إسلام ويب

الرحيل إلى الدار الآخرة لابد منه، ولابد لكل إنسان أن يسكن القبر، وقد أتى الشيخ في هذا الدرس بعدة صور للرحيل المشرق الذي يتمناه كل إنسان مسلم، من تلك الصور: رحيل فاطمة الزهراء .. ورحيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً. ثم حذر من سوء الرحيل وسوء خاتمة المرتحل.

وقفة مع ا لدعوة إلى الله

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، إن دين الله ماض، تقهقر من تقهقر، وانحرف من انحرف، وانقلب من انقلب، وضعف من ضعف، وتشاغل من تشاغل، إنها قافلة ماضية، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة) وهذه الطائفة كما قرر المحققون من أهل العلم، أنها ليست جماعةً معينة، ولا في بلدٍ معين، أو في زمن معين، ولكنهم أتباع الكتاب والسنة، وأتباع السلف الصالح في كل زمانٍ ومكان، فلماذا لا نشرف أنفسنا بالالتحاق والانتساب إلى هذه المسيرة المباركة التي بدأت تاريخها منذ نزل (اقرأ) على نبينا صلى الله عليه وسلم ولم ينته لها تاريخ؛ لأن الحق باقٍ حتى قيام الساعة، بل وبعد قيام الساعة، فإن ذلك دلالةٌ على نصرة الحق وقوة الحق وظهور الحق على من خالفه.

أيها الأحبة في الله .. أدعوكم ونفسي مرةً ومراراً، وسراً وجهاراً، وعوداً وتكراراً أن يحاسب كل واحدٍ منا نفسه، ماذا قدمنا لهذه الدعوة؟ أليس الناس من حولنا وما بيننا وبينهم شيء، فما الذي كلَّ بألسنتنا عن دعوتهم؟ ألسنا نصرف الريالات والعشرات والمئات والآلاف في شهوات أنفسنا، وملذات ذواتنا، فلماذا إذا ذُكرنا بشراء شريطٍ لنهديه، أو كتابٍ لنقدمه دعوةً وحسبةً إلى الله أصبح الثمن غالياً، وأصبح الأمر شديداً وعلى النفس عظيماً، ولما كان في لذة النفس كان أسهل ما يكون؟ إننا نريد أن نكون من أولئك الذين ينفع الله بهم مباركين أينما كانوا.

في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) فنحن نرى اليوم المئات لا تكاد تجد فيهم من يحتسب، ومن يمضي، ومن يدعو، حتى هذا المتحدث أمامكم أول من تشاغل بنفسه وبخاصة أمره عن دعوة ربه، ووالله إنا نقف وإياكم هذا الموقف مقرين بالذنوب، معترفين بالخطأ، مراجعين لأنفسنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نعوذ بك من غفلتنا عن دعوتنا، نعوذ بك من انشغالنا بأمر أنفسنا واشتغالنا عن ديننا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بنعمك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

الرحيل مصير لا بد منه

أعود إلى حديثنا أيها الأحبة! فالحديث نداء قبل الرحيل، وقبل النداء ما سمعناه.

ثم -أيها الأحبة- إن مما يدعو إلى الحديث في هذا الأمر: أنك إذا رأيت شيخاً كبيراً قد احدودب ظهره وعشي بصره، فاعلم أنه كان يوماً من الأيام شاباً جلداً نشيطاً قوياً، يرفع الصخر الثقيل، ويتحمل الحمل العظيم، ويمشي المسافات الطويلة، ويكابد المشقة العظيمة، ولكن جلده الليل والنهار بسياط الغروب والإشراق حتى أحدب ظهره وأعشى بصره، وجعله لا يعتمد على قدميه، أضعف بدنه، فانقلبت حاله بعد الصحة سقماً، وانقلب أمره بعد القوة ضعفاً.

وإذا رأيتِ -أيتها الأخت المسلمة- عجوزاً قد ذبل خداها، وقد ذبل جنباها، فاعلمي أنها كانت يوماً من الأيام واحدةً من الصبايا التي ربما تغنى الشباب بجمالها، واشتاق العشاق لوصالها، ولكن جَلَدَها الليل والنهار، ومضت عليها السنون والشهور والأعوام حتى صيَّرت حالها إلى ما ترين.

فيا معاشر الشباب: ويا معاشر الأخوات! إذا رأينا شيخاً كبيراً أو عجوزاً كبيرة، فلنعلم أن مآلنا رحيلٌ إلى حالهم، أو رحيلٌ عن الدنيا، فإن تركنا الموت ما تركنا الكبر، إن تركنا الموت ما تركنا السقم، إن تركنا الموت ما تركنا المرض، إن تركنا الموت ما تركنا الضعف، إن تركنا الموت ما تركنا الفراق، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وصححه الحاكم وغيره: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) أعيد هذا الحديث العظيم الجليل، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فلا بد من الموت مهما عاش الإنسان مائة أو أقل أو أكثر.

سئل الأعشى ميمون بن قيس وقد جاوز المائة ونيف عليها، فقالوا له: كيف وجدت الحياة؟ فقال:

المرء يفرح بالحياة>>>>>وطول عيشٍ قد يضره

تفنى بشاشته ويبقـى>>>>>بعد حلو العيش مره

وتسوؤه الأيام حتـى>>>>>ما يرى شيئاً يسره

كم شامتٍ بي إذ هلكت>>>>>وقائل لله دره

هذه الأيام ماضية، عش ما شئت، مهما طال بك الزمن أو قصر فإن المنايا لا تعرف صغاراً دون كبار، ولا كباراً دون كهول، ولا كهولاً دون أطفال، ولا تعرف المنايا لأحدٍ إلا ما حدد الله لها وآجالاً كتبها الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ>>>>>وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر

وكم من عروسٍ زينوها لزوجها>>>>>وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري

وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهـم>>>>>وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

تزود من التقوى فإنك لا تدري>>>>>إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر

الرحيل .. الرحيل .. إذا غربت الشمس، فإنها تقول: الرحيل الرحيل، وإذا يبس النبات فإنه يقول: الرحيل الرحيل، وإذا مرض البدن، فإنه يقول: الرحيل الرحيل، وإذا أفلس التاجر، فإن ذاك يقول له: الرحيل الرحيل، وإذا انتهى الأمر فإنه يقول لك: الرحيل الرحيل.

إذا تم شيءٌ بدا نقصه>>>>>ترقب زوالاً إذا قيل تم

توقى البدور النقص وهي أهلةٌ>>>>>ويدركها النقصان وهي كوامل

فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً>>>>>فعند التناهي يقصر المتطاول

الرحيل الرحيل، قد نودي بها صلى الله عليه وسلم، فقال له ربه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

الرحيل الرحيل، نودي بها المؤمنون: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].

الرحيل! الرحيل، نوديت بها الأمة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

الرحيل الرحيل يا عباد الله! فإن هذه الدنيا قد آذنت بصرمٍ وولت حذاءَ ولم يبق فيها إلا صبابةٌ يتصابها صاحبها، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الدنيا قد أدبرت وإن الآخرة قد أقبلت، إن الدنيا فانية مدبرة وإن الآخرة باقية مقبلة.

