إسلام ويب

إن الله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فكان هذا كله تكريماً وتشريفاً له عليه السلام، وفي المقابل طرد إبليس، وأحل عليه اللعنة، حين أبى السجود لآدم، فحلت البغضاء في نفسه، وانتفش من قلبه الحسد لآدم فأقسم ليغوين ذريته أجمعين إلا عباد الله المخلصين؛ فكانت الكارثة والمصيبة العظمى أن أغوى آدم وحواء؛ فأهبطا من الجنة إلى الأرض بسبب إغرائه اللعين، ووسوسته المقيتة.

الفوائد المستفادة من قصة آدم في سورة الأعراف

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقصص القرآن معين لا ينضب، وغذاء للقلب والروح، ونور على طريق الهدى والإيمان، يلتزم الإنسان من خلاله بما بين الله عز وجل لنا من صفات الأنبياء والمرسلين، ويحذر على نفسه من صفات من خالف طريقهم المستقيم، وجعل الله سبحانه وتعالى هذا القصص أحسن القصص بما أوحى الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن العظيم، ومن القصص التي ذكرها الله عز وجل مرات في كتابه العزيز قصة وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض، وكيف بدأت قصة نبي الله آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف وقع الصراع مع إبليس؟ وما هي مغبة طاعته وقبول نصيحته الكاذبة الخادعة؟ وما هي وسائله التي يصل بها إلى إغواء الناس؟ وإنا لنرى في واقعنا وحياتنا من انتشار وسائل الشيطان بل ومن وجود صفاته القبيحة المنكرة ما يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر على نفسه من ذلك، نتلو آيات الله سبحانه وتعالى من سورة الأعراف التي ذكر الله عز وجل فيها هذه القصة ثم نذكر بعض فوائدها:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:11-27].

تكريم الله لآدم في خلقه له بيده

فأخبر الله عز وجل أنه خلق آدم عليه السلام، وصوره عز وجل بيده، وجعل هذه الصورة صورة مكرمة، ذلك أن من سواه الله عز وجل بيده الكريمة ليس كمن قال له: كن فكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) فالله سبحانه وتعالى كرم هذه الصورة وسواها بيده عز وجل، وذلك أن بني آدم كلهم كانوا في صلب أبيهم، وجعلهم على صورة أبيهم، فخلق آدم ثم خلق ذريته على تصويره، وكذلك خلق عز وجل أرواحهم قبل خلق أجسادهم، كما قال عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172].

جواز السجود للبشر في الأمم السابقة لإرادة التكريم

وكان هذا بعد خلق آدم عليه السلام، فدل ذلك على أن الأرواح التي أخذها الله من ظهر آدم ونثرها بين يديه قبلاً وكلمهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] كان ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد، قال عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]، وهذا تكريم لآدم عليه السلام، فقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان عبادة لله وتكريماً لآدم، طاعة لله عز وجل في ما أمر به وليس عبادة لآدم، وإنما أمروا بالسجود تكريماً له، وقد جعل الله عز وجل سجود التكريم جائزاً في الأمم السابقة كما سجد إخوة يوسف وأبواه له، قال عز وجل: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100].

والمؤمن يفعل ما أمره الله عز وجل به أياً ما كان، وهو عز وجل يكرم من شاء بما شاء، وعلى المؤمن أن يطيع، ولقد أمرنا الله عز وجل أن نطوف بالبيت، وأن نقبل الحجر الأسود، وذلك عبودية لله سبحانه مع اعتقادنا أنه لا يضر ولا ينفع، كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

الحكمة من خلق آدم وذريته

فكان سجود الملائكة لآدم أمراً من الله عز وجل مكرماً به لآدم الذي علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكان هذا كله من أسباب تكريمه ومنزلته العالية عند الله سبحانه وتعالى.

وجعل سبحانه وتعالى المؤمنين من ذرية آدم أكمل الخلق، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] وذلك أنهم يعملون بطاعته سبحانه وتعالى رغم وجود إرادة الشر والسوء والشهوات في نفوسهم، فهم يقاومونها، والله عز وجل حين قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، تعجبت الملائكة من وجود خلق جديد مع أن الملائكة تعبد الله سبحانه وتعالى، وتفعل بما تؤمر، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون؟!

ولذلك سألوا عن حكمة وجود خلق جديد مع ما أعلمهم الله من أنه سوف يوجد في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فلعلمهم أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته تعجبوا من وجود هذا النوع الذي يوجد فيه الخير والشر، ويوجد فيه الطيب والخبيث! فسألوا الله عز وجل عن حكمة إيجاد نوع يوجد فيه من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، مع قدرته عز وجل على خلق من يعبده ولا يعصيه قط؟ فقال عز وجل: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] ذلك أنه عز وجل يعلم وجود الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء من بني آدم، يعبدونه عبودية هي أكمل أنواع العبودية مع أن إرادتهم فيها المنازعة، ففيها إرادة الخير وإرادة الشر، وهم يعبدون الله في ظروف وأحوال تختلف عن ظروف وأحوال عبادة الملائكة، فالملائكة ليس فيهم من يعصي الله، وليس فيهم من يأمر بالمنكر، وليس فيهم من ينهى عن المعروف، وليس فيهم من يكفر بالله، وليس فيهم من يصد عن سبيل الله، فإذا وجدت عبودية لله سبحانه وتعالى في مثل هذه الأحوال في ظروف المصادة والمشاقة والبعد عن دين الله وشرعه كان ذلك أحب إلى الله عز وجل.

فمن أجل وجود هذه العبودية قدر سبحانه وتعالى وجود من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، حتى يوجد من ينهاه ومن يجاهده، ومن يحبس نفسه على طاعة الله ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله، وحتى يعبد الله سبحانه وتعالى، بعكس ما يفعله أكثر الناس، فهذه عبودية أحب إلى الله عز وجل، بل من أجلها أوجد العصاة والمجرمين؛ لكي يتعبد المؤمنون له بالصبر والاحتساب والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليتخذ الله عز وجل منهم شهداء يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه وتعالى، فله الحكمة البالغة، فهو عز وجل كرم آدم عليه السلام وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وهذه الروح ليست جزءاً من الله -تعالى الله عن ذلك- ولكنها روح أضيفت إلى الله تشريفاً وتكريماً، فهي مثل: ناقة الله، وبيت الله، ففيها إضافة تشريف، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]، فروح آدم وبنيه أضيفت إلى الله إضافة ملكية للتشريف، فهي مملوكة مخلوقة لله سبحانه وتعالى.

سجود الملائكة لآدم تكريماً له

قال عز وجل: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف:11]، وإبليس أصله: من الإبلاس: وهو اليأس، كما سمي إبليساً؛ ليأسه من رحمة الله بعد إبائه وكفره وتكبره والعياذ بالله!

