اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [19] للشيخ : يوسف الغفيص
وهذه الجمل ليس بينها اختلاف عند التحقيق، بل هي جمل متفقة من حيث المعنى، وإن كان المأثور عن جماهير من السلف هو أجود التعبيرات، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل، ومرادهم بالقول هنا: قول القلب وقول اللسان، ومرادهم بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، فأما قول اللسان فبين، وأما عمل الجوارح فبين، وهي الشرائع الظاهرة كالصلاة والصوم والحج وأمثال ذلك، وأما قول القلب -وهو أصل الإيمان عند السلف ومبناه- فمرادهم به: تصديق القلب.
وأما عمل القلب فهو: حركته بهذا التصديق في أعماله المناسبة له، كالمحبة والرضا والخوف والاستعانة إلى غير ذلك من أعمال القلوب، وعليه فأصول الإيمان على هذا الاعتبار تكون أربعة: تصديق القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح.
وأما ذكره الشافعي وأمثاله -وهو الشائع في كلام أكثر المتأخرين من أهل السنة- من أنه قول وعمل واعتقاد، فإنهم يريدون بالقول: قول اللسان، ويريدون بالعمل: الأعمال الظاهرة والباطنة، ويريدون بالاعتقاد: التصديق.
فالقصد أن هذه الجمل المأثورة عن السلف لا خلاف بينها في نفس الأمر.
وعلى هذا المعنى أجمع السلف رحمهم الله، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه متعلقة بأصوله الأربعة، فليست مختصة بالعمل وحده، بل يزيد وينقص من جهة الأعمال الظاهرة، ومن جهة الأقوال إذا ما فسر قول اللسان بغير الشهادتين، ويزيد وينقص في أعمال القلوب، بل حتى التصديقات متفاضلة.
ثم بعد ذلك اختلفت المرجئة على أقوال، وقد ذكر الأشعري في (المقالات): (أن مقالات المرجئة في مسمى الإيمان اثنتا عشرة مقالة)، وقد أجمعوا على أن أشد هذه المقالات غلطاً وبعداً عن السنة والجماعة هي مقالة الجهم بن صفوان ؛ فإنه قال: الإيمان هو المعرفة، ويقاربه في الجملة قول أبي الحسين الصالحي ، وأخف مقالات المرجئة هو قول حماد بن أبي سليمان .
ولا يوجد أصل من أصول الدين قد خالف فيه بعض المعروفين بالإمامة والسنة والجماعة من المتقدمين إلا هذا الأصل، وإلا فإن كلام السلف في الصفات والقدر وأمثاله كلام متصل محكم، وإنما نازع في هذا الأصل حماد بن أبي سليمان ، وهو إمام من أعيان أئمة الكوفة، ومن تلاميذ إبراهيم النخعي ، وقد أجمع أهل العلم على أنه من المعروفين بالسنة والجماعة، ولكنه غلط حين أخرج العمل عن مسمى الإيمان، فهذه البدعة أول من ابتدعها من أهل السنة والجماعة هو حماد بن أبي سليمان ، ومن جهته دخلت على أبي حنيفة وجماهير أصحابه.
وسبب غلطهم في مسمى الإيمان لم يكن موجبه خارجاً عما يصح الاستدلال به الكتاب والسنة، ومعنى ذلك أن هذا القول لم يكن دخل على حماد من أصل خارج عن الاستدلال بالشرع، بل كان يستدل على مقالته هذه بنوع من الاستدلال الشرعي وإن كان استدلاله غلطاً، وذلك مثل استدلاله بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107] ، فجعل ذكر العمل مع الإيمان دليلاً على أن العمل ليس داخلاً في مسماه، ولا شك أن هذا إشكال بين يُدفع به عن حماد وأمثاله أنهم كانوا ينتحلون هذا القول على أصول بدعية.
ويتحقق التفريق إذا نظرت في أقوال القدرية أو معطلة الصفات، فإنهم لم يكونوا يبنون تعطيلهم على شيء من الاستدلال بالأصول الشرعية، وإنما مبنى أقوالهم على نوع من الشبهات التي دخلت عليهم من المقالات الفلسفية أو نحوها، وإن كان يستدل بعضهم بما هو من القرآن فهذا ليس هو مبنى أو موجب المقالة في مسائل الصفات والقدر وأمثالها.
ولم يكن حماد بن أبي سليمان رحمه الله من المعروفين بشيء من أصول البدع كعلم الكلام ونحوه، ولكنه قال هذه المقالة التي أجمع الأئمة على أنه خالف فيها الإجماع عن غلط في الاستدلال، ويراد بالإجماع هنا الإجماع المتقدم، أي: أن السلف قبل حماد وهم طبقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم، لم يكن أحد منهم يقول: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعلى هذا قيل: إن قول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأمثالهما مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وليس من شرط كونه مخالفاً للإجماع أن لا يُضاف حماد وأمثاله ممن قال بذلك من أصحاب السنة إلى السنة والجماعة، بل الإجماع يتحقق من وجه متقدم.
ولهذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تارة يقول: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وتارة يقول: والقول الذي عليه الجماهير من السلف أن الإيمان قول وعمل، وكلا الاستعمالين صحيح، فإنه إن قال: إن السلف أجمعوا فإنه يعني الإجماع المتقدم على حماد ، ومخالفة حماد هنا لا تعتبر؛ لكونه خالف الإجماع المتقدم، وإذا قال: إنه قول جماهير السلف، فإنه يعني بذلك أن حماداً وأمثاله لا يخرجون عن السنة خروجاً مطلقاً، بل هم يعدون في أصحاب السنة والجماعة، وإن كان قولهم بدعة بالإجماع فضلاً عن كونه غلطاً.
ويرد اسم الإيمان في الكتاب والسنة مطلقاً تارة ومقيداً تارة، ويرد به في مقام أصله وفي مقام آخر يراد به تمامه، فهو في مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277] ، يراد به الأصل على الصحيح من التفسيرين اللذين أجاب بهما أهل السنة والجماعة عن استدلال المرجئة كما سيأتي، وهذه الآية وأمثالها هي أقوى ما استدل به المرجئة ولا سيما الفقهاء منهم، على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعنها جوابان:
الجواب الأول: أن هذا من باب عطف الخاص على العام، وهذه الطريقة وإن كانت صحيحة في الجملة إلا أنها ليست هي الطريقة الأجود.
الجواب الثاني: وهو الذي رجحه شيخ الإسلام رحمه الله: أن الإيمان هنا هو الأصل، وإذا ذكر الأصل فإن العمل يكون لازماً له، ولزومه له في مقام لا يستلزم عدم دخوله في ماهيته في مقام آخر، فإن ما كان لازماً يكون تابعاً، ولا يمكن في العقل أن ينفك اللازم عن الملزوم، قال شيخ الإسلام : (وإذا كان العمل لازماً في مقام لأصل الإيمان أو لمسمى الإيمان لم يلزم أن يكون في سائر الموارد كذلك، ولم يمنع ذلك أن يكون داخلاً في ما هيته في نفس الأمر، لأنه قد جاء إدخاله في ماهيته صريحاً في مثل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:2-3]، فجعل من أصل الإيمان إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة، ومثله قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] فإن عامة السلف فسروها بصلاتهم إلى بيت المقدس، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما ثبت عنه في صحيح مسلم ، وإن كان أصله متفقاً عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) .
