إسلام ويب

إن حقيقة ما يقع من الإشراك بالله سبحانه وتعالى على وجه المعمورة هو تشبيه المخلوق بالخالق في بعض ما هو من خصائص الله سبحانه كالعبودية، والدعاء، والخوف والرجاء، ورجاء النفع والضر، والمنع والعطاء وغير ذلك، ولذلك من صرف شيئاً من خصائص الله سبحانه وتعالى لغيره فقد ظن بالله ظن السوء، وقال على الله عز وجل بغير علم، فهذه أعظم الذنوب التي ارتكبها العبد المشرك مع ربه سبحانه وتعالى.

حقيقة الشرك

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة المؤمنون: ما زلنا في الموضوع المهم الجلل الذي دونه كل موضوع، وهو موضوع الشرك، حقيقته وخطره وضرره، وكنا في درس سابق بحمد الله تعالى وتوفيقه قد قرأنا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، كلاماً قيماً نفيساً عن الشرك وعن التعطيل، ووقفنا عند شرك الإرادات والنيات، فنكمل إن شاء الله تبارك وتعالى كلامه رحمه الله؛ لأن الموضوع قد لا يأتي له مناسبة أخرى، وإن جاءت فبعد حين، ونحن نعلم أن أهم ما ندعو إليه هو التوحيد، وأن أوجب ما ينبغي أن نتعرف عليه من الأضداد هو ضد التوحيد وهو الشرك بالله تعالى، الذي هو أكبر الذنوب.

والذي جاء الحديث عنه في متن الكتاب بمناسبة الكلام عن الرجاء، وذلك أن المشرك لا رجاء له عند الله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ [هود:16] فلا يرجون رحمة الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن يستدرجهم من حيث لا يعلمون.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (إذا عرفت هذه المقدمة -من الكلام الذي تقدم كله في درس سابق- انفتح لك باب الجواب على السؤال المذكور)، فالسؤال المذكور الذي سألناه عن الكبائر وأنواعها، ولماذا كان الشرك أكبرها وأعظمها وأخطرها؟

فيقول:

(حقيقة الشرك مما تقدم) يعني: تبين لنا، قاعدة مهمة نستنتجها مما تقدم وهي: أن حقيقة الشرك هي التشبه بالخالق، وتشبيه المخلوق به، هذا أوجز ما يمكن أن يقال في حقيقة الشرك، ومعرفة لماذا كان هو أعظم الذنوب وأعظم ما عصي الله تبارك وتعالى به؟

الشرك هو التشبه بالخالق تبارك وتعالى، أو تشبيه المخلوق به تبارك وتعالى، هذا هو التشبيه في الحقيقة لا إثبات صفات الكمال.

يريد ابن القيم رحمه الله تعالى أن يرد على الذين نفوا الصفات، قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، مثلما تقدم معنا في صفة العلو مثلاً، وموضوع الرؤية والكلام، وغيرها من مباحث الصفات التي شرحناها والحمد لله.

فالعلة واحدة عند الذين ينكرون صفات الله تبارك وتعالى من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم يقولون: لو أثبتنا الصفات لوقعنا في التشبيه، فنقول: أنتم لا تفهمون حقيقة التشبيه، التشبيه الذي هو الشرك عكس ما تظنون، التشبيه هو تشبيه الخلق بالخالق، لا كما تظنونه إثبات صفات الله، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين، كمن يقول: إن الله له يد كيد المخلوقين، أو يقول: إن الله له سمع كسمع المخلوقين، أو يستوي كاستواء المخلوقين، هذا وقوعه في العالم قليل.

الله تعالى فطر النفوس على أن هذا غير موجود وغير حاصل، ووقوعه قليل وإن وقع فهو مما ينكر، ولا شك أنه مناف للتوحيد لا ريب في ذلك، لكن هم لا يقصدون ذلك، يقصدون إثبات الصفات، والسلف الصالح والحمد لله يثبتون الصفات لله تبارك وتعالى كصفات المخلوقين، ولكن يقولون: كما قال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

يثبتون السمع والبصر وجميع الصفات مع إثبات أنه ليس كمثله شيء وليس له كفواً أحد، وهل تعلم له سمياً، وإن وقع الاشتراك اللفظي في الاسم فالحقيقة غير الحقيقة، كما أن الوجود غير الوجود، والذات غير الذات، متفقون معنا أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهها ذات، وأن وجود الله تبارك وتعالى لا يماثله وجود، إذاً: فبقية الصفات تتبع الذات، وتتبع صفة الوجود المجمع عليها، وهذا مذهب واضح والحمد لله، منهج رحب واضح سهل الفهم، ولا ينكره إلا مكابر، لكن ليس هذا، وإن زعم من زعم كـالرازي وأمثاله ونسبوه إلى رجل لا عقل له ولا نقل، وهو المنجم المشهور أبو معشر الفلكي منجم من المنجمين، كان في الإسلام لا يعرف له فضل ولا خير وسابقة ولا دين، هو الذي يقول: إن أول شرك وقع هو أن الناس اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى له يد كيد المخلوقات، وله عين كعين المخلوقات، فعبدوا الأصنام.

هذا كلام فارغ، ومغاير للحقيقة وللواقع التاريخي، ولما صحت به الأحاديث، وبالعكس: الذين عبدوا الأصنام شبهوها بالله، ولم يشبهوا الله بالأصنام، هذا هو الواقع.