وإبليس لم يكن أصلاً من الملائكة وإنما خلق من النار كما وصف الله عز وجل حيث قال: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] فدل ذلك على أن أصله من الجن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، فلماذا كان الأمر للملائكة أمراً لإبليس؟ لأن إبليس كان يعبد الله عز وجل حتى صار كواحد منهم، وارتفع في المنازل العالية، وهذا يدلنا على أن العبرة بالأعمال وليس بأصل الخلقة؛ فلذلك الملائكة خلقت من النور ومع ذلك فالذي خلق من الطين فآمن وعمل صالحاً يصل إلى المراتب العالية أعلى ممن خلق من النور، فهذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يصعد في المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ويرتفع إلى مراتب أعلى من جبريل عليه السلام، وهو خير الخليقة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم خليل الرحمن خير البرية بعده عليهما الصلاة والسلام، فإبليس عندما عبد الله عز وجل وكان مطيعاً لله سبحانه وتعالى صار كواحد من الملائكة.

فلما قيل للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ كان الأمر لإبليس أيضاً كواحد منهم رغم أن صفته تختلف عن صفتهم، والدليل على ذلك: أن ما وقع في نفسه مما لا يقع في أنفس الملائكة، فإن الملائكة لا يقع في أنفسها مخالفة أمر الله، لكنه مكلف، وكان في نفسه من إرادة الشر والسوء ما لا يمكن أن يقع من الملائكة الذين عصمهم الله عز وجل عن إرادة ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ، فامتنع من السجود -والعياذ بالله- وتحولت حاله، فبعد أن كان في المنازل العالية -لنتعظ من قصة إبليس كيف أن المعصية تهوي بالإنسان وتخرجه بعد أن كان في القرب والدنو وفي السموات العلا- أصبح ذلك في الحضيض الأسفل، فمنزلة المخلوق تكون على حسب عبادته، إبليس كان في الملأ الأعلى ثم بعد ذلك لما عصى وتكبر وكفر والعياذ بالله صار إلى أسفل سافلين؛ ولذلك فالعبرة بالخواتيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها).

فلا تغتر، وكن على حذر، ولا تأمن مكر الله ولو كانت إحدى قدميك في الجنة، فخير الناس بعد الأنبياء يقولون ذلك، بل الأنبياء أنفسهم يعلمون ما كتب الله عز وجل لهم من الفوز والسعادة ولكنهم مشفقون على الدوام، ويعبدون الله إلى آخر لحظات عمرهم كما أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام حيث قال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، قال عز وجل: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:11-12] أي: ما الذي دفعك إلى عدم السجود حين أمرتك؟ وهذا مما يحتج به أهل العلم على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل بأمر فهو للوجوب، وكذلك أمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه وإنما يأمر بوحي الله، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] لذا قال العلماء: إن الآمر هو الله عز وجل أصلاً، وهو الذي له الحكم أصلاً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مبلغ عن الله، فإذا وجدت أن الله أمر فهذا واجب يلام من تركه ويعاقب، وذلك أن الأمر كان: اسْجُدُوا لِآدَمَ فهو أمر مجرد، والأمر المجرد يقتضي الوجوب عند عامة أهل العلم، واحتجوا بظواهر الأدلة من الكتاب والسنة في مواضع كثيرة على أن الأمر للوجوب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فدل ذلك على أنه لو أمر لوجب، ولكنه لا يريد أن يشق عليهم.

وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـسراقة أو غيره لما سأله في الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم! لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فذروني ما تركتكم) وإذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بشيء ابتدرنا أمره، فهذا هو الواجب، ولم يجز لنا أن نقول: هذا الأمر لماذا؟ وكيف؟ وما العلة فيه؟ وما الحكمة منه؟!

فهذا ليس بأسلوب المؤمنين، فالمؤمنون يخضعون لأمر الله عز وجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

الصفة المشتركة بين إبليس وكثير من بني آدم

قال الله سبحانه وتعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وهنا ظهرت عدة أمراض من إبليس اللعين والعياذ بالله، وما أكثر انتشارها في بني البشر من حيث لا يشعرون!

أولاً: رد أمر الله سبحانه وتعالى، فهو لم يكن ناسياً، ولا متكاسلاً، ولم يذكر شيئاً من ذلك، فلم يقل: يا رب! أنا أخطأت، ولم يقل: يا رب! أنا نسيت، ولم يقل: يا رب! أنا لست من الملائكة مثلاً، أو: أنا خلقتي غير خلقتهم والأمر لم يشملني، فإبليس يعلم تماماً أنه مأمور ضمن الأمر للملائكة، لكنه رد الأمر على الله عز وجل، والرد من أخطر أنواع الكفر، فهو كفر الإباء والاستكبار، ولم يقل: هذا الأمر ليس من أمرك يا رب! وكثير من الناس يظن أن استحلال المعصية معناه فقط: أن يقول: إن الله لم يحرم هذا الأمر، كمن يقول مثلاً في الزنا: الزنا معصية من المعاصي وفعل الزنا ليس مخرجاً من الملة، ولكن استحلال الزنا مخرج من الملة، لكن هناك أمراً أخطر وأكثر وقوعاً وهو: أنه يعلم أن الزنا حرام لكنه يقول: لا يلزمنا هذا الأمر، فيرد الأمر على الله عز وجل، فهذا كفر الإباء ومنبعه من الكبر، كما قال عز وجل: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] فهذا كفر مثل كفر الاستحلال أو هو في الحقيقة يمكن أن يعد نوعاً من الاستحلال، بأن يرد أمر الله كمن يقول: الزنا حرية شخصية مثلاً، فهذا إباء ورد لشرع الله لا يستطيع أن يجزم ولا أن يدعي أن الله لم يحرم الزنا، ولكنه يقول: ماذا في الزنا إذا كان برضا الطرفين؟! كقصة قرأتها اليوم في الجرائد: أن فتاة بلغ أبوها الشرطة أنها اغتصبت، فاتهم طالباً -زميلاً لها وجاراً لها- بذلك؛ فقبض عليه فجيء بالفتاة فقالت: لا، أنا ذهبت بإرادتي إلى شقته وبت معه، فأطلق صراح الطالب مباشرة، فهذا أمر عجيب! فالأمر عند القوم مبني على الإكراه، أما إذا كان بالتراضي بينهما فلا بأس ولا حرج، ولا شك أن الذي وضع هذا الأمر وشرعه أصلاً يرد شرع الله عز وحل، فيمكن أن تثبت واقعة الزنا، ولكن إذا ثبت أن هذا الأمر وقع بالتراضي والاختيار فلا يكون هناك ثم جريمة والعياذ بالله!

فالإباء موجود بكثرة، فعندما تدعو أحداً إلى أن يصلي يقول لك: أنا حر! أصلي إن شئت ولا أصلي إن لم أشأ والعياذ بالله! فهل هذا أمر مني أنا عندما أقول لك: صل، أقم الصلاة ..؟ إنه أمر الله عز وجل، فالذي يرى نفسه حراً مع أمر الله كافر وخارج عن ملة الإسلام!

والذي يرى نفسه حراً مع أمر الله يفعله إن شاء ويتركه إن شاء ولا يرى لزوم الأمر عليه إبليسي المذهب، وإبليسي الطريقة!