فالآثار النبوية والكلمات القرآنية متضافرة على تسمية العمل إيماناً، وليس في الأدلة الشرعية ما يشكل إلا من هذا الوجه الذي ذكره بعض فقهاء المرجئة وغيرهم، وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277] .
المقدمة الأولى: أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق.
المقدمة الثانية: أنه إن كان في اللغة يراد به التصديق لزم أن يكون في الشرع كذلك ولا يتعداه إلى غيره.
وكلا المقدمتين مما ينازعون فيه، فإن الإيمان وإن استعمل في كلام العرب مرادفاً للتصديق في بعض السياقات، إلا أنه يقع في بعض السياقات بخلاف ذلك، وبينه وبين التصديق فرق من جهة اللفظ والمعنى ذكره جماعة من أهل السنة.
والجواب عن المقدمة الثانية من وجهين:
الوجه الأول: أنه إذا سلم أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق فإنه لا يلزم أن يكون في سائر موارده في الشريعة كذلك، ومعلوم أن المرجئة يسمون العمل إسلاماً، مع أن هذا مما لا توجبه اللغة، فما كان مسوغاً أو موجباً عندهم لتسمية العمل إسلاماً من جهة اللغة فيمكن طرده على مسمى الإيمان، فإذا قالوا: إن الصلاة لا تسمى في اللغة إيماناً، بل الصلاة في اللغة هي الدعاء، والإيمان هو التصديق، قيل لهم: وهل الصلاة والزكاة والحج والأعمال الظاهرة تسمى في اللغة إسلاماً؟
فالجواب: لا. فيقال: فما الذي سوغ أن تسمى إسلاماً مع أن الإسلام اسم شرعي بالإجماع، كاسم الإيمان من جهة كونه اسماً شرعياً؟
فتبين أن هذا مما لا توجبه اللغة بذاتها، بل لا بد فيه من اعتبار تسمية الشارع، فلما كان الأمر كذلك تعلق اسم الإيمان بسائر الأعمال على هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن ما استعمله متكلمة المرجئة -لِمَا دخل في أصولهم الكلامية- من تجريد الماهيات إلى صور يفرضها الذهن لا حقيقة لها في الخارج، ومعنى هذا الكلام: أنهم إذا قالوا: الصلاة عمل، والعمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، إذ الإيمان هو التصديق.
فإنا نقول: ليس في الأعمال الشرعية الظاهرة كلها عمل ينفك عن التصديق، أما العمل الظاهر من حيث هو عمل ظاهر مجرد عن التصديق فإنه لا يسمى إيماناً بالإجماع، وهذا مما لا ينازع فيه أحد، والعمل الذي قصد السلف أنه إيمان هو العمل الشرعي، وهو العمل الذي أوجبه الشارع أو ندب إليه، كالصلاة والصيام والطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وإلا فالأعمال العادية كلعب بني آدم وحركتهم لا تسمى إيماناً.
فالصلاة لا يمكن أن تكون شرعية وهي مجردة عن التصديق بالباطن، وهو التصديق بأن هذه الصلاة أوجبها الله، وأن الله أوجبها أربع ركعات مثلاً كصلاة الظهر، وأنه شرعها في هذا الوقت، وأنه يقال فيها كذا وأركانها كذا، ويتعبد بها إلى القبلة، وأن من شرطها الإخلاص والإيمان؛ فإن هذه وإن كانت أعمالاً ظاهرة كالركوع والسجود والقيام والقراءة إلى غير ذلك إلا أنها متعلقة بالتصديق، ولهذا لو أن أحداً صلى صلاة الظهر خمساً فإن عمله يسمى بدعة وضلالاً، ومن صلى صلاة وقال: إن الصلاة ما شرعها الله وإنما هي من أقوال الفقهاء، فهذا يكون كافراً، ولا تكون صلاته شرعية.
فتحقق من هذا أن سائر الأعمال الظاهرة الشرعية ليست هي مجرد أعمال ظاهرة منفكة عن التصديق.
وقد تفطن بعض أئمة المرجئة من المتكلمين لهذا، فقالوا: العمل من حيث هو ليس إيماناً.
فيقال: العمل من حيث هو عمل إذا لم يكن له وجود في الخارج لا يمكن أن يسمى إيماناً عند أحدٍ من المسلمين، فهم يقولون: الصلاة من حيث هي صلاة -أي: كحقيقة مجردة وعمل ظاهر- ليست إيماناً. فيقال: الحقيقة المجردة عن التصديق لا يلتفت إليها، وليس هناك أحد من المسلمين يصلي هذه الصلاة.
ولهذا لو أن الإنسان أثناء لعبه أو رياضته مثلاً أتى بحركة تشاكل حركة الركوع لم يُسمّ راكعاً في الشرع وعمله هذا لا يسمى إيماناً، لكن لو أدى ذلك داخل ركن من أركان الصلاة فإنه يكون ركوعاً شرعياً ويسمى إيماناً، فتحقق من هذا أن الأصول الشرعية والعقلية واللغوية إذا سلمنا أنها تدل على أن الإيمان مرادف للتصديق، فإن كل ما تضمن التصديق وتحقق به فإنه يسمى إيماناً.
ولهذا فإن الصلاة وإن كانت عملاً ظاهراً من جهة، إلا أن فيها تصديقات وفيها أعمال قلوب.
ويقال: إذا لم تكن الصلاة إيماناً امتنع أن تكون إسلاماً، وامتنع أن يكون الإيمان تصديقاً، وعليه فإن قولهم: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان لأن الإيمان هو التصديق، يعتبر مناقضاً للعقل فضلاً عن مخالفته للشرع، فإنه مبني على مقدمة مفروضة يفرضها الذهن، وهي: أن العمل الظاهر الذي سماه السلف إيماناً يمكن تجريده عن التصديق، وليس الأمر كذلك.
فإن قالوا: إن التصديق الذي في الصلاة يسمى إيماناً، والحركة الظاهرة لا تسمى إيماناً؟
قيل: هذا فرض يفرضه الذهن ولا وجود له في الخارج، فإنه إذا تجرد هذا العمل عن التصديق لم يسمِّ صلاة ولا ركوعاً ولا سجوداً، ولا يوجد في الخارج إلا حركة يقصد بها التعبد أو حركة لا يقصد بها التعبد، أما وجود حركة في الخارج يقال إن تصديقها إيمان، وأما هي من حيث هي فليست إيماناً، فهذا، فإن من حنى ظهره إما أن يكون راكعاً لله سبحانه وتعالى في صلاة من الصلوات، وإما أن يكون فعل ذلك لغرض وموجب احتاجه من أجله.
ومعلوم أن الأول يسمى عمله إيماناً، والثاني لا يسمى إيماناً..
فهذا الحديث المعروف عند أهل العلم بحديث وقد عبد القيس صريح في أن العمل داخل في مسمى الإيمان، بل صريح في أن العمل أصل في الإيمان كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً في الإسلام، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه: (بني الإسلام على خمس) وذكر المباني الأربعة بعد الشهادتين، وكذلك لما ذكر الإسلام في حديث جبريل المتفق عليه، وهنا لما ذكر الإيمان ذكر الشهادتين وذكر بعد ذلك العمل، ففسر الإيمان في حديث عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث ابن عمر وأمثاله.
