إسلام ويب

الصراع بين الحق والباطل سنة من سنن الله عز وجل الكونية، فقد ابتلى الله أهل الحق بأهل الباطل؛ ليمحص أهل الحق وينقيهم، كما أن الله عز وجل يؤيد أهل الحق بالنصر والغلبة في النهاية، ويقذف في قلوب أعدائهم الرعب وإن كانوا أكثر عدداً وعدة، فعلى أهل الحق الثبات عليه والدفاع عنه، فبقدر ثباتهم على الحق ينزل الله عز وجل عليهم النصر.

التحذير من طاعة الكفار والمنافقين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قال الله عز وجل: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:151-155].

فقد نهى الله عز وجل في هذه الآيات البينات أهل الإيمان عن طاعة الكفار، وبين عاقبة طاعتهم، وأنها تؤدي إلى الردة والانقلاب على الأعقاب والخسران المبين، وبين سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته في هذا المقام ما تتعلق به قلوب المؤمنين؛ حتى لا يتكلوا على أنفسهم أو عملهم أو جهادهم، ولكن ليتكلوا على الله عز وجل، مولى المؤمنين وخير الناصرين، فهو الذي يتولى شأنهم بالإصلاح، وهو الذي يحفظهم ويعافيهم من طاعة الكفار.

قال ابن كثير رحمه الله: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى -يعني: الهلاك- في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149].

ثم أمرهم بطاعته، وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، فقال تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150].

- ومسألة طاعة الكفار من أخطر الأمور في حياة الناس، وذلك أن الكفر والنفاق والظلم والعدوان لا يتحقق إلا بطاعة طائفة من الناس لرءوس الكفر والنفاق، ولا يستقيم للكفار كيان ولا أمر إلا إذا وجد من يطيعهم، وقد ذكرنا ما ذكره ابن كثير رحمه الله في هذه الآية الكريمة: أن الله حذر عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، مع أن المنافقين لم يأت لهم ذكر، ولكن طاعة هؤلاء من أخطر الطاعات؛ لأن هؤلاء المنافقين يتدثرون بدثار الإسلام، ويبثون معاني الكفر والنفاق في المجتمع المسلم، ولذا كان التحذير من طاعة الكفرة والمنافقين متلازم، كما قال سبحانه وتعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24].

وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1].

والآيات في التحذير من طاعة الكفرة ومن متابعتهم كثيرة جداً في القرآن العظيم، منها قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:25-28].

فبين سبحانه وتعالى سبب ردة هؤلاء الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ [محمد:26]، وهم الكفرة والمنافقون الذين يكرهون القرآن ويكرهون الالتزام بالإسلام، ويكرهون ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ [محمد:26] فكيف بمن يطيعهم في الأمر كله؟ فإن طاعتهم في بعض الأمر أدت إلى الردة، ولذا قال: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:25-26]، وذلك لأن النفاق كان في الزمن الماضي سراً وأصبح اليوم علانية.

قال حذيفة رضي الله عنه: (كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، وأصبح اليوم علانية) فكيف لو رأى حذيفة رضي الله عنه ما يقع في أزماننا من الإعلان بطاعة الكفرة عياناً جهاراً نهاراً بلا خفاء، بل وتأكيد لزوم هذه الطاعة ولزوم هذه التبعية؟ نعوذ بالله من ذلك.

قال عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد:27]، فجزاء هؤلاء الذين يطيعون الكفرة في بعض الأمر أن تتوفاهم الملائكة بالعذاب والعياذ بالله!

وقوله: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ السبب: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ فطاعة الكفرة في بعض الأمر تسخط الله، وهم بذلك يقعون في كراهية ما يرضاه الله، وهذا أمر متلازم؛ فإن من أطاع الكفرة فلا بد أن يكره ما يرضي الله، فهم يكرهون مرضاة الله عز وجل، يكرهون ما يحبه، ويحبون ما يكرهه سبحانه وتعالى بطاعة الكفار في بعض الأمر.

وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] ، أي: أنه كانت لهم أعمال، وكانوا قد تابعوا الهدى، ثم زال ذلك، وحبط العمل بالنفاق والعياذ بالله! وبالردة التي سببها طاعة الكفار في بعض الأمر، والله سبحانه وتعالى إنما أمر بطاعة من يأمر بطاعة الله دون من يأمر بمعصية الله ولو كان مسلماً، فكيف إذا كان كافراً؟!

وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية

قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

فأمر الله عز وجل بطاعة أولي الأمر، ولكنها طاعة مقيدة بما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إنما الطاعة في المعروف) ، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وقال: (لا طاعة لمن عصى الله) ، وقال الصديق رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).