الخصائص الإلهية

فيقول: (وليس في إثبات الأسماء التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فعكس من نكَّس الله تعالى قلبه وأعمى عين بصيرته، وأركسه، وجعل التوحيد تشبيهاً والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق بالخصائص الإلهية.

التفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع

من الخصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) هذا مما يملكه الله سبحانه وتعالى وحده، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل عليه وحده؛ لأنه هو الذي يملك العطاء والمنع والضر والنفع، فإذاً من يدعى؟ من يرجى؟ من يستغاث به؟ من يطلب عند الشدائد؟ هو الله وحده.

والذي فعله المشركون أنهم عكسوا ذلك، فأصبحوا يدعون من دون الله آلهة، إما في وقت الرخاء والشدة، وإما في وقت الشدة كما كان المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك، وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين في هذه اللحظة، إذاً: نسوا الوسائط، لكن إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون به ويدعون غيره معه أو من دونه، فوقعوا في الشرك.

يقول: فمن علق ذلك بمخلوق، يعني: الدعاء والخوف والرجاء فقد شبهه بالخالق من جهة أنه أعطاه وأضفى عليه خصائص الإلهية، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، جعله كالحي القيوم سبحانه وتعالى، الذي بيده كل هذه الأمور، وهو مرجعها، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي إن فتح باب الرحمة فلا ممسك لها: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2] هذا بيده، كل شيء بيده، وعنده خزائنه سبحانه وتعالى، وإليه المنتهى، وأن إلى ربك المنتهى، منتهى الإرادات ومنتهى المطالب، ومنتهى المنى، كله ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.

أي مخلوق تصورت أنه ممكن أن يعطيك أو يساعدك أو يضرك أو ينفعك ففكر بعقلك من الذي خلقه؟ من الذي أوجده؟ من أعطاه؟ تجد أنك في النهاية تستيقن وتعلم قطعاً أن إلى الله المنتهى، إذاً: يطلب وحده لا سيما وهو كما قال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله>>>>>وبني آدم حين يسأل يغضب

إذاً: اطلب الغني الكريم الذي بيده كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، ويريد أن تسأله، ويغضب إن لم تسأله وتطلبه، فكيف تلجأ إلى المخلوقين وتتخذ منهم وسائط من دونه؟!

إلى أن يقول رحمه الله: (فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات تبارك وتعالى).

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم لهم هذا المنهج، يستطردون ويوضحون، وهذا المنهج لو تأملناه لوجدنا أنه قرآني، فالله تبارك وتعالى في القرآن حتى وهو يأتي بقصة أو بخبر فإنه يأتي بإشارة أو دلالة قوية على أهمية التوحيد، أو تجلية لجانب معين من جوانب التوحيد تتعلق بهذا الموضع، وهكذا الذين يسيرون على منهج القرآن والسنة في الدعوة والفهم والحكمة والبصيرة التي أمر الله تعالى بها، ويأخذونها من القرآن كهذين الشيخين الفاضلين، أي موضع من مواضع التوحيد سواء وهو يتكلم عن مشابهة المشركين ومحبتهم كما في اقتضاء الصراط المستقيم يعرج على موضوع الشرك، في الصارم المسلول يعرج على موضوع الكفر وأنواعه وهكذا.

هنا كما ترون السؤال عن المعاصي، الكتاب كله عن العشق، ومع ذلك عرج إلى الشرك وأطال وهكذا، لعلمه بأهمية التوحيد وأنه أساس كل شيء في هذا الدين.

الكمال المطلق من جميع الوجوه

ويقول أيضاً: (من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه)، ولهذا بعض الإخوان كثيراً ما يسأل فيقول: هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أم غير توقيفية؟ هل نطلق هذا الوصف أو لا نطلق؟ والقاعدة هي أن ما كان كمالاً لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإثباته لله من طريق الأولى، وقد تقدم هذا عندما تعرضنا لمعنى (المثل الأعلى)، في قوله: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60].

المثل الأعلى: الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص بأي وجه من الوجوه، خذ مثلاً العلم، فالمثل الأعلى في العلم لله، فله العلم المطلق الذي لا يعتريه الجهل بأي شكل من الأشكال.

القدرة المطلقة: المثل الأعلى لله فيها، وهي القدرة المطلقة بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يملك هذا إلا الله وحده، وكذلك الحكمة والعزة والتدبير.. ففي كل شيء له المثل الأعلى، فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه من خصائص الألوهية، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لله وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستغاثة والاستعانة وكل أنواع العبادة تكون له وحده؛ لأنه وحده الذي يملك هذا الكمال المطلق، ويكون له الأمران المهمان اللذان هما سبب إيراد هذا الموضوع في شرح العقيدة: غاية الذل مع غاية الحب، هكذا لا بد أن يجتمعا.

يقول: (كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده)، وهذا احتراز من كلام بعض أهل البدع، كأن الأمر ما يجب إلا في الشرع، نعم، فنحن ما عرفنا التقسيم إلا من الشرع، لكن العقل يدل عليه جملة، والفطرة تدل عليه جملة، وإنما تفصيله وبيانه يأتي في الشرع من الوحي، لكنها تدل عليه، ومن زعم أن ذلك مجرد دلالة الشرع فقط فقد غلط غلطاً عظيماً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله فيما بعد.