وأما فك هذا عن هذا في حال واحد، فهذا من فرضيات الذهن التي لا وجود لها في الخارج.
وكذلك يوجبه العقل، فإن ما صح تسميته إسلاماً من الأعمال صح تسميته إيماناً.
وقد غلط بعض المرجئة فظنوا أن السلف إنما سموا الأعمال إسلاماً لكون المنافق يأتي بها بخلاف الإيمان, ولا شك أن المنافق يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً, ولكن ليس هذا هو الموجب للتسمية بالإسلام ومنع الإيمان, وإنما ذلك من جهة أن الإيمان أصله في القلب وأنه أخص بالأعمال الباطنة، وأن الإسلام أخص بالأعمال الظاهرة.
فهذا هو محصل ما ذهب إليه أئمة السلف رحمهم الله, وتبين من هذا أن قولهم موافق للشرع وللعقل وللغة.
وإذا كان داخلاً في مسمى الإيمان؛ لزم من هذا أن يكون العمل الظاهر داخلاً في مسمى الإيمان, فإن ما كان موجباً لدخول الأعمال الباطنة عندهم في مسمى الإيمان، يكون موجباً لدخول الأعمال الظاهرة, فإن عمل القلب ليس هو التصديق, وإذا قالوا: الإيمان هو التصديق, وجعلوا ما هو من أعمال القلوب داخلاً في مسمى الإيمان، لزم من ذلك أن يجعلوا ما هو من أعمال الجوارح داخلاً في مسمى الإيمان, بل لزم من ذلك أن تكون أعمال الجوارح كلها داخلة في مسمى الإيمان.
ونقول: نعم. قال بعض الحنفية: إنه خلاف صوري, وقال بعضهم: إنه خلاف لفظي, أي: لا ثمرة له, ولهذا يذكر الأصوليون في كتبهم بعض مسائل النظر الخلافية فيقولون: والخلاف لفظي, أي: ليس له ثمرة.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بأن الخلاف جمهوره لفظي), وقال مرة: (إن أكثر الخلاف بين حماد والجمهور خلاف لفظي), ومراده بأن أكثره لفظي أي: أن حماداً يقر بوجوب الواجبات وأصول الشرائع, ويعطيها أحكامها في الدنيا من جهة الحدود، وكذلك في الآخرة على ما قرره أئمة السلف أجمعين, وإنما لا يسمِّي هذه الأعمال الظاهرة إيماناً, ومن هنا كان أكثر الخلاف لفظياً، وبهذا يتبين للناظر في هذه المسألة ماذا يقصد بالقول إن الخلاف فيها لفظي.
وأما من جهة الفرق فهو من وجوه:
الأول: وهومن أخصها: أن عدم تسمية العمل الظاهر إيماناً مخالف للكتاب والسنة, فإن الله سماها إيماناً, ومنع تسميتها إيماناً مخالفة للكتاب والسنة من حيث التسمية, وعليه فثمرة الخلاف هي أن هذا القول مخالف للكتاب والسنة، ولا يلزم بالضرورة أن تكون الثمرة مسألة عملية من هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن حماداً وأمثاله يقولون: إن الإيمان واحد, فلا يجعلون العمل مما يحصل به الزيادة والنقصان, وهذا هو المقطوع به في قول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله.
وبعض أهل العلم يعبرون فيقولون: إن حماداً وأبا حنيفة لا يقولون بأن الإيمان يتفاضل, وهذا مما يكرره شيخ الإسلام رحمه الله.
وهناك مسألة دون الأولى في التحقق في كونها مذهباً لـحماد بن أبي سليمان ، وهي: هل حماد يقول: إن الإيمان واحد مطلقاً، لا يزيد ولا ينقص كما هو قول المرجئة؟
يجزم شيخ الإسلام رحمه الله بذلك ويقول: (ومن الفرق بين قول حماد وقول الجمهور: أن حماداً وأمثاله لا يجعلون الإيمان متفاضلاً, ويجعلون أهل الإيمان في إيمانهم على حال واحدة).
وهذا ينبني على صحة النقل عنه, وإلا فإن هذا من لازم قول حماد ؛ لكن من المعلوم أن لوازم المذاهب ليس بالضرورة أن تكون مذاهباً تضاف إلى أعيان القائلين بأصل المذهب, ولهذا يُتردد في هذا الإطلاق, فهو وإن كان يُجزم بكونه لا يجعل العمل موجباً لزيادة الإيمان, لكن هذه مسألة دون الإطلاق.
الوجه الثالث: أنه على طريقة حماد وأبي حنيفة لا يكفر العبد بتركه للأعمال الظاهرة, سواء كان تركه لجنس الأعمال الظاهرة, أو كان تركه لبعض أعيانها.
هذا مع أن الإجماع منعقد على أن من هجر جنس العمل الظاهر فإن هجره له كفر, وهذا مذهب مستقر عند متقدمي أئمة السلف المخالفين لـحماد بن أبي سليمان ، وقد ذكر هذا الفرق من متأخري المحققين الإمام ابن تيمية رحمه الله.
وبعض من تكلَّم في هذه المسألة يذكر عن شيخ الإسلام ما هو مخالف لذلك, وليس الأمر كذلك، بل لا شك أنه يرى أن من قامت عنده القدرة والإرادة الموجبة لحصول المقدور والمراد, ومع هذا كله هجر جنس العمل فما ركع لله ركعة، ولا سجد له سجدة، ولا صام له يوماً، ولا أتى البيت الحرام، ولا أدى زكاة, فإن هذا لا يكون إلا كافراً.
وقد قال إسحاق بن إبراهيم -وهو من أعيان المتقدمين- كما رواه الخلال وغيره بسند صحيح: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: أن من ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره, إذ هو مقر -أي: لا يكفر لأنه مقر عندهم- فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، وكلمة إسحاق هذه هي أحسن كلمة أثرت عن المتقدمين في هذه المسألة التي تكلَّم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين.
وبنحو هذه الكلمة جاء عن سفيان بن عيينة , وقد حكى الآجري وأبو عبد الله ابن بطة الإجماع على هذه المسألة.
الطريق الأول: أن العمل عندهم أصل في الإيمان, ولما كان أصلاً فإن عدمه كفر.
الطريق الثاني: أن هجر جنس العمل لا يكون إلا مع نوع من الكفر الباطن, وهذا ليس معناه أنه لا يُكفَّر بالأعمال الظاهرة ولكن لدلالتها على كفر باطن؛ لأنه بإجماع المسلمين وبصريح العقل أنه لا يمكن أن نقول: إن هذا كافر في نفس الأمر بعمل ظاهر، ويكون في نفس الأمر مؤمناً في الباطن, بل من ثبت كفره في نفس الأمر -أي: في الحكم الشرعي- ووافى ربه بالكفر الظاهر فلا بد أن يكون في الباطن كافراً, وما يبقى معه من العلم والمعرفة الباطنة، فهي من جنس العلم والمعرفة التي تقع لكثير من الكفار في بعض مسائل الربوبية، أو كحالهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين, إلى غير ذلك.
الطريق الثالث: أنه جاء عن الجماهير من أهل الحديث أنهم يكفرون تارك الصلاة، فدلّ ذلك من باب أولى على أنهم يذهبون إلى كفر تارك جنس العمل.