فإذا كان الصديق لو أمر بمعصية فلا طاعة له، فكيف بمن دونه؟! فلا طاعة لأحد من أب أو أم أو ولي أو كبير أو عالم أو شيخ أو إمام أو ملك أو رئيس أو صاحب عمل أو أي أحد في معصية الله سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك يقدح في أصل عظيم من أصول الإيمان، وهو أن الله سبحانه وتعالى أوجب طاعته وطاعة رسله على الخلق جميعاً، فكيف بمن يلزم الناس بخلاف ما أمر الله عز وجل به؟! فهذا خطر عظيم والعياذ بالله! ولذا كان على المسلم أن يكون منتبهاً لقضية الطاعة والمتابعة.

وقد حذر الله عز وجل من اتباع أهواء الذين لا يعلمون، فقال عز وجل: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18-19].

وقال عز وجل: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، فلا بد أن يعرف المسلم لمن تكون طاعته وتبعيته، فيطيع الله ويطيع الرسول ويطيع أولي الأمر من المؤمنين وهم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، فإن خالفوا ذلك لم تكن لهم طاعة، بل ولا يطاعون إلا إذا كانوا يتبعون ما أنزل الله عز وجل، ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].

وأمر الله سبحانه وتعالى إتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وبين أنه مبلغ عن الله سبحانه وتعالى أمره فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

فقضية المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم جزء من العقيدة الإسلامية الإيمانية، وقد أمر سبحانه وتعالى باتباع سبيل المؤمنين وحذر من اتباع غير سبيل المؤمنين، فقال عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، والمقصود هنا: اتباع الإجماع، وذلك أن المؤمنين إذا كانوا جميعاً على أمر فهذا الأمر هو الحق قطعاً ويجب اتباعه، ويلزم أن يكون الإنسان عليه، فإذا خالفه فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فيوليه الله ما تولى ويصله جهنم وساءت مصيراً.

مراتب طاعة الكفار والمنافقين وشروط الإكراه

وحذر الله المؤمن من طاعة ومتابعة الكفرة والمنافقين والظلمة الآثمين؛ لأن طاعتهم تقود إلى الخسران فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149].

وطاعة هؤلاء وكذا متابعتهم على مراتب وأنواع، فإن طاعتهم في الكفر كفر طالما لم يكن هناك إكراه، وأما المكره فهو مطيع بظاهره كاره عاص للذي أكرهه بباطنه، والله عز وجل قد وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] ، وأما من يطيع اختياراً في الكفر لأجل دنيا يصيبها أو لأجل مال أو رياسة أو جاه دون إكراه معتبر شرعاً فلا عبرة بإرادته الأولى، وأعني بالإرادة الأولى: ما كان يختاره لو لم يعرض عليه ذلك، فكثير من الناس يعرض عليه الكفر والفسوق والعصيان بثمن بخس من الدنيا فيقول: أنا لا أريد أن أفعل ذلك، ولكن ماذا أصنع والدنيا تحتاج إلى هذه الأمور؟! وماذا أصنع وأنا لا أستطيع أن أكتسب جاهاً أو منزلة أو مالاً أو وظيفة إلا بالكفر والفسوق والعصيان؟ فيكفر دون أن يوجد الإكراه المعتبر شرعاً، والذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

وباستقراء أدلة الشرع استنبط العلماء شروطه: وهو أن يكون الإنسان المكره عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وأن يكون المكرِه قادراً على إيقاع ما يهدد به، فأما إذا كان المكرِه عاجزاً وكان المكرَه قادراً على الرد وعلى أن يمنع نفسه من ذلك فليس بإكراه؛ فإنه منافٍ لأصل الكلمة، وكذا إذا كان قادراً على التخلص من إكراه المكره بالفرار في الأرض، وأرض الله واسعة، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

وهذه الآية نزلت فيمن خرج كارهاً لا مكرهاً من شبان قريش مع قريش لقتال المسلمين في غزوة بدر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل بعضهم لما يعلم من أنهم لا يريدون حربه ابتداءً، ولكن إرضاء العشيرة دفعهم إلى الخروج، وكان منهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قتل بعضهم؛ لأن الأنصار كانوا لا يعرفونهم، وإنما يعرفهم المهاجرون، ولقد كان يرمى أحدهم بالسهم فيُقتل أو يضرب ضربة بالسيف فيُقتل، فقال بعض الصحابة: استغفروا لإخوانكم، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ، وقد بوب عليه البخاري في صحيحه، باب: من كره أن يكثر سواد أهل الظلم والفتن، فجعلها عامة في كل من زعم الاستضعاف وشارك في ظلم وفتنة وفساد في الأرض، حتى ولو وقع ذلك من ناس مسلمين ظالمين، ولذا نهى أبو الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى بعض التابعين عن الاشتراك في الجيوش التي تغزو عبد الله بن الزبير في الفتنة التي وقعت، واستدل بما قص ابن عباس من تفسير هذه الآية كما رواه البخاري .