إذاً: يقول: (فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير -من جعل العبادة والرجاء والتعظيم والذل والخضوع لغير الله- فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله).

إذاً: لاحظتم خطر هذا الشرك! فلو قيل: حتى لو جعل ذلك لنبي من الأنبياء أو لملك من الملائكة؟ أعني الدعاء والرجاء والخوف والرغبة والتعظيم، نقول: نعم. حتى لو جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون أيضاً شركاً وتشبيهاً. ومن الناس من يفعل ذلك، ولهذا فالشرك باطل، وأعظم من أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حتى لو كان هو المدعو صلى الله عليه وسلم، أو من يخاف ويرجى ويستغاث به، فالشرك باطل بأي وجه من الوجوه، وأعظم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربته هو الشرك وإن كان متعلقاً بذاته، كما سيأتي التفصيل إن شاء الله تبارك وتعالى.

العبودية المتضمنة غاية الحب مع غاية الذل

ثم يقول: (من خصائص الألوهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل).

يقول: (وهذا من المحال أن تأتي شريعة من الشرائع به -يعني: بهذا التشبيه- لأن قبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق، كما جاء في حديث عياض بن حمار : (وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللته) فالذي صرف الفطرة وحرفها في الأصل القديم الشياطين، ثم يحرفها أيضاً في حق الآحاد من الناس: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالإنسانية كانت على التوحيد حتى صرفها الشيطان إلى الشرك، والآحاد: الأفراد من الناس يولد كل مولود على الفطرة حتى يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه أي: يصرفانه ويحولانه من التوحيد إلى الشرك).

السجود من خصائص الإلهية

يقول: (إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغير الله فقد شبه المخلوق بالله، ومنها التوكل، فمن توكل على غير الله فقد شبهه أيضاً بالله، وقس على ذلك التوبة والحلف، يكون منها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً).

هذا الكلام لا يقوله الإمام ابن القيم هكذا، لأجل الرد على الواقع في عصره من شيوخ الطرق، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً في عصره، كانوا يستغيثون بالشيخ ويسجدون له، كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا المهدي الذي ظهر في السودان يدعي أنه المهدي، وعبد الله التعايفي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر ليس بشيخ! يعني: الشيخ هو الإله، تعالى الله عما يصفون!

فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر هو الشيخ!! فأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ، انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية! نسأل الله العافية.

والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه.

قال: (فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، وأن يذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه). ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم).

سبحان الله! الجزاء من جنس العمل، الناس يحشرون يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرون الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من واجب الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم، هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، انظر الفرق! يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً بما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي.. مال.. منصب.. اعتقادات باطلة كشيوخ الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يلحسوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته)

ثم يضرب ابن القيم رحمه الله مثالاً: وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح: (من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)ما هي العلة؟

القضية ليست قضية أن الشخص صور فقط، يجب أن تطرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى.

يقول: فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، يخلق كخلقه، يصنع كهيئة خلق الله.. هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهي جريمة عظمى، وهو من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟

ليس هناك رسمة ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: (لا أحد أحب إليه المدح من الله)فالذي يجب أن يطرى ويمدح ويعظم، وأن تقال له الألقاب هو الله.

ثم قال: (والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلاهيته؟) وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلاهيته.

فيقول: من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه.. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الملوك ولا ملك إلا الله، أو ولا مُلك إلا لله، وفي لفظ أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك)

مجرد أنه تسمى، قد لا يكون عمل عملاً، أو دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته كقول فرعون : مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] لكن هذا كل ما قد يكون عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فهذا استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى.

فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، وهو الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره، إذا تبين هذا فهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة.

ثم يفتح لك ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً، لا ينقل كلاماً هكذا ليس له فائدة علم مؤصل مرتب مبني على الأدلة، على نظرة شاملة، وهذه التي لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، مثل الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما، هذه ميزة للمدرسة السلفية بأنها مدرسة قوية، هذه المدرسة التي جددها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وما عمله ابن تيمية ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة، لم يأت بشيء من عنده أبداً.

فالآن ينقلك من سر عظيم بعد أن تجلت عندك هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وهو هذا التشبيه، ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً.

أعظم الذنوب إساءة الظن بالله تعالى

يقول: (إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به).

إذاً: القضية ليست قضية رجاء -أضعف منازل المريدين- كما يقول الهروي أو يقول الصوفية ، لا. أعظم الذنوب إساءة الظن بالله سبحانه وتعالى، وهي باب لموضوع آخر سيأتي فيما بعد، قد يقال: أليس أعظم الذنوب هو القول على الله تعالى بغير علم كما في الآية؟

نقول: انتظروا سيفتح الشيخ باباً إلى باب إلى باب حتى تجدوا مدناً من مدن العلم والخير في هذه العبارات الموجزة.

يقول: (فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته). أي أن مسيء الظن بالله ظن به خلاف الكمال الذي تقتضيه هذه الأسماء والصفات التي تثبت له، يقول: ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [الفتح:6] أعوذ بالله! انظروا شدة الوعيد نتيجة هذا الظن بالله تبارك وتعالى.

وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23] ما هي الصفة التي أنكرها هؤلاء؟

الصفة التي أنكرها هؤلاء هي صفة العلم، وأن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم.

