إسلام ويب

إن الله سبحانه وتعالى قد يكرم أولياءه بخوارق عجيبة؛ لمكانتهم عنده، وإيمانهم بدينه الذي جاءهم به رسوله صلى الله عليه وسلم، فميزوا بين أوامره الشرعية الدينية، وبين أوامره الكونية التي لابد من وقوعها، فسارعوا في امتثال أوامره وإرادته الشرعية، والانتهاء عما نهى عنه منها؛ فبلغوا تلك المنزلة العلية والدرجة المرضية.

تبيين الله في كتابه الفرق بين الكون الذي خلقه والدين الذي شرعه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: وقد بين الله في كتابه الفرق بين الإرادة والأمر والقضاء والإذن والتحريم والبعث والإرسال والكلام والجعل.

وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يرضاه، ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأحبه ورضيه وأحب فاعليه وأثابهم وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه وجنده الغالبين].

هذا الكلام كله في الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية؛ فكون الله يريد أن يوجد شيئاً، ليس معناه أنه يرضاه، أو يحبه، أو لا يعاقب الذي فعله وهو حرام؛ فالكفر وقع من أكثر الناس، والله هو الذي خلقهم، ولكن كون الله خلقهم لا يعني أنه لا يعذبهم، أو أنه لا يسخط عليهم، فهو يسخط الكفر والفسوق والعصيان.

وليس لأحد أن يحتج بإرادة الله أو بأمره سبحانه وتعالى الكوني على ترك الأوامر الشرعية.

ثم قال: [ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه].

هذه من أعظم الفروق المهمة التي لا بد أن يفرق بها بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لأن كثيراً من الناس يعتقد في شخص معين أنه من أولياء الله حتى ولو كفر وأتى الفواحش والمنكرات والعياذ بالله.

وكثير جداً من الناس يظن أن جريان بعض الخوارق للعادات دليل على الولاية وليس كذلك، بل الولي هو ينقاد للأمر الشرعي الديني والإرادة الشرعية الدينية ويموت على ذلك، وأما من يخالف الأمر الشرعي ويموت على ذلك فهو العدو.

حقيقة الإرادة الكونية والإرادة الدينية

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فالإرادة الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية ].

يعني: أنه يقدر خيرها وشرها، والإيمان بالقدر كوني وشرعي، فالله هو الذي قدر وجود الخير وقدر وجود الشر، ولم يقل: إن الشر خارج عن قضاء الله، أو عن قدره، بل إن الشر واقع بقضاء الله، وهو مخلوق من مخلوقاته، فهذا إبليس مخلوق، بل هو شر والعياذ بالله، وهو مصدر فعل الشر في الناس بوسوسته لهم، ومع ذلك فإن الله عز وجل، لا يحب إبليس، ولا أفعاله، ولا من يستجيب لوسوسته.

ثم قال: [ والإرادة الدينية: هي المتضمنة لمحبته ورضاه، المتناولة لما أمر به وجعله شرعاً وديناً، وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح].

يعني: ليست شاملة لكل المخلوقات، بل في الخير فقط؛ لأن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ويحب المتقين والمحسنين.

ثم قال: [ قال الله تعالى في الأولى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] ].

هذه الإرادة الكونية، يعني: إرادة أن يكون هذا مؤمناً وأن يكون هذا كافراً.

قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ .

هذا فيه ترغيب للإنسان بسلوك طريق الهداية

وقوله: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ .

يعني: يشرح بمعنى يجعل الله عز وجل الهداية في قلبه، والإسلام هو شرع الله سبحانه وتعالى.

وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا 3 الأنعام:125].

هذا الجعل كوني، والحرج مثل الشجرة التي تكون محاطة بأشواك من كل جانب فلا يستطاع الوصول إليها، فالحرج: هو الشيء الضيق.

وقوله: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ .

أي: كأنما يكلف الصعود في السماء، أو كأنما يكلف المستحيل، حين يقولون له: اطلع إلى السماء وهو في الأرض، وهو لا يستطيع.

والمؤلف رحمه الله تعالى سيذكر الآن جملة من الآيات في الإرادة الكونية، ومن ثم يذكر الفرق بينها وبين الإرادة الشرعية.

ثم قال: [ وقال نوح عليه السلام لقومه: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34] ].