أيها الأحبة: حديثنا عن الرحيل لا فائدة منه إذا كنا سنستمع لحظة أو نخشع لحظة أو ننكسر لحظة، ثم نعود إلى شهواتنا وملذاتنا ومعاصينا، نقارف المعصية كأننا ما سمعنا خطباً على المنابر، كأننا ما سمعنا مواعظ، كأننا ما قرأنا كلام الله، ولا سمعنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحديث عن الرحيل -أيها الأحبة- أمرٌ للاستعداد ودعوة للاستعداد، وهل ينفع أن تتحدث الصحف والمجلات والإذاعات والإعلام، هل ينفع أن يتحدث الإعلام مثلاً قائلاً: سيرد على منطقة معينة وباءٌ ومرضٌ معدٍ، ثم يتحدث الناس، ويتناقلون أنباء الوباء، ولا يستعدون للوقاية دونه، ولا يستعدون للاحتياطات من أن يصيبهم شره وبلاؤه، يكون الكلام عن الوباء دون الاستعداد لمقاومته ضربٌ من العبث ولونٌ من الهوس، لكن إذا كان الكلام عن الوباء يعقبه استعدادٌ لمواجهته، فحينئذٍ يكون الكلام نافعاً ومجدياً، وكذلكم الحديث عن الرحيل إذا كان الكلام من أجل أن نستعد فحينئذٍ يكون -بإذن الله- نافعاً يؤثر على هذه النفوس، لا بد من الرحيل.

أين نمرود وكنعان ومن>>>>>ملك الأرض وولى وعزل

لا بد من الرحيل، أين الأُلى الذين سادوا وشادوا؟ أين شداد وإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ هلك الأمويون فهل أنتم باقون؟ هلك العباسيون فهل أنتم باقون؟ هلك العثمانيون فهل أنتم باقون؟ كل أمةٍ مضت.

يبقى الثناء وتذهب الأمـوال>>>>>ولكل عصرٍ دولةٌ ورجال

لكل زمانٍ أهله ورجاله.

القبر مسكنٌ لكل حي

أيها الأحبة: ما دام من قبلنا قد مضوا وكانوا أشد منا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10] إن أمماً سبقتنا ومضت قبلنا كانت هي أقوى وأغنى منا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13] أيستعصي على الله شيء؟ أيقف في وجه الله شيء؟ أيعترض قدر الله شيء؟ أيصد أمر الله شيء؟ إن أمر الله ماضٍ لا محالة.

فهذا أيها الأحبة! أمرٌ ونداءٌ واستعداد لهذا الرحيل، فقد مضى قبلنا الأثرياء والملوك والرؤساء، والكبراء والأمراء والوزراء، والفقراء والصعاليك والمساكين، فانتهوا إلى تلك الدار، لا يستوي في شأن القبر واللحد:

إن حله داهيةٌ أو أبلهٌ أو معسرٌ>>>>>أو من له ملكٌ كملك تبع

فكل يرد على هذا القبر، وحينئذٍ يتساوى الملوك والعامة، ويتساوى الفقراء والأغنياء، والصعاليك والأثرياء، كلهم تحت الثرى، وكلهم في اللحود، وكلهم ينخرهم الدود إلا من أذن له الله برحمةٍ وعنايةٍ وحفظٍ وكرامةٍ تعجل له كرامته في البرزخ لينظر بعدها إلى كرامةٍ أعز وأعظم من ذلك.

أليس الأغنياء لا يأذنون بدخول أحدٍ عليهم إلا بحجُاب وبواب، فأين هم من القطط والكلاب ربضت على قبورهم وبالت على لحودهم دون حاجبٍ ولا مستأذن، ما الذي صيَّر حالهم إلى ذلك؟ إنه الرحيل، إنه الزوال، إنه الفناء، فمن عاش في هذه الدنيا وهو ينظر أنه سيستمر في هذا الضوء ناسياً أن اللحد المظلم ينتظره، فذاك جاهلٌ أحمق، ومن عاش في الدنيا يظن أنه سيتقلب دائماً في السعة ناسياً ضيق القبر، فذاك جاهلٌ أو متجاهل، ومن مضى في هذه الدنيا مستأنساً بهذا الأنس ظاناً أن ذلك سيدوم عليه، ناسياً وحشة القبر وخلوته وانفراده، ناسياً أول ليلةٍ في القبر، وأول وحشةٍ يجدها، وأول ترابٍ يهال على وجهه، وأول حجرٍ يسقط على صدره وبطنه، والناس يحثون عليه الترب في لحده، فذاك غافل.

إذا أردت أن تعصي الله فاذكر ذلك الموقف، وتذكر الرحيل، وإذا أردت أن تقعد عن الصلاة مع الجماعة، فاذكر ذلك الموقف وتذكر الرحيل، وإذا زينت لك نفسك أن تمنع الزكاة فتذكر الرحيل، وإذا دعتك شهوتك إلى الوقوع في الزنا فتذكر الرحيل، وإذا دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى المتاجرة بالربا فتذكر الرحيل، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) الموت الموت يا عباد الله! ما ذكر في قليلٍ إلا كثره، ولا في كثيرٍ إلا قلله، ولا في بعيدٍ إلا قربه، ولا في قريبٍ إلا بعده، ولا في حبيبٍ إلا فرقه، ولا في لذيذٍ إلا جعله مراً، لا بد أن نتذكر هذا الأمر؛ لأننا قادمون عليه.

إن طائفةً من الناس إذا حدثتهم عن الرحيل، قالوا: ما أسوأ حديثك، ما أشأم حديثك! لا تكلمنا إلا عن المقابر وعن الموت وعن الرحيل، وعن الدود وعن اللحود، هلا حدَّثتنا باللذة؟ هلا حدَّثتنا بالبقاء؟ هلا حدَّثتنا بالأنس؟ صديقك من صدَقك لا من صدَّقك، ولأن تصحب من يخوفك حتى تبلغ مأمنك خيرٌ من أن تصحب من يؤمنك حتى يجعلك في دار المخافة، فلا بد من الرحيل أيها الأحبة.

إننا نفجع بأحبابنا وسنفجع يوماً من الأيام بأنفسنا، ستحمل على نعشٍ والناس يتحدثون وأنت محمولٌ على هذا النعش، فحدث نفسك الآن ماذا تقول لك نفسك والغاسل يغسلك؟ وماذا تقول لك نفسك والغاسل يكفنك؟ ماذا تقول نفسك إذا قدموك في المحراب يصلون عليك؟ ماذا تقول لك نفسك والناس يحملونك على أكتافهم؟ ماذا تقول نفسك وقد دخلت بوابة المقبرة؟ ماذا تقول نفسك وقد أسندوك يبحثون عن قبرٍ مناسبٍ لطولك وعرضك؟ ماذا تقول لنفسك إذا سَلوك في القبر سلاً؟ ماذا تقول لك نفسك إذا أهيل عليك التراب، وأخذوا يحثونه حثواً؟

لابد من الاستعداد للرحيل

أيها الأحبة: لا بد أن نستعد، فهذا حديث جبريل العظيم الذي يقول فيه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه) أحبب زوجتك فلابد أن تفارقك أو تفارقها، أحبب مالك فإنك تفارقه أو يفارقك، أحبب وظيفتك فإنك إما تعزل عنها أو تتركها أو تتقاعد منها، أحبب من شئت من ولدٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو منصب أو قريبٍ أو حبيب فلابد من الفراق، وستكون أحوالنا في هذه الدنيا كالأحلام.

