اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [7] للشيخ : يوسف الغفيص
الرؤية من أخص الصفات التي حصل فيها النزاع، وقد أجمع السلف على أن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، في عرصات القيامة، وفي الجنة. والدليل على ذلك: الكتاب، والمتواتر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع.
وقد نفى الرؤية أئمة الجهمية والمعتزلة، وطوائف من الشيعة المقلدة للمعتزلة، وهذا المذهب بدعة بإجماع السلف، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن من بلغته نصوص الرؤية ولم يقل بها، فإنه يكون كافراً إذا قامت الحجة عليه بها)، وقد جاء عن غير واحدٍ من السلف كـأحمد ومالك ، أنهم سموا الخلاف في هذه المسألة كفراً.
ولا شك أن الأمر كذلك، فإن من خالف صريح النصوص، ومتواتر السنة، وصريح الإجماع، فإن قوله يكون كفراً وإن كان قائله لا يكفر ابتداءً كالمسألة التي تقدمت في قول من قال: إن القرآن مخلوق، فلا فرق بين المسألتين في الحكم.
وتعلم أن النظر في لسان العرب يأتي بحسب سياقه على غير معناه كقولهم: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] وكقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185] ، فهذه معان مختلفة، وهذه قاعدة من أهم القواعد لطالب العلم في فقهه لمذهب أهل السنة ودلائلهم: وهي أن تفسير الأئمة للآيات والأحاديث النبوية، ليس معتبراً بوضع الكلمة المفردة في اللغة، بل هو معتبر بسياق الكلام نفسه.
وهذا يرد قول من قال: إن النظر في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] ، بمعنى الانتظار؛ لأن النظر يأتي في كلام العرب على معنى الانتظار، ومنه قوله: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] أو قال: إنه التفكر، لأنه يأتي في كلام العرب كذلك ومنه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ [الأعراف:185] أي: نظر تفكر أو نحو ذلك.
ومثله في الصفات الأخرى، كقول من قال إن اليد في قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] المراد بها هنا النعمة؛ لأن العرب تذكر اليد وتريد بها النعمة.
ومنه قول عروة بن مسعود لـأبي بكر رضي الله عنه في الحديبية كما في الصحيح: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك). أي: لولا نعمة لك علي.
فالسياق يوجب أن تفسر اليد بالصفة ويرد تأويلهم؛ فإن قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ذكر لفظ اليد هنا مثنىً مضافاً، وإذا ذكر مثنىً مضافاً، فإنه لا بد أن يفسر بالصفة القائمة بموصوفها ولا يمكن أن يكون المراد به النعمة أو نحو ذلك.
ومن دلائل الرؤية قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] ، فلفظ الزيادة لفظ مجمل، لكنه صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي رواه مسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله، ومن هنا كان هذا اللفظ مبيناً بالسنة.
ومن دلائلها قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] ، فإن الله نفى الإدراك، والإدراك قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه ثابت، وإلا فلا معنى لتخصيص القدر الزائد بالنفي، بمعنى أنه لو كان أصل الرؤية ممتنعاً، فلن يكون لتخصيص القدر الزائد بالنفي معنى، ومعلوم في حس بني آدم أن بين الإدراك وأصل الرؤية فرقاً، فإنك إذا رأيت الشيء لا يلزم أن تكون قد أدركته.
وقد قال رجل لـابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن عباس إن الله يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] ويقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: ألست ترى السماء؟ قال الرجل: بلى؛ قال: أتدركها كلها؟ قال الرجل: لا. قال فالله أعظم.
وأما قول من قال: إن تفسير قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه في الدنيا، فهذا قول قاله طائفة من أهل السنة ولكنه ليس براجح، بل الصحيح أن الآية على عمومها، وأن من خصائصه سبحانه أنه يُرى ولا يدرك، بخلاف غيره؛ فإنه إذا رئي يدرك أو يكون ممكن الإدراك، وهذا معنى قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أي في صفاته الثابتة، فهو يرى ولا يدرك، كما أنه يُعْلَم من علمه شيء ولا يحاط به علماً.
ومن دلائل الرؤية عند أهل السنة قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ، ووجه الدلالة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية، ولو كان -كما تزعم المعتزلة- من أصل التوحيد أن الله سبحانه تمتنع عنه الرؤية، للزم من ذلك أن يبعث الله رسولاً ويصطفيه برسالته وبتكليمه على الناس، ويكون جاهلاً بأصل من أصول الربوبية!