والمقصود: أن المكره إذا كان قادراً على التخلص ولو بالفرار لم يكن مكرهاً، وكذا إذا كان هناك فسحة من الزمن، فلا يكون الإنسان مكرهاً إلا إذا كان الإكراه فورياً وغلب على ظنه أنه يوقع به ذلك، فأما إذا لم يكن فورياً أو لم يغلب على ظنه ذلك لم يكن مكرهاً.

والشرط الرابع في ذلك: ما ذكره الله في كتابه في قوله: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ .

فأما من فعل وطاوع في كفر أو في معصية من غير إكراه فحكمه حكم من فعل، ويلزمه ذلك الحكم، فإن كان كفراً كان كافراً والعياذ بالله!

فمن أطاع غيره في الكفر حتى ولو كان لا يريد ذلك ابتداءً وإنما يفعله إرضاءً لغيره أو يفعله كسباً لدنيا فإنه لا يعد مكرهاً بل يكون كافراً.

وأما إذا أطاعه في معصية وليس في كفر فهذا يختلف باختلاف الحال، فإذا كان معتقداً أن أمر الله هو الواجب وأن معصيته محرمة ولكنه أطاعه لنيل شهوة ولم يكن الفعل كفراً كان عاصياً ولم يكن كافراً، وإن كان له نصيب من العبودية لغير الله وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه أطاع غيره في معصية الله، وشابه الكفار الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، لكنه إذ لم يبع أصل الدين، وإنما باع جزءاً منه لنيل شهوة، أي: ترك طاعة لله عز وجل لنيل شهوة فهذا له نصيب من العبودية، فلا يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه بقي معه أصل الدين فلم يبعه، فلو قيل له مثلاً: اكفر بالله حتى نعطيك من المال كذا أو نعطيك الوظيفة الفلانية أو الرئاسة الفلانية أو نحو ذلك فأبى أن يطيع، فأمروه بالمعصية فقط كأن يظلم مسلماً مثلاً، أو أمروه أن يأكل رباً، أو أمروه أن يفعل فاحشة ففعل لكنه أبى أن يكفر بالله وهو معتقد أنه آثم ومعتقد أنه عاصٍ، ومعتقد أن طاعة الله هي الواجبة وأن معصية الله محرمة؛ فهذا لا يخرج من الملة، ولكنه عبد لذلك الشيء، من الدرهم أو الدينار أو القطيفة أو الخميصة التي ترك من أجلها طاعة الله، وهذه عبودية شرك أصغر لا تخرج صاحبها من الملة وإن كانت عظيمة من العظائم.

وأما إذا أطاع غيره في معصية الله وهو يرى أن له عليه الطاعة ولو خالف أمر الله عز وجل، أو يرى أن له الطاعة المطلقة، أو يرى أن لهذا الغير أن يبدل ويغير شرع الله ويعتقد ما قاله لازماً دون لزوم شرع الله سبحانه وتعالى؛ فهذا كافر، وهذا تجده كثيراً فيمن تعود على التبعية وتعود على الطاعة العمياء؛ فإنه يرى أنه لو أمر بمعصية الله فيلزمه أن يطيع، وأنه لا دخل له بذلك، فإنما عليه الطاعة، حيث تربى على ذلك ونشأ عليها، فلو أمروه بأي أمر لفعل، نعوذ بالله من ذلك!

فهذا الذي اعتقد لزوم طاعة غير الله في معصية الله واستحل مخالفة شرع الله عز وجل في هذه المعصية قد استحل المعصية، وهذا -والعياذ بالله- أيضاً يكون كافراً.

أما إذا رأى طاعته الطاعة المطلقة التامة في أي أمر ابتداءً، فيرى أنه لو أمره بالكفر لكفر دون أن يأمره ذلك الآمر بالكفر فإنه يكون كافراً، وهذا في الطاعة المطلقة التامة؛ لأنها تتضمن الأمر بالكفر -والعياذ بالله- ويدخل فيها ذلك فيكون كفراً.

إذاً: فطاعة الذين كفروا بمخالفة شرع الله عز وجل على أقسام: منها ما يكون طاعة مطلقة، ومنها ما يكون طاعة تفصيلية.

