اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [23] للشيخ : يوسف الغفيص
ذكر المصنف أهل الكبائر من جهة حكمهم في الآخرة، وهي مسألة الفاسق الملي، وقد تقدم أن الخوارج والمعتزلة يجعلونهم برآء من الإيمان، فالخوارج تقول: إنهم كفار، والمعتزلة تقول: إنهم فساق قد عدموا الإيمان.
وقد اتفقت الخوارج والمعتزلة على أن أهل الكبائر يخلدون في النار، وأنهم ليس لهم حظ من رحمة الله سبحانه وتعالى وثوابه وفضله، وهو مذهب واضح وبين الضلال، ولأجل هذا الأصل أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الأولياء والصالحين لأهل الكبائر؛ لأنهم يرون أن أهل الكبائر مخلدون في النار.
القول الأول: وهو قول غاليتهم، أنهم لا يعرضون لشيء من العذاب البتة، فيجزمون ببراءة سائر أهل الكبائر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا القول كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله يذكر في كتب المقالات عن غالية المرجئة، ولم يحفظ عن أحد من الأعيان المعروفين منهم أنه كان ينص على هذا القول وينتصر له، ولكن جاء في كتب المقالات أن هذا هو قول غالية المرجئة، وقد نسبه ابن حزم وأبو الحسن الأشعري إلى مقاتل بن سليمان ولا يصح ذلك عنه، ولكن يطلق ويقال: هذا قول الغالية من المرجئة؛ لأن هذا شائع في كتب المقالات.
القول الثاني: ويسمى قول الواقفة من المرجئة، وهم الذين قالوا: إن أهل الكبائر تحت المشيئة، ولما كانوا ينكرون حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، أو ما يسمونه التعليل، فإنهم قالوا: إن أهل الكبائر تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وهذه الجملة من حيث الإجمال لا إشكال فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، ومن أصول أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر في الآخرة تحت مشيئة الله.
ولكن جهة الغلط عند واقفة المرجئة، أنهم قالوا: تحت مشيئة الله، ووقفوا على هذا ثم قالوا: قد يعذب سائرهم بالنار، ثم يخرجون منها، وقد يغفر لسائرهم، فلا يدخل أحد من أهل الكبائر في النار، وقد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، وهذا معنى كونهم واقفة، أي أنهم يقولون: إنهم تحت المشيئة، ثم مع ذلك يفصلون تفصيلاً يقع على سائر الفروضات العقلية في المشيئة، ولم يراعوا في ذلك أخبار الشارع فضلاً عن حكمته.
وهذا القول يقوله طوائف من المرجئة، وهو قول أبي الحسن الأشعري وجمهور أصحابه، وإن كان الأشعري يذكر في كتبه ما يوحي أنه يخالف هذا القول، لكن على أقل تقدير هو أحد قولي أبي الحسن وجمهور أصحابه، وإلا فـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجزم بأن الأشعري على هذا المذهب وأنه لا يذكر في كتبه إلا مسألة المشيئة.
ويمكن أن يقال: إن للأشعري في هذا قولين: الأول: هو القول الموافق لقول مقتصدة المرجئة، والثاني: وهو المعروف عنه في الكتب الكلامية، هو هذا القول.
القول الثالث: هو قول مقتصدة المرجئة، وهؤلاء يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر، ومن هؤلاء الفضلاء من أصحاب أبي الحسن الأشعري ، فيقال: إن هؤلاء، وهم المقتصدة من المرجئة يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر.
الأصل الأول: أنهم تحت المشيئة.
الأصل الثاني: أنه لا يخلد أحـد منهم في النار، بل مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً قبل عذاب، وإما مآلاً بعد العذاب، وهذان الأصلان في الجملة لا يخالفان قول الواقفة من المرجئة، وإنما يتميز مذهب السلف، بالأصل الثالث.
ومحصل الأصل الثالث: الإيمان والجزم بأن طائفة من أهل الكبائر غير معينين يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وأن طائفة منهم يعذبون في النار ثم يخرجون منها، إما برحمته المحضة، أو برحمته مع سبب من الشفاعة أو نحوها.
وهذا الأصل يميز قول السلف عن قول المرجئة الواقفة؛ لأن السلف يجزمون بأن قدراً من أهل الكبائر لا يدخلون النار، ويجزمون بأن قدراً آخر من أهل الكبائر يدخلون النار.