مرت سنون بالوصال وبالهـنا>>>>>فكأنها من قصرها أيامٌ

ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها>>>>>فكأنها من طولها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها>>>>>فكأنها وكأنهم أحلام

والله كأنها أحلام، الواحد منا يتذكر الآن وهو يحمل بحقيبته في السنة الأولى الابتدائية، ويتذكر نفسه وهو يركض بشهادته قد نجح من الرابعة الابتدائية، ويتذكر سنين الطفولة، كيف جلدنا الليل والنهار، ومضى علينا:

منع البقاء تقلب الشمس>>>>>وخروجها من حيث لا تمسي

وبزوغها صفراء صافية>>>>>ومغيبها حمراء كالورس

هذا الذي قلَّب الليل والنهار، هو الذي قلَّب أحوالنا، فجعلنا ننتهي إلى ذلك.

(وأحبب من شئت فإنك مفارقه) إلا عملك الصالح: (يموت ابن آدم فيتبعه ثلاثة: ماله وعمله وولده، فيرجع اثنان، يرجع ماله وولده ويبقى عمله) هل سمعتم أن شباباً أو رجالاً، أو ذكوراً وإناثاً جاءوا إلى العلماء فقالوا: إن أبانا صام خمسين رمضاناً، فاقسم هذا الصيام علينا؟ ذاك عمله ولا يدخل معه فيه أحد، أما المال فاقسموه فيما بينكم.

هل سمعتم أن رجالاً ونساءً جاءوا إلى القضاة والعلماء فقالوا: حج أبونا عشرين أو ثلاثين حجة فاقسموا يا أيها العلماء هذا الحج وهذا الاستغفار، وهذه التلاوة، وهذه القراءة، وهذه العبادة، اقسموها علينا، هذا لا يمكن أبداً؛ لأن ذلك عمل، والعمل لصاحبه، أما المال فيقسم بينكم، وأما الولد فيعودونه، فمن ترك ولداً صالحاً فهو من عمله، ومن ترك ولداً ضيعه وأهمله وأسند تربيته إلى الشاشة والأفلام، وأسند تربيته إلى المربيات والخادمات، وأسند تربيته إلى جلساء السوء وإلى قرناء الشارع ليتعلم الألفاظ البذيئة والكلمات التي لا تليق، فحينئذٍ لا يسره أن يكون هذا من عمله أبداً.

إذاً فالرحيل لا بد منه أيها الأحبة، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف صحيح البخاري أصح كتابٍ بعد كلام الله عز وجل كما أجمعت الأمة، كان جالساً في حلقة درسه والطلاب من حوله يستمعون، فجاءه نعي أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاحب السنن فأطرق البخاري ، ثم نشج ثم بكى حتى انحدر دمعه وبل خده، وسال على لحيته، فرفع رأسه وهو يقول:

إن تبق تفجع بالأحبة كلهـم>>>>>وفناء نفسك لا أبا لك أفجع

فهذا شأننا إن كنا أحياءً فيفجعنا موت أحبابنا، موت آبائنا، موت أمهاتنا، موت إخواننا وأخواتنا، موت علمائنا، موت دعاتنا، موت رجالنا، موت المجاهدين فينا، موت الثابتين الصابرين منا:

إن تبق تفجع بالأحبة كلهـم>>>>>وفناء نفسك لا أبا لك أفجع

فهذه الدنيا يفجع فيها الإنسان وليست بدار لذةٍ أو غفلةٍ دائمة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] لذا قال صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر آخذاً بمنكبه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) تذكر الرحيل.

إن الله عز وجل قد بيَّن أن هذه الدنيا بما فيها كلها متاع، اسألوا أنفسكم لو جاء مسافرٌ إلى موظف الخطوط مثلاً، أو موظف سكة الحديد مثلاً، أو موظفٍ مسئولٍ عن السفر، فقال الموظف لهذا المسافر: أين متاعك؟ ما تظنون المتاع الذي سوف يأتي به هذا المسافر؟ حقيبةٌ صغيرة وثيابٌ قليلة، وأمورٌ يسيرة جداً، ثم يضعها على الميزان ويقول: هذا متاعي، لم يأتِ أحدٌ ببيته ليقول: هذا متاع سفري، ولم يأتِ أحدٌ بسيارته ليقول: هذا متاع سفره، ولم يأتِ بكل أمواله ليقول: هذا متاع سفري، إنما المتاع بلغةٌ من أجل البلاغ والوصول، اسمعوا قول الله عز وجل:

وإن كلام الله أوثق شافعٍ>>>>>وأغنى غناءٍ واهباً متفضلاً

وهذا زمان الصبر من لك بالتي>>>>>كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا

ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت>>>>>سحائبها بالدمع ليناً وهطلا

ولكنها عن قسوة القلب قحطها>>>>>فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا

اسمعوا كلام الله، إن أجمل الكلام كلام الله! إن أطيب الكلام كلام الله! إن ألذ الكلام كلام الله! يأتي الواحد يريد أن يلقي محاضرةً جمع فيها من الكتب فيسمع آيةً من كلام الله تنسف وتعصف كل ما جمعه، أبلغ من هذا كله، وأجمل من هذا كله، وأثمن من هذا كله، فسبحان من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيلٌ من حكيمٍ حميد! سبحان من كلامه لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً!

أيها الأحبة: يقول الله عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] كل ذلك.. ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [آل عمران:14-15] الجنة خيرٌ من هذا كله، النعيم المقيم خيرٌ من كل ما نتقلب فيه، ولو أُوتينا ألذ الملذات وأطيب الطيبات.

في الذاهبين الأوليـن>>>>>من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً>>>>>للقوم ليس لها مصادر

أيقنت أني لا مـحالة>>>>>حيث صار القوم صائر

إذا تأملنا ذلك كله، فإن ذلك أيها الأحبة! يذكرنا برحيلٍ لا بد منه.

صور من الرحيل المشرق

والآن أريد أن أعرض عليكم صوراً من رحيل مشرقة، ثم ربما نتطرق إلى بعض صور الرحيل الخطرة، صور الرحيل المخزية، صور الرحيل الموجعة المفجعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا إسماعيل عن يونس عن الحسن عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، فقالت عائشة: يا رسول الله! كراهية لقاء الله أن نكره الموت، فوالله إنا لنكرهه، فقال: لا. ليس بذاك، ولكن المؤمن إذا قضى الله عز وجل قبضه، فرج الله له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل وكرامته، فيموت حين يموت وهو يحب لقاء الله، وإن الكافر والمنافق إذا قضى الله عز وجل قبضه، فرج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه، فيموت حين يموت وهو يكره لقاء الله، والله يكره لقاءه) هذه مقدمة لمن يحب الرحيل، لمن يستعد للرحيل محباً للقاء الله عز وجل، فإن الله يحب لقاءه، حينما يحب العبد هذا اللقاء؛ لأنه يبشر بروحٍ وريحانٍ، وربٍ راضٍ غير غضبان.

رحيل فاطمة بنت رسول الله

روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو النظر، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن أمه سلمى قالت: [اشتكت فاطمة -هذه صورةٌ فيها عبرة عظيمة وفيها حث وتشجيع على الاستعداد واليقين والتهيؤ للرحيل الجميل، وما أخص به الأخوات والنساء، وأخص به في ذلك الزوجات والبنات، الأخوات والأمهات، هذه امرأة صحابية ابنة رسول الله، زوجة صاحب رسول الله، زوجة أحد الخلفاء- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكت شكواها التي قبضت فيها، تقول سلمى : فكنت أُمرضها، فأصبحت فاطمة يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وخرج علي بن أبي طالب لبعض حاجته، فقالت فاطمة لـسلمى : يا أمه! اسكبي لي غسلاً، قالت: فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت: يا أمه! أعطيني ثيابي الجدد، فأعطيتها، فلبستها، ثم قالت فاطمة : يا أمه! قدمي لي فراشي وسط البيت، قالت: ففعلت، ثم اضطجعت على الفراش واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها ثم قالت: يا أمه! -يعني: يا أماه- إني مقبوضة الآن، إني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحدٌ فقبضت مكانها، قالت: فجاء علي فأخبرته بذلك].