يقول: (وقال تعالى عن خليله إبراهيم: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124] ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً [النحل:123] شرف عظيم أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، هذا من أعظم الدلالة على إمامته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ولما قال لقومه: مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:85-87] .. أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات:86] أئفكاً: افتراء لا أصل له ولا حقيقة ثم يعقب على ذلك: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:87].

يقول: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظنكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى العبودية لغيره؟ ماذا ظننتم به حتى عبدتم غيره معه أو من دونه؟!

يقول: (فلو ظننتم بالله ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36] فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجها، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم وإلى من يستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة حاجتهم).

نتيجة حاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، انظروا إلى هذه العبارات العظيمة.

إدخال الوسائط بين الله وخلقه إساءة ظن به سبحانه

قال: (فأما القادر بنفسه على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] وكما في حديث أبي ذر المشهور في خطاب الله تبارك وتعالى لعباده). فإذاً: الغني بذاته، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، يقول: هذا إدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص في حق ربوبيته وإلاهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، هذا الظن أسوء الظن بالله.

فالموضوع إدخال الوسائط!!

قال: وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه) أي فليس من المعقول أن يشرع الله سبحانه وتعالى للناس أن يتخذوا بينه وبينهم وسائط وهو العليم بكل شيء، وهو قادر على كل شيء، الغني عن كل أحد، المتصرف في كل أمر، الذي رحمته وسعت كل شيء، أيحتاج لواحد يأتي فيدخل بينه وبين خلقه فلا يعبد إلا من طريقه، أو يدعى هذا من دونه بزعم أن يوصل العبادة إلى الله؟! تعالى الله عما يشركون!

يقول: (يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله، والرب تعالى هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأليه والتذلل والخضوع). ولهذا عندما نقول كلمة لا إله إلا الله، كلمة التوحيد العظيمة، ففيها كلمة (إله) وإذا عُرف معناها عرفنا معنى كلمة: لا إله إلا الله، فما معنى الإله؟ أوجز وأفضل تعريف لهذه الكلمة.. أن الإله هو الذي تألهه، والوله: غاية الحب، فغاية الحب ونهاية الحب تسمى: الوله، فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً وانقياداً ورغبة ورهبة ورجاءً.

إذاً: لا إله إلا الله، هذا هو الذي تصلح له هذه الصفات تبارك وتعالى.

ما قدروا الله حق قدره

يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى بعد هذا الكلام أمثلة عظيمة جداً ونافعة، رداً على جميع الطوائف، مما يدل على ما له من الفقه والحكمة، فإنه رد على جميع الطوائف من خلال هذه القاعدة العظيمة، وهي قاعدة أن شر الذنوب وأعظمها وأقبحها هو سوء الظن بالله، وهو الذي أوقع في الشرك.

يقول بعد أن ذكر الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73]: (الله أكبر! كل من يعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وأيضاً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]).

يعني: هذه الآلهة من البشر أو من الشياطين أو غيرهم ضعفهم كضعف الذباب! ومع ذلك لو أنه أخذ شيئاً منهم لا يستنقذوه منه، بل هم أضعف: (ضعف الطالب والمطلوب) ثم قال: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:74] أي: لم يحسنوا الظن به، يعني: أساءوا الظن بالله، ولهذا ما قدروه حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، فالإله عندهم كما هو عند كثير من الغافلين عندما تكلمه عن الله، تعالى الله عما يصفون كأنك تكلمه عن أي شخص، بل ربما لو كلمته عن بعض المخلوقين الذين لهم هيبة وقوة لارتجف وأرعاك أذنيه لكن إذا قلت: يا أخي اتق الله! يا أخي! أنا أخبرك بكلام الله، فتجده غير مبالٍ.. ما قدر الله تعالى حق قدره، ولا عرفه حق معرفته.

ولهذا قلنا كما تحدثنا في درس سابق: إن مشكلة الناس في جميع العصور والأوقات، وفي كل زمان ومكان، أنهم ما عرفوا الله، وما قدروا لله قدره، فأشركوا به، اتبعوا شرائع البشر وتركوا شريعته لسوء ظنهم به، ولأنهم ما قدروا الله حق قدره أحبوا بعض الخلق أكثر من محبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما قدروا الله حق قدره حتى يعرفوا قدر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء منهم من يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه

يقول: (فما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره، وإن يسلبه الذباب شيئاً مما عليه لم يقدر على إنقاذه منه، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].)

هذه قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه حبر اليهود وقال له: (إن الله يضع الأرض على إصبع والجبال على إصبع سبحانه وتعالى.

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر وإقراراً له، وقرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]) أبعد هذا يعبد أحد من دونه؟! إنساناً كان أو حجراً أو شجراً أو قبراً؟! سبحان الله عما يشركون!

ما قدر الله حق قدره من أنكر الرسل

(وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل رسولاً إلى خلقه).

وفي هذا يرد على منكري الشرائع، وفي ترتيب أنواع الكفر والكفار، فإن أعلى درجة من درجات الكفر وأشد الناس كفراً هم الفلاسفة، وهم من ينكر النبوات والشرائع بالجملة، وفي القديم كان هناك قلة تسمى الفلاسفة أما الآن أصبحت أمماً، الغرب الآن بأكمله تقريباً! المذهب الشيوعي والنازية والفاشية كل هذه تنكر النبوات والوحي، فأكفر وأعلى درجات الكفر هم هؤلاء فابتدأ بهم.