وهذا القدر الذي لا يدخل النار، والقدر الذي يعذب في النار ثم يخرج منها، ليس مبنياً على محض المشيئة فقط، بل هو مبني على مشيئته مع حكمته سبحانه وتعالى وعدله، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الموازين، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] ، فلا شك أن الذين يعذبون في النار هم أكثر إتياناً للكبائر وأكثر فسقاً وأكثر فجوراً ممن لا يعذبون في النار؛ لأن الله سبحانه وتعالى: لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] ، والموازنة مجمع عليها بين السلف، وقد ذكرها الله في كتابه، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم إما مجملة وإما مفصلة.
وخذ هذه الموازنة أن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأن حكمه عدل، فلا يعذب الأكثر حسنة ويغفر للأكثر سيئة، هذا لا يكون في عدل الله سبحانه وتعالى وقضائه؛ فإنه سبحانه وتعالى حكم عدل.
ولهذا وصفت الموازنة المطلقة في القرآن بكونها عدلاً ولم يميز لها أحداً، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الموازنة بين الإيمان والكفر قيدها بنوع من المقدار والحد، كقوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:102-105] .
فصريح في سياق سورة المؤمنون وسورة الأعراف وسورة القارعة أن الموازنة المذكورة هي في حق أهل الإيمان وأهل الكفر.
وأما إذا ذكر الله الموازنة المطلقة المتعلقة بسائر خلقه، فإنه يذكرها ذكراً مطلقاً ويقيدها بعموم عدله وقسطه سبحانه وتعالى، ففي قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47] ما ذكر الله فيها إلا أنها قسط وأنه سبحانه لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] إلى غير ذلك من سياقات القرآن.
ولهذا كان إعراب قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47] القسط: صفة، والأصل أن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد والجمع، وهنا لم تتبعه، فجاءت الصفة مفردة والموصوف جمع لأنها مصدر، ولهذا قال ابن مالك في الألفية:
ونعتوا بمصدر كثيراً فلزموا الإفراد والتذكيرا
والصحيح: أن القول بهذا التفصيل، لا تصح إضافته إلى الصحابة والتابعين على هذا الإطلاق، فإنه لا دليل عليه، إنما دل الدليل على غلط قول المرجئة الواقفة، ودل على أن الله سبحانه وتعالى: (لا يظلم مثقال ذرة) وأما الجزم بأن من زادت سيئاته واحدةً أنه يدخل النار، أو أن الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد دخلوا النار في حديث الشفاعة من هذه الأمة، هم من زادت سيئاتهم على حسناتهم بواحدة فما فوق، فهذا ليس بلازم.
فمن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، يمكن أن يغفر له قبل دخول النار، وليس هناك دليل يمنع أن يغفر له؟ والمغفرة هي محض حقه سبحانه وتعالى، ولو غفر لسائر أهل الكبائر لكان ذلك ممكناً، لكن لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن طائفة منهم يعذبون ويخرجون بالشفاعة أو بمحض رحمة الله، وجب أن يقال: إنه من الإيمان، الإيمان بأن طائفة منهم يدخلون النار، ثم يخرجون منها، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لمن يشاء، ولولا أخبار الشفاعة لما صح لأحد أن يجزم بهذا.
فهذا الجزم الذي جزم به الإمام ابن القيم رحمه الله ليس جزماً مناسباً، وليس عليه دليل.
وقد نقل عن ابن عباس وابن مسعود وجابر أن أهل الأعراف: هم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، إلا أن هذه الآثار لا يصح منها شيء عن الصحابة.
ومعلوم أن القاعدة: أنه إذا اختلف في تفسير آية، وللصحابة فيها قول، ولمن بعدهم قول، فإنه يؤخذ بمذهب الصحابة، وقاعدة ابن جرير في ذلك معروفة، إلا أنه لما ذكر تفسيرهم لأهل الأعراف، ذكر هذا عن ابن عباس وغيره، وذكر أقوالاً، ثم غلط قول من يقول بأنهم ملائكة، ورجح أنهم قوم من بني آدم، ولكنه ذهب إلى التوقف فيهم، فما جزم بأنهم من استوت حسناتهم مع سيئاتهم، مع أنه نقل هذا عن بعض الصحابة، وهذا موجبه أنه لم يصح عند ابن جرير شيء من هذه الروايات عن الصحابة.
ثم إنه لو سلم جدلاً أن هذه الرواية صحيحة عن ابن عباس ، فلا يلزم من هذا أن يقال: إن هذا مذهب سائر الصحابة والتابعين.
ثم إذا وقف الله سبحانه وتعالى قوماً من هؤلاء، لم يلزم أن يوقف سائرهم، فهذه كلها لوازم وتحصيلات ليست دقيقة.