الله أكبر! انظروا كيف يستعدون للقاء الله، يتطيبون للرحيل، يلبسون الثياب الجميلة للرحيل، يعدون الغسل الطيب للرحيل، يستقبلون القبلة للرحيل، يضطجعون السنة للرحيل. الله أكبر! ما أعظم هذه النفوس.

رحيل أبي بكر الصديق

رحيل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والحق أن نتحدث قبله عن رحيل محمد صلى الله عليه وسلم:

لو كانت الأعمار تبقى لواحدٍ>>>>>رأيت رسول الله حياً مخلداً

ولكن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قضيةٌ كاملة، مسألة كاملة، فصولٍ كاملة، أمورٌ كاملة، موعظة تامة، لا يسعها أن نضمنها وسط هذه الكلمة أو المحاضرة، ولعل الله أن ييسر بلقاءٍ نسمع منكم أو نستمع من أحد إخواننا كلاماً عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها من العبر، ومن أجمل السير، ومن أجل الخبر ما يتدكدك له الصخر.

هذا أبو بكر الصديق ، صورةٌ من رحيله رضوان الله عليه: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان ذلك اليوم شديد البرودة، فأصابت أبا بكر الحمى، فحمي خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان أبو بكر يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، والناس يدخلون على خليفتهم وإمامهم، يدخلون على صاحب رسول الله، يدخلون على خليفة رسول الله، يعودونه في مرضه، وهو في كل يومٍ أثقل من الذي قبله، فلما اشتد به الأمر قال لـعائشة وقد كانت تمرضه مرض موته: [أي يومٍ هذا يا عائشة؟! قالت: يوم الإثنين، قال: فأي يومٍ قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -الله أكبر يريد السنة حتى في الوفاة، حتى في اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم- قال: في أي يومٍ قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: قبض يوم الإثنين، قال: فإني أرجو ما بيني وبين الليل- يعني: لا أدري لعلي ألقى الله، أو أرجو أن ألقى الله في هذا اليوم فأموت في اليوم الذي مات فيه حبيبـي وصاحبي صلى الله عليه وسلم- وعندما اقترب موته رضي الله عنه دعا أبو بكر رضي الله عنه عائشة الحَصَان الرزان أم المؤمنين رضي الله عنها، فأوصاها قائلاً: يا بنية! إنا وُلينا أمر المسلمين فلم نأخذ ديناراً ولا درهماً، ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليلاً ولا كثيراً إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا متُ فابعثي بها إلى عمر، وانظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبغ فيها، والقطيفة التي كنا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت -يا عائشة- فردي كل ذلك إلى عمر ] فلما مات أبو بكر أرسلت عائشة ما عندهم من مالٍ ومتاع إلى عمر، فلما رأى عمر بن الخطاب ذلك كله انفجر باكياً وأخضل الدمع لحيته، وقال: رحمك الله يا أبا بكر ! رحمك الله يا أبا بكر ! رحمك الله يا أبا بكر ! لقد أتعبت من جاء بعدك، وكانت عائشة رضي الله عنها عند رأس أبيها أبي بكر رضي الله عنه وهو يحتضر وتتمثل بهذا البيت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى>>>>>إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي هكذا يا بنية! ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ثم قال أبو بكر: إذا أنا مت فاغسلي أخلاقي -يعني: ثيابي الخلقة- فاجعليها أكفاناً لي، فقالت عائشة: يا أبتاه! قد رزق الله وأحسن وأعطى خيراً، نكفنك بجديد، فقال: إن الحي أحوج إلى هذا مني، يصون نفسه، إن الحي أحوج من الميت، إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى.

وتوفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ عمره عمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ودفن جوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ما أجمل هذا الرحيل! وما أجمل هذا الفراق! وما أجمل هذا الإعداد! وما أطيب هذا الاستعداد! نفوسٌ أيقنت بالموت فاستعدت له.

رحيل عمر بن الخطاب

هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحيلٌ في عبادة .. رحيلٌ في صلاة .. رحيلٌ في سجودٍ وخشوعٍ وركوع، لما طعن عمر رضي الله عنه في صلاة الفجر وهو يؤم المسلمين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي حمل عمر رضي الله عنه إلى داره، فقال: الصلاة -نعم. لا حظ لامرئٍ في الإسلام أضاع الصلاة، فصلى والجرح يثعب دماً، فجاء الصحابة بطبيبٍ يداويه، فسقاه لبناً فخرج اللبن أبيضاً من جرحه، فقال الطبيب: لا أراك إلا مودعاً، فأوصِ إن كنت موصياً، وافعل ما كنت فاعلاً، فقالت أم كلثوم: وا عمراه، وكان معها نسوةً فبكين معها، وارتج البيت بكاءً، فقال عمر: والله لـو أن لـي مــا عـلى الأرض مـن شـيء لافتديت به من هول المطلع.

رحيلٌ في الصلاة، ومع ذلك يخشى من هول المطلع، ومن سوء المفزع، ومن عاقبة الأمر، يخشى من إقباله على الله، وهو عمر الذي بشر بالجنة، عمر الذي ما سلك وادياً إلا سلك الشيطان وادياً آخر، عمر الذي فتح الله به البلدان، ومصر به الأمصار، ونشر به الإسلام، عمر الذي نزل القرآن والوحي موافقاً لقوله ولرأيه، يقول: [والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع]، فكان عمر وهو يحتضر ينادي ولده عبد الله، فقال: [ادن يا عبد الله! اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل: عمر بن الخطاب يقرأ عليك السلام، ولا تقولن: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير، يقول: قل لها: عمر يستأذن ولا تقل له: أمير المؤمنين يستأذن، قال: ثم سلها أن أدفن مع صاحبيَّ -يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر - قالت عائشة: رضي الله عنها لما جاءها عبد الله بن عمر فطرق الباب ودخل عليها، فقال: يا أم المؤمنين! يا أمه! إن عمر بن الخطاب يقرئك السلام، ويقول: إن أذنت لي أدفن مع صاحبيَّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أريده لنفسي -كانت تريد أن تدفن بجوار زوجها، بجوار نبيها، بجوار حبيبها، بجوار أبيها، ولكن هذا هو الإيثار، ولكن هذا هو الكرم، ولكن هذا الإيمان العظيم الذي جعلها تعرف مكانة عمر في دين الإسلام، وتعرف مكانة عمر من رسول الله، وتعرف مكانة عمر من أبيها أبي بكر الصديق - قالت: كنت أريده لنفسي، فوالله لأؤاثرن ابن الخطاب اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله بن عمر راجعاً إلى أبيه عمر ، قال له عمر : ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر : ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع] حي ذاك المضطجع، وحي ذاك المكان، وحي تلك التربة التي ضمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمت صاحبه أبا بكر ، وضمت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ما أطهرها وما أطيبها! إلا أنها لا تنفعنا من دون الله، ولا تدفع عنا شيئاً من دون الله، ولا تدفع قدراً من أقدار الله، لكننا نحب ذاك التراب، ونحب أجساداً طيبةً طاهرةً عطرةً من أهل الجنة في ذاك التراب، لكننا لا نعتقد أنها تفرج الكربات، أو تفرج النكبات، أو تجيب الملهوفين، أو تسمع الإغاثات، فذلك توحيدنا الذي أمرنا به حبيبنا، وبقي عليه خليفة رسولنا، وثبت عليه الخلفاء والأئمة بعده.