فهنا يريد الله إغواء الناس ومع ذلك لا يكون هذا منه ظلماً؛ لأن إرادة الإغواء وقعت فيهم من خلال عملهم؛ والله تعالى قد أعطاهم قدرة وعقلاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأعطاهم إرادة، وهم فعلوا بإرادتهم ما يخالف ما جاءت به الرسل، فالحجة قائمة لله عز وجل على عباده، ولم يظلمهم؛ لأنه يتصرف سبحانه وتعالى في ملكه بالحكمة والعدل، فالملك ملكه عز وجل، وليس معنى ذلك أنه يتصرف فيه حتى ولو كان بالظلم والعدوان، حاشاه تعالى أن يظلم نفساً شيئاً، ولا يوجد أحد أرغمه الله وأكرهه على فعل الشر وهو يريد الخير، ولا يوجد شخص وجد يده رفعت وأمسكت زجاجة خمر وصبتها في فمه من غير إرادة منه، ولا يوجد شخص وجد نفسه يسجد للصنم مغصوباً، وأيضاً لا يوجد شخص وجد نفسه يجر غصباً عنه إلى الزنا، ولو كان كذلك لكان غير مكلف، ومعلوم أنه لو اغتصبت امرأة فهي غير آثمة، ولو أن شخصاً وضعوا رأسه غصباً أمام صنم فهو غير آثم؛ بالقيد الذي في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فلا يعاقب على ذلك.

فنقول: إن الله يريد إغوائهم؛ لأنهم أهل شر وفساد، والله تعالى أعلم بالظالمين.

ثم قال: [ وقال تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11] ].

تقول المعتزلة: الله لا يريد إلا الخير. نقول: نعم، لا يريد إلا الخير شرعاً، لكن لا تقل: لا يريد إلا الخير كوناً؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا ، فهؤلاء أراد الله بهم سوءاً.

ثم قال: [ وقال الله تعالى في الثانية، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] ] هذه الإرادة الشرعية، ولو كانت هذه الإرادة كونية، لكان لكانت أمور الدنيا ميسرة وليس فيها عسر وضيق، لكن يريد الله بكم اليسر في الشريعة.

ثم قال: [ وقال في آية الطهارة: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح، قال: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:26-27] ]. هذه إرادة شرعية، ولو كانت هذه إرادة كونية لتاب الناس كلهم بقوله: كُنْ فَيَكُونُ ، وكذلك قوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لو كانت هذه الهداية هداية الخلق التي هي خلق الإرادة في قلوبهم، أي: الإرادة الكونية لاهتدى جميع الناس.

ثم قال: [ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28] ] أي: هذه الشرائع أراد الله منها أن يخفف عنكم.

ثم قال: [ وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، فمن أطاع أمره كان مطهراً قد أذهب عنه الرجس، بخلاف من عصاه.

حقيقة الأمر الكوني والأمر الديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الأمر فقال -في الأمر الكوني-: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].

وقال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50] ].

يعني: لا يقال: كن مرتين، وإنما أمر الله عز وجل واحداً.

وقوله: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ هذا تشبيه؛ لأن أقرب شيء نعرفه لمحة البصر؛ لكن الأمر أسرع منها، كما قال سبحانه:إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

ثم قال: [ وقال تعالى: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24] ].

يعني: أمر الله بإهلاك القرية الظالمة، حيث أتاها أمرنا في وقت من ليل الأرض أو نهارها، وليس ذلك الإهلاك يوم القيامة.

إذاً: فالإرادة الشرعية إرادة من الله، أما قوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ ، فالذي أراد هو الله، وهذه إرادة كونية، أما قوله يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، فهذه أرادة شرعية، فلا يجوز أن تقول لما يريد العبد الهداية: إن الله لا يريد له الهداية.

والإيمان بالقدر أخبرنا الله سبحانه وتعالى به؛ من أجل أن نعلم أن الأمر بيده عز وجل.

إذاً: فإرادة الله الكونية صفة من صفاته، إرادته الشرعية كذلك صفة من صفاته، وهناك نوعان من الكلام، كما سيأتي، فكلمة: (أقيموا الصلاة) وآتوا الزكاة، ليستا مثل: (كن فيكون).

يعني: لو كانت (فأقيموا الصلاة) من جنس (كن فيكون) لأسرع الناس إلى إقامتها مثلما يجري الدم في عروقهم، ولكان الأمر كذلك في رمضان، فلا يقدر أحد أن يأكل في نهاره، وكذا وقت إخراج الزكاة فإذا لم تخرج خرجت بإرادة كن فيكون، وتصل للفقراء تلقائياً، لكن نقول: إن أمر أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، غير: (كن فيكون) وغير وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] وغير: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38] وغير اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [الأعراف:18]، فهذه أوامر كونية لابد من وقوعها وليست شرعية دينية.