إذاً: من قال إن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولم ينزل كتاباً، هل قدر الله حق قدره؟

لأن معنى كلامه هذا: أن الله سبحانه وتعالى أهمل الخلق وتركهم سدى، كما فسرها الإمام الشافعي رحمه الله، سدى أي: لا يؤمر ولا ينهى، تركهم هملاً وخلقهم عبثاً، وهذا غاية سوء الظن بالله، هؤلاء ما قدروا الله قدره، فقالوا هذا القول.

ما قدر الله حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى

درجة ثانية في الكفر: ما قدر الله تعالى حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى.

كـالجهمية الذين نفوها بالكلية وأشباههم.

يقول: (ومن نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال العباد من طاعتهم ومعاصيهم). وهؤلاء هم المعتزلة والقدرية ، إذاً هذه درجة ثانية.

ما قدر الله حق قدره من زعم أن الله يعاقب عبده على ما لا يفعله

يقول: (وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير ألبتة! بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله).

وهذه الطائفة هي الجبرية، يقولون: هو سبحانه الذي جبر العبد، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق، يعني: المخلوق لا يمكن أن يكره المخلوق إكراهاً كلياً، لا يستطيع أي مخلوق أن يملك ما تضمره مهما كان، وهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى أجبر المخلوقين، تعالى الله عما يصفون!!

قال: (وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد -أي المالك- لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان ذلك قبيحاً، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير)، هذا مذهب الجبرية ، هل هناك فرقة تسمى الجبرية الآن؟ نعم، الأشعرية ، ماذا يقولون؟

والفعل في التأثير ليس إلا>>>>>للواحد القهار جل وعلا

أي: الفعل كله لله، فما دام الفاعل والمؤثر هو الله، إذاً: هل يعاقب على فعل نفسه؟

فهو الذي فعل، أما العبد فلم يفعل شيئاً ولم يؤثر في شيء، فهم ينظرون من جانب وينسون جانباً آخر.

طيب! إذا كنتم تقصدون أو تريدون بذلك أن العبد لا يملك أن يطيع ولا يملك أن يعصي حتى نجعل إرادة الله هي كل شيء، فقد نسيتم الأفعال الأخرى، فنقول: إذا ارتكب العبد فاحشة تقولون الذي فعلها من؟ إن قالوا: الله -تعالى الله عما يصفون- وقعوا في الكفر، وإن قالوا: العبد إذاً أثبتوا للعبد فعلاً وتأثيراً وإرادة، لكن هم ينسون ذلك ويغفلون عنه.

إذاً: الطائفتان الجبرية والقدرية ما قدروا الله حق قدره.

ما قدر الله حق قدره من زعم أنه حل في كل مكان

(وكذلك ما قدر الله حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان)، وهذا مذهب الحلولية من الصوفية ومنكري العلو، الذين ينكرون علو الله، يقولون: الله في كل مكان، إذاً: هناك أماكن قذرة نجسة يترفع الإنسان أن ينطقها، كيف تقول: إن الله في كل مكان؟

إذاً: ما قدر الله حق قدره من نفى علو الله وأثبت هذا.

ما قدر الله حق قدره من نفى الصفات الفعلية

ثم ينتقل ويقول: (وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته).

هذه اسمها الصفات الفعلية، الذي ينفيها هم الأشاعرة وأمثالهم ممن يؤولون وينفون الصفات، خاصة صفات الرضا والغضب والمحبة؛ لأن هذه فيها تشبيه لا يمكن أن يثبتوها أبداً.

إذاً: ما قدروا الله حق قدره إذا نفوا أنه يحب، وأنه يبغض، وأنه يريد، وأنه ذو انتقام، وأنه رءوف، وأنه يمقت إلى آخر ذلك.

ما قدر الله حق قدره من نفى حكمته وغايته

(ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله).

الذين نفوا حكمة الله، لم يقولوا: إنه ليس بحكيم هكذا، يقولون: ليس لأفعاله غاية ولا علة، يظنون أنهم بهذا الكلام ينزهون الله، ما نقول: الأفعال لها حكمة أو لها علة، تعالى الله! نقول: إنه إذا فعل شيئاً فمن أجل شيء مثل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] إذاً: هو خلقهم من أجل العبادة، فهذا لا يليق، لا نثبته لله، الله سبحانه وتعالى ما يحقق شيئاً من أجل شيء، ظنوا بهذا أنهم ينزهون الله، فوقعوا في المصيبة الكبرى وهي نفي الحكمة عن الله.

فكأنه إن خلق شجرة أو حجراً أو أرسل نبياً فالأمر واحد، وكلها أفعال تخضع لمطلق المشيئة أو الإرادة فقط، ليس لها حكم ولا علل، فنفوا مقصوده وحكمته وغرضه من خلقه.

ما قدر الله حق قدره من جعل له صاحبة وولداً

(وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً)، وهؤلاء معروفون قاتلهم الله.

ما قدر الله حق قدره من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وأعلى ذكرهم وجعل الله فيهم الملك والخلافة والعز، ووضع أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذل أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب، تعالى الله عن قول الرافضة علواً كبيراً!)

انظروا كيف لو أن التوحيد صح عند هذه الطوائف وقدروا الله حق قدره ما وقعوا في هذه المصائب، يقولون: صنما قريش، يقصدون أبا بكر وعمر ! فأعدى أعداء الدين عندهم أبو بكر وعمر ، ثم بنو أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن، شجرة خبيثة ملعونة وكلهم كفار.. إلى آخر ما يقولون.

