اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [2] للشيخ :

[ وأولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وفي آخرها وفي سورة الإنسان والمطففين وفي سورة فاطر] كما قال تعالى: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:7-11]. وأصحاب الميمنة: هم أصحاب اليمين، كما ذكرهم بعد السابقين مرة أخرى: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة:27]. وقال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:88-91].
وفي سورة المطففين قال الله عز وجل: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:27-28]. فالمقربون يشربون من التسنيم خالصاً، ويمزج لأصحاب اليمين.
وقال عز وجل: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:5-6]، فعباد الله الذين يشربون يشربونها خالصة. وفي المطففين: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [المطففين:27].
في سورة فاطر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[ فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها. يعني: الموت. فقال في أولها، وذكرهم تفصيلاً .... ، فقال في أولها: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:1-6] ]. أي: خافضة لأقوام ورافعة لآخرين.
إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا [الواقعة:4]، أي: زلزلت.
وَبُسَّتِ ، أي فتتت الجبال تفتيتاً.
فَكَانَتْ هَبَاءً : وهو الغبار الذي يرى في ضوء الشمس.
مُنْبَثًّا : متفرقاً.
قال المؤلف رحمه الله: وقال تعالى: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة.
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ [الواقعة:8-13] ] أي: جماعة كبيرة كثيرة من الأولين.
قال المؤلف رحمه الله: [ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:14]. فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع.
ثم قال تعالى في آخر السورة: فَلَوْلا أي: فهلا، إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ]. أي: إذا غلبت الروح حلق الإنسان، تشبيهاً بالشيء الذي يتغرغر الإنسان به؛ لأنه يردده في حلقه.
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:83-84] أي: وأنتم أصحاب الميت وأقاربه تنظرون إليه ماذا يفعل به، وماذا تستطيعون أن تفعلوا له؟
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] ، قرباً يليق بجلاله وعظمته، قرب علم وإحاطة وقدرة ومراقبة.
قال: وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:85-86] : هلا إن كنتم غير محاسبين.
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87] : ترجعون هذه الروح إن كنتم صادقين أنكم لا تحاسبون على ما تفعلون، وذلك أن من أخذت روحه فإنها تؤخذ رغماً عنه ورغماً عمن حوله، ومن يحبه فهو لا يملك الأمر، فكيف يجزم أنه لا يحاسب؟ فالروح لم يكن يملكها الإنسان ولا كان يملك الجسد، فإذا كان ذلك كذلك كان هذا دليلاً على أنك لا تملك الحياة وإنما هي ملك لله، فسوف تسأل عما تصرفت فيه من ملك غيرك.
فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة:86-88] ، أي أما إن كان المحتضر من المقربين، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة:89] : أي: راح، وَرَيْحَانٌ أي: الطيب، أو ريحان من الجنة. وَجَنَّةُ نَعِيمٍ .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:90-91] أي: فيقال له: سلام لك أنت من أصحاب اليمين.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:92-94].
والنزل: هو ما يعد للضيف فإذا كان هذا نزله كان ما يعد لهم أقبح وأشد، والإنسان إذا توقع خيراً وإذا به يجد شراً يكون ذلك أشد عليه مما لو توقع سوءاً وشراً، والعياذ بالله.
قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] : والإنسان إذا كان مبشراً يتوقع أن يجد خيراً فلو رأى خلافه كانت حسرة عظيمة.
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ [الواقعة:93] : وهو الماء الحار الذي انتهى في حرارته.
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:94] : يصلى في النار ويحرق فيها.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:73-74].
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أي: بينا له السبيل، فمنهم شاكر ومنهم كفور، أو إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ بمعنى: قذف الله عز وجل في قلوبهم إرادة أحد الطريقين، فجعل بعضهم شاكرين، وجعل بعضهم كفاراً، والعياذ بالله.
فالقول الأول: بينا السبيل لكل إنسان وخير بين أن يكفر، وبين أن يشكر.
والقول الثاني: هداية توفيق، وما يقذفه الله عز وجل في قلب العبد، فقد قذف في قلوب المؤمنين إرادة الشكر، ومحبة وطريق الخير، وقذف في قلوب الكفار الكفران والبعد عن طاعة الله.
قال: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا [الإنسان:4]، السلاسل: ما تقيد به الأيدي والأرجل، والأغلال: ما يوضع في الأعناق، والسعير: النار المشتعلة.
قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [الإنسان:5]، قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ : أصحاب اليمين، يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا تمزج من الكافور، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ، أي: عيناً يشرب بها المقربون، يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا : في كل موطن يريدون أن تتفجر منه أنهار الأرض هذا الماء من هذا الشراب العذب الذي يمنع لغيرهم منه، فهم في كل موضع يريدون أن تتفجر ولا يحتاجون إلى الذهاب إلى أماكن معينة لشرب الماء، بل هو حاضر في كل موضع بإرادتهم، إذا فجروه في أي موضع تفجر.
قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، أي: كان شره منتشراً.
وقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، أي: رغم أنهم يحبون ويحتاجون إلا أنهم يطعمون الطعام رغم حبهم له مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ، ويقولون في أنفسهم:
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:9-10] أي: شديداً.
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:11-12] الآيات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7] أي: سجن، كلما ثقل ضاق ولم يطق.
إلى أن قال: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:18-20]، بدل من كتاب، ليس بدلاً من عليين, كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، هو كتاب مرقوم أي: رقم، كتب فيه ما أمر الله عز وجل، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:21]، فهم يشهدون ما في هذا الكتاب العارف بأعمالهم.
إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:22-28].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا: يمزج لأصحاب اليمين مزجاً ويشرب بها المقربون صرفاً، وهو كما قالوا، فإنه تعالى قال: يَشْرَبُ بِهَا ، ولم يقل: يشرب منها؛ لأنه ضمن قوله: يشرب معنى يروى، تقول: ضمنت فعل ما، ما هنا: فعل آخر، ولذلك عداه بآلته، فكلمة يروى: يشرب بها، فكلمة يشرب: ليس معناها: يشربها ويشرب منها، لكن يشرب بها؛ لأنه ضمنها معنى الارتواء، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل: يشربون منها لم يدل على الري، وإذا قيل: يشربون بها كان المعنى: يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صرفاً، بخلاف أصحاب اليمين، فإنها مزجت لهم مزجاً، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان: كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:5-6]، فعباد الله هم: المقربون المذكورون في تلك السورة؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم في الصحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
قال الترمذي: حديث صحيح. وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته) -أي: قطعته- وقال: (ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله) ومثل هذا كثير.
فالأبرار أصحاب اليمين: هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم في المندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات، وأما السابقون المقربون: فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبَّهم الله حباً تاماً كما قال الله تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) يعني: الحب المطلق أي: الكامل، الحب الذي أعلنه بين ملائكته وصار محبوباً من كل وجه، فكذلك كان محبوباً منه تقواه، ومحبوباً منه إحسانه، فالله يحب المحسنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، فهذا مطلق الحب وأما: (حتى أحبه)، فهو الحب الكامل المطلق.
قوله: (كقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] أي: أنعم عليهم الإنعام المطلق التام، وإذا رزق الله كل خلقه، فقد أنعم عليهم.
قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي: الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات، يتقربون بها إلى الله عز وجل، فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفاً كما عملوا صرفاً).
والجزاء من جنس العمل، وهو أنهم لما عملوا لله فقط صرفاً شربوا منها صرفاً، أما في أعمالهم المباحة فقد اتبعوا الذين جعلوا المباحات طاعات، حتى السمع والبصر والملابس والمشي، كل ذلك كان لله، فلما عملوه لله صرفاً صار جزاءهم، أي: أنهم يأخذون الجزاء صرفاً، والمحتجزون بسبب أعمالهم عفا عنهم ليفوزوا برضاء الله، كما يستحضرون النية فيها.
والمقتصدون: كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفاً، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا).
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء في قوله تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:39] يعني: افعل ما شئت فهو أمر مردود إليك، أما العبد الرسول فإنه ينتظر أمر الله في الإعطاء أو عدم الإعطاء، ولا عن المال أصلاً، ولا يريد أن يجمع منه يعني لحظ نفسه شيئاً، ولا ينتقم لنفسه قط، ولا يطالب بحقه قط أما سيدنا سليمان عليه السلام له ذلك، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ملكاً عليه الصلاة والسلام ولم يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13] يعني: تماثيل على غير ذوات الأرواح إن شاء الله، وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] أي: قدور هائلة وكبيرة لا للطعام والشراب، وهذه أحوال الملوك دائماً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يعيش متقشفاً، فكان يأكل كما يأكل العبد الرسول ويتصور بذلك الأكل أنه مع الملوك، وخلفاؤه لم يكونوا ملوكاً، فقد ضربوا أروع الأمثلة في الإيمان والزهد، حتى إن جنودهم قبضوا على رؤوس الأجناد من الدول المجاورة ويدخلون عليهم بلا بواب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
خلاصة الكلام: أن العبد الرسول أعلى قدراً عند الله وأقل في سلطان الدنيا من غيره من المقربين، والأنبياء الملوك أعلى قدراً من المقربين بالإجماع ولا يوجد نزاع بين أن أفضل أولياء الله سبحانه وتعالى هم الأنبياء، وقد فضل الله بعضهم على بعض، والمفضول من الأنبياء أعلى باتفاق المسلمين من كل الأولياء.