وقد علق الله رؤيته بأمرٍ ممكن، وهو استقرار الجبل مكانه، فدل على أنها ممكنة.
ومن دليل أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم: متواتر الحديث؛ فإنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق نحو ثلاثين من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة، في الصحيحين والسنن والمسانيد، تصريحه صلى الله عليه وسلم بين يدي أصحابه مع اختلاف أحوالهم: أن المؤمنين يرون ربهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تضامون في رؤيته) متفق عليه.
ومن ذلك حديث أبي موسى في الصحيحين، وحديث صهيب عند مسلم ، وحديث جرير بن عبد الله البجلي إلى غير ذلك.
وهذا جهل من جهتين:
الأولى: أن حديث الرؤية رواه نحو ثلاثين من الصحابة، فكيف يقول: إنه لم يروه إلا جرير بن عبد الله البجلي ، خاصة أن اللفظ الذي ذكره جرير ذكره غيره من الصحابة.
الثانية: وهي زعمه أن دليل الآحاد لا يُستدل به.
فهذا الحد للمتواتر غلط على السنة، لأنهم قالوا: ما رواه جماعة عن جماعة، ثم ذكروا خلافاً في حد الجماعة، والذي يستقر عليه كثيرٌ منهم هو: العشرة أو ما يقاربهم فعلى طريقتهم، لا يصير الحديث متواتراً إلا إذا رواه عن الرسول عليه الصلاة والسلام من الصحابة عشرة، ورواه عن كل صحابي عشرة، فيكون العدد في التابعين مائة، ورواه عن كل واحد من هؤلاء المائة عشرة، فتكون الطبقة الثالثة ألفاً من الرواة، ومثل هذا لا ترى له مثالاً في السنة، وإن فرض له مثال فهو يسير جداً.
وقد صرح بعض الحفاظ الذين ذكروا هذا الحد أنه لا مثال له على هذا الوجه، فلو صحح رأيهم في المتواتر على هذا الوجه لكان نتيجة ذلك: أن السنة لا يحتج بها في الاعتقاد، لأنه لا يوجد حديث متواتر على هذا الحد.
وأما أن تقسم الرواية إلى متواتر وآحاد على حد يختلف عن ذلك فهذا لا بأس به، وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من المتقدمين لفظ المتواتر في كلامهم، لكنهم لم يوردوا للمتواتر هذا الحد الذي زعمه المتكلمون ودخل على طائفة من الأصوليين وعلماء المصطلح المتأخرين.
وأما استدلالهم على نفي الرؤية بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] ، وقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] ، فقالوا: (لن) تقتضي التأبيد.
فلو سلم جدلاً أن الآيتين تدلان على مراد المعتزلة، فتكون نتيجة الدليل نفي الرؤية مع إمكانها؛ لكن المعتزلة والجهمية يقولون: إن الرؤية ممتنعة، ومعلوم أن المنفي قد يكون ممكناً وقد يكون ممتنعاً، فإذا قيل لك: هل لك ولد؟ فقلت: لا، فلا يعني هذا أن الولد في حقك ممتنع، بل هو ممكن، لكنه لم يوجد حتى الآن.
فإذاً: الامتناع يستلزم النفي، ولكن النفي لا يستلزم الامتناع، فقد ينفى الشيء وهو ممكن، وقد يُنفى الشيء وهو ممتنع، فلو وقفت المعتزلة عند الدليل الذي زعمت أنها تستدل به، للزمهم أن يقولوا: إن الرؤية منفية ولكن لا نقول: إنها ممتنعة.
لكن لما قرروا أنها ممتنعة بما يسمونه دليل المقابلة، وهو عندهم امتناع الرؤية لامتناع العلو على الله تعالى، ودليل الانطباع، وغيرها من الدلائل الكلامية الفلسفية، وحكموا عليها بالامتناع، ثبت أنهم ليس لهم دليل لا من الكتاب ولا من السنة.
وقد كان الأشعري وقدماء أصحابه يثبتون الرؤية إثباتاً حسناً.
قول المصنف: (والرؤية حق لأهل الجنة) أراد بأهل الجنة هنا: المؤمنين، وإلا فإنهم يرونه في الجنة ويرونه قبل ذلك في عرصات القيامة.