والذي يقول: أنا حر، أنا لا أسجد والعياذ بالله، فهو كمن قال الله عنه: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ [الحجر:33] فرد الأمر على الله من أعظم أنواع الكفر، فكفر إبليس لم يكن عن طريق اتخاذ وسطاء يدعوهم مثلاً من دون الله كشرك المشركين الذين عبدوا الأوثان وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وكمن يعبد الملائكة مثلاً أو يعبد المسيح أو يعبد الأولياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، فيدعوهم، ويتوكل عليهم، ويذبح وينذر لهم، وهذا نوع من الشرك، فكفر إبليس لم يكن بذلك ولم يقل: هناك وسائط بيني وبين الله أدعوهم وأعبدهم، وإنما كان كفره كفر رد وإباء.

وهذا كفر يجهله كثير من الناس، ولا يعرف خطره، ونراه كثيراً واقعاً في مئات وآلاف وملايين من الناس وهم لا يعرفون أنه كفر والعياذ بالله!

الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس

وكفر الرد والإباء يؤدي إلى زوال أصل الانقياد من القلب، وأصل العبودية خضوع وانقياد مع حب، فإذا زال من القلب أصل الخضوع كفر المخلوق والعياذ بالله، فهذا إبليس كفر مع إقراره بوجود الله، ومع إقراره أن الله خلقه، ومع إقراره بيوم البعث، ومع إقراره أن الله هو الذي يمد في العمر ومع كل ذلك كفر إبليس؛ لأنه انتفى من قلبه أصل الانقياد، وانتفى من قلبه الخضوع لله عز وجل، فآدم عليه السلام عصى، وإبليس عصى، وآدم لم يكفر عليه السلام، وإبليس كفر؛ لأن آدم لما عوتب قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23].

وشتان بين من قال: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ [الحجر:33]، وبين من قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]!

وهذا فرق كبير جداً بين إنسان تأمره بطاعة الله فيقول: أنا مخطئ، أنا مقصر، وبين آخر يقول: دعنا من الشرع! لا ألتزم ولا أطيع! فهذا هو الذي يرد شرع الله عز وجل.

والمؤمن لا بد أن يكون في قلبه أصل الحب والانقياد، وأصل الخضوع لله عز وجل، ولذا يقال: طريق معبد أي: مذلل، فالعبودية أصلها من الذل والخضوع، ولذلك إذا زال من القلب أصل الخضوع -بمعنى: أنه لا يرى لله عليه أمراً يطاع- زال من قلبه الإيمان ولو أطاع في أوامر أخرى، ولو كان يعبد الله قبل ذلك بسنين فإنه لا يكون مؤمناً، ثم كانت الصفة الثانية التي دلت عليها الآية الكريمة: أنه يزكي نفسه، قال الله عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فتزكية النفس والإعجاب بها ورؤيتها كبيرة مرض؛ لذا كان مرض الكبر والعياذ بالله مرضاً منتشراً أيضاً في بني آدم، والذرة منه تمنع دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وإبليس رأى نفسه في المحل الأعلى فزكى نفسه، قال عز وجل: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

وكم تجد من الناس من يقول: أنا خير من فلان، وأنا أحسن من فلان، وأنا أعلى قدراً من فلان، وأنا أغنى من فلان، وأنا أكثر مالاً من فلان، أنا أكثر منك مالاً وولداً!

كم من الرجال والنساء!

المرأة تقول: أنا أجمل من فلانة، وأنا أحسن من فلانة، حتى إن أهل الدين قد يدخل فيهم هذا الداء، حتى إنه يوجد من يعبد الله عز وجل ليقال: فلان أعبد من فلان! وفلان أزهد من فلان! وهو في نفسه يقول: أنا أعلم من فلان، وأنا أكثر طاعة من فلان، نسأل الله العافية! فهذا بلاء شديد وخطير، وقد يبتلى به أهل الدنيا وأهل الدين على حد سواء؛ لذلك لا بد أن تكون حذراً من ذلك في نفسك، فاحذر أن تزكي نفسك، فمن كان على طريقة إبليس فإنه يزكي نفسه، فليست كلمة (أنا) حرام فقط، فبعض الناس يقول لك: أنا اسمي فلان! وأعوذ بالله من كلمة أنا! لا، ليست (أنا) حراماً، وإنما (أنا) هذه تصبح كلمة منكرة أي: التي فيها تزكية للنفس والشعور بالكمال، وتنقيص الآخرين وازدرائهم، فهذه هي التي فيها الذم والعيب، وليس كل (أنا) تكون محرمة يستعاذ منها، وإلا فقد ثبت في الكتاب والسنة أن يقول الإنسان: أنا.

قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، فإبليس جاهل جهلاً عظيماً لأمور: أولاً: أن في هذا رد لشرع الله سبحانه وتعالى.

ثانياً: فيه اعتقاد عدم حكمة الله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: الأمر الذي أمرت به غير مناسب فكيف تأمرني بالسجود له؟!

إذاً: ففيه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته وكأنه يقول: إن الأمر غير صحيح، إبليس لا يؤمن بصفة العلم والحكمة وأن الله عز وجل حكيم يضع الأشياء في مواضعها، ويشرع الشرائع للمصالح والحكم، فهذا داء خطير موجود في كثير من الناس، فتراه يعترض على شرع الله عز وجل بعقله، ويقول: لماذا أمر الله بالشيء الفلاني؟ كان ينبغي كذا .. فيقترح على شرع ربنا سبحانه، ولماذا ربنا حرم الشيء الفلاني؟! ولماذا ربنا أوجب الشيء الفلاني؟!

وإبليس سن سنناً لكثير جداً من الناس ليسيروا عليها، ومنها: الإعجاب بالنفس، واعتقاد عدم الحكمة في شرع الله سبحانه وتعالى، والكبر الذي يدفع الإنسان إلى عدم الالتزام بدين الله وشرعه سبحانه وتعالى.

غرور إبليس وجهله بمنزلة آدم

فلو تأمل إبليس لعلم أن آدم خير منه، فآدم خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:31-33].

فإبليس كان يكتم في نفسه أنه يرى نفسه أفضل من آدم، ويكتم في نفسه الكبر والعجب والعياذ بالله!

فكان عند إبليس القياس الفاسد فرد شرع الله بأن أصل خلقته من النار، وأصل خلقة آدم من الطين، والنار أفضل من الطين، فهذا القياس فاسد الاعتبار لا يجوز أن يعتمد عليه لأنه في مقابلة نص واضح، والشرع أتى بالقياس الصحيح ولم يأت بالقياس الفاسد، وأكثر انحراف الناس عن الشرع هو بسبب القياس الفاسد، فيعمل الإنسان عقله مع وجود النص، فيقول لك: لم أقتنع بهذا الأمر! فهذا أمر خطير، لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يقول لأمر من أوامر الله: أنا غير مقتنع به، لماذا غير مقتنع به؟! أمر الله عز وجل العليم الحكيم هل يعرض على العقول؟! فإبليس هو الذي فعل ذلك، وهو أمر خطير جداً نسمعه فمثلاً: ترى فتاة متبرجة يقول أبوها: إني أتركها حتى تقتنع، فتقول لك: أنا لست مقتنعة بالحجاب!