قال عمر: [ما كان شيءٌ أهم إليَّ من ذلك المضطجع، فإذا قبضت فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب -مرة أخرى- فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين] ردوني إلى مقابر المسلمين، يقولها عمر الذي كسر كسرى وقصم قيصر بأمر الله والجهاد، يقول: [إن أذنت فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين].

فولج شابٌ من الأنصار وهذه صورة:

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر>>>>>ضل قومٌ ليس يدرون الخبر

صورةٌ عظيمة، صورة جليلة، صورةٌ للدعوة، صورةٌ للحسبة، صورةٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عمر بن الخطاب يدعو وينصح ويحتسب ويأمر وينهى وهو على فراش الموت:

ولج عليه شابٌ من الأنصار، فقال الشاب: [أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك، لقد كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت فعدلت، ثم شهادةٌ في سبيل الله بعد هذا كله، فقال عمر رضي الله عنه: ليتني -يا بن أخي- أرد على الله كفافاً لا عليَّ ولا ليَّ، فلما أدبر الفتى نظر عمر إلى ثوبه، فرأى إسبالاً في ثوبه، فقال: ردوه عليَّ، فلما عاد، قال عمر بن الخطاب : يا بني! ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك].

وعند خروج روح عمر رضي الله عنه كان رأسه في حجر ولده عبد الله بن عمر، فقال عمر: [ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله بن عمر: يا أبتِ! وهل فخدي والأرض إلا سواء، فقال عمر : ويل عمر إن لم يرحمه ربه، ضع خدي على الأرض لا أم لك في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه رضي الله عنه، فسمعته يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت نفسه وهو يذكر الله ويشهد أن لا إله إلا الله].

الله أكبر! الله أكبر! إقبالٌ على الله واستعدادٌ للرحيل، وإعدادٌ بزادٍ عظيم، ومع ذلك يخشون عاقبة عظيمة.

رحيل عثمان بن عفان

وصورةٌ أخرى من صور الرحيل لأولئك الذين يودعون وهم يقرءون كلام الله، يقرءون كتاب الله، فذلك شأن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فقد أصبح عثمان يحدث الناس، يقول عثمان : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أفطر عندنا يا عثمان) فأصبح عثمان صائماً وقتل من يومه، حيث اجتمع أصحاب الفتنة، اجتمع الذين أشعلوا الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه حول بيته يريدون قتله يوم الجمعة، وهو صائم عند صلاة العصر، وهو جالسٌ في بيته يقرأ القرآن فدخلوا عليه وضربه أحدهم (بالمشاقص) فقال عثمان : باسم الله توكلت على الله، فإذا الدم يسيل على وجهه ويسيل على لحيته، والدم يتقاطر على مصحفٍ كان بين يديه يقرأ فيه، فاتكأ من شدة الضربة على شقه الأيسر، وهو يقول: سبحان الله العظيم! وهو يقرأ في المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] فأطبق المصحف ثم حملوا عليه وضربوا عثمان ضربةً واحدة، فمات رضي الله عنه مقتولاً شهيداً كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال النبي فيما مضى يوم أن كان النبي جالساً عند بئره، فدخل أبو بكر وكان أحد الصحابة حارساً، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة، ثم استأذن عمر ، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم استأذن عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) وهذه هي البلوى التي ابتلي بها عثمان رضي الله عنه.

رحيل علي بن أبي طالب

وتلك صورةٌ خامسة من صور الرحيل الجميل، في صلاة، في عبادة لخليفة من خلفاء الإسلام، ذلكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرج الإمام علي لأداء صلاة الفجر في المسجد وهو يردد بين نفسه:

شد حيازمك للموت>>>>>فإن الموت لاقيك

ولا تجزع من المـوت>>>>>إذا حل بواديك

خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يتمثل بهذا البيت كأنه نبئ أنه سيقتل بعد قليل، وكان في طريقه خارجاً من بيته إلى المسجد، وهو ينادي بين الفينة والأخرى: أيها الناس! الصلاة.. الصلاة.. علي بن أبي طالب خرج من بيته يلتفت إلى البيوت يلتفت إلى الأزقة يصيح في الراقدين النائمين: أيها الناس الصلاة .. الصلاة، ومعه درته يوقظ بها الناس، فجاء ابن ملجم ومعه سيفٌ ومعه صاحبٌ فأقبل تجاه علي فضربه ضربةً في جبهته حتى وصل دماغه، فصاح علي رضي الله عنه: لا يفوتنكم الرجل، فأمسكهما الناس من كل جانب، وأمسك ابن ملجم ، فقال علي : [قد ضربني فأحسنوا إليه، وألينوا فراشه، فإن أعش فهضمٌ أو قصاص، وإن أمت فعاجلوه، فإني مخاصمه عند ربي عز وجل] ولما مات كان قبل أن يموت أوصى بنيه ثم نطق بلا إله إلا الله، ومات وتشهد عليها رضوان الله:

عزاءٌ فما يصنع الجازع>>>>>ودمع الأسى أبداً ضائع

بكى الناس من قبل أحبابـهم>>>>>فهل منهم أحدٌ راجع

عرفنا المصائب قبل الوقوع>>>>>>>>>>فما زادنا الحادث الواقع

فدل ابن عشرين في قبره>>>>>وتسعون صاحبها رافع

وللمرء لو كان ينجي الفـرار>>>>>في الأرض مضطربٌ واسع

ومن حتفه بين أضلاعه>>>>>أينفعه أنه دارع

وكل أبيٍ لداعي الحِمام>>>>>إن يدعه سامع طائع

يسلم مهجته سانـحاً>>>>>كما مد راحته البائع

ولو أن من حدثٍ سالماً>>>>>لما خسف القمر الطالع

وكيف يوقى الفتى ما يـخاف>>>>>إذا كان حاصده الزارع

هذا الرحيل يا معاشر المؤمنين! هذا الرحيل أيها الغافلون! واللحود المنازل بعد الترف واللين، والأعمال الأقران، فاعملوا ما يزين، والقيامة تجمعنا وإياكم، وتنصب الموازين، والأهوال العظام، فأين المتفكر الحزين؟!: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134] اللهم اجعلنا ممن أفاق لنفسه، وفاق بالتحفظ أبناء جنسه، وأعد عدةً تصلح لرمشه، واستدرك في يومه ما ضيع في أمسه.

أيها الأحبة: الرحيل الرحيل لا بد منه، فأين نحن من الاستعداد لهذا؟!

