إسلام ويب

الإيمان بالله تبارك وتعالى قسمان: إيمان مجمل وإيمان مفصل، والذي يطلَب من عوام المسلمين: هو أن يؤمنوا بأركان الإيمان إيماناً مجملاً، وهم غير مطالبين بالتفصيل ما دام التفصيل لم يبلغهم بعد، وما بلغهم من ذلك وجب عليهم الإيمان به واعتقاده. وعلى المسلم أن يبحث عن الحق بدليله؛ لكي يعبد الله على بصيرة، وأن يبتعد عن الشبهات قدر المستطاع.

تفاضل الناس في الولاية والعداوة

فال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل: وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق، كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك.

وأصل الإيمان والتقوى: هو الإيمان برسل الله، وجماع ذلك: الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله).

شرط العذاب قيام الحجة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأصل الكفر والنفاق: هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة، قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:163-165]).

وهذا هو الشاهد من هذه الآية مثل التي قبلها: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

قوله (وقال تعالى عن أهل النار: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:8-9].

فأخبر أنه كلما ألقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير).

وعلى هذا فمن لم يأته نذير لم يلق في جهنم، ومن لم يكذب النذير لم يلق في جهنم.

قوله: وقال تعالى في خطابه لإبليس: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:85].

فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه، فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم، فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له، فإنه ممن لم يتبع الشيطان ولم يكن مذنباً، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل).

الإيمان يكون مجملاً ويكون مفصلاً

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل: ومن الناس من يؤمن بالرسل إيماناً عاماً مجملاً، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك، فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه، ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيماناً مجملاً).

يعني: عنده إيمان مجمل يقول: كمل ما جاء به الرسول فأنا أصدق، لكنه لا يعرف كل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يعرف بعضاً ويجهل بعضاً.

قوله: (فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع إيمانه وتقواه، فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة، فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسول وآمن به إيماناً مفصلاً وعمل به، فهو أكمل إيماناً وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلاً ولم يعمل به، وكلاهما ولي الله تعالى).

الشرط في ذلك: أن يكون غير مقصر في طلب العلم، ولو قصر في طلب العلم يكون آثماً، لكن عنده الإيمان المجمل، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبر، ويجب الاتباع فيما أمر به، وهذا هو أصل الإيمان، وكونه يعرف التفصيل بعد ذلك يزداد به إيماناً، وهذه القضية قصرت عنها عقول وقلوب المبتدعة من الخوارج والمعتزلة وجماعة التكفير والتوقف ونحوها؛ ممن رأى وجوب تفاصيل معينة وإقامة الأدلة، والأدلة قامت عنده على وجوب هذه التفاصيل، وهذا حق، أن هذه التفاصيل واجبة، تفاصيل الإيمان بالله وتوحيده وأنواع التوحيد والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لكنه جهل أن الإيمان المجمل يحصل للإنسان، ويوجب أصل الإيمان به، ولا يلزم التفصيل لأصول الإيمان المجمل، فالإيمان المجمل أن يقول: كل ما جاء به الرسول فهو حق وأنا ملتزم به، وكونه يلزمه معرفة تفصيل شيء معين، هذا لو اشترط في ثبوت أصل الإيمان، إذا بلغه صار هذا في حقه لازماً، بحيث لو كذب شيئاً بعد أن بلغه ما جاء به الرسول كفر، وهذا ليس له حد معين، يعني: لن نقول: إن جزءاً من التفصيل هو الذي به يتم أصل الإيمان، وما بعد ذلك هو مثلاً من كمال الإيمان، بل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، يلزم كل مؤمن إذا بلغه أن يصدقه، وأن يعتقد لزومه له، ثم يلزمه بعد ذلك أن يعمل به، لكن أصل الدين يثبت بهذا الإجمال، وأهل البدع لما خالفوا في هذه القضية ترددوا واختلفوا وتناقضوا، فتجدهم يشترطون بعض الأشياء، ولا يشترطون البعض الآخر، مع أن الدليل على وجوب الأمرين واحد، وهذا أصل ضلال الفرق المعاصرة المخالفة في قضايا الإيمان والقدر، وهو الذي جعلهم يقولون: بأن الإيمان المجمل لا يكفي في حصول أصل الإيمان.