فالطاعة المطلقة: تقتضي طاعتهم ومتابعتهم في أبعاض وأجزاء ما هم عليه، وذلك متضمن للكفر، ومن يرى أن عليه أن يطيع ولو أمر بالكفر فهو -والعياذ بالله- عبد لمن أطاعه، ولا ننتظر فيمن قال ذلك أو اعتقده أن يأتي بأمر كفري لننظر في شأنه، بل من صرح بشيء فإننا نحكم عليه به؛ لأننا لا نعرف ما في باطنه إلا بأن يقول ويصرح، ولكن نقول فيما هو الحكم عند الله عز وجل: إذا اعتقد أنه يطيع الكفار طاعة مطلقة ولو أمروه بالكفر لكفر فإن هذا كافر، وهناك طائفة من الناس تربت على ذلك تربية من صغرها ومن أول نشأتها، فربي أحدهم على أن يطيع ولو أمر بالكفر، ولو أمر بالسجود لغير الله، ولو أمر بقتل الأنبياء، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك، وبعضهم قد يتكلم بذلك ويصرح به ويقول: لو أمرونا أن نحارب الأنبياء لحاربناهم!! ولو وقف في وجههم النبي لكان واجباً علينا أن نطيعهم دون أن نطيع النبي!! وهم يصرحون بذلك، واليهود لا يأمرون بذلك فضلاً عمن دونهم، لكن هذا الذي اعتقد ذلك وتربى عليه قد خرج من الملة؛ لأنه صار عبداً عند الذي أطاعه وعزم على طاعته هذه الطاعة المطلقة، حتى ولو لم يأمره في حياته أمراً ما؛ فإن من الناس من يكون بعيداً عمن لهم الأمر، ولكنه يعتقد في نفسه أنهم لو أمروه بالكفر لكفر، ولو أمروه بالمعصية لعصى، وأنه يطيعهم الطاعة المطلقة؛ فهذا كافر.

وأما الطاعة التفصيلية في أجزاء معينة فهذا الذي ذكرنا فيه التقسيم: فما كان من طاعة في الكفر فهو كفر إذا كان بغير إكراه، وأما إذا كان مكرهاً فهو معذور، وكذا سائر الموانع، فإذا كان بغير قصد أو بغير علم فإنه يبين له الأمر أولاً، فبالنسبة لشخص بعينه فلا بد أن تستوفى الشروط وتنتفى الموانع، فطاعتهم في الكفر كفر، وطاعتهم في المعصية مع اعتقاد أنها معصية معصية، وأما مع اعتقاد لزوم طاعتهم دون طاعة الله وطاعة الرسول، أو اعتقاد ما قالوه دون ما قال الله وقال الرسول فهذا من الشرك، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن اليهود والنصارى في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31]، قال عدي بن حاتم: إنا لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) .

أي: فاتبعتموهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. وهذه قضية مهمة، ولابد من الانتباه لما في هذا الحديث؛ لأن كثيراً من الناس قد لا يحسن فهمه ويظن أن أي طاعة في معصية الله تكون عبادة شركية مخرجة من الملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألم يحللوا الحرام ويحرموا الحلال فاتبعتموهم؟) ، أي: اتبعوهم على التبديل، وعلى التحليل والتحريم، وعلى التشريع، وليس أنه أطاعهم طاعة مع اعتقاد حل ما أحل الله وتحريم ما حرمه.

فمثلاً: هناك من يقول: إن الزنا أمر لا بأس به، وإنه حرية شخصية. وهناك من يرد عليه ويقول: بل الزنا حرام حرمه الله عز وجل، ولكنه يزني، وإذا قال له: تعال نزني بعد أن قال له: الزنا حرام، فسيذهب ويزني ويفعل ما حرم الله عز وجل، فهذا ليس بكافر؛ لأنه رد عليه تحليله وتحريمه ولم يتابعه على التحليل والتحريم، وإنما تابعه في الفعل المحرم.

ومن الناس من يكون بعيداً عن هذا، ولا يكلف ذلك، ومع ذلك يتابع، كما تجد أن أناساً يحرمون ما أوجبه الله من الحجاب ويقولون: إن ذلك يستحق صاحبه العقاب.

وهناك من يقول: أنا أؤيد ذلك، وإنه ينبغي أن يمنع فعلاً، وأن من عاش في دولة تمنع الحجاب فلا يجوز له الالتزام به؛ لأن هذه الدول أمرت بذلك، وهذه هي الطاعة والمتابعة المطلقة والعياذ بالله، فإنه يؤيد تحريم ما أحل الله عز وجل مع أنه لم يطلب منه ذلك، بخلاف حال امرأة مسلمة سوف تكون في هذه الأوضاع، فتريد أن تحصل على شهادة مع أن هذا ليس بإكراه قطعاً ولا بضرورة من الضرورات، فالحصول على شهادة من الشهادات من تلك البلاد ليس بمبرر لنزع الحجاب، فإن هذا التعليم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ليس بإكراه، لكن إذا اعتقدت وجوب الحجاب وخلعت الحجاب فهذه قد أطاعت غيرها في معصية الله، فلا تكون كافرة وإنما تكون عاصية.