ثم قال: [ وأما الأمر الديني، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] ].

قوله: (إن الله يأمر بالعدل) لو كان هذا الأمر كونياً لما كان هناك ظلم في الدنيا أبداً؛ لكن المعنى: أنه شرع العدل وأمر به ولم يجبر الخق عليه، فهو يثيب من فعله، ويعاقب من تركه.

ثم قال: [ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58] ].

الإذن الكوني والديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الإذن: فقال في الكوني -لما ذكر السحر-: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، أي: بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل.

ثم قال المؤلف: وقال في الديني: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] ]. يعني: هذا الشرك الذي وقع كان بإذن الله الكوني، ولم يأذن الله به شرعاً، ولذلك قال الله: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، أي: لم يأذن به الله الإذن الديني.

ثم قال: [ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46] ].

يعني: بإذنه الشرعي، أذن الله لك في الدعوة إليه، وهذا أذن شرعي؛ لأنه متعلق بالإذن في الدعوة والإذن في الإيمان، فهذا فرعون، يريد من الناس أن يستأذنوه في الإيمان فقال: آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف:123]، فالله هو الذي أذن في الإيمان والدعوة شرعاً.

ثم قال: [ وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، فهذا إذن اجتمع فيه أمران، إذن الله الشرعي، وإذنه الكوني.

ثم قال: [ وقال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5] ] يعني: لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع نخل بني النضير من أجل أن يرغمهم على الاستسلام، اعترضوا وقالوا: كيف يأمر محمد بذلك؟!

القضاء الكوني والديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما القضاء فقال في الكوني: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12]، وقال سبحانه: َإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].

وقال في الديني: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، أي أمر، وليس المراد به قدر ذلك، فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع، كقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] ].

وقد جاء في تفسير ابن عربي عند قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، تفسير هذا بالقضاء الكوني، فيكون المعنى: أن كل من عبد شيئاً غير الله يكون عابداً لله، وهذا كفر والعياذ بالله.

ثم قال: [ وقول الخليل عليه السلام لقومه: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:75-77].

وقال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].

وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6]

والآية الأخيرة تعني: البراءة التامة، وليس معنى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] أن يتركوا على ما هم عليه، وإنما المعنى: إنما أنتم كفار بذلك.

ثم قال: [ وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم، ولا تقتضي رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41]، ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] بمعنى قدر، وأن الله سبحانه وتعالى ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفراً.

البعث الكوني والديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما لفظ العبث: فقال تعالى في البعث الكوني: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء:5] ].

يعني: سلط الله تعالى على بني إسرائيل ملكاً جباراً، ولم يكن ذلك إلا بعد كفرهم، فهذا بأس كوني.

وقوله: فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ، أي: خلال المسجد الأقصى الذي بناه يعقوب أو إبراهيم أو إسحاق عليهم السلام، فبيت المقدس بني على التوحيد، وهو خير مسجد في الأرض بعد المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وما تدميره من قبل اليهود بل وما تسلط اليهود على المسلمين؛ إلا لأنهم مفرطون في حق الله تعالى، حتى قام النصارى بوضع الصليب على قبة الصخرة.

قوله: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، يعني لما دخل المسلمون يبت المقدس في عهد عمر لم يتبروه، ولما دخلوه في عهد صلاح الدين رغم النصارى، فإن المسلمين لم يدمروا المسجد الأقصى بل لم يدخلوه إلا معظمين له.

وقوله: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]، هذا من أجل التخفيف عنهم؛ لأن المسلمين لما دخلوا بيت المقدس كان دخولهم رحمة بالنصارى المشركين.

ثم قال: [ وقال في البعث الديني: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].

وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ].

هذا بعث شرعي يعني: بعث الله الرسل برسالة وكلفهم بأن يبلغوا الناس بعبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت.

الإرسال الكوني والديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما لفظ الإرسال: فقال في الإرسال الكوني: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] ]. أي: تجذبهم إلى مخالفة شرع الله تعالى، وتجلبهم إلى الفساد، فهذا الإرسال كوني.

ثم قال: [ وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الفرقان:48]، هذا إرسال كوني.