وهذا الوجه وإن لم يلزم به تحقق الإجماع, إلا أنه يُعلم به معنىً مهماً في هذه المسألة وهو: أن من قال إن ترك جنس العمل ليس كفراً بإجماع السلف, فإن قوله غلط ولا بد؛ لأنه قد جاء عن كثير من أعيان المتقدمين -ولا سيما من أهل الحديث- التكفير بترك الصلاة, فكيف يقال مع هذا: إن إجماع السلف منعقد على أن ترك العمل مطلقاً ليس كفراً, مع أنهم كفروا تارك الصلاة؟
وإنما يتحقق هذا المعنى ولا يتحقق الإجماع به؛ لأنه مبني على مسألة تكفير تارك الصلاة: هل هي من معاقد الإجماع أم لا؟
والتحقيق أن بين جنس العمل وبين آحاده فرقاً, فأما جنس العمل وأركانه الأربعة: (الصلاة والزكاة والصيام والحج)، فمن عدم جنس العمل بأصوله الأربعة التي هي أصول الفرائض؛ فهذا لا يكون إلا كافراً.
والصحيح أن الكفر بترك الصلاة ليس من معاقد الإجماع البين, فإن الإجماع إذا استعمل في مسائل أصول الدين أريد به الإجماع التام الذي تكون مخالفته بدعة وضلالة, كقولك: إن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل, وأجمعوا على إثبات الصفات, وأجمعوا على أن الله خلق أفعال العباد، إلى غير ذلك.
فمن قال: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع اللازم القطعي فإن الأمر ليس كذلك؛ لأنه جاء عن طائفة من المتقدمين كـمكحول والزهري ومالك والشافعي أنهم ما كانوا يرون ترك الصلاة كفراً، وأما قول عبد الله بن شقيق : (كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة)، فهذا صحيح عن عبد الله بن شقيق , ولكن لا شك أن الزهري ومالكاً رحمهما الله أعلم بالسنن والآثار من عبد الله بن شقيق , وإن كان متقدماً عليهما, فهذا اجتهاد وتحصيل حصله عبد الله بن شقيق ، وهذا الإجماع الذي يذكره عبد الله بن شقيق ويذكره غيره, إذا سمِّي إجماعاً سكوتياً كان ممكناً, ومعلوم أن الصحيح من مذاهب الأصوليين أن الإجماع السكوتي حجة, ولكنه ليس حجة قطعية.
فالقول الراجح هو أن ترك الصلاة كفر، ودليل هذا القول ظاهر الكتاب وظاهر السنة, وإن كانت دلالة السنة أخص من دلالة الكتاب, ومن أخص دلائل السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) .
وأيضاً من دلائل كون ترك الصلاة كفراً أنه ظاهر مذهب الصحابة, فلم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرَّح بأن ترك الصلاة ليس كفراً, ولكن تحقق أن جماعة من الصحابة صرَّحوا بكون ترك الصلاة كفراً, وذكر ابن شقيق أنه لم يخالف فيه أحد، فيكون هذا استدلالاً حسناً, ويسمى إجماعاً سكوتياً لا قطعياً؛ لأن الإجماع القطعي يكون حجة لازمة، ومن اجتهد بخلافه فقد قال بدعة, وإذا اجتهد مجتهد بخلافه سمي اجتهاده غلطاً وبدعة, ولا يجوز لأحدٍ من بعده أن يقلده فيه, وعلى هذا يلزم أن قول من يقول إن ترك الصلاة ليس كفراً؛ أن يكون قوله بدعة, وأنه قول مخالف لصريح الكتاب والسنة, ويلزم أن يكون هذا القول لا تجوز متابعته ولا اعتباره كسائر البدع.
ولم يكن قدر هذه المسألة عند جماهير السلف كذلك, وإن كان إسحاق قد نقل الإجماع لكنه شاذ في تحصيل الإجماع, ولا سيما أنه قال: من زمان رسول الله إلى زماننا هذا، مع أنه يعلم أن مالكاً والزهري ومكحولاً قد خالفوا, ولا يصح قصر المخالفة على المتأخرين، ثم لو كانت المسألة من معاقد الإجماع لشاع ذلك في كلام أئمة السنة، كالإمام أحمد وغيره، فإنه لم ينطق بالإجماع أبداً، بل الرواية عنه مختلفة في تكفير تارك الصلاة.
وقد غلط بعض المالكية والشافعية على الشافعي ومالك رحمهما الله في هذه المسألة في بعض مواردها, لكنهم لم يغلطوا في أصلها, فإن الأصل في مذهب الشافعي وأصح قوليه: أن ترك الصلاة ليس كفراً, وإذا قيل هذا فإن الجماهير من أهل الحديث على أنه كفر، وهو الراجح من جهة الاختيار, وعليه ظاهر الكتاب والسنة, وظاهر مذهب الصحابة.
وثمة فرق بين من ترك الزكاة، وبين من تركها وقاتل على تركها، ولهذا كان أئمة المدينة النبوية كالإمام مالك والزهري وأمثالهم, وأئمة العراق كـالثوري والإمام أحمد وأمثالهم, وأئمة الشام كـالأوزاعي وأمثاله, يذهبون إلى أن ترك الزكاة ليس كفراً, ولكنهم قرروا أن المقاتلين على منعها كفار.
وقد حكى أبو عبيد وجماعة الإجماع على ذلك, وهذا الإجماع ليس في المأثور عن السلف ما يشكل عليه, وهو التفريق بين ترك الزكاة وبين تركها مع المقاتلة, فمن تركها مع المقاتلة فهو كافر.
فإن قيل: هل كفر بالترك، أم كفر بالمقاتلة؟ فإن قلت: إنه كفر بالمقاتلة، لزم تكفير كل من قاتل من البغاة, وإن قلت: كفر بالترك, قيل: فالمقاتلة ليست شرطاً.
فيقال: هذا فرض يفرضه الذهن, وهو إنما كفر بهما, أي: باجتماعهما, وإلا فإن المقاتلة وحدها لا تستلزم الكفر, والترك وحده كترك آحاد المسلمين الذين لم يقاتلوا لا يستلزم الكفر، نعم. هذا ذهب طائفة من السلف إلى كونه كفراً, وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد , وذهب جماهير السلف إلى أنه ليس كفراً، ويقول الإمام أحمد رحمه الله في الرواية الأخرى: (ليس شيء من العمل تركه كفر إلا الصلاة), والمقصود من هذا: أنه لم يقل أحد من أهل العلم: إن ترك الزكاة تركاً مجرداً عن المقاتلة كفر بالإجماع, ولكن لا يُنتقد من جعله كفراً, فإن القول بكونه كفراً قاله طائفة من السلف وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
ولا شك أن مسألة الإيمان قد حصل فيها خفض ورفع عند كثير من المتأخرين، فصار بعضهم وإن سموا العمل إيماناً لكنهم لا يجعلونه أصلاً في الإيمان, فلا يكفرون تارك جنس العمل، فمن ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج مجتمعة لا يجعلونه كافراً, وفوق ذلك يقع من بعضهم أنهم يجعلون هذا مذهباً لسائر السلف.