وأما الرجال فليس لهم دخل في هذه القضية من جهة العمل، وإنما تجد أحدهم يقول: أنا أؤيد منعه، وأؤيد إلزام الناس بخلافه، وأؤيد إلزام النساء بكشف شعورهن، فهذا لا يكون إلا كفراً، نعوذ بالله من ذلك!

فمتابعة الكفار على تبديل الشرع وعلى تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فضلاً عن تحريم ما أوجبه الله سبحانه وتعالى خطر عظيم، وإن وجد جاهل في ذلك لا يدري أن الحجاب من الدين فإنه يُعلم، بأن تتلى عليه الآيات، وليس لكل أحد أن يدعي أنه لا يدري وأن هذا ليس من الدين؛ فإن الله عز وجل يقول في القرآن: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] وأكثر النساء في أكثر بلاد الأرض الآن يعلمن أن الحجاب من المعلوم في الدين بالضرورة حتى التي تتبرج تعلم أنها عاصية.

- فالطاعة في معصية الله أحوال مختلفة: فإما أن تكون طاعة في المعصية مع اعتقاد أنها معصية.

وإما أن تكون طاعة في المعصية مع اعتقاد أن ما قالوه هو الحق وأن ما أمروا به هو الواجب الاتباع دون شرع الله، فهذا اتباع لهم على التبديل، وعلى التحليل والتحريم، وعلى التشريع من دون الله، فيكون الطائع في ذلك كافراً كفراً ناقلاً عن الملة، وهو ممن اتخذ هؤلاء أرباباً من دون الله، وذلك الذي فعل عبادة لهم من دون الله، نعوذ بالله من ذلك!

فالقضية قضية عظيمة الخطر حين يطاع الذين كفروا.

الحذر من التشبه بالكفرة والمنافقين والفاسقين

وكذا من متابعتهم: التشبه بهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم). فهو يشمل ما ذكرنا في الطاعة، ففيه التشبه المطلق: وذلك بأن يتشبه الإنسان بهم في كل شيء حتى في كفرهم، فلو أنكروا الأديان أنكر الأديان، ولو أنكروا التوحيد أنكر التوحيد، ولو أنكروا التشريع أنكر التشريع، فيتابعهم ويرى أن ما قالوه لابد أن يؤخذ به جملة، كما يقول دعاة كثيرون في المشارق والمغارب: إن الحضارة الغربية لا يصلح أن نأخذ منها جزء التكنولوجيا والعلم الحديث دون أن نأخذ الأفكار والمبادئ والفنون والآداب، بل لابد أن نأخذها برمتها، ولا نقول: إن هذا يوافق الدين وهذا يخالفه، بل اتركوا الدين جانباً!!

وهذه الكلمة لوحدها تنقل عن الملة والعياذ بالله، أعني كلمة: اتركوا الدين جانباً، فكيف يجعل المسلم دينه جانباً ولا يلتزم به في أمر من الأمور؟! فيرون أنه يستحيل أن نأخذ الطب الحديث والهندسة الحديثة والعلوم الحديثة ونحو ذلك دون أن نأخذ الفسق والفجور وإباحة المحرمات التي حرمها الله عز وجل.

فالتشبه المطلق هو مثل الطاعة المطلقة في تضمنها لأجزاء من الكفر؛ وقد وجدنا أناساً من هؤلاء -والعياذ بالله- يصرحون كثيراً في كتاباتهم وأحاديثهم بالطعن في القرآن، والطعن في الرسول عليه الصلاة والسلام، وترديد شبهات الكفرة حول القرآن من أنه ألفه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن فيه أخطاء في كذا وكذا!!

وتجد هؤلاء معظمين جداً عند القوم، وخاصة في بلاد الغرب، فإنهم يعظمونهم جداً ويقولون: هؤلاء دعاة حرية، وهؤلاء دعاة المدنية، وهؤلاء دعاة التطور، ونحو ذلك، بل ويُعطون الجوائز الغالية والثمينة على سبهم للقرآن وعلى طعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الطعن في الصحابة رضي الله عنهم والطعن في معاني الإسلام كلها، بل طعنهم في الأنبياء جميعاً، ومع ذلك ما زالوا يعظمونهم أعظم وأكبر تعظيم والعياذ بالله! فهم يسخرون من الأنبياء جميعاً، بل من ذات الرب سبحانه وتعالى، ويعلمون أنهم ما أخذوا الجوائز الثمينة عندهم الحقيرة الدنيئة عند أهل الإسلام إلا لأجل أنهم طعنوا في الله عز وجل وطعنوا في رسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويقومون بالمدح والتفخيم والتبجيل لشخصيات لا يمكن الاقتراب منها، نسأل الله العافية.

فهذا كله من التشبه المطلق، وهو مثل الطاعة المطلقة.