قوله: (بغير إحاطةٍ) أي: بغير إدراك، كما في قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام:103] ، وقوله: (ولا كيفية) هذه كلمة مجملة، لو لم يعبر بها لكان أجود؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الرؤية فقال: (كما ترون القمر..) وقال: (وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب) .
وهذا ليس من أحاديث التشبيه كما زعم بعض علماء المعتزلة، فإن التشبيه هنا تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر) ، ولم يلزم من ذلك أنهم مماثلون في الحقيقة للقمر، وهذا مستقر بأصل العقل، والعرب تارة تذكر التشبيه للصفة، وتارةً تذكر التشبيه للموصوف.
قال: (وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه) هذا حرف مجمل ولا شك أن تفسير كلام الله هو على ما أراده الله وعلمه، كما قال الإمام الشافعي في الصفات: (نؤمن بما جاء في كتاب الله، وجاء في سنة رسول الله، على ما أراد الله)، وهذه جملة مجمع عليها بين السلف؛ ولكن هذا الحرف يستعمل لنوع من التفويض، وقد استعمل التفويض في الرؤية طائفة من علماء الأشاعرة الذين فسروا كلام متكلميهم في قولهم: يرى بلا جهة، فقالوا: هي رؤية علمية، وهذا رجوع لمذهب المعتزلة، حتى قال أبو حامد الغزالي : (إن الفرق بين مذهب أصحابنا ومذهب المعتزلة هو فرق لفظي).
فقوله: (وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه) هذه جملة مجملة، فلا شك أن التفسير هو على مراد الله وعلمه، ولكنه معلوم بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته.
يذكر في كلام كثير من أهل العلم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه المسألة ليست من المسائل الأصول، فليست من حيث القدر والشرف كمسألة رؤية المؤمنين لربهم الثابتة في الكتاب، ومتواتر الحديث، والإجماع التام.
أما رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج فإن فيها طرفاً من النزاع على طريقة أهل السنة والمتكلمين، وإنما الغلط حصل في طريقة بعض المتأخرين من أهل العلم الذين جعلوا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره قولاً لأكثر أهل السنة، وربما قال من قال منهم بأنه قول أكثر الصحابة، ولم يخالف إلا عائشة وطائفة، وهذا غلط بيِّن؛ فإنه لم يصح هذا القول عن واحد من الصحابة، وإنما الذي صح عن جماعة من الصحابة، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وهذا قاله ابن عباس كما في الصحيح، وطائفة من الصحابة.
ومع هذا فما يستدل به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في هذه المسألة بعضه مما يصحح، وبعضه مما يخالف فيه، فإنه فسر بعض الآيات برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بفؤاده، في حين أن عائشة روت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد جبريل عليه السلام.
إلا أن هذا القول المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما هو القول الشائع عند طائفة من السلف، وقد كان الإمام أحمد وجماعة من أئمة السنة والحديث يقيدون فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وتارةً يقولون: إنه رآه، فيطلقون، وأُثر ذلك عن ابن عباس ، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فما صح عن ابن عباس إما مطلقاً وإما مقيداً، فيحمل مطلق كلامه على مقيده، قال: ولم يصح عن ابن عباس ولا عن أحد من الصحابة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره. قال: وكذلك الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة والحديث، فإن قولهم على هذا الوجه، وإن كان طائفة من متأخري أصحابنا يحكون عن أحمد وغيره من متقدمي الأئمة، ما هو من التصريح برؤية البصر، قال: وهذا من فهم كلامهم، وليس هو ما أُثر عنهم على الوجه المحقق).
فالحاصل أنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وعليه فيكون هذا القول كأنه محدث، وإن كان في الجزم بهذا بعض التردد، وقد حكى الدارمي رحمه الله وهو من متقدمي المحققين من أئمة السنة إجماع الصحابة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه ببصره.
وهذا الإجماع الذي حكاه الدارمي ليس هناك من الآثار المروية عن الصحابة ما يعارضه، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين أنها قالت لـمسروق : (ومن حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب)، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه نازع عائشة رضي الله تعالى عنها في ذلك، وإذا اعتبر الاستدلال بغير دليل الإجماع فإن ظاهر القرآن وصريح السنة، تدل على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ببصره.