ولا شك أن هذا من الغلط, إذ كيف يقال إن هذا مذهب لسائر السلف مع شهرة النزاع بين السلف في هذه المباني الأربعة كل على حدة؟! وهذا النزاع المأثور إنما هو في ترك الواحد منها, وأما من جمع تركها فلم ينقل عن أحد من السلف أنه لم ير كفره, ولو أن أصحاب هذا القول قالوا: إن هذا هو أحد القولين لأهل السنة أو لأئمة السلف لكان هذا مما يمكن أن يقع فيه بعض التأويل، لكن أن يقال: إن تركها مجتمعة ليس كفراً عند السلف، مع أنه قد صرَّح طوائف من السلف بأن ترك الواحد منها يكون كفراً, كقول جماهيرهم: إن ترك الصلاة كفر, وقول طائفة منهم: ترك الزكاة كفر، إلى غير ذلك؛ فهذا قول لا شك أن فيه شيئاً من الزيادة.
وقابل هذا القول قول من يقول: ترك الصلاة كفر بالإجماع, وقول من يقول: ترك الزكاة كفر بالإجماع, أو من يقول: ترك الصوم أو الحج كفر بالإجماع.
والجواب: أن الطريقة المعتبرة عند المحققين من أرباب السنة والجماعة هي أن مذهب السلف يُعرف بأحد وجهين, واستعمل بعض المتأخرين من متكلمة الصفاتية المعظمين للسنة والجماعة وبعض الفقهاء طريقاً ثالثاً هو الذي يستعمله المعاصرون.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن قيل: بمَ يُعرف مذهب السلف، ليعلم أن مذهب السلف الذي يضاف إليهم يكون لازم الاتباع, وإذا قيل في مسألة: إنها مذهب للسلف, فإن معنى هذا أنها من معاقد إجماعهم, وأن هذا من الدين اللازم الذي لا تجوز مخالفته أو الاجتهاد بخلافه, ويكون سائر ما خالفه بدعة.
ثم قال: ومذهبهم على هذا الوجه يُعرف بأحد طريقين:
الطريق الأول: إما بالنقل المتواتر عن أعيانهم, ولا يُعلم عن أحد من الأعيان ما يخالف هذا النقل. بمعنى: أن يستفيض عن أعيان السلف التعبير بجملة, كقولهم مثلاً: الإيمان قول وعمل, وكقولهم: أفعال العباد مخلوقة, وكقولهم: القرآن ليس مخلوقاً, فهذه جمل مستفيضة عن السلف, ولم ينقل عن السلف في ذلك خلاف.
الطريق الثاني: بذكر علماء الإسلام الكبار -أي: المعتبرين والمحققين- عن شيء من هذه المسائل أنه مذهب للسلف، ولا شك أن هذا الوجه إنما ينتظم إذا لم يُعرف عن أحد من السلف مخالفة لما ذكره بعض الكبار, وإلا صار هذا من التحصيل المظنون, كقول إسحاق : (أجمع الناس من زمان رسول الله إلى زماننا هذا)، ومعلوم أن إسحاق من الأكابر, لكن لم نقل: إن نقله للإجماع قطعي؛ لكون المخالفة قد ظهرت ممن هم أجل كـالزهري وأمثاله).
فهذان الطريقان بهما يُعرف مذهب السلف.
ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: (واستعمل كثير من المنتسبين إلى السنة والجماعة من أصحاب الكلام, وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة طريقاً ثالثاً لتحصيل مذهب السلف, وهو أنهم يعتبرون دلائل الكتاب والسنة, فإذا انتظم عندهم مقام الاستدلال على قول ولزم, جعلوا ما انتظم عليه مقام الاستدلال ولزم مذهباً للسلف, لكون السلف لا يخرجون عما لزم من دلائل الكتاب والسنة، وهذا مما يمكن أن نعبِّر عنه بأنه تحصيل مذهب السلف بالفهم).
وكتلخيص لهذه المسألة نقول: إما أن يكون مذهب السلف محصلاً بالنقل, وإما أن يكون محصلاً بالفهم.
أما تحصيله بالنقل فمن وجهين:
الوجه الأول: إما النقل المتواتر المستفيض عن أعيانهم, بأن يصرحوا بعبارات تدل على مذهبهم، كما جاء عنهم في مسألة القرآن أو الرؤية أو غيرها، ولا ينقل مع ذلك خلاف عن أحد من أعيانهم.
الوجه الثاني: بتنصيص العلماء المحققين الكبار أن على هذه المسألة إجماع للسلف, أو أنها مذهب للسلف.
أما تحصيل مذهب السلف بالفهم: فذلك بأن يجتهد في نصوص الكتاب والسنة، فيرى أن النصوص تحصل مذهباً واحداً لا ثاني له, فيرى أن هذا المذهب الذي تحصل باجتهاده هو وحده الممكن في المسألة ولا يمكن غيره فيجعله مذهباً للسلف؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة لا تدل إلا على هذا القول, والسلف لا يخرجون عن الكتاب والسنة.
والتحصيل على هذا الوجه لا شك أنه غلط, ومعلوم أن القول إذا قيل: إنه مذهب للسلف، فمعناه: أن خلافه يكون بدعة.
فلا شك أن كلا الاجتهادين صحيح, ومعنى كونه صحيحاً مع أن الحق في نفس الأمر لا بد أن يكون واحداً، أن كلا القولين من الأقوال الفقهية الممكنة المعروفة عند الفقهاء, لكن الإشكال أن تُجعل السنة اللازمة السلفية هي أحد الوجهين, فمعناه: أن من ترك وضعهما يكون عند طائفة مخالف لهدي السلف, ومن وضعهما يكون عند الطائفة الأخرى مخالف لهدي السلف.
ولا شك أن هذا منهج غلط؛ لأنه يلزم على ذلك أن كل من اجتهد في مسألة فقهية, فرجح قولاً هو الظاهر عنده من دلائل الكتاب والسنة؛ أن يجعله هو مذهب السلف, ولا تجد إماماً واحداً من أئمة السلف في مسائل النزاع التي كانوا يتنازعون فيها يطرد هذه الطريقة، أي: يجعل ما خالف قوله يكون بدعة؛ لأنك إن قلت: إن هذا القول هو قول السلف أو هو المذهب السلفي لزم أن يكون خلافه بدعة.
فلن تجد أن أحمد كان يعد من خالفه من الفقهاء على بدعة, ولا الشافعي ولا مالكاً ولا أبا حنيفة ولا غيرهم، وإنما تستعمل عبارة: (مذهب السلف) و(الذي عليه أئمتنا) و(الإجماع) إلى غير ذلك في مسائل الأصول, وأما مسائل الفقه المفصلة التي تنازع فيها المتقدمون من السلف, فلا يصح لواحد إذا اختار قولاً من أقوالهم أن يجعله مذهباً للسلف, وهو يعلم أن بعض أئمة السلف يخالفونه في هذا، وإنما يقول: هو أحد قولي السلف, بل لكون مسائل الفقه المختلف فيها بعيدة عن هذه الإضافة السلفية، ترى أن أكثر تعبيرهم يقع باسم الفقه, فيقولون: اختلف الفقهاء, والذي عليه الفقهاء, وأحد قولي الفقهاء, إلى غير ذلك.