وأما التشبه الجزئي فهو أيضاً كالطاعة التفصيلية، فالتشبه في بعض ما هم عليه ينظر فيه، فإن كان كفراً أو شعاراً عن الكفر كان التشبه بهم في ذلك كذلك، وإن كان في معصية كان معصية بشرط اعتقاد أنه معصية.

وأما إذا تشبه بهم معتقداً صحة ما فعلوه دون ما شرع الله عز وجل فهذا -والعياذ بالله- يكون من المتابعة الشركية.

وأما إذا فعل شيئاً يفعلونه واتفق أن فعله الطرفان دون أن يكون أحدهما أخذه عن الآخر فليس هذا من التشبه المحرم وإن سمي تشبهاً في بعض الأحوال، لكنه ليس بالتشبه المحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا الشيب لا تشبهوا باليهود) ، فهذا الأمر يقع فينا بغير اختيار منا، فالإنسان لا يختار أن يشيب وإنما يشيب هو ويشيب غيره، فأنا لم أقع في التشبه قاصداً، وإنما وقع في هو، فإذا تركت التغيير سمي هذا تشبهاً، لكن لا يكون تشبهاً محرماً، فلذلك كان هذا النهي ليس للتحريم، فقوله: (لا تشبهوا باليهود) أي: في ترك تغيير الشيب، فيستحب أن يغير الشيب، ولكن لا يحرم أن يتركه، ولذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض شعرات في وجهه عليه الصلاة والسلام، ولكنه أمر بتغييره استحباباً.

وأما الذي كان مأخوذاً عنهم أو فعله لأجل أنهم فعلوه مثل الموضة، فبعض الناس يفعلون الموضة لأجل أن غيرهم فعلها، فالموضة أن الناس يلبسوا هكذا، فيفعلون مثل ما فعل هؤلاء تماماً لأجل أنهم فعلوه، تقول لبعضهم: أنت تربي شعرك تربية غير صحيحة، فيقول لك: هذه موضة، فهذا أشد من التشبه.

وهناك درجة ثانية للتشبه: وهي أن الإنسان يفعل الشيء لا لأجل أنهم فعلوه ولكن لمصلحة في نفسه، فمثلاً: عندهم يوم من الأيام يفرحون فيه كأن يكون عيداً من أعيادهم فيريد أن يلعب في هذا اليوم، لكنه ليس في ذهنه الاعتقاد الفاسد الذي بني عليه ذلك العيد، فهذه درجة من درجات التشبه، وإن كان هذا التشبه أهون من الأول، لكنه داخل في التشبه المحرم، وإن كان يقول: أنا لا أريد ذلك، أنا ليس لي غرض في التشبه بهم، لكن طالما أن هذا الفعل مأخوذ عنهم فهو من التشبه بهم.

وأما إذا كان وقع اتفاقاً كالملابس المشتركة بين المسلمين والكفار فهذا ليس بطاعة ولا بتشبه في الحقيقة، وإن سمي تشبهاً، فتركه هو الأفضل من أجل المخالفة.

وقد تكون المخالفة في فعل شيء مع هذا الشيء، كأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود، وهذا مستحب، ولو صام العاشر فقط لما كان ذلك محرماً عليه، بل يجوز أن يصوم العاشر من محرم فقط ولا يحرم عليه ذلك.

وهكذا الخلاف بين العلماء في صيام يوم السبت فمنهم من يقول: هو حرام، ومنهم من يقول: هو مكروه إذا صامه منفرداً، وإنما تقع المخالفة إذا صام معه الجمعة أو صام معه الأحد، فإذا قرن معه غيره لم يكن ذلك مكروهاً؛ لأنه خالفهم حينئذٍ بعدم موافقتهم.

طاعة الأمة المنتصرة مرض من أمراض الأمة المهزومة

فهذه القضية قضية عظيمة الأهمية، ولذا تكررت في القرآن كثيراً، وهي من أمراض الأمم المهزومة، فطاعة الكفار أو طاعة الأمة المنتصرة من أمراض الأمم المهزومة، ولذا جاء هذا التنبيه بعد قوله عز وجل: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146] إلى قوله عز وجل: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، فدل ذلك على أن طاعتهم تؤدي إلى الخسران، ودرجات الخسران تكون على حسب درجة الطاعة والمتابعة والتشبه بهم، نسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك.

قذف الله الرعب في قلوب أعدائه ونصره لنبيه وأوليائه

يقول ابن كثير رحمه الله: ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعداءهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره الله لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].

وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر) ، وبالتخصيص بمسيرة شهر يدل على أنه رعب شديد، فمسافة شهر مسافة طويلة، والمسلمون ضعاف وقلة وبعاد ومع ذلك يخافهم أعداؤهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، وهذه خصوصية له عليه الصلاة والسلام بالنسبة للأنبياء قبله، وأمته وارثته، فالأمة تنصر، ورعب أعدائهم منهم يتفاوت بحسب شدة التزامهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما التزموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلما اشتد رعب أعدائهم منهم، وكلما ابتعدوا عن الالتزام بالسنة كلما هانوا على عدوهم، نسأل الله العافية.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) وهذا الحديث متفق على صحته.

وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلني ربي على الأنبياء - أو قال: على الأمم - بأربع، قال: أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، وأحلت لي الغنائم) ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني .

وروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب على العدو) رواه مسلم .

وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي) لأن من كان قبلنا كانت تأتي نار من السماء تأكل الغنيمة؛ لأنه لا يحل الانتفاع بها، ثم أحلها الله لهذه الأمة.

ومعنى كون الأرض مسجداً وطهوراً: أنه يتطهر بها بالماء أو التراب، ففي أي مكان في الأرض أدركت الإنسان الصلاة فعنده ما يتطهر به، وكذا عنده مسجد يصلي في أي مكان، بخلاف من كان قبلنا فإنهم كانوا لا يصلون إلا في البيع والكنائس وأماكن العبادة، ولو فاتتهم هذه الأماكن ما استطاعوا أن يصلوا، فالحمد لله الذي جعل الله لنا الصلاة في أي بقعة من الأرض.

قال: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهراً، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سئل شفاعته) أي: سأل الدعوة التي وعده الله أن يجيبها له وأن يشفع لأحد بها، فتعجلوها.

قال: (وإني اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) وهذا لكمال شفقته عليه الصلاة والسلام.

قذف الله الرعب في قلوب المشركين يوم أحد

وقد روى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قال: (قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة).

وهذه من الأعاجيب والبينات الظاهرة، فالكفار مرعوبون من أهل الإسلام حتى في حال انتصارهم، فقد رجع أبو سفيان وهو منتصر إلى مكة مرعوباً، مع أنه لم يكن بينه وبين دخول المدينة شيء، لأن المنافقين خذلوا المسلمين، وارتد كثير ممن حضر الوقعة فاراً إلى المدينة، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا قلة قليلة، والعجب أن أبا سفيان عاد إلى مكة مرعوباً! وهذا الذي تجده في كل مكان يقع فيه صراع بين من تمسك بالكتاب والسنة وبين أعداء الإسلام، فرغم انتصارهم فهم في رعب شديد من أهل الإسلام.

قال: رجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب)، أي: أصاب طرفاً من الذين قتلهم في غزوة أحد. رواه ابن أبي حاتم.

سبب هزيمة المسلمين يوم أحد

قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ قال ابن عباس : وعدهم الله النصر. وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125]، ففي تفسير هذه الآية قولان:

القول الأول: أن هذا الوعد كان يوم بدر، والقول الثاني: أنه كان يوم أحد، وهذا أقرب.

يقول: وقد استدلوا بهذه الآية: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ على أن ذلك كان يوم أحد؛ لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار لأهل الإسلام، فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة عن الاستمرار في القتال تأخر الوعد الذي كان مشروطاً بالثبات والطاعة، ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: أول النهار.

إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي: تقتلونهم، والحس: القتل، أي: تقتلونهم بإذنه، وبتسليطه إياكم عليهم.

حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ قال ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل: الجبن.

وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ كما وقع للرماة.

مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ وهو ظفركم بهم.

مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة.

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ أي: ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم.

عفو الله عز وجل عما حصل من المسلمين يوم أحد

(( وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ )) أي: غفر لكم ذلك الصنيع، وذلك -والله أعلم- لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم، فإن عفو الله عز وجل لا يكون إلا بتوبة أهل الإيمان، وبما يعلم سبحانه وتعالى في قلوبهم من حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما وقع منهم من الفرار لم يكن رغبة عن الدين، ولكن عن ذهول حصل لهم من هجوم العدو فجأة.

فالذي سبب العفو عنهم ما علم الله في قلوبهم من الإيمان، والله يغفر للمؤمنين ما لا يغفر لغيرهم.

قال ابن جريج في قوله: (( وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ )) قال: لن يستأصلكم. يعني: أن العقوبة نزلت ولم يقع معها استئصال، وهل كان بينهم وبين أن يدخلوا المدينة شيء؟ فجيش قريش كان ثلاثة آلاف قتل منهم نحو العشرة أو أكثر قليلاً بينما تفكك جيش المسلمين، لذا تعجبوا من أنفسهم فقالوا: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم. أي: لم تأسروا، ولم تسبوا النساء، ولم تأخذوا الغنائم، وهذا شيء عجيب! ولكن الله عز وجل قدر ذلك عفواً منه عن المؤمنين، فلو عاملنا الله عز وجل بما نستحقه لاستأصلنا الكفرة، فما هو الذي يمنعهم أن يبيدوا المسلمين؟ وهل يوجد من سلاح يمنع إبادة المسلمين الآن؟ وهل يوجد من كيان يمكن أن يقف في وجوه الكفار فلولا عفو الله عز وجل لاستأصلونا والله! فنسأل الله أن يعافينا والمسلمين في كل مكان.