المؤمن إيماناً مجملاً لا يلزمه أن يكون مؤمناً إيماناً مفصلاً إن لم يعلم ذلك ولم يبلغه ولم يعرفه

ومعنى قوله لم تقم عليه الحجة: لم يعرفها، لم يعلمها، لم تبلغه، ولو بلغته لآمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو بلغته الصلاة فرضت عليه بإجماع المسلمين شرقاً وغرباً، ويلزمه أن يقر بأن الصلاة فرض، ويعتقد لزوم الصلاة له ويلتزم بها، فإنه يرى نفسه ملزماً بالصلاة، فإذا لم يصلِّ بعد ذلك فإنه لم يعمل في هذه الحالة، يعني: في إقرار تصديق وانقياد ما وقر في القلب، وبعد ذلك عمل بالجوارح، فإذا لم يصل أو لم يزك إذا بلغه، فالخلاف فيه مشهور بين العلماء في تكفير من تركه تكاسلاً، وقول الجمهور: إنه لا يخرج من الملة فيما عدا الأركان الأربعة، فهو متفقون فيما عدا الصلاة والزكاة والصوم والحج على أنه لو ترك شيئاً من العمل لم يخرج بذلك من الملة، وإنما صدق وانقاد بقلبه، وأقر بأن هذا يلزمه، ولكن نحن نتكلم عن الولاية، فمن الممكن أن يكون ولياً لله عز وجل وهو لا يعرف بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يجهل بعض ما جاء به الرسول فلم تقم عليه الحجة به ولم يقصر في طلب العلم، حتى لو كان هذا في أي من مسائل الدين، نقول: أهل البدع عندما حددوا نقاطاً معينة، قالوا: بدون هذه لا يكون مسلماً ابتداء، ولا يكون مؤمناً بأسماء الله عز وجل، وهذه هي نقطة البدعة، ولذلك تناقضوا في هذه المسألة، لأنهم لم يختاروا إلا المعنى هذا، فهم يشترطون ثلاث مسائل: النسك، والولاية، والحكم، ولا يشترطون بقية شروط الإيمان، ولا يقفون عند الحدود التي وقف عندها رسول الله، فلو افترضنا أن الشروط الثلاثة فيها إجمال وتفصيل أيضاً، فإن النسك تشملها عبادة على مذهبه وعلى كلام أهل العلم، فالنسك تشمل: الركوع، والسجود في الصلاة، والصيام، والذبح، والنذر، والحب، والخوف والرجاء، ومن الممكن أن تقسم تقسيمات أخرى، فنقول: هذه النسك عبادات ظاهرة بالقول والعمل، ومن الممكن أن نضع عبادات خاصة بالقلب قسماً مستقلاً مادام التقسيم شرعياً، إذاً: فإنَّ فيه سعة الاطلاع، فمن الممكن أن نجعل الولاية أنواعاً: ولاية إجمال، وتفصيل، وفيها: متابعة وحب ونصرة وطاعة ومعاونة وصداقة، فكل هذه من معاني الموالاة، فهل أنت ستشترط كل تفصيل أو ستشترط الإجمال؟ ولو اشترطت الإجمال فالأحرى بك ألا تقبله فيما هو أعم من ذلك، والأحرى بك ألا تخترع تفصيلاً من عندك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد هذه الثلاث، لكنه فصل غيرها، فقال: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، فلماذا لم تقولوها، ولم تشترطوها؟ فلو أن أحداً يقول: أومن بأسماء الله وصفاته فقط، أو قال إنه يؤمن أن النبي حدد له أسماء الله تسعة وتسعين مثلاً، وصفات الله عز وجل كذا في الكتاب والسنة، فلو أن واحداً قرأها في آية وعرف معناها وكذب بها فإنه سيكون كافراً، والإيمان بالقرآن فيه إجمال وفيه تفصيل، والإيمان بالرسل فيه إجمال وفيه تفصيل؛ فنحن نؤمن بكل رسل الله، ولا نعرف من هؤلاء الرسل إلا خمسة وعشرين، وأكثرهم لا نعرف أسماءهم، ففي قصة داود عليه السلام لا نعرف اسم النبي الذي أرسل طالوت ملكاً في قومه، قال تعالى: قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] فربنا لم يسمهم، قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، والملائكة من أسمائهم المعروفة ثلاثة أو أربعة معروفة، وغير هذه الأسماء لا نعرفها، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فنقول: لو أن شخصاً كذب بجبريل بعد أن بلغته حقيقته فهو كافر، وقد كذب بالقرآن، ولو كذب بالقرآن يكون كافراً، لكن هل يشترط على من يكون مؤمناً إيماناً مجملاً أن يعرف القرآن آية آية نوقفه عليها؟ نقول: لا يشترط ذلك، بل يكفيه الإيمان مجملاً بأن القرآن كلام الله، ويشهد أن محمداً رسول الله، وما دام أنه لم يعرف أن هناك شيء اسمه القرآن، فهو ليس بكافر حتى يبلغه ذلك، فنبدأ في تعليمه أولاً القرآن، فيمكث سنين حتى يتعلم القرآن، ومن الناس من لا يعرف قراءة القرآن، وبالتالي فما تتضمنه الآيات من عقائد وأحكام لا يعرفها من باب أولى؛ لأن آيات القرآن هي الحجة والدليل، فهو لا يعرف الدليل نفسه فضلاً عما تضمنه الدليل، فإذا كان ثبت إيمانه بدون معرفة الدليل نفسه وكان معروفاً أن هناك دليل فلابد أن يثبت إيمانه ولو لم يعرف ما يدل عليه الدليل، أو لم يعرف مضمون الدليل.