أما القرآن فلأن الله تعالى لما ذكر معراج نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] وقال سبحانه: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] ، فذكر في الموضعين امتنانه سبحانه وتعالى على نبيه برؤية الآيات، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في معراجه ببصره لكان الإشادة والامتنان بذكر رؤيته لربه أظهر وأولى من الإشادة والامتنان بذكر رؤية الآيات.
وأما السنة فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن شقيق أنه قال لـأبي ذر رضي الله عنه: (لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال له أبو ذر: عمَ كنت تسأل؟ فقال: أسأله: هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: أما إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت نوراً) وفي الوجه الآخر من حديث عبد الله بن شقيق نفسه عن أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر قال: (نورٌ أنى أراه) .
وقد كان الإمام أحمد وبعض متقدمي أئمة الحديث يتأخرون عن تصحيح هذا الوجه من الرواية، فإن صح هذا فالمعتبر وجه واحد، وإن استقام ما ذهب إليه الإمام مسلم ومن اعتبر رأيه في هذا، فإن كلا الوجهين يكون صحيحاً ولا يكون هناك تعارض، والحق: أن جهة التعارض ليست هي الموجبة للتردد في صحة كلا الوجهين، وإنما الموجب لذلك أن وجه الرواية من حيث السؤال واحد، فإما أن يكون النبي أجاب بهذا أو أجاب بهذا، وإن كان فرض الجمع بين الجوابين ممكن وليس متعذراً؛ فقوله: (رأيت نوراً) ليس مخالفاً من حيث المعنى لقوله: (نورٌ أنى أراه) ، أي أن النور حال دون رؤيته، وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم فإنه -والله أعلم- هو نور الحجاب، فإنه ثبت في صحيح مسلم رضي الله عنه من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
وعليه فإن المستقر عند متقدمي السلف من الصحابة ومن بعدهم، أن يُقال: إن النبي رأى ربه بفؤاده ولا يصرح برؤية البصر.
القول الأول: أنه لا يراه في عرصات القيامة سائر أجناس الكفار سواء كانوا من المشركين، أو من أهل الكتاب أو من المنافقين، فلا يراه في عرصات القيامة إلا أهل الإيمان.
القول الثاني: أنه يراه سائر الكفار من أهل الكتاب وأهل الشرك وأهل النفاق، ثم يحتجب عنهم.
القول الثالث: أنه لا يراه إلا المنافقون دون بقية الكفار.
القول الرابع: أنه يراه المنافقون وغبرات من أهل الكتاب، أي: بقايا من أهل الكتاب.
القول الخامس: وهو التوقف في المسألة والكف عنها.
وإنما قيل: إن الأقوال ثلاثة؛ لأن من يقول بالقول الثالث لا يعارضون ما يقوله أصحاب القول الرابع، ويفسرون هذا النوع من أهل الكتاب بأنهم متحنفة أهل الكتاب، الذين لم يدركوا دين الإسلام.
وأما مذهب التوقف ففي كلام الأصوليين حينما يحكون المذاهب في المسائل الأصولية أو غيرها، كثيراً ما يذكرون مذهب التوقف، وهم أكثر الأصناف ذكراً للتوقف قولاً.
والصحيح أن التوقف الذي معتبره عدم العلم بالدليل لا يعد قولاً، وأما التوقف الذي يكون عن اشتباه في مورد الأدلة، فإنه يعد قولاً.
وإذا سئل عن الراجح، فإن المسألة ليس فيها قول يجزم به، فبعض ظواهر الحديث المخرجة في الصحيح تدل على أن المنافقين وطوائف من أهل الكتاب يرون ربهم، وإذا اعتبرت ظاهر القرآن، وظاهر كلام المتقدمين من السلف، فإنه يدل على أنه لا أحد من الكفار يرى ربه، وقد كان الشافعي ومالك والإمام أحمد يحتجون بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] على رؤية المؤمنين لربهم، وهذا يعني أنهم يرون أن الكفار لا يرونه.
وهكذا قال شيخ الإسلام : إن ظاهر مذهب المتقدمين من السلف أن الكفار لا يرون ربهم، وهذا هو ظاهر القرآن؛ فكأن هذا القول هو الأولى في المسألة، وإن كان الخلاف في المسألة واسعاً وليست هي -بإجماع أهل العلم- من المسائل الأصول.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [7] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net