اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [5] للشيخ : يوسف الغفيص
بعد أن ذكر المصنف توحيد الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته عطف على ذكر التوحيد هذه المسألة، فقال: (وإن محمداً عبده المصطفى...إلخ).
فقوله: (وإن محمداً) عطف على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)، ومسألة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو مستقر عند جماعة المسلمين من أخص أصول الإيمان بالله، وهي الركن الثاني في الإيمان بالله والاستسلام له، ولهذا لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله..) وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله..) كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلى غير ذلك.
والخلاف هنا ليس لفظياً، وهذه مسألة تكلم فيها المتأخرون وحصل الغلط فيها، والصواب في هذه المسألة: أن الحكم هنا له ظاهر وباطن، فأما من جهة الأحكام الباطنة، التي بين العبد وبين ربه سبحانه وتعالى، فمن قال: لا إله إلا الله على مقصد الدخول في دين الإسلام، فإن هذا في الباطن يكون مسلماً، فلو أدركه الموت أو قتل ولم يقل: وأشهد أن محمداً رسول الله، فلا شك أنه في الباطن يكون قد مات على الإسلام؛ لأن تأخيره لذكر شهادة أن محمداً رسول الله؛ لم يكن عن تفريط.
وأما من جهة الأحكام الدنيوية، فهذا محل نزاع بين الفقهاء، والصحيح من أقوالهم: أن من قال ذلك ولم يدرك الثانية لمانع فإن أحكام الإسلام تتعلق بالأولى، وهذا هو الذي دل عليه ما ثبت في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: (لما حضر أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) .
ودل عليه ما ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: لا إله إلا الله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فقال: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) .
وكذلك ما جاء في حديث أسامة بن زيد لما قتل رجلاً وقد قال: لا إله إلا الله في المعركة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فكيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة) .
الأولى: أنهم قصروا دليل النبوة على المعجزة.
الثانية: أنهم فسروا معجزات الأنبياء بالخوارق التي تقع على جهة التحدي.
والذي اتفق عليه السلف رحمهم الله أن النبوة لا يختص دليلها بالمعجزات، بل تثبت النبوة بالمعجزة التي تذكر في القرآن وتسمى (آية)، وتثبت بغير ذلك، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) .
والدليل على فساد قول المتكلمين: أن الجماهير من المسلمين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم عند إيمانهم معجزة له، وإنما آمنوا بما بعث به من الحق، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، قال ابن عباس : (حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيَّ، قال: انطلقت بالمدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام) ، وفيه أن هرقل قال: (هل هنا أحد -أي: بالشام- من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان : فدعيت في نفر من قريش، فأجلسني بين يديه، وأجلس أصحابي خلفي، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا -يعني: أبا سفيان - عن الرجل الذي يزعم فيكم أنه نبي، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه، فكان في أسئلة هرقل : هل كان من أبيه ملك؟ فقال أبو سفيان : لا. فقال هرقل : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان : لا. فقال هرقل : هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقال أبو سفيان : لا. قال هرقل : من يتبعه؛ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم. قال هرقل : يزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان : بل يزيدون. قال هرقل : أيرتد أحدهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال أبو سفيان : لا. قال هرقل : هل يغدر؟ فقال أبو سفيان : لا يغدر، ونحن منه في مدة -أي: في صلح- لا ندري ما هو صانع فيها. ثم قال أبو سفيان : فوالله ما أمكنني أن أدخل كلمة إلا هذه -أي: تشكيكاً بالدعوة-. ثم قال: بم يأمركم؟ قال أبو سفيان : يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والصلة، والعفاف
فهذه الأسئلة ليس فيها سؤال عن المعجزات، وبعدها قال هرقل : (إن يكن ما تقوله فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) .
ثم بيّن هرقل معنى هذه السؤالات، فقال: (سألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فلو كان من آبائه ملك، لقلت: رجلٌ يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فلو قاله أحدٌ قبله فيكم، لقلت: رجلٌ ائتم بقول قيل قبله..) إلى غير ذلك.
فالمقصود: أن هرقل عرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بدلائل ليس منها المعجزات، مما يدل على أن دليل النبوة ليس مقصوراً على المعجزة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الوفود وتأتيه الأعراب، وآمن به من آمن من عبدة الأوثان، ومن اليهود والنصارى، مع أن جمهور من آمن به لم ينظروا معجزة وقت إيمانهم، وإنما صدقوه بما يقوله من الحق، ولهذا فإن أعظم ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم وأخص دلائل النبوة هو القرآن.
والقرآن من حيث الحقائق والنظم، فإن الله سبحانه وتعالى تحدى العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
ولا شك أن كرامات الأولياء ثابتة بإجماع أهل السنة والجماعة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه في قصة الفتية أهل الكهف؛ حيث آتاهم الله تلك الكرامة المذكورة في سورة الكهف، وقد ثبتت الكرامة لغير واحد من الأمة، وعلى هذا أجمع السلف.