وقفة مع الرحيل المر

ومن الصور المخزية للرحيل المخزي صورٌ لا تحصر ولا تنتهي، من شبابٍ رحلوا إلى الخارج، لأجل ماذا؟ ألكعبةٍ يطوفون بها؟ أم لمسجد رسول الله فيصلوا فيه، ليجدوا أجر ألف صلاة؟

لا والله، سافروا إلى الخارج فعاقروا الخنا ووقعوا في الزنا فعادوا محمولين بالتوابيت، عادوا محمولين موتى، كان آخر عهدهم من الدنيا أن شهدت عليهم جوارحهم بالزنا والمعصية والفاحشة، وكأني بجوارحهم تقول: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22] .. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

صور عديدة ممن يموتون وقد أعدوا للرحيل عدة يغلون بها في القبور، ويحاسبون عليها، ويقفون بها طويلاً يوم الحشر والنشور، أموالٌ ربوية، أرصدة ربوية، معاملات ربوية، معاملات محرمة، كثيرٌ استعد للرحيل، ولكن بهذه الأموال المحرمة، وآخرون استعدوا للرحيل ولكن بالتجارة المحرمة، وآخرون استعدوا للرحيل ولكن جمعوا في بيوتهم من أشرطة الملاهي، وأشرطة المعازف، والصور الخليعة والأفلام الماجنة، ما لو ماتوا في حينها وهي عندهم، لكان أعظم الخزي والعار، أن يلقوا الله عز وجل وتلك في بيوتهم، أيأمن الواحد على نفسه أن يموت ميتةً ثم ينبش متاعه، ويحرز ما خلفه، ويفتش وينقب عما في بيته، فإذا به يموت وقد ترك تركةً فيها مائة شريط من الغناء، ومائة شريط من أفلام الفيديو، ومائة مجلة من المجلات الخليعة، وله كذا وكذا من أسهم البنوك الربوية، وله كذا وكذا من الحرام، سبحان الله! أين الاستعداد؟ وأين الإعداد لهذا الرحيل؟

نداءٌ قبل الرحيل إلى كل من أكل الربا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه).

نداءٌ قبل الرحيل إلى كل من أكل الربا، فإن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279].

نداءٌ قبل الرحيل إلى الشباب الذين غرهم ترف الثياب، وغرهم المأكل والمشرب، وغرهم أنهم يصبحون ويمسون في لهوٍ وغفلة، وفي أمنٍ وعافية، نداءٌ لهم: يا معاشر الشباب! عودوا إلى الله لتكونوا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه) حتى نكون -أيها الشباب- ممن ينشئون في ظل الدعوة، وفي ظل الإيمان، وفي ظل القرآن، وفي ظل الإحسان.

نداءٌ قبل الرحيل أن نستعد قبل أن نموت، أن نستعد قبل أن نغسل ونكفن ونحمل.

اللهم اجعلنا ممن يستعدون للرحيل على أحسن حال، اللهم اجعل يوم موتنا وساعة قبض أرواحنا أجل عبادة ترضيك، أنفس عمل يرضيك عنا يا رب العالمين.

اللهم ثبتنا على طاعتك ولا تخزنا بمعصيتك، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم تجاوز عنا واستر ذنوبنا وعيوبنا، واغفر اللهم زللنا وإسرافنا وحوبنا.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأسئلة

الشباب مهددون في عقيدتهم

المقدم: أحد الإخوة يطلب من الشيخ أن يذكره بقصيدة مطلعها: (يا نائم الليل كله) بما فيها من عبر، ولعل الشيخ إن شاء الله ما عنده مانع، لكن قبل هذا بعض الإخوة أرسل لي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرجو منك بعد صلاة العشاء أن تتحدث عن بعض الخطأ في العقيدة وخطر السحرة، نرجو ذلك وجزاك الله خيراً.

الشيخ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، الحقيقة أنها ليست قصيدة هي مقولة حفظتها من عجوز من العجائز الصالحات وذكرتها في شريط نساء لم يذكرهن التاريخ، وأقول ولا فخر: أسأل الله أن يجعل آباءنا وأمهاتنا وجداتنا وإياكم جميعاً في جنات النعيم، أنها جدة أم لأبي، كانت إذا أيقظتنا لصلاة الفجر، وفي آخر عمرها طبعاً كانت مقعدة تزحف على يدين وركبتين إلى الحمام آخر الليل فتتهجد، وحتى لا يسمع الرجال أو المارة في السوق، البيوت القديمة صوتها كانت تصفق حتى تستيقظ الوالدة ثم يستيقظ الوالد ثم يقوم لصلاة الفجر، فإذا نزلنا بعد الوضوء أول ما نبدأ نسلم عليها قبل أن نخرج إلى المسجد ونقبل رأسها، فتنظر إلينا نظرة كلها عتاب، وتقول: طول الليل وأنتم في نوم ما تستيقظون قبل الفجر بقليلٍ حتى تصلوا ما كتب الله، ثم تردد هذه الكلمات وربما كانت أبياتاً عامية أو نبطية، تقول:

يا نايم الليل كله>>>>>ترقد ولا فيك عله

لزماً تزور المقابر>>>>>وترقد الليل والنهار كله

فعلاً هي كلمة مؤثرة، تقول: أنتم تنامون الليل كله ولا فيكم بلاء ولا فيكم علة، ولا فيكم سقم، لكن سيأتي عليكم يوم وبعده تنامون في المقابر ليلاً ونهاراً وليس فيكم أي علةٍ إلا علة الموت العظيم.

دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة

السؤال: الأخ يقول: هل لي من كلمةٍ للدعاة أن يدعوا الناس إلى العقيدة الصحيحة والتحذير من كل ما يضادها؟

الجواب: هذا كلامٌ جميل أخي العزيز! ولا فائدة من الوعظ والخطابة والمحاضرات والندوات إن لم تؤسس على معتقدٍ صحيح، وعلى منهجٍ حنيفيٍ جليٍ واضح، حتى لا نكون ممن قال الله فيهم: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] .. وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وإنك لتعجب حينما تزور بلداناً فيها أعمال شركية، وإذا تأملت عقائد القوم وجدتهم يخلطون ويعتقدون أن أصحاب القبور ينفعون أو يدفعون، يعتقدون أن الأولياء يسمعون، يعتقدون أموراً لا ترضي الله عز وجل، يعتقدون أموراً تنافي أو تقدح في كماله، فحقٌ علينا جميعاً وعلى كل طالب علم، وعلى كل رجلٍ وامرأة وفتى وفتاة أن تعتني بأمر التوحيد، ونحن -ولله الحمد والمنة- قد أكرمنا الله بدعوة الإمام المجدد، لكن لا يعني أن ذلك ضمان ألا يقع الشرك في بلادنا، كيف وقد غُزينا غزواً جلياً واضحاً بهذه القنوات والبث الفضائي والأقمار الصناعية بالدعوى الصريحة إلى الشرك بالله عز وجل، في مدينة من المدن المجاورة كنت في أحد الفنادق، فإذا بقناةٍ من القنوات تبث صورة لشاب أو مقطعاً لشاب صغير قد لدغت أخته من قبل حية، فلما لدغت أخت الطفل من هذه الحية هرب الطفل يركض إلى معبد في البيت وأخذ ينحني ويصلي ويدعو وينحني ويصلي، ويقول: إن لم تشف أختي فلن أعود إلى الصلاة لك أبداً، ولن أؤمن بك، ولن أعتقد بك أبداً، ثم عاد مرةً أخرى فوجد أن أخته قد سلمت وقامت تضحك بين الأطفال، وذلك في برنامج أطفال، فعاد الطفل وأخذ ينحني لهذا الصنم ويشكره ويقول: سأبقى ما حييت مصلياً لك، ولا أتركك أبداً.