وشروط لا إله إلا الله هذه من أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله، لكن في الحقيقة كل أعمال القلوب تدخل في صحة لا إله إلا الله عند الله يوم القيامة، ولكننا لا نستطيع أن نسأل شخصاً ونمتحنه ونقول له: أتشك فيها أم توقن؟ أتعلم تفاصيل معناها أم لا تعلم؟ أتصدق بها بقلبك أم لا يوافق قلبك لسانك؟ فهذه كلها عبادات قلبيه، فنعلمه بوجوبها ونبلغه بانعدام الإيمان بدونها، فلو أنك لا تحب الله سبحانه وتعالى فأنت غير مؤمن، ولو أنك لا تخاف من الله لكنت غير مؤمن، قال تعالى: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فعلينا أن نعرفه بوجوبها، ولكن لن نتعامل معه في الدنيا بناء على ذلك، فهي متعلقة من أجل أن تنفعه في الآخرة عند الله.

شروط لا إله إلا الله لم يحددها الشارع وإنما هي من باب التعليم للناس

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد هذه الشروط ولم يجعلها سبعة، ولم يثبت في الكتاب والسنة زيارتها على سبعة، فمن الممكن أن تجعلها شرطاً واحداً ثمّ تفرع منها باقي الشروط، فالناس يعرفون أن مقتضاها على الإجمال، ولكن لا يعرفونها حقيقة على التفصيل، وأبو طالب يعرف أن كلمة لا إله إلا الله معناها: ألا يعبد إلا الله ولا إله غيره، إذاً: فما كانت آلهة من دونه فيلزم ألا تسمى آلهة، والناس في هذا الزمان يعرفون ذلك، لكن قد لا يعرفون أنهم عندما يتحاكمون مثلاً إلى قانون يخالف الشريعة أن هذا ألوهية، وقد لا يعرفون أنهم عندما يذهبون إلى قبر ولي ويقولون له: أغثنا يا فلان! أو يشكون له شكوى، أو ينذرون له نذراً أن هذا ألوهية، فلو كان هؤلاء يؤاخذون على ذلك من باب الإيمان مفصلاً فإنهم مناقضون للا إله إلا الله في التفصيل الذي فصلوه، ولكنهم إجمالاً يقولون: إنه لا إله إلا الله، ولو قلت لأحدهم: أنت تعبد غير الله، فسيقول لك: أعوذ بالله، أعبد غير الله؟!! ولذلك أقول تصريحاً للذي يقول: إن هناك آلهة غير الله تصح عبادتها من دونه: إنه خارج من الملة ابتداء؛ لأنها مسألة لا يتصور الجهل بها؛ فهو يعلم أنه لا إله إلا الله.