إذاً هؤلاء هم أعدى أعداء الدين، فمن هم أولياء الله؟ قالوا: علي وذريته والأئمة ممن يعتقدون إمامتهم، ولكن الواقع أن الله تعالى مكّن لبني أمية وأعطاهم الملك والولاية، ففتحوا البلاد، وأقاموا الجهاد، أعطاهم الله ولاية حتى على هؤلاء، وضرب أهل البيت وسجنوا وأوذوا وعذبوا وقتلوا وما تولى أحد، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، وما تولى أحد ممن يدعي الروافض أنه إمام الخلافة أبداً؛ لأن بدعة الإثني عشرية ما جاءت إلا متأخرة بعد أحداث كربلاء ، أي: بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، بعد ذلك جاءت هذه البدع، منذ أن جاءت هذه البدعة ما ولي إمام من أئمة الرافضة قط.

إذاً: أحسنوا ظنكم بالله يا من تدعون أنه لم يول أحداً من أوليائه الذين تقولون إن الله اختصهم بغاية العلم والحكمة، ويعلمون الغيب، ويدبرون كل شيء، وأعطاهم مفاتيح الكون، (ولولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) كل هذا الاعتقاد العظيم فيهم وما تولوا إذاً: ظنكم بالله ظن عجيب غريب من أين تأتون به؟!

وأعجب من ذلك أنه يمكن لأعدائهم ويوليهم وينصرهم، ويفتحون البلاد وتثني عليهم الأمة، وتؤلف فيهم الكتب، إذاً: لا بد أن تصححوا نظرتكم إلى الله.

ونأتيك بجواب مفحم لا يستطيع الروافض أن يرفعوا رءوسهم بعده، نقول: مثل هذا القول في حق أهل البيت وفي حق أعدائهم -كما تزعمون- قالته اليهود والنصارى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقاعدة واحدة، كيف؟

اليهود والنصارى كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه مفترٍ، افترى على الله الكذب وجاء برسالة، إذاً: ما الدين الحق الذي يقبله الله ولا يرضى غيره؟ قالوا: ما عليه اليهود والنصارى: وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] أفيسلط الله كذاباً دجالاً مفترياً فيستولي على ممالك هذا الدين الحق، ويقتلهم ويأسرهم، ويضرب بالسيف رقابهم، ثم يستعبد من شاء منهم، ثم يظل الملك والشأن والرفعة والمجد له ولأمته أبد الآبدين، طوال الدهور، هذا ظن بالله سيء!

إذاً: إما أن يكون الله لا حكمة له في أفعاله، حيث ينصر عدوه وهو يفتري عليه ويقول إنه رسول من عنده، ويأتي بكلام فيقول: هذا كلام الله، ويدعي الرسالة من الله وأن الوحي ينزل إليه، والدين الحق اليهودية والنصرانية كما تزعمون، ذليلة مهانة مضطهدة معذبة، ويقضى عليها في أغلب بقاعها الأساسية المهمة لها، وهي منقطة حوض البحر الأبيض يعني: لا يمكن أن لا يكون هناك حكمة أبداً، ولا يستطيع عاجز أن ينصر أولياءه، على أعدائه، أو أنه الواجب الآخر وهو أنكم أنتم ظننتم به غير الحق وما قدرتموه حق قدره، ويكون هو نصر وليه ونبيه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويكون دينكم باطلاً لا حقيقة له، هذا دليل.

فهذا يتفق مع حكمة الله ومع أفعال الله تبارك وتعالى في خلقه، فهذا القول قول الرافضة مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكاً ظالماً، فادعى النبوة لنفسه وكذب على الله، وأخذ زماناً طويلاً يكذب على الله كل وقت، ويقول: قال الله كذا.. وأمر بكذا.. ونهى عن كذا.. وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله أباح لي ذلك، والرب تعالى يظهره ويؤيده ويعليه ويقويه، ويجيب دعواته، ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه في قوله وفعله وتقريره، وتحدث أدلة تصديقه شيئاً بعد شيء إلى يوم القيامة.

يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست آياته معجزة واحدة ثم تنتهي كما كان الرسل من قبل، وإنما كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)

كلما جاء زمن تجدد فيه ما يدل على صدقه، وتتجدد الدلائل على أنه نبي، وبما يقع من أخبار وأحداث أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، ولا يمكن أن يتوقعها بشر، ولا أن يقولها أحد إلا بعلم من الله تبارك وتعالى.

يقول: ومعلوم أن هذا يتضمن -يعني: كلام اليهود وأتباعهم- أعظم القدح والطعن في رب العالمين.

فقارن بين قول هؤلاء اليهود وقول إخوانهم من الرافضة ، تجد القولين كما قال الشاعر:

رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما>>>>>بأسحم داج عووا لا نتفرقا

يعني: أبداً لا نتفرق، كأنهم أخوان رضعا من ثدي واحد وأقسما: أننا لا نفترق أبداً، يعني: القاعدة واحدة، ما يقال في حق اليهود يقال في حق الروافض .

ما قدر الله حق قدره من نفى التحسين والتقبيح للعقل

ثم قال: (وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الشقاء، وأن يثيب أعداءه ومن لم يطعه طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه جائز، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك).