هذه دعوة صريحة للشرك، اليوم الأطفال يغزون بالشرك، يغزون في عقائدهم، الدعوة إلى الشرك من خلال أفلام كرتون، أن يخيل للطفل أن لله جسماً معيناً، أو شكلاً معيناً، الدعوة إلى عقائد المانوية، القول: بإله النور وإله الظلمة.

الشر كثير يا إخوان، فكما تفضل الشيخ لا يكفي أن نتحدث على المنابر، أيضاً المجالس، كل الحاضرين الآن سوف يفرقون إلى مجالس منها مجالس عائلية، مجالس صداقات وعلاقات، فلماذا لا ننتبه؟ لماذا لا نحصر ما هي الملاحظات التي بدأنا نلاحظها على أطفالنا، فنتناصح بها ونوصي بها المدرسين.

مدرسة من المدارس يقول أحد الأطفال فيها: إن طفلاً تغيب عن المدرسة يومين، فقال المدرس للطالب: أين كنت يا فلان؟ قال: والله مات عمي ومات خالي، فقال المدرس: اقرءوا الفاتحة مرتين، مرة على روح عم زميلكم ومرة على روح خال زميلكم.

يا إخوان! الغزو في الداخل وفي الصميم لا أحد يستطيع أن ينكر هذا الكلام، فلا سبيل إلى علاجه إلا بماذا؟ أنغطي السماء بشراع؟! لا يمكن، الغزو داخل، لكن الحل هو الوعي والتنبيه واليقظة والمناصحة والتتبع، والله -يا إخوان- لو وصل الأمر إلى أن الواحد يأخذ قائمة بالأسئلة المتعلقة بالعقيدة ويسأل أولاده واحداً واحداً، كما كان الأولون كانوا بعد صلاة العصر والفجر ويقولون: تعال نعلمك الدين، من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ بأي شيءٍ تعرف ربك؟ سؤال مفصل وأسئلة جزئية في العقيدة؛ لأن الناس على خطر، وكانوا حديثي عهد في الجاهلية، في جهل، فالآن الجاهلية قد أطبقت عبر أقراص الكمبيوتر، أحد الطلاب جاء إليَّ من فترة في الكلية، فأخرج إليَّ صوراً استخرجها من شاشة الكمبيوتر الذي يعمل به، صور كنيسة، وصور صليب، وصور قداس، وصور شمعدان، وصور وصور كلها متعلقة بالكنائس، فاليوم الغزو يأتيك في قرص ديسك كمبيوتر، الغزو يأتيك من خلال البث الفضائي، يأتيك من مدرس .. صاحب مدرسة أهلية -سامحه الله- يستقدم ما هب ودب من الذين لا يعرف عن عقائدهم شيئاً، أنا لا أتهم كل من جاء إلى هذه البلاد، فيهم خير عظيم وفيهم غَيرة للدين إن شاء الله، لكن أيضاً ليست القضية أن نبحث عن أرخص مدرس أياً كانت عقيدته، ثم نخليه يدرس أبناءنا، وبعد ذلك يعلمه أموراً تخالف العقيدة.

أيضاً هذه من المداخل الخطرة، ولعل الله عز وجل لو نتعاون مع بعض الشباب ومن يستطيع أن نتعاون وإياه لكي نحصر الملاحظات والمشاهدات التي بدأنا نراها على الأطفال والناس في مسائل العقيدة، حتى يؤلف فيها كتيب ويوزع وينشر، وتلقى في محاضرات ودروس وندوات، من أجل تنبيه الآباء لأبنائهم والأمهات لأبنائهن وبناتهن.

حكم تقديم الأجرة عمن يحلق لحيته

السؤال: شخص حضر إلى أناسٍ وهم يحلقون لحاهم، ثم حاسب عنهم (أي: أجرة حلاقة اللحى). فهل عليه إثمٌ مع أنه لم يرض بذلك؟

الجواب: أعوذ بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! لا بالله يا أخي الكريم، أنت تدفع أجرة الحجام أو الحلاق الذي حلق لحاهم، لا شك أن الذي حلقت لحيته آثم، أسأل الله لنا وله الهداية، لمخالفة صريح أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (وفروا اللحى، اعفوا اللحى، أكرموا اللحى) ولا شك أن الحلاق آثم، ولا شك أن صاحب المحل الذي فتح محل الحلاقة آثم فليتق الله، ولا شك أنك أثمت بهذا سامحك الله وعفا عنك، ولكن تصدق بمثلها فإن الحسنات يذهبن السيئات، وانظر أولاً إلى نفسك فاعف لحيتك بارك الله فيك.

حكم الزواج من مال الزكاة

السؤال: شابٌ يريد الزواج ولكن إمكانياته ضعيفة، وعند الذهاب إلى الجمعية الخيرية وجد زكاة أموال. فهل يجوز أخذ الزكاة من هذه الجمعية؟

الجواب: إذا كان فقيراً يستحق الزكاة يأخذ، وإذا كان غير فقير فلا يأخذ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله) فلتنظر إلى نفسك إذا لم تستطع.

فكذلك علينا جميعاً أن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للخير والتعاون على البر والتقوى في أن نجتهد من المغالاة في المهور، وأن نبتعد عن البذخ والتبذير، وعن تجهيز البيوت بالأثاث الكبير الفاخر، فإن هذا مما يسبب عرقلة في الزواج، وكثرة العوانس، وقلة المتزوجين، وفي النهاية يؤدي إلى كثرة الشر والفساد نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. (أجاب على السؤال شيخٌ آخر).

حث على التبرع للمجاهدين

السؤال: نرجو من فضيلة الشيخ حث الناس على التبرع للمجاهدين؟

الجواب: يا إخوان: أبشركم ببشارةٍ وربما بلغتهم وهي أن معركة حمي وطيسها وأكرم الله بها إخوانكم المجاهدين وخاصةً شباب العرب في البوسنة وقتلوا فيها مائة صربيٍ على بكرة أبيهم، وذلك من فضل الله عز وجل، والمعنويات مرتفعة، والوطيس قد حمي واشتد، والأمر على أشده في مواقع عديدة وليس في مواقع، في جراتزا وفي بنتسا، وفي سربنتشا وفي سراييفوا وفي مستار، وفي بهاتش، وفي مناطق كثيرة، فأدعو إخواني ألا ينسوا قضايا إخوانهم المسلمين، ولعل من بركات هذه المحاضرات والخير الذي نجنيه منها بعد الجلوس والاشتغال بالطاعة عن المعصية وسماع الحق عن الباطل، ورجاء أن تحفنا الملائكة ويذكرنا الله في ملئه الأعلى، وتغشانا السكينة، ولعلنا أن نكون ممن يقال: انصرفوا مغفوراً لكم، من بركات ذلك أن نتعاون على التبرع والدعم والإعانة لإخواننا المجاهدين، وسيقف على أبواب هذا المسجد في جميع الأبواب عدد من الإخوة يجمعون التبرع الذي تجود به النفوس، فإن ذلك مما يذكي الأمر ويجعل الجهاد مستمراً يقول الله تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14].