وهذا أمر ربنا عز وجل في القرآن حيث يقول: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] وقال عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] فالذي لا يقتنع بشرع الله وأمره مع علمه بأن هذا أمر الله فهو إبليسي المذهب يسير على طريقة إبليس، فلا بد أن تلتزم بشرع الله، ولو نظر إبليس في الحقيقة لعلم أن الله نفخ في آدم من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، والعلم يقتضي التكريم، بخلاف النظر إلى أصل الخلقة، فمن الذي قال: إن الطين أقل من النار أو النار أفضل من الطين؟!

لا يوجد دليل على ذلك، لكن عندما يتأمل الإنسان كل الشبهات الباطلة يجدها في النهاية لا أصل لها ولا دليل عليها، فإبليس بنى على أن النار أفضل من الطين، وبالتالي فالذي خلق من النار لا بد أن يكون أفضل من الذي خلق من الطين؛ وكذا فإن الأمر بالسجود للذي خلق من الطين أمر غير صحيح فكان رد فعله أن امتنع من السجود.

فهذه المقدمات مبناها أصلاً على قاعدة باطلة، فلا يوجد دليل على أن النار أفضل من الطين، لا دليل على ذلك، بل إن النار من صفاتها الطيش والخفة، والطين من صفاته الهدوء والسكينة والرزانة؛ ولذلك يقولون: خان إبليس أصله، فسبب طيش إبليس خلقته، وهذا الكلام قاله بعض السلف لكن ليس فيه دليل؛ لأن إبليس لما كان مطيعاً كان مرتفع المنزلة، وبعض الذين يخلقون من الطين ليس فيهم رزانة ولا هدوء ولا سكينة بل يكونون في أسفل سافلين، والعبرة بالأعمال ليس بأصل الخلقة؛ وبالتالي نقول: لو أن إنساناً نسبه شريف لكن أعماله قبيحة، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) إن أصل خلقتك أصل شريف، ولكنك لو كنت من نسل الأنبياء لخالفت سبيلهم فلست منهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي - بعض أقاربه الذين لم يؤمنوا- ألا إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

والمقصود: أن المقدمات الفاسدة والقياس الفاسد هما اللذان يؤديان إلى تحريف وتبديل وتضييع الشرع، ثم إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله، فالحذر الحذر من استعمال الرأي في مقابلة النص، كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته) وانظر إلى سهل بن حنيف عندما كان في صلح الحديبية والرسول صلى الله عليه وسلم يمضي الصلح على الشروط التي اشترطها الكفار -وهي شروط ظالمة، فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام للمصلحة- فكان بعض الصحابة يتمنون أن يردوا ذلك خصوصاً أمر أبي جندل أحد المستضعفين من المسلمين وهو ابن سهيل بن عمرو ، فرده إلى أبيه يفتنه عن دينه، فما استوعب أكثر الصحابة ذلك، ولكن انظر إلى الفتح الذي حصل بالصلح، لقد كان فتحاً عظيماً مبيناً كما وصفه الله عز وجل حيث قال: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] فالمؤمن لا بد أن يمتثل لشرع الله ولا يعترض برأيه ولا بعقله على أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى لا يكون مثل إبليس الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ والعياذ بالله!

أول معصية عصي الله بها

ومن صفات إبليس: الحسد، وهي أول معصية عصي الله عز وجل بها، فإبليس حسد آدم على ما فضله الله عز وجل عليه؛ ولذلك أبى السجود، وهذا الحسد منبعه من الكبر والإعجاب بالنفس، لكنه ينبت الحسد الذي يؤدي إلى بغض المحسود، والسعي في الإفساد عليه، والسعي في أذيته، وهذا إبليس أبغض آدم عليه السلام على ما فضله الله عليه، والحسد هذا في حقيقته هو اعتراض على قضاء الله، وعلى ما قسم الله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي وهب، وهو الذي فضل، فإبليس هو أول من حسد، بل إن أول جريمة قتل ارتكبت على وجه الأرض كانت بسبب الحسد، قال الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

فالحسد هذا يكاد يقتل الناس، يقعد الإنسان يقارن بينه وبين غيره فيقول: لماذا أعطي فلان ولم أعط أنا؟! ثم تترتب على ذلك البغضاء والكراهية، ويضيق الإنسان الحاسد، وأول المعذبين بالحسد هو الحاسد؛ لذلك قالوا:

لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله

يعني: الذي يتعذب أولاً هو الحاسد؛ لأنه يشقى بذلك الحسد، وهذا داء إبليسي والعياذ بالله!

والكبر والعجب والحسد كلها أمراض إبليسية ليست من أصل صفة الإنسان، لكن أكثر الناس يخدعهم الشيطان ويجعلهم يقعون فيها، فاستعمال القياس الفاسد فيه رد لشرع الله سبحانه وتعالى، فهذه أمراض -كما ذكرنا- والعياذ بالله أدت إلى هذه الجريمة.

حكم ترك الصلاة

وإبليس لم يترك فقط السجود، وإنما أبى السجود، ولذلك بعض العلماء يحتج ويقول: إن من ترك الصلاة كفر كفراً ينقل عن الملة، وقد يحتجون بأن إبليس ترك السجود فكفر، ويحتجون بحديث رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن ابن آدم إذا قرأ السجدة فسجد تولى عنه الشيطان يبكي فيقول: يا ويله -يا ويل نفسه- يا ولي! أمر آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النا)، وهذا يدلنا على خطر ترك السجود لله عز وجل، وكما ذكرنا فقد كان سجود الملائكة لآدم طاعة وعبودية لله عز وجل وليس عبادة لآدم، ولكن كما ذكرنا، فالذي يأبى الصلاة هو الذي يكون مثل إبليس كافراً والعياذ بالله، أما تركها تكاسلاً فلا شك أنه كفر أيضاً، ولكن النزاع بين العلماء في كونه كفراً ناقلاً عن الملة أو كفراً لا ينقل عن الملة، وهذا القول الأخير هو قول الجمهور وهو الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهنا ذكر الترك، وكما ذكرنا فإنه لا يلزم منه الإباء، ولم يذكر ربنا عز وجل في أي موضع من القرآن أن إبليس ترك فقط، وإنما قال: (( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )) والعياذ بالله!

معصية إبليس أهبطته من الجنة

قال سبحانه وتعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13].

تعالى إبليس على أمر الله فأهبطه الله، وتكبر فصغره الله، فالعاصي يعاقب بنقيض قصده، والله عز وجل يعاقب من خالف أمره بعكس ما يريد مما أراد من المعصية والمخالفة، فإبليس لما أبى ظن أن ذلك عزة له فصار ذلك سبباً لذله، وظن أن ذلك يحقق ذاتيته ويقول: أنا أعلى وأفضل، فجعله الله عز وجل حقيراً مذموماً مذءوماً، مدح نفسه فذمه الله لما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، وقال: اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا يعني: مذموماً، فعاقبه الله عز وجل بعكس ما قصد، فكل من تعزز بمعصية الله أذله الله، وكل من تكبر على طاعة الله صغره الله عز وجل، وكل من تعالى على أمر الله أهبطه الله سبحانه وتعالى.

