنه قد ظلم، وأعظم ظلم هو قتل الحسين بن علي، ثم وقعة الحرة التي أوقعها بأهل المدينة وانتهك فيها الحرمات، وبعدها مات يزيد بن معاوية ، ولكن لا ننسى أن له محاسن في الجهاد في سبيل الله عز وجل والله أعلى وأعلم.

أما معاوية فالطعن فيه ظلم، ومسبته مسبة للصحابة فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي).

حكم من يتعامل مع الجن ويستدل أن سليمان عليه السلام تعامل معهم

السؤال: رجل يتعامل مع الجن وعندما تنصحه وتقول له: إن ما تفعله محرم شرعاً يقول: إن سيدنا سليمان كان يفعل ذلك؟

الجواب: هذا كذب، فسيدنا سليمان لم يكن يتعامل مع الجن بمعنى أنه يأخذ منهم ويعطي، بل كانوا مسخرين له، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص:36-37]، فكانوا مسخرين له، وأنت تكذب إذا قلت أن الجن مسخرين لك، وأيضاً هذا مما اختص به سليمان، حيث قال: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، فلو قال: إنه يفعل مثل سليمان فهو مكذب للقرآن؛ لأن القرآن قد نص أن هذا ملك لا ينبغي لغير سليمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمسك بالشيطان الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وقال: (ولقد هممت أن أربطه بسارية من سواري المسجد، فتذكرت دعوة أخي سليمان).

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يربطه حتى يلعب به الصبيان؛ وذلك لأجل دعوة سليمان، فإذا كان ذلك ليس للنبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون لك! وإن كان يتعامل مع الجن بالأخذ والعطاء فهذا هو الضلال المبين، والخطر الكبير، وهو عندما يستعين بهم فإنه يقدم لهم مقابل هذا من دينه وطاعته وتوحيده، فلابد أن يتوب إلى الله عز وجل، وهناك كتاب مبسط في ذلك وهو كتاب: (معارج القبول) وكذلك (فتح المجيد) ولا شك أن التعامل مع الجن بمعنى إخبارهم عن المغيبات والاستعانة بهم في قضاء الحاجات هو من أعظم أسباب الشرك والبغي، وننصح بقراءة تفسير ابن كثير، وخاصة آخر سورة الأحقاف، وفي سورة الجن قوله عز وجل: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].

كيفية إخراج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار

السؤال: كيف تخرج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار أجهزة كالثلاجات والغسالات؟

الجواب: يخرج 2.5% من رأس ماله، وإن لم يتيسر له ذلك جاز على أصح الأقوال أن يخرج زكاة عروض التجارة من التجارة التي يبيعها بقيمتها، فيخرج أدوات كهربائية ويعطيها الفقير خصوصاً إذا كان لا يملك مالاً، والتجارة تبلغ النصاب والفقير يبيعها لمن شاء.

حكم من أعطى زكاة الغنم والإبل مذبوحة

السؤال: زكاة الغنم والإبل هل تذبح للفقراء أم تعطى لهم من دون ذبح؟

الجواب: تعطى للفقير دون ذبح، فيأخذها الفقير حية.

حكم زكاة الدين

السؤال: له ثلاث وصلات أمانة يستحقها على ثلاث سنوات هل يجب إخراج الزكاة عنها قبل أخذها أم بعد الأخذ؟

الجواب: بعد الأخذ يخرج لما مضى من السنوات، أو كلما أخذ وصلة أخرج زكاة ما مضى من السنوات، ولا يجب الآن وإنما يجب إذا قبضه.

وإذا كان الذي عنده مال معسراً فإنه يبقى ينتظر إلى أن يقضي الله عز وجل عنه.

حكم زيارة المرأة لجارها المريض

السؤال: هل يجوز للمرأة أن تزور جارها المريض مع زوجها؟

الجواب: نعم، يجوز ذلك إذا أمنت الفتنة؛ لأن عائشة زارت بلالاً رضي الله عنه، وزارت أبا بكر ، فإذا أمنت الفتنة جاز أن تزوره، وعليها الحجاب الشرعي الساتر.

وإذا زارته مع زوجها، وبلباسها الشرعي، وأمنت الفتنة فلا حرج عليها وهي مأجورة إن شاء الله.

وقد بوب البخاري : عيادة النساء الرجال، قال: وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد كما في كتاب الطب أو كتاب الأدب من صحيح البخاري .

ويجوز لها أن تسلم عليه بدون مصافحة، فإن المصافحة بين الرجال والنساء الأجانب محرمة.

ولقد زارت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد وزارت عائشة رضي الله عنها بلالاً، وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس، والبخاري ذكر هذا في صحيحه، فلماذا يتحرج المسلم مما ورد في الصحيح؟ فنحن نقول: يجوز لكن بالضوابط الشرعية، حتى إذا لم يكن قد فرض الحجاب فإنه لم يرد المنع من الزيارة بعد فرضه، وإنما ورد المنع من التكشف.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قل كل من عند الله للشيخ :

https://audio.islamweb.net