هذا الموضع في رسالة الطحاوي رحمه الله هو أشد المواضع إشكالاً، وإلا فإن في هذه الرسالة بضعة عشر موضعاً مشكلاً، وليس بالضرورة أن تكون هذه المواضع مما يؤخذ على الطحاوي رحمه الله من جهة مقاصده، فإنه في كثير من هذه المواضع يكون مقصوده صحيحاً، وإن كانت عبارته غير مناسبة.
وهذه المسائل تُعدُّ من مواضع النزاع في بعض مواردها حتى بين أهل السنة والجماعة، وإن كان عامة ما يتنازع فيه المتأخرون من أهل السنة والجماعة من المسائل هي في الجملة محكمة عند السلف.
ولا يلزم من ذلك أن السلف أجمعوا على سائر هذه المسائل، وإنما المقصود أنهم عرفوا قدر المسألة وأحكموها إما من الإجماع وإما من الخلاف، ومعنى هذا: أنه قد يقول بعض المتأخرين من أهل السنة والجماعة عن مسألة إنها من مسائل الإجماع، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وقد يقع العكس: كأن تكون المسألة هي من محل الإجماع عند السلف، فيتكلم بعض المتأخرين بما يقرر به أن هذه المسألة من مسائل النزاع، وهذا كله يرجع علاجه إلى حقيقة واحدة وهي: لزوم إحكام مذهب السلف في ذكر هذه المسائل وغيرها.
الأعمال الظاهرة بإجماع أهل السنة هي أصل في الإيمان، وقول المتقدمين في هذا متواتر كما تقدم.
وإذا قيل: إن العمل أصل في الإيمان، فإن المراد بذلك أن عدمه يلزم منه عدم الإيمان، ولا يلزم من ذلك أن يكون العمل نفسه ليس أصلاً، فإن المراد بذلك لزوم عدم العمل الظاهر لعدم الإيمان الباطن.
حتى ولو أريد بالإيمان الأصل، فإنه معلوم أن من كان كافراً عند الله سبحانه وتعالى كفراً أكبر، أنه يمتنع أن يكون معه شيء من الإيمان الصحيح، وهذه من بدائه المسائل المعروفة بأوائل الشرع وأوائل العقل، وهي حقيقة مجمع عليها.
وهذا بخلاف العلم أو المعرفة القلبية، فإن العلم في سائر موارده لا يلزم أن يكون هو الإيمان الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس كل وجه من أوجه العلم والمعرفة هو الإيمان الذي يحصل به الاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه فإذا قيل: إن العمل أصل في الإيمان وأن تارك العمل مطلقاً يكون كافراً، لزم من هذا أن يكون كافراً ظاهراً وباطناً، ذلك أن من كان كافراً ظاهراً يمتنع أن يكون في الباطن مؤمناً، ويمتنع أنه يوافي ربه بكفر ظاهر يوجب الخلود في النار، وبإيمان باطن يوجب النجاة من النار، بخلاف من يكون في الباطن كافراً، فإنه قد يكون في الظاهر على الإسلام، كحال المنافقين الذين أظهروا الإسلام، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: اتفق العلماء على أن المنافقين يدخلون في اسم الإسلام، ولا يدخلون في اسم الإيمان.
قيل: ما يقع في الباطن من المعرفة مع ترك العمل، هو من جنس المعرفة التي تعرض لجمهور بني آدم المخالفين للرسل، وليست هي المعرفة النبوية التي سماها الشارع إيماناً صحيحاً، فهذه الحقيقة التي سماها الإمام ابن تيمية رحمه الله بالتلازم بين الظاهر والباطن، لا بد من فقهها، وإن كان بعض الناظرين من أهل السنة في المسألة ينازعون في قدر هذا التلازم، ولكن من المحقق ببداهة الشرع والعقل، أن ثمة تلازماً باعتبار الأصل، فالكفر الظاهر الذي هو كفر في حكم الله ورسوله لا بد أن يصاحبه في الباطن كفر، ولا يمكن أن يكون شخص في الباطن مؤمناً إيماناً صحيحاً، ويكون في الظاهر كافراً كفراً على حكم الله ورسوله، فهذه صورة قد يفرضها العقل، وليس لها وجود في الخارج.
وأما من كان في الباطن كافراً فقد يظهر ما يظهر من شرائع الإسلام ليحقن دمه وماله وولده، ومما يقرب هذا أنه بإجماع السلف وبصريح القرآن أن بني آدم -كما ذكرهم الله في أوائل سورة البقرة- ثلاثة أصناف، من كان مؤمناً ظاهراً وباطناً، ومن كان كافراً ظاهراً وباطناً، ومن كان في الظاهر مؤمناً أو مسلماً وفي الباطن كافراً.
وليس ثمة صنف رابع، وهم المؤمنون باطناً الكفار ظاهراً إلا في حال واحدة تعرض وليست أصلاً مطرداً، وهي حال الإكراه المذكورة في مثل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] كما حدث لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكَسَبِّ بعضهم للرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي بعض اليهود ليطمأن إليه اليهودي حتى يتمكن من قتله، كقول: عبد الله بن أنيس في الحديث الثابت في الصحيح: (يا رسول الله! ائذن لي فلأقل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكلامٍ يفارق به الإيمان لو كان قاصداً له، فهذه حال تعرض كحال الإكراه.
ثم هنا طرفٌ من النزاع، قد يكون في نظر الكثيرين من النزاع اللفظي وهو: هل الكفر تحقق بالعمل من حيث هو أم تحقق بالعمل من حيث هو لازم لكفر الباطن؟ هذه مسألة من الجدل اللفظي أو من الفرض الذهني، ربما لا يتحقق بها كثير نتيجة.
ويذكر شيخ الإسلام تحت هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين) ، وفي أول الحديث قصة معروفة.
فالشاهد من هذا أن هذا الرجل قال ما هو كفر بالإجماع، فإنه شك في المعاد، وأنكر عموم القدرة.
قال شيخ الإسلام : والظاهر من حاله أنه كان مقراً بأصل المعاد وأصل القدرة، وإنما شك في عموم القدرة وفي المعاد نفسه على هذه الحال، قال: ومع هذا فإن قوله هذا في هاتين المسألتين كفرٌ بالإجماع، ومع ذلك غفر الله له، وهذه واقعة عين، وإنما يُعلم بها أنه قد يكون القول كفراً في الظاهر، ولا يلزم أن يكون صاحبه في الباطن كافراً، فمن كفره من المجتهدين إذا فرضنا أنهم قارنوه في عصره، لم يلزم بذلك أن يكون حكمهم هو الحكم الذي يوافي العبد به ربه يوم القيامة.
فهذا من أخص فقه هذا الباب، وهو العلم بالتلازم بين الظاهر والباطن.
فالمآل في الآخرة معتبر بما عليه المرء في الحقيقة وفي نفس الأمر، والمراد من ذلك أن أحكام الاجتهاد لا يلزم بالضرورة أن تكون أحكاماً موجبة، وعليه فإذا قيل عن مقالة من المقالات إنها كفر، فكفّر أحدٌ من الأعيان من أهل القبلة من قبل أحد المجتهدين، لم يلزم من ذلك أن نجزم بأن هذا العبد يوافي ربه بالكفر، بل قد يكون على خلاف ذلك، وقد يكون كافراً في نفس الأمر.