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا أي: من المنزلة التي كنت فيها، من السموات العلى، لأنها لا تتناسب مع هذا الكبر، قال: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .

وعندها خرج مرض إبليس الدفين بهذا الابتلاء، حيث ابتلي إبليس فما نجح في الامتحان، إذاً: فليست العبرة بطول العبادة بقدر ما يكون الثبات في مواطن الابتلاء، قال تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13].

فإذا ذكر الله عز وجل تصاغر حتى يصير مثل الذبابة، وربما يكون المكذب الكافر من بني آدم يسمع الآيات تلو الآيات ونفسه لا تصغر، لكن إبليس يصير بقدرة الله مثل الذبابة إذا سمع ذكر الله عز وجل، هوان فظيع والعياذ بالله!

ثم ينتظره الهوان الأشد يوم القيامة، فهو الآن في هوان، ويوم القيامة يكون في هوان أشد نعوذ بالله من النار!

معرفة إبليس لربه بعد كفره

قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14] أي: أن إبليس طلب وطول العمر، طول العمر مع معصية الله عز وجل أعظم ضرراً، وطول العمر مع الكفر يزيد من الفساد، لذلك ليس طول العمر دعاء يدعى به على الدوام، إنما يكون طول العمر مع حسن العمل، قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14].

فإبليس لم يطلب من أحد، ولم يقل: سوف أبقى طول العمر أو سوف أبقى مدة الدنيا، وإنما قال: رب! فهو يعلم بعد كفره أن الله ربه، وهذا من أعظم ما يرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان: هو المعرفة، وأنه إذا عرف وجود الله صار مؤمناً، لا! إبليس يعرف وجود الله، ويعرف أنه ربه وخالقه بعد كفره، فإبليس كافر يعرف وجود الله، لذلك نقول: إن الإيمان ليس المعرفة فقط، فالإيمان قول وعمل كما قال أهل السنة، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وعمل القلب هو أعظم وأهم الأعمال؛ لأنه ينبني عليه عمل الجوارح، فإبليس يقر أن الذي يدعى هو الله، فلم يدع الملائكة ويقول: توسطوا لي عند الله لكي يمد في عمري، بل قال: قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14].

وإبليس مقر باليوم الآخر، ولكنه كافر به؛ لذلك قال الله عز وجل عن اليهود والنصارى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

فكثير من الناس يقول عن اليهود والنصارى: هؤلاء مؤمنون يؤمنون بالله واليوم الآخر، وربنا ذكر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع كونهم أوتوا الكتاب؛ لأنه ليس الإقرار بوجود الله واليوم الآخر إيمان، وإلا لأصبح إبليس مؤمناً، لا، فإبليس أكفر الكفرة؛ لأن الإيمان لا بد فيه من انقياد وحب وطاعة، والإيمان باليوم الآخر لا بد فيه من استعداد له، أما الذي يؤمن بالجنة والنار ولا يبغي الجنة ولا يفر من النار فهذا لا يكون مؤمناً باليوم الآخر؛ ولذلك لو أن إنساناً أخبرته فقلت له: هذا طعام مسموم، فقال لك: أنا مصدق لكلامك وتناول ذلك الطعام، فإنه يصبح غير مؤمن بكلامك في الحقيقة؛ لأنه لا بد مع الإيمان من خضوع وانقياد وطاعة، وإبليس إلى هذه اللحظة جاهل جهلاً عظيماً بالله سبحانه وتعالى.

حرمة الاحتجاج بالقدر على المعاصي

قال تعالى: قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14] إلى أن أخذ الوعد من ربنا عز وجل حيث قال: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [الأعراف:15]، فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16].

وكأنه يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه حتى أخذ الأمر والوعد من الله، فأخبر ربه بما سوف يفعله، وهذا جهل فظيع جداً بصفة العلم، فربنا يعلم ما في نفس إبليس، وأنه يريد أن يفعل ذلك ببني آدم، لكن لهوان الدنيا على الله؛ ولهوان إبليس عليه مد في عمره، قال تعالى: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [الأعراف:15] فسبحان الله! عمر إبليس الطويل زاده بعداً من الله عز وجل، فإبليس عائش من قبل أن يخلق سيدنا آدم، وسوف يظل إلى نهاية العالم، ولكن لما طلب من ربنا الدنيا عيشه ربنا الدنيا كلها، إذاً: فالدنيا هذه لا تساوي عند ربنا شيئاً، ولو كانت تساوي شيئاً ما كان أعطاها إبليس أعدى أعدائه، وأول من كفر به بهذه الطريقة، ورد الأمر عليه، ولكن لأن الدنيا هينة لا تساوي شيئاً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) يعني: هي أهون من جناح بعوضة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطاها إبليس، فعنده عرش على ماء البحر كما ثبت في الحديث، كما قال ابن صياد للنبي عليه الصلاة والسلام لما سأل له: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال: ترى عرش إبليس على البحر) فسبحان الله! إبليس عنده عرش على البحر، ومملكة وجنود وأعوان وأتباع، وكل هذا مما أعطاه الله عز وجل لهوانه ولهوان الدنيا على الله؛ لذلك عندما تجد للكفرة والظلمة ملكاً وسلطاناً وجنوداً وأتباعاً فلا تغتر؛ لأنهم قد يكونوا أهون على الله من إبليس، فهذا إبليس الذي أعطى الله له أكثر من هؤلاء نعوذ بالله! لذلك فملك أهل الكفر والعدوان والظلم ليس دليلاً على أن الله رضي عنهم، لا، فالله عز وجل أعطى إبليس كذلك: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:15-16].

وأول من احتج بالقدر: هو إبليس، فبدل من أن يقول: يا رب! أنا ظلمت نفسي وأخطأت، يقول: يا رب! أنت أغويتني، وأنت الذي أضللتني! وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، الذي لا يصلي يقول: إن الله لم يهدن، والذي يفطر في نهار رمضان يقول: ربي ما أراد هدايتي، والتي لا تتحجب تقول: إذا هداني ربي فسأتحجب، فهؤلاء هم على طريقة إبليس، فيقول بعضهم: لو كتب ربنا لنا الهداية لكنا اهتدينا، فهذا يحكم على نفسه أنه من الظالمين، وربنا عز وجل يقول: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5].

إذاً: فأنت على خطر عندما تقول: إن ربنا لم يهدك؛ لأنك تحكم على نفسك أنك ظالم والعياذ بالله! فالقدر يحتج به في المصائب لا المعائب، فتب من الذنب الذي عملته إلى الله، ثم بعد هذا احتج بالقدر، وقل: إن ربي قدر علي ذلك، أما وأنت ما زلت مصراً على الذنب تقول: (بما أغويتني) فهذا سوء أدب عظيم مع الله عز وجل، وانظروا إلى أدب إبراهيم عليه السلام عندما يقول: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] وأدب مؤمني الجن من ذرية إبليس، لكن الإيمان هذبهم حين قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

فالذي أراد لهم الرشد هو ربهم، وفي الشر قالوا: (أريد) مع أنهم قصدوا الله الذي أراد بهم شراً، ولكنهم تأدبوا مع الله عز وجل.