وهذا من إنكار الحكمة، فهو تابع لموضوع إنكار الحكمة أو إنكار التعليل.

لكن هنا أيضاً ملحظ آخر وهو أنهم يقولون: إن العقل لا يحسن ولا يقبح، فلو أن الله تبارك وتعالى -كما يقولون هم- أتى بأفضل الأولياء وأدخله النار فذلك جائز، وأتى إلى أعدى أعدائه وهو الشيطان وأدخله الجنة فذلك جائز عقلاً، لكن الشرع جاء بخلاف ذلك، فلولا أن الخبر الشرعي جاءنا لقلنا يحتمل هذا وهذا، تعالى الله عما يصفون!

لا والله لا نعتقد ذلك، بل الله تعالى أعطانا من العقول ما نعرف أن هذا الأمر لا يليق به، إذاً: العقل له دخل في معرفة التمييز بين الحق والباطل، في معرفة الصواب من الخطأ من خلال ما يأتي في الوحي تفصيله وبيانه، ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه الرسول النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] وهي تدل على منهج أهل السنة والجماعة ولا تدل على مذهب الأشاعرة وذلك لأن الله وكل إلينا معرفة الطيبات من الخبائث بعقولنا، ولو كان العقل لا يحسن ولا يقبح لما كان لهذه الآية أية دلالة.

وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس، وركز في عقولهم قدراً يعرفون به الحق، فيأتي الشرع فيصدقه، ولو عرض عليهم دين آخر باطل محرف لما قبلته عقولهم، بل تقول عقولهم: لا يمكن أن يكون هو دين الله تبارك وتعالى.

يقول: قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:27-28] سبحان الله! هل يمكن هذا؟!

كل الأمم اليوم إلا من عرف الله تعتقد ما نفاه الله، تعتقد أنه خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وأنه يجعل المتقين كالفجار والفجار كالمتقين، والمفسدين كالمصلحين، لأنهم ينكرون البعث والجزاء والحساب.

: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية:21-22].. وقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] لا يليق بالله تبارك وتعالى أن يجعل هؤلاء كهؤلاء أبداً.

ما قدر الله حق قدره من كذب بالقيامة

إذاً: لم يقدر الله تبارك وتعالى حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع الخلق ليوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38] انظر كيف ظن الكفار بالله، ظن السوء، أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت.. بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل:38-39] هذه حكمة عظيمة جداً، والأخرى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39] وكيف يعلمون ذلك؟!

أولاً: ليبين لهم الذي يختلفون فيه مسلمين وكفاراً، الدماء يومياً تنزف في هذه الأرض منذ أن جعل الله تبارك وتعالى الحق والباطل، منذ أن خلق الله السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وجعل جيشاً للإيمان وجيشاً للكفر جيشاً للتوحيد وجيشاً للشرك، جبهةً لأهل الطاعات وجبهة لأهل المعاصي، والمعارك قائمة في كل مكان، وفي كل بيت وكل مجتمع وكل قرية، ودماء تراق وتهدر.

خلاف كبير جداً، ألا يبين هذا الخلاف؟! سبحان الله، لا يليق هذا بالله!

طيب! هناك ناس يقولون: إن المسيح هو الله، كل يوم ألف ومائتا لغة يترجم إليها الإنجيل، محطات إذاعية تقارب الألف محطة بجميع اللغات في العالم، تقول: الرب (يسوع).. الإله.. المخلص.. ويأتي اليهود فيقولون: هذا ابن زنا، هذا كذا.. ، تعالى الله.

فهؤلاء غلوا وهؤلاء كفروا من جانب التنقيص، والمؤمنون يقولون: سبحان الله! هذا عبد الله ورسوله، إذاً: خلاف كبير بين هذه الأمم الكتابية الثلاث.. الرسالات الثلاث.. الأديان الثلاثة في العالم، خلاف كبير جداً الآن، فمن يبين لو لم يكن هناك يوم قيامة؟ لو مات اليهود وهم يعتقدون أنهم على الحق، والنصارى وهم يعتقدون أنهم على الحق، والمسلمون يظلون على هذا الاعتقاد؟ والأجيال تمر وكل واحد يظن أنه على الحق، لكن يأتي يوم القيامة ليبين لهم الذي يختلفون فيه، تعالوا.. فيبين يوم القيامة فيقول: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116] هنا يظهر، عيسى نفسه عليه السلام، أأنت قلت؟ تعالوا يا إذاعات الإنجيل والتبشير، كل ما تقولونه وتزعمونه اسمعوا الجواب الآن من عيسى، والمسلمون الحمد لله يعلمون أنهم على الحق، واليهود يعلمون أنهم كاذبون: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39] وقس على ذلك.

إذاً: فمهما حلف الكفار وأقسموا جهد أيمانهم أنه لا يبعث الله من يموت: بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [النحل:38] * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39].

يأتي المشرك بالعظم فيفته ويقول: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] ويجيبه الله سبحانه وتعالى: : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] لكن لو ما أتى البعث بعد ذلك من يصبح الكاذب ومن يصبح الصادق؟ تختل الأمور والموازين، إذاً: هناك حكم عظيمة، فمن أحسن ظنه بالله، ومن قدر الله تعالى حق قدره آمن بها، أما من كان غير ذلك فإنه هو الذي يكفر بالبعث وبالحياة بعد الموت.