لكن من الممكن أن يكون لا يعرف أن هذه عبادة وأنها بهذا الشكل تكون عبودية، إذاً: فيحتاج أن يعرف التفصيل، وهذه هي النقطة الأساسية التي عملت خللاً كبيراً جداً لدى المتأخرين، فقد فهموا كلام بعض أهل العلم غلطاً، وبالتالي عمموا الحكم على الناس أنهم في هذا الزمان لا يفهمون لا إله إلا الله، وإذا كانوا لا يفهمون لا إله إلا الله فكأنهم لا يقولونها، وكل الفرق الضالة أتيت من هذا الجانب، من جانب قضية الإجمال والتفصيل، ويقولون: إن أبا طالب وأبا جهل يعرفان كلمة لا إله إلا الله، وكانا يقولان: اللات والعزى آلهة، قال تعالى: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، ولم يقولا: إنها إله وسنصرف إليها أنواعاً من العبادات، وكذلك الموجودون في هذا الزمان فهم لا يعرفون أن ما يعملونه عبادة، ولو كانوا يسمونه عبادة لانتهى الموضوع، أي: لو قال: أنا أعبد البدوي أو أعبد الحكام مثلاً لانتهى الموضوع، وخرج من الملة ونقض لا إله إلا الله، ولا يوجد مسلم يجهل هذه القضية، ولا يوجد مسلم يقول: إني لا أعرف أن الرسل جاءت بألا يعبد إلا الله، فلو كان لا يعرف ذلك فهو جاهل، إذاً: نبين له دعوة الرسل؛ وأن كلمة لا إله إلا الله معناها: أنه لا يوجد شيء يعبد غير الله، فلو قال: نعم، أنا مقر بألا يعبد غير الله، ثم يأتي يناقشنا في هذا العمل الذي عمله عند القبر أو في المحكمة، أو في حب الكفرة أو في الاحتفال بأعيادهم، وهل كل هذه موالاة وعبادة أم ليست موالاة؟

إذاً: فهو كافر خرج من الملة، فإذاً: لابد من التفريق بين قضية الإجمال والتفصيل، فالذي يثبت به أصل الدين: هو الإجمال، كما قال شيخ الإسلام: أصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله، وجماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لو أن شخصاً شهد أن محمداً رسول الله ودخل في الإسلام وأخبرناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله، ثم فهم ذلك وقال: أنا ليست على لا إله إلا الله فسيكون خارجاً مرتداً، وهذا افتراض نظري محض؛ إذ كيف يكون عرف أن محمداً رسول الله من غير أن يعرف لا إله إلا الله؟

إنَّ هذا الذي يعبد غير الله إما أن يصرح ويقول: أنا أعبد غير الله، وإما أن يقول: هناك آلهة غير الله، فهذا فيه تناقض صريح، وإما أن يعمل عملاً هو عبادة، ثم يقول: هذه ليست عبادة، فعلينا أن نقيم عليه الحجة على أن هذا العمل عبادة، فإن أصر بعدما أعطيناه الحجة فهو مصر على أن يعبد غير الله، فهو خارج عن الملة؛ لأن الحجة أقيمت عليه، فالتفصيل في ذلك: أنه قال: أنا أصدق بشهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قالوا له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ هناك ملكاً اسمه جبريل جاءه بكتاب، فقال: فأخذوا يبينون له الأدلة من القرآن فقالوا: قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102] ثم قال: لا، حتى لو ظل يقول: محمداً رسول الله، ومصدق أنه رسول الله، ولكنه غير مصدق بأن جبريل جاء بالقرآن، فهو كافر، وإذا قال: إن القرآن حق، هذا إجمال، ثم يأتي إلى التفصيل فيقول: ولكن في المواريث: يجب أن يكون الذكر مثل الأنثى، ولابد أن تأخذ الأنثى مثل الذكر، لأن هذا ظلم وتخلف ورجعية، نقول له: ولكن الله يقول: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فقال: لا أعترف بذلك، وأصر على ما هو عليه، فهو كافر، مع أنه يقول: محمد رسول الله، ومع أنه يقول: لا إله إلا الله والقرآن حق، ولكن بالتفصيل أقيمت عليه الحجة، وكذلك الذي يقول: إن أحكام القطع والرجم أعمال وحشية، نقول له: هذه موجودة في القرآن قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، يقول لك: أنا أعرف، لكن هذا كان في العصور الوسطى، فهذا تخلف ورجعية، فهو بذلك خارج من الملة مرتد، مع أنه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن التفصيل بلغ به ما بلغ، فنقول: لو أقر بهذا التفصيل يكون مسلماً وإذا لم يقر به يكون كافراً؛ لأنه عرف أن القرآن جاء بها، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها، فلو عرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالسواك، ثم قال: إني أستحبث السواك والعياذ بالله فلا بد أن تقام الحجة عليه، ونوضح له الحديث، واللحية كذلك، فمعظم الناس في هذه الأيام لا يعرفون حكم اللحية، فلا نستطيع أن نقيم الحجة عليهم؛ لأن هذا الأمر لم ينتشر ولم يعلم، وقد يشكون في أن الأحاديث التي وردت بتحريم حلق اللحية أحاديث ضعيفة، فلو تواتر لديهم ذلك، فهم مخطئون عندما يقولون: أحاديث ضعيفة في البخاري ومسلم وليست ضعيفة، وليس فيها نقاش مثلاً، ومع ذلك لا نستطيع أن تحكم عليه أنه يكذب القرآن أو يكذب حديثاً؛ لأن الحديث غير متواتر، لكن لو كذب بالصلاة في رمضان وبالحج إلى الكعبة، وبالأحاديث المتواترة في ذلك، فهذا قطعاً غير متأكد بأن هناك فريضة حج، ومن قال بتوزيع الحج على شهور السنة مع إقامة الحجة عليه، فهذا خروج من الملة، فالذين يقولون: لا بد أن يحج الناس في صفر من أجل الزحمة، فهذا في الحقيقة خروج من الملة فعلاً؛ لأن هذا معلوم من الدين بالضرورة، والملايين من المسلمين يعرفون أن الناس يحجون في ذي الحجة، فإذا قيل: إنَّ الحج في غير ذي الحجة وفي غير عرفة، فهو تكذيب للقرآن؛ لأنه أمر متواتر.