وقال في الديني: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45]، وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح:1].

وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [المزمل:15]، وقال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75].

الجعل الكوني والديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما لفظ الجعل فقال في الكوني: وَجَعَلْنَاكُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41] ].

وقال في الديني: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وقال: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ [المائدة:103] ].

التحريم الكوني والديني

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما لفظ التحريم، فقال في الكوني: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12] ].

يعني: حرم الله على سيدنا موسى، الإرضاع من غير أمه، وهذا تحريم كوني.

ثم قال: [ وقال: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] .

وقال في الديني: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23].

الكلمات الكونية والدينية

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما لفظ الكلمات فقال في الكلمات الكونية: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [التحريم:12].

وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة كلها، من شر ما خلق، ومن غضبه وعذابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)، وكان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، ومن شر ما خلق في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارق يطرق بخير يا رحمن)، وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، هي التي كون بها الكائنات، ولا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته.

وأما كلماته الدينية، وهي كتبه المنزلة، وما فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار.

وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية، وجعله الديني وإذنه الديني وأمره الديني وإرادته الدينية.

وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فإنه يدخل تحتها جميع خلقه حتى إبليس وجنوده، وجميع الكفار، وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق، والمشيئة من القدرة والقدر له، فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب.

فأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحضور، وصبروا على المقدور، فأحبهم عز وجل وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداءه أولياء الشياطين، وإن كانوا تحت قدرته، فإنه يبغضهم ويمقتهم، ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم ].

موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم هي جماع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيهاً على مجامع الفرق بين أولياء ارحمن وأولياء والشيطان.

وجماع الفرق بينهما: اعتبارهم موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء، وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة، وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد، وأعدائه أهل الغي والضلال والفساد، وبين أوليائه جند الرحمن وأعدائه حزب الشيطان، وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].

وقال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].

وقال في أعدائه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121].

وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].

وقال: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:221-227].

وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:38-74] ].

فإذاً: أولياء الشيطان هم الذين يجادلون الرسل وأتباعهم، فأولياء الشيطان يوحي ويشير بعضهم إلى بعض بالقول المزخرف الباطل ليغر بعضهم بعضاً، فهم الأفاكون الآثمون المكذبون لرسل الله، الذين يقولون على رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاهن أو شاعر، وكذلك الذين يكذبون بالقرآن.

ثم قال: [ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:29-31]، إلى قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:34].

فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين، وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم، اصطفاه، الله تعالى، قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195].

وقال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97].

وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:98-100]، إلى قوله عز وجل: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:102]، فسماه الروح الأمين.

وسماه روح القدس وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]، يعني الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي: مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] أي: إذا أدبر وأقبل الصبح، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:18]، أي: أقبل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير:19]، وهو: جبريل عليه السلام، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:20-21]، أي: مطاع في السماء أمين، ثم قال تعالى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22] ، أي: صاحبكم الذي من الله عليكم به، إذ بعثه إليكم رسولاً من جنسكم، يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8-9].

وقال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] أي: رأى جبريل عليه السلام، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، أي: بمتهم، وفي القراءة الأخرى: ( بضنين ) أي: ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل، كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [التكوير:25].

فتنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطاناً، كما نزه محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً أو كاهناً.

فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر الله به، وينتهون عما نهى وزجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، ويؤيدهم الله بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين ].

الغاية من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وكرامات الأولياء

قال المؤلف رحمه الله: [ وخيار أولياء الله: كراماتهم لحجة في الدين، أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك ].

يعني: هذا أعظم ما يكرم به الإنسان، أن يأتي بكرامة تكون حجة في الدين، أو لحاجة للمسلمين.

ثم قال: [ وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام، وهو لم ينقص، في حديث أم سلمة المشهور، وروى المعسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر في عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفاً، ونبع الماء من بين أصابعه مرات عديدة، حتى كفى الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة، أو خمسمائة، ورده لعين قتادة حين سالت على خده، ورجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها بيده الكريمة فبرأت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلاً، كل منهم حز له قطعة، وجعل منها قطعتين، ثم فضل فضله، وقضى دين عبد الله الذي لليهود وهو ثلاثون وسقاً، قال جابر : فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي له فلم يقبل، فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لـجابر : (جد له فوفاه الثلاثين وسقاً وفضل سبعة عشر وسقاً)، ومثل هذا كثير، قد جمعت نحو ألف معجزة ].