ما قدر الله حق قدره من هان عليه أمره

قال: (وكذلك لم يقدر الله تعالى حق قدره من هان عليه أمره فعصاه).

كأن الشيخ ابن القيم رجع إلى موضوع الكتاب الأساس (المعاصي والعشق) لكن هو يأتي بالأشياء المهمة الأساسية ثم يأتي بهذه.

تقول: اتق الله يا أخي، هذا حرام! فيقول: هذا. بسيط لا يضر.. تقول: يا أخي! اتق الله وصل! افعل كذا! يقول: ليس هناك مشكلة. هان عليه أمره، هل قدره حق قدره؟

لم يقدره.

إذاً: ضيع حق الله وأهمل ذكره، غفل قلبه عن ذكر الله، آثر هواه وشهواته ورغباته، وأعرض عن طلب رضا الله، وأطاع المخلوقين وجعل طاعتهم عنده أهم من طاعة الله، يعني: جعل لله الفضل من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله.

إذاً القضية ليست أننا عصينا أو غفلنا، وإنما المشكلة من فعل ذلك وكلنا كذلك نسأل الله أن يرحمنا برحمته ما قدرنا الله حق قدره، لماذا؟

لأن له الفضلة من قلوبنا، والهم والتفكير في الدنيا، على السيارات والعمارات والزوجات والأبناء والوظائف.

قد يبتعث شخص خمس عشرة سنة للعلم ليس لله منها كلمة واحدة.

وكذلك يوجد أناس كل يوم يكتبون قصائد، مجلدات من الشعر ليس لله منها شيء، ومجالس وسهرات، يبدأ في الحكاية ويضحك الناس ويحكي لهم طوال الليل كل يوم، وليس لله شيء من هذا القول، يتكلم ويذهب.. ليس لله شيء، نسأل الله العفو والعافية.

وعمله كدح.. ليل نهار.. كم لله من هذا الكدح؟

لا شيء، يغضب لكن ليس لله، يرضى لكن ليس لله ينتقم لا لله؟ يثور لنفسه وشهواته، ماذا جعل لله؟!

وماله: شهوة.. تمشية.. نزهة.. رحلة.. خرجة.. إلى آخره، خذ ما شئت من المال، لكن أعط عشرة ريالات لله، وإن أعطى لله فإنما هو الفضلة، مثلاً: لو نجح واحد من أولاده لأعطاه هدية، لو كان لاعب كرة من أولاده وأتى بهدف يعطيه سيارة أو مليوناً أو أي شيء، ولو واحد من أولاده حفظ جزءاً من القرآن أعطاه عشرة ريالات أو خمسين ريالاً.

إذاً: هل أنت تحسن الظن به؟!

يقول: والله عندنا الرجاء نحن أمة محمد.. والله نحن نحسن الظن بالله.. يا شيخ ما أحسنت الظن به، من هذا حاله والله ما أحسن الظن بالله، ولا أحسن الرجاء، لو أحسن الظن لأحسن العمل، لو أحسنت الظن به لعظمت أمره ونهيه، ووقفت عند حدوده، وسعيت إلى مرضاته بكل طريقة، وكنت مع أوليائه، إن لم تجاهد أعداءه فكن محباً لأوليائه بقلبك.

يا إخوة! أناس يتفكهون في المجالس بالدعاة .. بالهيئة.. بالمقاومة.. سبحان الله! تحاربون أولياء الله الذي رزقكم وأعطاكم المال والمناصب والخير، فإن لم تكونوا مع أوليائه فلا تقفوا مع أعدائه، لكن الشيطان أعماهم وأصمهم، فهذا موقفهم من الله سبحانه وتعالى.

فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر الديني كان من أكبر الكبائر عند الله، وكذلك الكبر وتوابعه كما سبق، فإن الله سبحانه خلق الخلق، وأنزل الكتاب؛ لتكون العبادة والطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك، ولذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر، يقول الله تعالى في القرآن: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)لهذا كان أعظم وأكبر الذنوب.

القول على الله بلا علم

قال: (ويلي ذلك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله... إلى آخره).

قال: (فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر، وقدحاً في نفس الربوبية وخصائص الرب).

قلنا أن القول على الله من أعظم الذنوب ونستدل على ذلك بآية الأعراف؛ لأن الله تعالى يقول في الآية: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151] وبعد الفواحش الإثم والبغي، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] إذاً: هذا أكبر، مرتبة حسب درجتها في العظم.

فإذا صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً عند الله، فإن المشرك المقر بصفات رب العالمين خير من المعطل الجاحد لصفات الكمال، كما أن من أقر بالملك للملك ولم يجحد ملكه، ولا الصفات التي استحق بها الملك، لكن جعل له شريكاً في الملك أو بعض الملك هذا خير ممن يجحد صفات الملك وينكر الملك بالكلية، هذا الفرق بينهما.

يعني: إذا كان القول على الله تعالى بغير علم صادر من عالم يعلم الحق، فهو أعظم الذنوب جميعاً، وهنا خصوصية ذلك، أن الذين يفترون على الله الكذب أكثرهم ممن يعلمون الحق، ويعلمون أن الله تعالى لا يليق به ما يفترون عليه من الكذب، فهؤلاء عارضوا أصل القضية ونازعوها.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الشرك قديماً وحديثاً [2] للشيخ : سفر الحوالي

https://audio.islamweb.net