ومن يقول: إن الحج هذا عبادات وثنية، وبقايا الجاهلية التي كانت موجودة من قبل، وإن الناس تطوف بأحجار، وتضرب أحجاراً في أحجار وغير ذلك، فإن هذه تصرفات لا يقبلها العقل، مع أن المسلمين بالملايين يعرفون أن الحجر الأسود يقبل، وأن الجمرة ترجم مثلاً، فإن هذه العبادات في الحج متواترة يعرفها الملايين جيلاً بعد جيل، إذاً: فهذا نفس القرآن تماماً، وبالتالي فالإنسان الذي يكذب مثل هذا خارج من الملة.

وقال عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، فهذا محتاج إلى بيان أن هذا الشيء أو ذاك يدخل في ضمن معنى الموالاة؛ لأجل أن يتبين الشخص أن هذا من الموالاة، فلا يقعد يتمدح فيمن يدعي حب الصليب؛ فإن الله عز وجل يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157].

إذاً: نحتاج إلى تفصيل لإقامة الحجة على من يوالي الكفار.

وأما التهنئة فإنها محتملة، لأن التهنئة قد تكون متضمنة للإقرار، وهو لم يصرح بالإقرار بذلك، فإنه عندما يقول لك: هذا عيدهم هم، وأنا أقول لهم مثل آلاف المسلمين؛ لأجل أنهم يهنونا في عيدنا، فهو من باب المجاملة، فلهذا لا نقدر أن نجزم بأن تفصيل العلم في ذلك بلغ كل المسلمين.

والمعلوم من الدين بالضرورة: هو الذي اشترك في معرفته الجاهل والعالم، وأنا أجزم بأن المسلمين يعتقدون أن النصراني كافر، والذي يقول: إنه ليس بكافر، يكون مكذباً للقرآن.

والمعلوم من الدين بالضرورة يتفاوت من زمن لآخر، ومن مكان لآخر، ومن شخص لآخر إذا كان هناك قرينة؛ لأن كلمة (الضرورة) معناها: انتشر علمه، يعني: انتشر علمه وسط المسلمين، فعرفه الخاص والعام، فشرط كلمة: بالضرورة: أن يكون قد انتشر حتى علمه العالم والجاهل.

ونحن نعلم أن الإسلام دين يقول: لا نعبد إلا الله، فهذا العلم جزماً منتشر، فمن صرح بأنه يعبد غير الله فهذا يستثنى من المعلوم من الدين بالضرورة، وما كان الجهل بها يصير المسألة غير معلومة، فتعريف المعلوم من الدين بالضرورة: هو ما انتشر علمه، فلو أنّ مسألة لم تنتشر فإنها لا تكون معلومة من الدين بالضرورة، إذاً: لا بد أن أتوقف فيها.

فمن فهم حكم الله في مسألة بعد أن فصلت له فقد قامت عليه الحجة، وقامت عليه الحجة بالتفصيل هذا، إذاً: فقد لزمه الأمر، ولو ردها لأصبح كافراً.

ولو كان يعتقد صحة عقيدة النصارى في الصليب فإنه لا يعذر؛ لأن قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، لا تحتمل؛ لأن المعلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى تفكير.

وفي التهنئة لو كانت الألفاظ التي هنأهم بها متضمنة الإقرار بهذه العقيدة، فإن هذا الكلام يصبح كفراً مخرجاً من الملة.