وقوله: (( وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ )) قال ابن جريج : لن يستأصلكم، وكذا قال محمد بن إسحاق ، رواهما ابن جرير .

حكاية ابن عباس لتفاصيل معركة أحد

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد يعني: ما نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله؛ إن الله يقول في يوم أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ قال ابن عباس : والحس القتل. قال: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ إلى قوله: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال: وإنما عنى بهذا الرماة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا) وهذا تشديد وتغليظ في الثبات على ألا يفارقوا أماكنهم.

قال: فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأبادوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعاً ودخلوا في العسكر ينهبون) ففعلوا هذا مع أن ما وقع في بدر كان قد علمهم أن الغنيمة سوف تقسم على الكل، ولكن كانت هذه عادات الجاهلية، ولذا قالوا: الغنيمة الغنيمة. وهذا دليل على أنه لا يوجد أحد يظن بنفسه السلامة من الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على الإنسان دائماً اشتهاها أكثر، فالذي جعل الرماة يتركون المكان هو أن الدنيا فتحت، والغنيمة موجودة، ولذلك من الخطر العظيم على الإنسان أن تفتح عليه الدنيا.

قال: ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا وشبك بين يديه. يعني: ارتبكت الصفوف واختل الجيش، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس -أماكن في جبل أحد- وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق. أي: بسبب الارتباك، ودائماً تجد في أوقات الشدة أناساً عندهم الاستعداد لقبول أخبار الشر والسوء، وعندهم استعداد للتشاؤم، إلى أن قال: فرقى نحونا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله) ويقول مرة أخرى: (اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا) قال: حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل مرتين. وهبل: اسم صنم من أصنام قريش، أين ابن أبي كبشة؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا ينسبونه لزوج مرضعته. قال: أين ابن أبي كشبة؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ يسأل عن هؤلاء الثلاثة خصوصاً؛ لأنه يعلم أنهم أساس الإسلام، ويعلم أن وجودهم بقاء لهذا الدين.

قال: فقال عمر : يا رسول الله! ألا أجيبه؟ قال: بلى، فلما قال: اعل هبل، قال عمر : الله أعلى وأجل. والمشهور أنهم لم يجيبوا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا تجيبوه؟) .

قال عمر : الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب! قد أنعمت عينها، فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر . قال: فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، فالأيام دول، وإن الحرب سجال. قال: فقال عمر : لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال: إنكم تزعمون ذلك، فلقد خبنا وخسرنا إذاً، ثم قال أبو سفيان : إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أي: عن رأي سادتنا، قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه. وهذا سياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس ؛ فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

فقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذٍ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم، فلما رهقوه يعني: أدركوه قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رهقوه أيضاً قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) فلم يزل يقول هذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: (ما أنصفْنا أصحابنا أو ما أنصفَنا أصحابنا) يعني: نحن لم ننصفهم، إذ تركنا سبعة من الأنصار يقتلون ولم يقاتل واحد من المهاجرين، أو لم ينصفنا أصحابنا الذين فروا عنا، ولكن طلحة رضي الله عنه هو الذي ردهم، حيث قاتل قتال السبعة حتى ردهم رضي الله تعالى عنه. وقد كان الرسول يؤخر طلحة إلى اللحظة الأخيرة، حيث قام فقاتل قتال السبعة؛ لأنهم قتلوا ولم يردوا المشركين، أما طلحة فقد قاتل حتى ردهم، وانصرفوا عنه صلى الله عليه وسلم.

قال: فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله أعلى وأجل، فقالوا: الله أعلى وأجل) فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم. والعزى: إله من آلهتهم، يعني: أنه يتعزز به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله مولانا، والكافرون لا مولى لهم) فقال أبو سفيان : يوم بيوم، وحنظلة بـحنظلة ، وفلان بفلان، وفلان بفلان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون) ، فقال أبو سفيان : قد كان في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا. يعني: فليس الكبراء الذين أمروا بها، ثم قال: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، يعني: ما حصل من المثلة، فإن أهل الجاهلية كانت عندهم كرامة، وكانوا يرون عدم التمثيل بالقتلى خصوصاً أنهم أولاد العم والأقارب، ومع ذلك فعلوا هذه الأفاعيل؛ لأن حمية الجاهلية كانت في نفسه، فهو يريد أن يتشفى شيئاً ما.

قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقرت بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلت شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار) .



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب للشيخ :

https://audio.islamweb.net