أما إبليس فيقول: بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]

وربنا عز وجل كتب عليه الغواية فعلاً، ولكنه لم يظلمه سبحانه وتعالى؛ لأنه جعل له قدرة وإرادة، وبها يحصل فعله، فهو الذي اختار الشر والضلال والعياذ بالله!

وإلى هذه اللحظة كان يقول: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ [الأعراف:16] يعني: ما زال مصراً على مزيد من المعاصي وعلى معاندة أمر الله عز وجل، وهو يعلم أن الله يحب من خلقه أن يطيعوه وهو يعاكس أمر الله ويعاكس محبته، ما هذا الكره الفظيع؟! فإبليس منبع الشر والسوء خلقه الله عز وجل وهو يعلم ذلك؛ لكي يجاهده المؤمنون؛ ولكي يتعبدوا الله بمقاومته ومخالفته وارتكاب نهيه وترك أمره، قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268].

فأنت عندما تترك أمر إبليس يصبح طاعة لله عز وجل، فالله جعل منبع الشرور في هذا المخلوق العجيب والعياذ بالله! قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ، إذاً: فالاحتجاج بالقدر مع الإصرار على الذنب فعل إبليس؛ لذلك فإن الجبرية الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقدر ليسوا مؤمنين بالقدر، فقد قدر ربنا على إبليس ذلك، ولكن هذا الإيمان ليس إيماناً بالقدر، كما أن إيمان الجبرية بالقدر ليس إيماناً، فالذي يقول: ربي كتب علي كذا، فهو غير مؤمن بالكتابة هذه؛ لأن الإيمان بالكتابة لا يكون إلا مع السعي في الأخذ بالأسباب، فلو أنك تركت الأكل وقلت: ربي كتب علي أنني أجوع، فهل تصبح مؤمناً بالكتاب؟! ليس هذا هو الإيمان، فالإيمان ليس معرفةً بوجود الشيء وانتهى الأمر، وإن كان لا يوجد أحد في أمر الجوع والشرب سيعمل هذا الأمر أبداً، فكلهم سيقولون: أريد ماءً، أريد أن آكل، فتراه يأخذ بالأسباب، أما في أمر الدين تراه يقول: إلى أن يهديني ربي، ولو أن ربي كتب لي الهداية فسأهتدي، وربي لم يكتب لي الطاعة الفلانية، والعياذ بالله!

وسائل إبليس في إغواء بني آدم

قال تعالى قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16]، فهو يريد أن يقعد على هذا الصراط ليصدهم ويبعدهم عن صراط الله المستقيم، فإبليس يعرف الصراط المستقيم، فالإيمان عنده أبداً لم يكن فقط إيمان معرفة، فإبليس كان يعرف كل ذلك ولا يلتزم به، والصراط المستقيم هو: الإسلام، وهو دين الحق، فهو يصدهم عنه ويقعد لهم، فإذا أراد الإسلام يقول له: أتترك دين آبائك؟! كما فعل مع أبي طالب حتى مات على الكفر بسبب الشبهة، أتترك دين آبائك؟! فهو قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فإبليس كان من وراء أبي جهل الذي قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فكان ما قاله: هو على ملة عبد المطلب ، وأكثر الناس كفار من أجل أن آباءهم وأمهاتهم كانوا كفاراً والعياذ بالله!

وربما قعد له إبليس في طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أرض آبائك؟! فعصاه فهاجر، وربما قعد له في طريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فتنكح المرأة ويقتل الناس؟! فعصاه فجاهد.

قال تعالى مخبراً عنه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الأعراف:17]، يرغبهم في الدنيا ويكره إليهم الآخرة، فينسيهم أمر الآخرة ويجعلهم في غفلة عنها: وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] يأتيهم من قبل الطاعات فيجعلهم يتكاسلون عنها، ومن قبل المعاصي فيرغبهم فيها ويوقعهم في الشهوات.

قال تعالى مخبراً عنه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، وانتفاء الشكر أعظم وسيلة يصل بها إبليس إلى مراده، وظن إبليس أن أكثر الناس إذا نسوا الآخرة، وانشغلوا بالدنيا، وانهمكوا في الشهوات، وابتعدوا عن الطاعات فقد تركوا شكر الله، وإذا زال الشكر بالكلية حصل الكفر بالكلية والعياذ بالله، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].

فإبليس ظن ذلك وقد حصل تصديق ذلك الظن حين اتبعه أكثر الناس على ذلك، فأكثر ما يغيض إبليس وأكثر ما يقطع عليه طريقه أن تشكر نعمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والحمد والشكر هو أول ما أمرنا الله عز وجل به، وأول ما تكلم الله عز وجل به في كتابه، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

فقد أمرنا أن نقول الحمد سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم، وشكر نعمة الله: أن يعلم الإنسان من قلبه أن الله عز وجل هو الذي أنعم عليه بهذا؛ فيشعر بالخضوع والمنة له سبحانه وتعالى، ثم يثني على الله بلسانه، ثم يستعمل هذه النعمة في مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك يقطع ظهر إبليس ويقطع عليه طريقه، وطريق إبليس ألا تشكر نعمة الله بأن ترى نفسك صاحب الفضل في النعم، كأن تقول: هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [فصلت:50] وكما قال قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

فالذي لا يرى نعمة الله عز وجل عليه يستجيب لدعوة إبليس، كأن يرى نعم الله على الناس فيقول: لم ينعم علي ربي كما أنعم على الناس، فقد ظلمني ولم يعطني حقي: فهذا داء الحسد كما ذكرنا ومنبعه ذلك، لكن أن ترى نعم الله عليك الكثيرة فترى نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اليد، ونعمة الرجل، ونعمة سلامة الجسد، ولو حرمت واحدة منها تذكرت الأخريات فسوف تسعد أعظم السعادة دائماً، فإذا حرمت نعمة فقد أعطيت غيرها والخير كثير فكم تساوي يدك؟! وكم تساوي رجلك؟! كم يساوي عقلك؟! كم تساوي أذنك؟! كم يساوي قلبك الذي جعل الله عز وجل فيه الإيمان والإسلام؟! لا شك أن شكر نعمة الله سبحانه وتعالى يقطع طريق إبليس من أصله؛ ولذلك فنسيان الآخرة والانشغال بالدنيا، والإقبال على المعاصي والشهوات، وترك العبادات والطاعات كلها مرتبطة بترك الشكر؛ لذلك فإن أكثر الناس الذين لا يعرفون نعمة الله ولا يشكرونها يكونون منغمسين في هذه الأربعة كلها.

فلابد أن تقطع الطريق على إبليس فتشكر نعمة الله عز وجل، وتقبل على الطاعات والعبادات، وتبتعد عن الشهوات والمخالفات، وتقبل على ذكر الآخرة وتهتم بها، وتبتعد عن الرغبة في الدنيا وتزهد فيها، فإذا فعلت ذلك فأنت شاكر لنعم الله، قاطع على إبليس طريقه فلا يتحقق غرضه منك.