من كرامات الصحابة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداً، مثلما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف، فنزل من السماء مثل الظلة، -سحابة- فيها أمثال السرج -المصابيح- وهي الملائكة نزلت تستمع.

وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين ، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة، أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما، رواه البخاري وغيره.

وقصة الصديق في الصحيحين: (لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون، فأكلوا منها وشبعوا).

و خبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى، وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنب.

وعامر بن فهيرة قتل شهيداً فالتمسوا جسده، فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع، فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، فقال عروة : فيرون أن الملائكة رفعته.

وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة، سمعت حساً على رأسها فرفعته فإذا دلو برشاء أبيض معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.

و سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.

و البراء بن مالك ، كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتدت على المسلمين في الجهاد، فيقولون: يا براء أقسم على ربك، فيقول، يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، فيهزم العدو، فلما كان يوم تستر، قال: أقسمت عليك يا رب، لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيداً.

و خالد بن الوليد حاصر حصناً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم، فشربه ولم يضره ].

وهذا ثبوته فيه نظر، وكل ما تقدم ثابت في الصحيح.

ثم قال:[ وسعد بن أبي وقاص : كان مستجاب الدعوة، ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى، وفتح العراق.

و عمر بن الخطاب لما أرسل جيشاً أمر عليهم رجلاً يسمى: سارية ، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل -يعني الزم الجبل- فقدم رسول الجيش، فسأل، يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله.

ولما عذبت الزنيرة على الإسلام في الله تعالى، فأبت إلا الإسلام، وذهب بصرها، قال المشركون، ما أصاب بصرها اللات والعزى، قالت: كلا والله، فرد الله عليها بصرها.

ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت أنيس لما كذبت عليه فقال: اللهم إن كانت كاذبة، فأعم بصرها واقتلها في أرضها، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.

و العلاء بن الحضرمي : كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم، فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء، ولا يبقى الماء بعدهم فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر، ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سرج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد ].

من كرامات التابعين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وجرى مثل ذلك لـأبي مسلم الخولاني ، الذي ألقي في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مداها، ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً، حتى أدعو الله عز وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة، فقال: اتبعني، فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة، فقال له: أتشهد أني رسول الله، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فأمر بنار، فألقي فيها، فوجدوه قائماً يصلي فيها، فقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، ووضعت له جارية السم في طعامه، فلم يضره، وقد خببت امرأة عليه زوجته، فدعا عليها فعميت، فجاءت وتابت، فدعا لها فرد الله عليها بصرها.

وكان عامر بن عبد قيس ، يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، وما يلقاه من سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسها الأسد، فجاء حتى مس بثيابه الأسد، ثم وضع رجله على عنقه، وقال: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإني أستحي أن أخاف شيئاً غيره، ومرت القافلة، ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة، يعني فلم يقدر الشيطان عليه.

وتغيب الحسن البصري عن الحجاج ، فدخلوا عليه ست مرات، فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه، فخر ميتاً.

وصله بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته، قال: يا بني! خذ سرج الفرس، فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاء مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه، فوقت خلفه دخوله رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زماناً، وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل، فلما سلم قال له: اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير.

وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق فيه غيره.

و رجل من النخع كان له حمار، فمات في الطريق، فقال له أصحابه: هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة، ثم توضأ فأحسن الوضوء، وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه.

ولما مات أويس القرني ، وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبراً محفوراً، فيه لحد في صخرة، فدفنوه فيه وكفونه في تلك الأثواب.

وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يصلي يوماً في شدة الحر، فأظلته غمامة، وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه؛ لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أن يخدمهم.

وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة، فأضاء لهما طرف السوط .

ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره، فأهوى ليأخذها، فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر.

وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئاً، وخرج يمتاز لأهله طعاماً، فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله، ففتحوها فإذا هي حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها، تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً.

وكان عتبة بن الغلام سأل ربه ثلاث خصال: صوتاً حسناً، ودمعاً غزيراً، وطعاماً من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله، فيصيب فيه قوته، ولا يدري من أين يأتيه.

وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج -الشلل النصفي- فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء، فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه، ثم تعود بعده.

وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عياناً ونعرفه في هذا الزمان فكثير.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [7] للشيخ :

https://audio.islamweb.net