والتهنئة من لوازمها: الإقرار، لكن ليس كل لازم بلازم، يعني: من الممكن أن نلزمك حينما تهنئه بأنك تصحح عقيدتهم، ولكنه يقول لك: لا يلزم الكلام هذا؛ فإن الكلام الذي قلته قد حصل عند عشرات وآلاف المسلمين؛ فإنه يعرف فساد عقيدتهم، وهو لم يلتزم اللازم هذا، وليس عنده أن التهنئة يلزم منها الإقرار بهذه العقيدة الفاسدة، ولو التزمها لخرج من الملة، لكنه يقول: إنها مجرد مجاملة.

تصحيح عقائد الكفار كفر مخرج عن الملة

ولقد تكررت هذه المأساة من سنين طويلة، ولكنه من باب المجاملات، وهو لا يلتزم بلوازمها، وأحياناً بعضهم يلتزم بلوازمها ويصحح عقائد الكفار، فالذي يصحح عقائد الكفار، ويصحح أن المسيح صلب، ويصحح أنه من الأموات يخرج من الملة؛ والذي لم يلتزم بهذه اللوازم ويقول: أنا لا أقول: إنهم على حق، ولا أقول: إن اعتقاداتهم صحيحة، ولا أقول: إنَّ الله ثالث ثلاثة، وإنما هنأتهم، فإن تهنئتهم لا تجوز، ويغلظ تحريم التهنئة لهم إذا كانت التهنئة على معصية كالزنا وشرب الخمر وغير ذلك، ويحتمل أن المشاركة في احتفالاتهم أهون من التهنئة، ولكن كل ذلك لا يجوز قطعاً؛ لأن في ذلك موالاة لهم ومعاداة لله ورسوله، وقد يخرج من يفعل هذا من الملة.

تهنئة اليهود والنصارى أشد من الاحتفال معهم

فإن قال قائل: أيهما أشد التهنئة أم الاحتفال؟

فالجواب: التهنئة أشد من الاحتفال من جهة أنها تستلزم التصحيح أو الإقرار بهذه العقيدة الفاسدة، فإن احتفالهم هو مجرد لعب، فإن اليومين الذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية كان لهم فيها سبب، والسبب: أنَّ عيسى مات، وبقي اللعب، فإن من أعيادهم التي لم يعرف سببها: يوم اليهود عند الفراعنة، أو يوم الزينة، أو عيد الربيع، أو يوم القيامة عند النصارى، فلو عملت بحثاً للنظر في هذه الأعياد من أين أتت؟ فإنك لن تصل إلى نتيجة قطعية، هل هي من عند الفراعنة أم من عند النصارى؟ والنصارى هؤلاء هل درسوه فعرفوا السبب فجعلوه عيداً؟ أم أنه أخذ وعطاء ورأيت الناس قد اجتمعوا فاجتمعت معهم؟ فإن أعيادهم ذهاب إلى البحر، وأكل للفطير، وغيره من المأكولات، والأولاد يلعبون، وأصبح الموضوع كله لعباً ولهواً وانتهى الموضوع ومات السبب أياً كان السبب، فإن هذا له ارتباط بالتأكيد بالعقيدة الكافرة عقيدة النصارى، وهؤلاء الناس الذين يشاركونهم في هذه الاحتفالات، الأمر عندهم مجرد لهو ولا يلتزمون اللوازم الكفرية، فهذه قضية تحتمل التفصيل والإجمال، فالتفصيل لا بد فيه من إقامة الحجة، أما الإجمال فلا يجوز مشاركتهم في احتفالاتهم، فلو أن شخصاً قال: اعذروا النصارى أيضاً، فإنَّ اليهود والنصارى كفروا إجمالاً، وكذبوا الرسول إجمالاً، وأشركوا بالله إجمالاً، فقالوا: الله أكثر من إله، أو ثالث ثلاثة، أو كذبوا القرآن إجمالاً، فليس لهم دخل في القرآن، بخلاف عوام المسلمين فإنهم صدقوا إجمالاً، فهؤلاء هم هؤلاء، فالرد على من قال ذلك هو: أن ليس هؤلاء كهؤلاء قطعاً بلا شك، أي: عوام المسلمين ليسوا كعوام الكفار، فالكفار قد زرع في نفوسهم الكفر فهم مكذبون، وقد كذبوا بالحق اتباعاً للباطل، وأما أهل الإيمان فقد وجدوا أهلهم مصدقين فصدقوا اتباعاً للحق، فإنَّ التسوية بين الفريقين ظلم وإهدار لأعظم كلمة جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ألا وهي: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [3] للشيخ :

https://audio.islamweb.net