ومن ضمن ضلالات ابن عربي أنه قال: إن الولي في درجة فوق النبي ودون الرسول.
فجعل أولاً النبي ثم الولي ثم الرسول في التفضيل، ولكن بإجماع: أن الأولياء دون الأنبياء، والأنبياء أعلى الأولياء قدراً.
قال المؤلف رحمه الله: (ولهذا كان أظهر أقوال العلماء: أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف، ويذكر هذا رواية عن أحمد ، وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة، كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل على ثلاثة، كقول أبي حنيفة رحمه الله، يعني: أن الشافعي وأحمد المشهور عنهما: أنهما يجعلان الخمس لخمسة، كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] والإمام مالك قال: لا، الخمس يصرف في أي واحد من هؤلاء الخمسة، مثل الصدقات، والصدقات تصرف على ثمانية: فتصرف للفقراء وتصرف للمساكين وتصرف للمحتاجين، إذاً: فلا يلزم القسمة بالتساوي فيما بين هذه الأصناف.
والمقصود هنا: أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك، كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين، الذين ليسوا مقربين سابقين، فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه، ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك. أي: السابقين، أصحاب اليمين أقل درجة من المقربين، وأنهم كذلك أبرار بروا في أعمالهم، ولكن المقربين كما ذكرنا أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، ويزاد على ذلك أنهم ما فعلوا المباحات إلا تقرباً منهم إليه سبحانه.
وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية لأحد القولين، وهو إن شاء الله القول الراجح، ومن العلماء: من يجعل قسم أصحاب النار في آخر سورة الواقعة وأولها أنهم: أصحاب المشأمة، وهو الموضع الوحيد الذي ذكر فيه المفرطون من الموحدين، وقال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59] فالذين اصطفاهم الله في البداية لابد أن يكون لهم السلام، وقد قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] إذاً: فالراجح أن هؤلاء في النهاية لا بد أن يكون لهم سلام، وهذا أقرب الأقوال والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن تاب من ذنبه -أي ذنب- كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين، كما في قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136] ].
فالقول الراجح: أن هؤلاء الأصناف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل النار إلا الكفرة وأهل الكبائر، وأما جنات عدن يدخلها السابقون بالخيرات، والمقتصدون في الخيرات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الكبائر، وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره.
فقول المرجئة: إن كل أهل الكبائر لا يخرجون من النار، والراجح قطعاً: خروجهم منها، وهذه أخبار متواترة: أن منهم من يدخل النار ثم يخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره، وهؤلاء بمشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم.
(وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب، كما يقوله من يقوله من المعتزلة؛ لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضاً للتائب فلا تعلق بالمشيئة).
أي: أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن تاب، هذا قول المعتزلة، وهو قول غير صحيح، فإن الشرك إذا تاب منه صاحبه يغفره الله له، فالشرك لا يغفر وما دونه يغفر لمن شاء الله فالآية في غير التائب، وفيها رد واضح على من يكفر من أصر على الكبيرة أو على المعصية، والمصر هو الذي لم يتب من المعصية ويعزم على أن يفعلها، يقولون له: تب إلى الله، فيأتي ويعزم على ألا يتوب إلى أن يموت، على سبيل المثال: يظل قاطع رحمه قاطعاً للرحم إلى أن يموت فهذا مصر، ومعناه: أنه قاطع مطلقاً وتارك لجنس صلة الرحم، تارك لجنس بر الوالدين، وهكذا، وهذا كلام المعتزلة والخوارج والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] ].
فمن تاب من الشرك بالله غفر الله له ذلك الشرك، لكن هذا في حق التائب المعترف بذنبه، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54]، ولكن نص الحديث قال: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فالشرك ذنب عظيم، وهو أعظم الذنوب ويغفره الله بالتوبة ولا يغفره لمن أصر عليه.
قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفره الله له، ففي آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه، كالتعطيل للخالق وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر للبعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفوراً له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة.
وقوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] دليل على أنه يغفر للبعض دون البعض فبطل النفي والعفو العام ].
أي: بطل أننا ننفي المغفرة لأهل الكبائر من الموحدين، وهو قول المعتزلة، وبطل الاعتقاد بالعفو العام لكل المذنبين بما فيهم المشركون والكفرة، على أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وهو قول المرجئة، وهو قول باطل.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [2] للشيخ :
https://audio.islamweb.net