فهذه مسألة ليس فيها اطراد، أي: ليس هناك تلازم بين الحكم الذي يقوله مجتهدٌ في أحد أعيان المخالفين من أهل البدع في الظاهر، وبين الحكم الذي يكون في الباطن، فإن أهل البدع الذين خالفوا أصول السنة والجماعة بأقوالٍ كفرية -كما يقول شيخ الإسلام - جمهورهم من أهل الإسلام، وفيهم من يكون منافقاً في نفس الأمر.
والحق أن التسوية بين المسألتين يعوزها التحقيق، وذلك أن كون الإيمان قولاً وعملاً، أمرٌ مستقر في دلائل الكتاب والسنة، ولكن ليس من المستقر في دلائل الكتاب والسنة المتواترة أن ترك الصلاة كفر، بل إذا نظرت في دلائل القرآن لم تجد أن الله ذكر الصلاة وحدها وسمى تركها كفراً، وسائر ما يستدل به الحنابلة ومن استدل من المتقدمين من أهل الحديث على المسألة هو مثل قوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] ، وفي السياق الآخر: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] ، إلى أمثال ذلك، ومعلوم أن الاستدلال بهذا يقع على أحد وجهين:
الأول: أن يراد بالتوبة هنا التوبة من أصل الكفر، مع الإتيان بالعمل، ولا شك أن هذا هو الذي يقع به الإسلام بالإجماع.
الثاني: أن يراد أن كل ما ذكر في الآية فإنه يكون تركه كفراً، فيلزم من ذلك أن يكون تارك الزكاة كافراً، فمن جعل الآية دليلاً على أن ترك الصلاة وحدها كفرٌ لزمه أن يجعلَ ترك الزكاة وحدها كفراً.
ولا يصح هنا أن يقال: إن الزكاة خرجت بدليل آخر، فإن الدليل هنا خاص، والخاص لا يمكن أن يعارضه خاصٌ مثله، فيلزم من هذا أن يكون الاستدلال بالآية ليس جازماً أو قاطعاً، ولا يعني أيضاً أن الاستدلال بالآية المذكورة في سورة براءة ونحوها من الآيات غلط، بل يُراد أنه ليس استدلالاً صريحاً بيناً جازماً يبعث على أن يقال: إن الصحابة كانوا آخذين بصريح القرآن وصريح السنة.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) ، فهو أظهر في الاستدلال من الاستدلال بالقرآن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكفر معرفاً، وجعل الصلاة هي الفاصل بين الشرك والكفر وبين الإيمان والإسلام، ولهذا فإن الأظهر في الاستدلال على كفر تارك الصلاة هي دلائل السنة.
ولأجل هذا يقال: إن الراجح في مسألة تارك الصلاة أنه كافر بظاهر السنة، وبما يستدل به من القرآن، وبظاهر مذهب الصحابة، فإنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه جعل ترك الصلاة ليس كفراً، وهذا قد يسمى إجماعاً سكوتياً، وجمهور ما يستدل به الفقهاء من الإجماعات في المسائل المفصلة هي من الإجماعات السكوتية، والإجماع السكوتي يكون حجةً ظنية، كما قرر المحققون كـشيخ الإسلام وأمثاله.
إذا تحقق أن ترك الصلاة كفر عند الجمهور من أهل الحديث، وأنه ظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، فيبقى أن القول الآخر قاله طائفة من أهل العلم المعتبرين ولا يصح أن يكون هذا القول بدعةً وضلالاً، ومعلوم أن الزهري أعلم بآثار الصحابة وبإجماع أهل الحديث من عبد الله بن شقيق ، وإن كان ابن شقيق أقرب حالاً منه من جهة الزمن والتاريخ، ولكن لو كان في المسألة إجماع لما خفي على الزهري وأمثاله.
وأما من جعل تارك الصلاة ليس كافراً، وموجب ذلك عنده أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، والصلاة من آحاده، فلا شك أن هذا الموجب بدعة، بإجماع السلف، وبهذا كان يُعلِل طوائف من المرجئة أن ترك الصلاة ليس كفراً، ولكن لا يجوز بحال أن يقال: إن من لم يكفر تارك الصلاة، فقد دخل عليه قول المرجئة، أو أنه تأثر بهم، أو أخذ بلوازم أقوالهم، أو غير ذلك من الإطلاقات والأقوال التي ليس عليها تحقيق.
وكيف يقال عن الزهري وأمثاله: إنه على مثل هذا الوجه، مع أن الزهري من أشد الناس كلاماً في الإرجاء وذمه، بل إنه لما ذكر أحاديث فضل التوحيد كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان في الصحيح: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) ، وأمثاله من الأدلة التي قال عليه الصلاة والسلام فيها: إن الكلمتين أو إن الشهادة توجب دخول الجنة كان جوابه عن هذه الأحاديث: إنها أحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الفرائض.
وكل هذا يريد به الزهري رحمه الله المباعدة عن مذهئ المرجئة، وإلا فلا شك أن التوجيه لهذه الأحاديث ليس كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث بهذه الأحاديث في المدينة النبوية، بعد نزول الفرائض، فجوابه ليس محكماً، ولكنه يُذكر ليعرف به أن الزهري كان من أبعد الناس عن الإرجاء، ومن أكثرهم ذماً له، حتى قال في هذا النوع من الأحاديث والآثار ما قال بموجب المباعدة عن الإرجاء وأهله.
فمن حكى عن الشافعي أو مالك أن من ترك المباني الأربعة مجتمعة لا يكون كافراً، ومعتبره في ذلك أن مالكاً والشافعي لا يكفرون تارك الصلاة؛ فقد غلط، فإن حكم الواحد يختلف عن حكم المجموع، وبإجماع العقلاء وأهل الحقيقة الشرعية، أن من ترك الصلاة وحدها في الإثم والغلط ليس كمن تركها وجمع مع ذلك ترك الزكاة والصوم والحج، فإن هذه حال مختلفة، ويعلم بهذا التنازع في آحاد المباني الأربعة غلط من يقول: بأن من ترك المباني الأربعة مجتمعة لا يكون كافراً بإجماع السلف، فإن هذا الإجماع ما قاله أحدٌ من السلف البتة.
ومن كفر تارك الصلاة وهم الجماهير من أهل الحديث، فلا بد أنهم يكفرون تارك المباني الأربعة مجتمعة، ويكون القول بأن ترك المباني الأربعة مجتمعة كفر، هو قول الجماهير من أهل السنة والحديث على أقل تقدير، والقول الآخر لو صح -ولا أقول: إنه مأثور عن السلف- وهو أن ترك المباني الأربعة مجتمعة ليس كفراً؛ لكان أحد القولين للمتقدمين، ولكان قول الجماهير على خلافه.
فعلى هذا: فقول من يقول بأن من ترك العمل كله، أو بما يعبر عنه بجنس العمل، فإنه في مذهب السلف لا يكون كافراً؛ هذا لا شك أنه ممتنع من حيث النقل المجرد، وإلا فلا شك أن الصواب أن ترك المباني الأربعة مجتمعة مع أصول الشرائع كفر بإجماع السلف.
وقد كان السلف يعدون القول بعدم تكفير تارك المباني الأربعة مع أصول الشرائع من مقالات المرجئة، قال إسحاق كما ثبت عنه بسند صحيح عند الخلال وغيره: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: إن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره إذ هو مقر) ومن فقه إسحاق أنه ما ذكر مسألة المستحبات.