يا أخي الكريم .. لا تبخل ولو بريال واحد، ما يدريك أن الريال هو الرصاصة التي تقتل قائداً من قواد الصرب، أو قائداً من قواد الظلمة والفجرة الذين يتآمرون على الإسلام والمسلمين، فينبغي ألا نكف عن البذل في سبيل الجهاد، وفي سبيل الدعوة، وفي سبيل أن تبقى هذه الشعلة القوية من الإيمان والخير والحماس في دين الله والجهاد مضيئة، الآن أعداء الإسلام يريدون أن يطفئوا روح الجهاد من الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، حاولوا بالنظام العالمي الموحد، وحاولوا، وحاولوا، وأصبحت تعتبر جريمة تدخل -كما يسمونها- تدخل في شئون دول أخرى، وإذا استبيح شعب بأكمله كما حصل للشيشان لا أحد يستطيع أن يقول شيئاً؛ لأنها تسمى قضية روسية داخلية، لكن نحن نستطيع أن نفعل شيئاً وهو الدعاء .. السلاح الخطير، والأمر الثاني هو: البذل والتبرع، فإن الله ينفع بهذا نفعاً عظيماً، وكلنا جرب أثر النفع في أفغانستان يوم أن كانوا يجاهدون، ولما حصل ما حصل من الفتنة، واشتغل القوم بأنفسهم وببعضهم انصرف الناس عنه، وذلك دليل على أنه فيما مضى كانوا فعلاً يجاهدون، يريدون الشيوعية وسحقها وتدميرها، فلما انتهت ولم يكن الأمر بعد جلياً واضحاً نقياً في نفوسهم التفت الناس عنهم وانصرفوا.

يا أحبابنا: أنا أقول أيضاً: لا تنسوا الأرامل واليتامى والمعوقين والمجروحين وستجدون على الأبواب من يجمعون التبرعات لإخوانكم المسلمين في البوسنة، وهذه التبرعات ستكون بواسطتي وأنا عضو مسئول في الهيئة العليا لمسلمي البوسنة مصرح لي بالجمع، حتى لا يقول أحد: من أنت؟ وما هو دورك؟ فلا أحد يخشى من قضية جمع التبرعات، أنا مسئول عنها بمحضر بين ثلاثة توقع وتسلم للهيئة العليا.

خطر الفضائيات

السؤال: قصاصة يبدو أنها من جريدة الرياض مجيباً عن زاوية ميادين خطر الفضائيات، يقول: تابع الآلاف من المشاهدين في الخليج خلال أيام العيد وعبر إحدى المحطات الخليجية عرضاً غنائياً هزيلاً لأحد المطربين اللبنانين يدعى علاء زلزلة -زلزل الله رأسه- وقد فوجئ المشاهد من خلال ذلك العرض السيئ وهو منقولٌ كما يبدو من أحد مهرجانات تستورا في لبنان ، فوجئ بسابقةٍ غريبة على التقاليد المتبعة والمرعية في أكثر العروض والحفلات العربية، بل إنني لا أبالغ إن قلت إن تلك السابقة تعد شاذةً تتنافى وتتعارض مع القيم والأعراف والعادات والتقاليد العربية، وأظن أن أحداثها المشينة لم تحدث حتى للمطرب الأمريكي المعروف بحركاته الهستيرية الغريبة مايكل جاكسون .

الجواب: أيها الأعزاء .. إن ما حدث خلال الوصلات الغنائية لذلك المطرب وأكثر الخليجين شاهده على الشاشة التي يصلها إرسال المحطة المذكورة هو قيام عشرات الفتيات بتقبيل المطرب واحتضانه تماماً كما تظهره بعض اللقطات السينمائية المغرقة في إسفافها وإسقاطها السيئ، والغريب في تلك المشاهد المشينة التي نقلها العرض التلفزيوني الخليجي المخجل أن عائلات بأكملها ومعهم عائلهم قد قاموا بنفس العمل دون أي اكتراث لمشاعر المشاهد أو المجتمع العربي المحافظ.

ونقف عند ذلك، طبعاً هذا الكلام يقولون: كلنا مسئولون عن خطر الفضائيات، في زاوية ميادين تناول الزميل فلان موضوع المحطات الفضائية تحت عنوان: خطر الفضائيات، وناقش فيه سلبيات بعض هذه المحطات، وتعقيب الأخ فلان من الجهة الفلانية جاء مجيباً عن كثير من التساؤلات، مؤكداً أن رب الأسرة هو المسئول الأول عن مواجهة أي خطر تربوي يمكن أن يداهم أسرته، هذا ما قالته رسالة الأخ في التعقيب المذكور: المكرم محرر الرأي للجميع المحترم: السلام عليكم، تعقيباً على موضوع خطر الفضائيات قرأت في (الرياض) يوم السبت 21/12/1415هـ موضوع ما حدث من إحدى القنوات الفضائية ويعتب كثيراً ويقول: ما ذنبنا وذنب بناتنا ونسائنا؟ فأقول: إن معظم الذي يقع عليك أنت وأنا أو هو، حيث سهلت دخول مثل هذه القنوات إلى بناتك ونسائك، ثم تطلب لأهل الفتن والشر أن يتأدبوا؛ كيف يكون ذلك؟ كلام جميل، ثم إنك وقد شاهدت بنفسك ما يغطي جميع الفضائيات، فبم خرجت من فائدة؟ إلا بمثل ما ذكرت، وأي شيءٍ يكون شره أكثر من خيره، لا ينبغي لعاقل أن يستخدمه فكيف ولعائلته التي هو مسئول عنها؟! ولقد خلق الإنسان لأمرٍ جليل.

قد هيئوك لأمر لو فطنت له>>>>>فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

فنريد منك ومن أمثالك الغيورين خطوات إيجابية لمواجهة مثل هذا الأمر الذي لا يتطلب منا التنظير الكلامي، بل العمل على إصلاح أنفسنا وبيوتنا ولا نسعى إلى نقل فساد الآخرين إلى منازلنا.

وأقول أيضاً: بل وإخراج هذه الأجهزة أيضاً؛ لأن الإنسان الذي يريد السلامة من الشر لا يقوم بفتح باب النافذة والباب للشر، ثم يقول: لماذا تأتون لنا بهذه الأمور؟ أو تفعلون ما تفعلون، الذي عليك أن تغلق بابك دون الشر وأن تحسن تربية أولادك، ثم بعد ذلك لا أظن أن الإنسان -بإذن الله- إذا اتخذ التدابير اللازمة سوف يقع.

وبالمناسبة لا تظنوا أن من ركب هذا الدش أنه يقع في ذلك، أحمد الله وأبشركم، من فترة برسالة خطية كتبها أحد الشباب إلى رجل كان في بيته دشين فأرسل الدشين إلينا في المسجد كاملةً وأرسل (الرسيفرات) المستقبلات والأجهزة كلها، وقال: كسروها فأنا تائبٌ بريءٌ منها، مع أنه اشتراها بمبالغ فوق ثلاثين ألف ريال، فلا تتصور -يا أخي- أن من وضع دشاً أنه ما عاد هناك أمل أن يتوب ويستغفر، لكن لو أنت كتبت رسالة، يعني: هذه الرسالة التي كانت سبباً في توبته، كان قبلها تسع رسائل مهدت الطريق، فجاءت الضربة القاضية في الرسالة العاشرة التي جعلته يستجيب بإذن الله عز وجل، فلا تتردوا في النصيحة، بالكلمة .. بالشريط .. بالرسالة الطيبة، ولعل الله ينفع الجميع.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفينا وإياكم من شر الذنوب والمعاصي.

وفي الختام .. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا في هذه المجالس مراراً وتكراراً مع علمائنا ودعاتنا، إنه على كل شيءٍ قدير، واجعلنا من المقبولين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قبل بدء الرحيل للشيخ : سعد البريك

https://audio.islamweb.net