وكذلك ما يقع من خوارق الكهان والسحرة والعرافين والرمالين، فإن هذا ثابت، ولا يقال: إنه يختلط مع دليل النبوة، فإن ثمة فرقاً بين المقامين، من جهة القائم به، ومن جهة الفعل نفسه.
ومن المعلوم قطعاً أن الولي لا يمكن أن يختلط بالنبي، إذ من شرط الولاية أن لا يكذب بالدعوى، فمن ادعى النبوة فإنه يعلم أنه ليس بولي، بل هو من أعظم الكفار كفراً، وأما الكهان والعرافون والسحرة والرمالون، فإن أحوالهم التي تكتنفهم من الشر والفجور والفسوق والعصيان، تكفي دليلاً على أنهم ليسوا بأنبياء ولا صادقين فيما يدعون، وإن اتصفوا بأحوال هي في نظر الناس تعد من الخوارق.
والفرق الثاني: من جهة الفعل الخارق نفسه، ومن أخص دلائل هذا الفرق ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة موسى وسحرة فرعون، فإن الله أمر موسى أن يلقي عصاه، قال: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:31] والسحرة ألقوا حبالهم وعصيهم، حتى أن الله سبحانه وتعالى قال: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66] ففي نظر الناس تحركت هذه العصي والحبال، وتحركت عصا موسى، ولكن بين الحقيقتين فرق بيِّن، فإن عصا موسى قد انقلبت حيةً على الحقيقة، وهذه قدرة الله سبحانه وتعالى، بخلاف حبال السحرة وعصيهم، فإنها في نفس الأمر لم تزل حبالاً ولم تزل عصياً.
وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن كرامات الأولياء ليست كخوارق السحرة والكهنة والعرافين، وإذا كان بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهنة والعرافين فرق، فمن باب أولى الفرق بين معجزة النبي وخوارق السحرة.
ولهذا فإن الخوارق التي يدعيها الكهان والعرافون والرمالون لا بد أن يصاحبها الكفر؛ فإنها نوع خضوع لشياطين الجن، ومعلوم أن الجن لهم من الاقتدار على الأشياء ما ليس لبني آدم، فيتحركون حركة هي في نظر الجن حركة معتادة، وتكون في نظر الإنس حركة خارقة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39] ، وقال الله عنهم: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] ، وهذا بخلاف الخارق الذي يقع للولي، فإنه نعمة من الله، ليس تحريكاً من جهة الجن، فضلاً عما يقع لنبي أو رسول.
وهذا التفصيل ليس مختصاً ببعض فقهاء الشافعية، بل بالإجماع أن مثل هذا لا يسمى كفراً، وكأن الغلط هو في تسميته سحراً.
وقوله: (ونبيه المجتبى) أي: أن الله اجتبى نبيه، (ورسوله المرتضى) أي: أن الله سبحانه وتعالى رضيه رسولاً له ورضي عنه، والمصنف ذكر نبوته ورسالته، وهو عليه الصلاة والسلام يسمى نبياً ويسمى رسولاً بالإجماع، وهذا يقود إلى ذكر مسألة الفرق بين النبي والرسول، وهي مسألة تكلم فيها المتأخرون كثيراً، وذكر بعضهم أقوالاً يُعلم أنها من الغلط.
والشائع في كلام أكثر الشراح أن النبي من أُوحي إليه بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، وهذا ليس عليه دليل.
فإن الله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على أولي العلم الذين لم يأتهم وحي أن يبينوه للناس، فكيف بمن أوحى الله إليه وحياً، فلا معنى لهذا القول، وقد نُسب هذا القول إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكنه ليس كذلك، بل الصحيح الذي قرره شيخ الإسلام رحمه الله: أن النبي هو من أوحي إليه اتباع وتجديد شريعة نبي قبله، فهذا التكليف هو النبوة، ويكون الرسول على هذا التعريف هو: من بُعث إلى قوم بأصل التوحيد، وأما من كان المقصود من بعثته إما نسخ الشريعة السابقة، أو التثبيت لها، أو التجديد في بعض مسائلها مع كون القوم الذين بعث فيهم على أصل التوحيد، فإنه يُسمى نبياً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي) .
وقد قال بعض العلماء: إنه ليس من شرط الرسول على هذا الوجه أن يختص بشريعة، بل قد يبعث بأصل التوحيد، ويكون موافقاً لشريعة رسولٍ قبله، وهذا تحصيل محتمل، والله أعلم به.
ومثلوا لذلك بيوسف عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله قال: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ الله مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34] فظاهر السياق أنه رسول، وكان على ملة إبراهيم، أي: على شريعته. وهذا تحصيل محتمل، لأن قوله: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي [يوسف:38]، الظاهر أن المقصود به التوحيد.
وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، وهذا محل إجماع بين المسلمين، فكل من ادعى النبوة بعده فإنه يكون كافراً، سواء ادعى أنه نبي على الاختصاص، أي: أتى بشريعة جديدة، أو ادعى أنه نبي يوحى إليه فيما اختلف الناس فيه من أمر شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه: فدعوى بعض الطوائف الغالية الوحي، أو بعض مقامات الوحي لبعض الناس، كالقول بعصمة أئمة الشيعة، وأن صاحب هذا المقام لا يمكن أن يخطئ إذا تكلم في شرع الله؛ لا شك أنه كفر بإجماع المسلمين.
لا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل بني آدم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ، وقال: (أنا سيد ولد آدم) ، فلا شك أنه أفضل رسل الله وأنبيائه، وتفضيله صلى الله عليه وسلم مجمع عليه.
وقد جاءت بعض النصوص مشكلة على هذه المسألة كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بساق العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) ، وغيره من الأحاديث التي ظاهرها معارضة ما تقدم من تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء.
فهذا الحديث وما في معناه ينبغي الوقوف على معانيها والمقصود منها، فيقال: هو في هذا المقام المختص حين يصعق الناس يوم القيامة أول من يفيق، لكن هل موسى عليه الصلاة والسلام يفيق قبله، أم يكون موسى ممن استثنى الله؟ الجواب: الله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث بالحديث قال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله) ، فيجب في هذه المسألة الوقوف، ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) على ما إذا كان التفضيل على جهة التعدي، أو استلزم التفضيل التنقيص أو الإسقاط لحق نبي من الأنبياء.
ويدل لهذا مناسبة الحديث كما في الصحيح: (أن أحد اليهود قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه أحد الصحابة وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: لا تفضلوا بين الأنبياء).
وليس معنى الحديث منع المسلم أن يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من غيره وأن موسى عليه السلام أفضل من كثير من الأنبياء، فإن الله قد قال في القرآن: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] وقال: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]، ولكن من أصول أهل السنة، أنه لا يستطال على أحد من خلق الله لا بحق ولا بغير حق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يذكر مذهب أهل السنة والجماعة في آخر الرسالة الواسطية قال: (ويرون ترك الاستطالة بحق أو بغير حق).
أما الاستطالة بغير حق: فكالاستطالة بمحض الظلم والكذب أو الخطأ أو الغلط، وهذا بين.
وأما الاستطالة بحق: فأن يكون الأصل الذي انطلق منه حقاً ولكنه زاد فيه، ومن أخوف ما يخاف على هذه الأمة، أن يتخذ العلم بغياً، وهو من أخلاق أهل الكتاب التي لما دخلت وشاعت فيهم، أفسدت ملتهم وجعلتهم شيعاً وأحزاباً.
وهذا مع الأسف يقع كثيراً في الناس اليوم وقبل اليوم، فيستطال على بعض الأعيان، أو بعض الطوائف بما هو من العلم، ولهذا وقع أول الافتراق في هذه الأمة لما استطال الخوارج بالحق، أي: أنهم استدلوا بالقرآن، وقالوا: لا حكم إلا لله، كان من فقه الإمام علي رضي الله عنه أن قال: (كلمة حق أريد بها باطل).
فينبغي لطالب العلم أن يفقه هذه المسألة وأن يعرف أدب أهل السنة، فإن العلم إنما بُعث هدىً ورحمة، ولم يكن العلم الذي أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله ليتخذ بغياً واستطالة، فإن طلب العلو في الأرض غاية فرعون وأمثاله الذين ذمهم الله في كتابه.
ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى العلو المناسب للمؤمنين جعله مطلقاً، فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] ، ولما ذكر فرعون قال: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ [القصص:4] فالعلو المناسب للمؤمن هو العلو الإيماني، الذي يقوم على العدل والرحمة، ولهذا لما ذكر الله سبحانه الخضر قال: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الرسل بعثوا بالعلم والرحمة، فالرحمة بلا علم جهل، والعلم بلا رحمة ظلم وبغي)، وموجب الخطأ في بني آدم إما الجهل وإما الظلم، قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] .
لو أن المصنف رحمه الله قال: (وخليل رب العالمين) لكان أجود، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وإن كان اللفظ لا إشكال فيه، وإنما الكلام في الأولى.
قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى)، أقول: بل هي كفر مجمع عليه كما تقدم.
من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الإنس والجن، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما: (فضلت على الأنبياء بست) وفي رواية: (فضلت على الأنبياء بخمس) ، ومنها: (بعثت إلى الخلق كافة) ، وهذا لكون رسالته ونبوته خاتمة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) .
فكل من بلغته دعوته صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به، سواء كان ترك دعوته اتباعاً لنبوة نبي سابق كعيسى أو موسى عليهما السلام، أو كراهية أو لغير ذلك؛ فإنه من أهل النار وممن كفر بالله سبحانه وتعالى.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [5] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net