والإشكال عندهم أنهم يقولون: كيف نكفره وهو مقر في الباطن مؤمن، والجواب: أنه إذا كفر ظاهراً في نفس الأمر، لزم أن يكون في الباطن كافراً.
قال إسحاق : (فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، ويقارب قوله قول لـسفيان بن عيينة رحمه الله، وقد حكى الآجري وأبو عبد الله بن بطة ، والإمام ابن تيمية الإجماع على هذا المعنى، وهو: أن من هجر أصول الشرائع فما ركع لله ركعة ولا سجد له سجدة، ولا صام يوماً ولا أتى البيت ولا طاف طوافاً، وهجر أصول الشرائع الواجبة مع وجود الإرادة والقدرة، أن هذا لا يكون إلا عن كفرٍ في الباطن، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام رحمه الله.
وأما المنازع في أحد المباني الأربعة فما كان السلف يعدونه مرجئاً، ولا عليه أثر الإرجاء كانت المنازعة معروفة، والصحيح من مذاهبهم، وهو المحقق في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أن العبد لا يكفر بترك واحد من المباني الأربعة إلا الصلاة، وأما غيرها كالزكاة والصوم والحج، فضلاً عما دونها من الواجبات والشرائع، فلا شك أن تركها ليس كفراً.
الأول: أنه كفرٌ دون كفر، والثاني: بأنه الكفر المفارق للإيمان، فترى أن طوائف من السلف قالوا: هو كفرٌ دون كفر، وترى أن طوائف من السلف جعلوه كفر الملة المفارق للإيمان.
وهذا أيضاً من الإشكالات التي يقع فيها بعض المعاصرين، فتجد من ينتصر انتصاراً مطلقاً للقول بأن هذه المسألة من باب الكفر دون كفر، ويدعي إجماع السلف على ذلك، وتجد من ينتصر للقول بأنها من الكفر الأكبر مطلقاً، وربما غلَّط سائر الروايات المأثورة عن ابن عباس وأصحابه من جهة إسنادها، أو أعلها، أو غير ذلك من الطرق التي يستعلمها من ينتصر لترجيح أن هذه المسألة من الكفر البين المخرج من الملة.
والصواب: أن كلا التفسيرين مأثورٌ عن السلف، والإسناد الذي ذكره ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإن كان فيه كلام، لكن هذا من الأقوال الشائعة المعروفة عن ابن عباس ، وقد كان الإمام أحمد والبخاري يذكرون في تفسير هذه الآية في مسائلهم وكتبهم أنه كفرٌ دون كفر، ويسندون ذلك إلى ابن عباس ، مما يدل على أنه قول شائع عند السلف ومنهم ابن عباس وأصحابه، وإذا ضعف إسناد أو تكلم في إسناد بعينه، لم يلزم أن يكون القول المأثور عن ابن عباس في سائر موارده كذلك.
فالمحصل: أن كلا القولين مأثور عن السلف، وليس ذلك من اختلاف التناقض والتضاد، وإنّما من باب أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً أكبر، وذلك يرجع إلى حال المسألة وصورتها، بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ما يسمى كذلك في كلام الفقهاء وغيرهم قد يكون معصيةً، وقد يكون كبيرةً، وقد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً مخرجاً من الملة، مع أن سائر هذه الصور الأربع تسمى حكماً بغير ما أنزل الله.
وبيان ذلك: أن القاضي لو قضى في رجل وجب عليه حد السرقة بقطع يده، فلم يَقطع يده وإنما اكتفى بجلده لموجب عرض له، فإن مثل هذا عند السلف ليس هو الكفر المخرج من الملة، بل يكون هذا من الكبائر ونحو ذلك، وبعض الصور قد تكون فوق ذلك.
فهذه مسألة من الفقه لا يستعجل فيها، ولا ينبغي أن يخفض فيها ولا يرفع الناظر المبتدئ من طلبة العلم بحكمٍ قولي فضلاً عن حكم فعلي، بأن يتقحم شيئاً من الأفعال بناءً على قاعدةٍ أو نظرٍ رآه في كون هذا من الكفر المخرج من الملة، فإن الأصل في المسلمين هو الإسلام، ومن أظهر الإسلام وأظهر أصول الشرائع كالأذان والإِقامة والنّسك إلى بيت الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يزالون على الإسلام، ولا يصح أن يتقحّم عليهم بحال إلا إذا تحقق كفرهم بمقتضيات الشريعة ولوازمها على ما يعلمه من آتاه الله علماً وفقهاً في شرع الله سبحانه وتعالى.
وإذا قيل أصل الإيمان في القلب، فمعنى هذا أن العمل الظاهر من حيث هو ليس إيماناً، وإن كان إذا فعله العبد مجرداً عن التصديق في الباطن قد يحصل به نجاته في مسألة الأحكام الدنيوية، ولهذا كان المنافقون يصلون ويظهرون بعض الشرائع، فكان ذلك موجباً لحقن دمائهم ونحو ذلك.
ولهذا قال شيخ الإسلام : (والمنافقون زمن النبوة مع أنهم كفارٌ في الباطن، كان الأصل فيهم تحريم الدماء، وكانوا يتوارثون مع المسلمين، إلى غير ذلك من الأحكام)؛ فالأعمال الظاهرة مبنية على الباطن، وعليه فيقال: إن الإيمان أصله في القلب.
وهذا صريح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ، وللسلف في هذا قولان: فمنهم من قال: إنهم قالوا: (آمنا)، فنهاهم سبحانه وقال: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا): أي استسلمنا خوف القتل، وكان البخاري وطائفة يذهبون إلى أن هؤلاء الأعراب من أهل النفاق، وأنهم استسلموا خوف القتل، فمنع الله سبحانه وتعالى أن يقولوا: (آمنا) وقال: (قُولُوا أَسْلَمْنَا)؛ لأن لفظ الإسلام إذا أطلق يدخل فيه المنافق.
ولكن الجماهير من السلف يقولون: إن هؤلاء الأعراب من أهل الإيمان، أي: أن معهم أصل الإيمان، وأنهم مسلمون ظاهراً وباطناً وليسوا منافقين، لكن الإيمان لا يضاف إلا لمن استقامت حاله ظاهراً وباطناً على الإطلاق، ولهذا قال النبي لـسعد : (أو مسلم)، عندما كان يقول: (أعط فلاناً فإنه مؤمن)، مع أن معه أصل الإيمان.
ولا شك أن الأمر ليس كذلك، فلم يعرف عن أحدٍ من السلف أنه سوى بين الإيمان والإسلام، والدلالة الشرعية بينة في أن منزلة الإيمان أعظم من منزلة الإسلام، بل إن ابن كثير والسمعاني وجماعة ذكروا إجماع أهل السنة على أن الإيمان والإسلام ليسا على درجةٍ واحدة، بل درجة الإيمان أخص، بل ذكر ابن كثير أن التسوية بينهما هي من أقوال المعتزلة.
وعلى كل حال فعامة السلف على أن الإيمان والإسلام ليسا على درجة واحدة، بل الإيمان أخص وأولى، وإن كان كل ما كان إسلاماً صحيحاً، فلا بد أنه معه إيمان، وأما إظهار الإسلام الذي يعرض لبعض المنافقين، فلا شك أنه متجردٌ عن الإيمان.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [19] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net