اعرف عدوك!

فإبليس يمكر بهذا المكر، ويعد هذه الخطة من العداوة الشديدة لبني آدم، وهو قد قال أيضاً أنه سوف يسعى في إغوائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين، قال تعالى حاكياً عنه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] وفي قراءة أخرى: (المخلِصِين) فهذا يدفعنا إلى أن نسعى في الإخلاص، وأن نكون مخلصين لله (والمخلَصين): الذين أخلصهم الله لعبادته، فإذا عبدت الله كنت ناجياً عند الله، فاعرف عداوة إبليس قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فهو خطر عظيم وعدو لا ينام! قال الحسن : لو نام إبليس لاسترحنا من هذه النظرة التي أنظرها. لأن حياته ممتدة، فلو نام إبليس لاسترحنا منه لكن عداوة شديدة لا تنقطع بينه وبين بني آدم، فهو ينشر سراياه في الأرض كلها، وأعطاه الله لكل من يولد من بني آدم يولد له من ذريته مثله ليكون قرينه والعياذ بالله، فانظر إلى كم عدد الجنود الكبيرة لإبليس وكلها لا تساوي عند الله عز وجل شيئاً! وهي في الحقيقة صغيرة تافهة حقيرة؛ لأنها في معصية الله وفي الكفر به وفي الصد عن سبيله، وإن كان أكثر الناس يستجيبون له إلا من رحم الله من عباد الله المخلصين، اللهم اجعلنا منهم.

تهديد الله لإبليس وأتباعه

قال عز وجل: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [الأعراف:18].

الذأم: أشد الذم، فهو مذموم مذءوم مدحور مغلوب، إذاً: فصفة إبليس أنه مغلوب دائماً، قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، لذلك يسهل عليك أن تتخلص من كيده، فالجأ إلى من ينجيك، إلى من يغيثك ويعيذك، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] فإذا استعذت بالله عز وجل نجاك من هذا المدحور المغلوب، وإن كان يغلب أكثر الناس لأنهم اتخذوه ولياً وهو عدوهم؛ ولأنهم رضوا به من دون الله عز وجل ليتولى شأنهم ويوجههم، ويقبلون أوامره ويجتنبون نواهيه بدلاً من أن يمتثلوا أوامر الله ويجتنبوا نواهيه.

قال تعالى: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:18] أي: من تبعك من بني آدم صار منك ولأملأن جهنم منكم، فانظر! قال أولاً: (منهم) ثم قال (منكم)؛ لأن هذا اختصاص بالمجموع، وإن كان أصل خلقتهم ليست من إبليس، لكن لما التزموا كلامه واتبعوا أمره صاروا منه، قال تعالى: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ، فـ(منكم) يعني: منك وممن اتبعك من بني آدم.

تكريم الله لآدم بإدخاله الجنة

وكرم الله عز وجل آدم فأسكنه الجنة، قال: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف:19]، وأصح أقوال أهل العلم أن هذه الجنة هي جنة الخلد، لكن كيف وآدم قد خرج منها؟!

نقول: إنما هي جنة الخلد إذا دخلوها يوم القيامة، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم دخلها في المعراج ثم نزل إلى الأرض مرة ثانية، قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت إلى السدرة فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان) ورأى فيها نهر الكوثر، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الجنة ودخلها عليه الصلاة والسلام، ولكن إنما تكون جنة خلد لا يخرجون منها -وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]- إذا دخلوها يوم القيامة، أما قبل ذلك فيمكن أن يدخلها البعض ثم يخرج منها، قال تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا [الأعراف:19].

فالحلال كثير! وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35]، شجرة واحدة هي المحرمة، وسنة ربنا عز وجل في التشريعات تقضي بأن الحلال أكثر من الحرام، ومع ذلك فأكثر الناس يرتكبون الحرام ويتركون الحلال سبحان الله! مثلاً: ربنا أمرنا بالصلاة في خمسة أوقات في اليوم والليلة مدتها ساعة من أربعة وعشرين؛ والذي يطول الصلاة جداً يأخذ ربع ساعة في الصلاة فيقولون له: أنت طولت، ومع ذلك أكثر الناس لا يلتزمون بذلك.

والمباحات كثيرة جداً، فالنباتات المحللة كثيرة، والنباتات المخدرة قليلة جداً، ولكن كم من الناس يأخذ الحرام، واتباع الشهوات سبب لذلك؛ لذلك فربنا عز وجل حرم على آدم شجرة واحدة فقال: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف:19] واليهود يقولون: إنها شجرة المعرفة، والحقيقة أنه ليس هناك دليل على ذلك، بل هذا كلام فاسد من أن الذي يأكل من شجرة المعرفة يصبح عارفاً بالخير والشر، وبالتالي فربنا خاف من آدم أن يأكل من شجرة المعرفة فجعل عليها سيفاً مصلتاً يدور حولها ولهيب نار حتى لا يأكل من هذه الشجرة.

وكذلك لم يخبرنا القرآن عن نوع الشجرة، والاهتمام بأشجار التين أو البر أو كذا غير صحيح، فأهل الكتاب يهتمون بهذه الشجرة، ولكن لم يخبرنا ربنا عز وجل عنها، فهي شجرة حرمها الله عز وجل على آدم لحكمته.

بداية وسوسة إبليس لآدم

والله خلق آدم للأرض أولاً: ابتلاءً، لكنه ينزل بدون سبب، فربنا قدر المقادير بالأسباب، قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20]، فالذين قالوا: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، فهل هناك احتياج إلى ذلك؟! الله عز وجل لم يخبرنا أن إبليس دخل الجنة، فالوسوسة ربما تحصل من بعيد، والآن توجد وسائل للإفساد عن بعد، كالأقمار الصناعية، فهي تفسد في الأرض مشارقها ومغاربها من بعيد جداً نسأل الله العفو والعافية، فليس بلازم أن يكون معنى (فوسوس لهما) أنه دخل الجنة، فمن الممكن أن يوسوس لهما ويخاطبهما من بعد.

قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا [الأعراف:20]، فهو عرف أن المدخل من كشف العورات: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) وقد كانا لا يريان عورتيهما، فهما إما في نور أو في غير ذلك والله عز وجل أعلم، إنما كانا لا يريان عورتيهما، فأراد الشيطان أن يبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، إذاً: فخطة إبليس اللعين والعياذ بالله هي كشف السوءات، فأول شيء يصل إليه في بني آدم أنه يدعوهم إلى كشف العورات؛ ولذلك فهذا التبرج مفسدة إبليسية كبرى، فالناس اليوم يكشفون عوراتهم؛ لكن ما هو الذي يجعله يكشف عورته أمام الناس؟! إبليس والعياذ بالله، وإلا فالفطرة السوية أنه يغطي عورته ويحب التغطية، ولا يحب أن تنكشف العورة فينقلب الحال إلى حال سيئة، وربما يتعود الناس أن يروا والعياذ بالله الصور العارية تماماً والأفلام الخطيرة الجنسية التي تكون أمام الملايين من البشر، لكن أهل الحياء يستحي ربما أن تبدو عورته أمام أهله أو أمام نفسه ربما، فكيف إذا كان هذا أمام الملايين من البشر نعوذ بالله؟! فهذا التبرج هو فتنة إبليس الأساسية؛ ولذلك فكل متبرجة وكل كاشف عن عورته أمام الناس هو تابع لأمر إبليس في هذا الباب.

نصيحة إبليس المخادعة لآدم وزوجه

قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20].

فقد سماها شجرة الخلد، فهو يسمي الأشياء بغير اسمها ليبرر النيل المحرم منها، كما يسمون الخمر اليوم: مشروبات روحية وكما يسمون الاختلاط: حرية وتقدماً، وكما يسمون الانحلال والفساد حضارة ومدنية، فتسمية الأشياء بغير اسمها حيلة إبليسية، قال تعالى: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ .

إذاً: فالنهي موجود ومعروف، ولكن إبليس يسعى في تعليل النهي، فيقول: ربكما أمركما بكذا من أجل كذا، فإذاً هو لا يكره أن تكونا ملكين، ولا يكره أن تكونا خالدين، فهو يعلل النهي ليرتكبا المعصية، فما دامت لن تحقق هذا الشيء الذي نهاك عنه ربك من أجله فإذاً خالف النهي، فهو يقول له مثلاً: إن ربنا حرم علينا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من أجل العداوة والبغضاء، لكننا سنشرب الخمر ولن تحصل بيننا عداوة وبغضاء، وسنلعب الميسر من غير شجار، فهذا هو أسلوب إبليس والعياذ بالله!

فأقسم لهما بالله إنه ناصح لهما، وأليس من يحلف لك إنه ينصح لك تصدقه؟! وبعض السلف يقول: من خدعنا بالله انخدعنا، وهذا كلام غلط، واستدلال غير صحيح، فاليمين التي لا نعرف كذبها نقبلها، لكن إذا كنا نعرف أنه كذاب لا نقبل كلامه وإن حلف، وإلا فقبول النصيحة هذه كلفت آدم وذريته معاناة كثيرة جداً، ومنها النزول إلى هذا الشقاء كما قال: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، فالشقاء الذي حصل لنا هذا كان بسبب قبول النصيحة الكاذبة الخادعة التي قدر الله عز وجل ذلك لحكمه البالغة.

(وقاسمهما)، إذاً: ليس كل أحد يحلف باسم ربنا نصدقه إذا علمنا كذبه، فهو يحلف بالله إنه ناصح، قال تعالى: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ .

وأما قولهم: إنه وسوس لـحواء وهي وسوست لآدم، فالآية هذه ترد عليه، إذ قال ربنا: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20]، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، وهذا كلام اليهود في التوراة التي بين أيديهم.

معصية آدم وحواء وعاقبتها

قال عز وجل: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ، أي: غرهما حتى قربهما إلى الشجرة وأكلا من الشجرة، وعند ذلك انكشفت العورة، قال عز وجل: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا .

وضاع ذلك النعيم، فالمعصية تهتك الستر الذي بينك وبين الله وتكشف عورتك وسوأتك، فالإنسان عنده عورات ظاهرة، وعورات باطنة، فعوراته الظاهرة: عورات الجسد، وعوراته الباطنة: الظلم والجهل، فالمعاصي تكشف العورات والعياذ بالله؛ ولذلك فإن كشف العورات الظاهرة والباطنة من إرادة إبليس كما ذكرنا، قال: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا .

أي: جعلا يخصفان عليهما كهيئة الثوب من ورق الجنة، فيلصقان الورقة بالورقة للتستر، وهذه فطرة الإنسان في التستر، وهي فطرة سوية؛ ولذلك أمرنا الله بالتستر، والله حيي ستير يحب الستر سبحانه وتعالى، فنسأل الله أن يستر عوراتنا، وأن يؤامن روعاتنا.

قال عز وجل: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22] وانظر إلى البعد الذي حصل! كانا قبل ذلك قريبين، فقال: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ، لأنهما كانا قريبين من ربنا، فلما حصلت المعصية أصبحت: (تلكما) فـ(تلك) إشارة للبعيد، و(هذه) للقريب فلما عصوا ربنا بعدوا، فمن أول ما تحصل المعصية تجد أن قلبك يبتعد عن الله، نسأل الله العفو والعافية.

قال عز وجل: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23] وانظر الفرق بين الإجابة والإجابة! فإبليس قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ [الحجر:33]، و قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ .

أما آدم وزوجه فقالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] فهذا كان بقدر، وكتبه الله عز وجل عليه قبل أن يخلقه بأربعين سنة، ومع ذلك عندما عوتب اعترف بالذنب، والاعتراف بالذنب بداية فتح باب التوبة، وفتح الخير للإنسان، وليعترف وليقل: أنا مذنب، أنا ظلمت نفسي؛ فالأبوان اعترفا بالذنب فغفر الله لهما، ومن شابه أباه فما ظلم، فإذا كنت تريد أن يغفر لك ربك، فقل: أنا مذنب! أنا مخطئ! أنا مقصر! وإذا كنت تريد أن تقول: إن ربي كتب علي أن أعمل المعاصي فأنت تبع للطريق الثانية والعياذ بالله، قال عز وجل: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف:24] فقوله: (اهبطوا) خطاب لآدم وحواء وإبليس، ويقال: الحية؛ على أنها هي التي أدخلت إبليس، ولا حاجة لنا إلى ذلك حيث لم يثبت في هذا حديث صحيح.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالعداوة مشتركة، وذرية آدم بعضها يعادي بعضاً حين تبعوا إبليس وصاروا أبالسة، فصاروا أعداء لبني البشر؛ ولذلك نقول: إن الكفرة أعداء البشرية، واليهود هؤلاء أعداء البشر؛ لأنهم صاروا أبالسة وتبعاً لإبليس الذي هو عدو لنا، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ .

ثم قال تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:25]، فحياة الناس وموتهم في الأرض، ويخرجون منها يوم القيامة، ثم أمرنا الله عز وجل بالتستر، وامتن علينا باللباس وقال: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا (ورياشاً) (وريشاً) وكله حق: وهو ما يتنعمون به وَلِبَاسُ التَّقْوَى ، وهذا ستار للعورة الباطنة، التقوى هذه عبارة عن علم وعدل، فالعلم ينافي الجهل، والعدل ينافي الظلم، والإنسان ظلوم جهول يولد عريان بلا علم ولا عدل، فإذا امتثل الشرع وفق للعلم والعدل فزال عنه الظلم والجهل فسترت عورته الباطنة، قال تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:26-27].

وهذه فتنة عظيمة: وهي نزع الثياب، فاللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، قال عز وجل: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فالأصل أن بني آدم لا يرون الشياطين من الجن: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27]، ونعوذ بالله من ولايتهم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة القصص القرآني رحلتنا إلى الأرض للشيخ :

https://audio.islamweb.net