وسائر الأدلة التي استدل بها ابن حزم وابن القيم رحمهما الله هي آيات الموازنة المذكورة في سورة الأعراف والمؤمنون وفي سورة القارعة، وهي في ذكر الكفر والإيمان كما هو صريح من سياقها، واستدلالهم بآية الأعراف استدلال مجمل، يحتاج إلى تفصيل من الشارع في حدهم، وعليه فنقول: هذا القول هو قول لطائفة من أهل السنة، وقد رد بعض أهل السنة والجماعة على الإمام ابن حزم رداً مشهوراً؛ لأن هذه المسألة أول من قررها بهذا الوجه هو أبو محمد ابن حزم في كتبه، وانتصر لها أبو عبد الله الحميدي صاحبه، وانتصر لها الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وغيره، فهؤلاء الثلاثة هم أشهر من قررها من أهل السنة من المتأخرين.
ولا ترى في كتب السلف المتقدمة كالشريعة للآجري والتوحيد لـابن خزيمة ، والإيمان لـابن منده وغيرها، لا ترى أن فيها ذكراً لهذا الكلام على وجه من الوجوه؛ فالسلف أجمعوا على الإيمان بالموازنة لكن ليس على هذا التفصيل، فعليه يقال: إن هذا التفصيل قول طائفة من أهل السنة والجماعة.
وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (وهذه المسألة فيها وجهان للمتأخرين من أهل السنة والجماعة من أصحابنا وغيرهم) ثم ذكر القول الذي ذكره ابن القيم ، وذكر قولاً آخر، فهذه مسألة متأخرة لا ينبغي الجزم فيها، وأصول السلف مبنية على الأصول الثلاثة المتقدمة.
وهذه الآية: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] صريحة في إبطال مذهب الخوارج، وإبطال مذهب المعتزلة، الذين قالوا: إن أهل الكبائر يخلدون في النار.
وقد ذكر أهل العلم ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن مسقطات العقوبة، بضعة عشر مسقطاً حسب الاستقراء الشرعي، الأول: التوبة، وقد أجمع المسلمون أن من تاب من الكبيرة، فإنه يغفر له.
الثاني: الاستغفار، والاستغفار هنا مقامه أخص من مقام التوبة، والاستغفار تارةً يذكر ويراد به التوبة، وتارةً يذكر ويراد به ما هو أخص من ذلك.
الثالث: الحسنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] .
الرابع: دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.
الخامس: المصائب المكفرة.
السادس: ما يقع في القبر من الهول.
السابع: العذاب الذي يقع في القبر، فلا يوافي ربه بكبيرته، بل يزول أثرها بعذاب القبر.
الثامن: مقامات الآخرة وعرصات القيامة، فهذه جملة من المسقطات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا عدمت هذه الأسباب، المسقطة لعقوبة الكبيرة، قال: ولن تعدم إلا في حق من عتى وتمرد وشرد على الله شرود البعير الضال على أهله، فهنا يعذب في النار ثم يخرج منها).
وهذا من سعة فقهه رحمه الله، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لعباده المؤمنين؛ لأن معهم حسنة التوحيد، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعنى بهذه الحسنة، فقهاً ودعوةً وتعليماً، والمسلمون مهما كان فيهم من المعصية، ما دام أنهم محققون لأصل التوحيد، فإنهم على خير كثير، وهم قريبون من رحمته سبحانه وتعالى، وفضله وإحسانه.
وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر إجماع أهل السنة، على أنها تكفر الصغائر دون الكبائر. وهذا الإجماع الذي ذكره أبو عمر ابن عبد البر ينبغي فقهه، فإنه قد يفقه على أحد وجهين، الأول: أن يفقه أن السلف أجمعوا على أن الأعمال الصالحة، كالصلاة والحج وغيرها، لا يمكن أن تكفر أو أن تمحو ما هو كبيرة.
ولا شك أن هذا الوجه من الفقه غلط، وإن أضافه من أضافه بعض المتأخرين للسلف، فهو إضافة غلط.
الوجه الثاني من الفقه: أن يفهم منه أن هذه الأعمال الصالحة، قد تكفر ما هو من الكبائر، ولكن ذلك لا يطرد، إنما يطرد في الصغائر، وفقه الإجماع على هذا الوجه، هو الفقه الصحيح. وهو مذهب السلف ولا شك، وهذا هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقريراً مفصلاً، وقرر أنه هو المذهب المعروف عن سلف الأمة.
ويكون هذا الفهم وسطاً بين قول من يقول: إن هذه الأعمال الصالحة تكفر الكبائر باطراد كما تكفر الصغائر، فإن هذا خلاف كثير من النصوص وخلاف الإجماع، وبين قول من يقول: إنها لا تكفر إلا الصغائر ولا يمكن أن تكفر الكبائر، ويجزم بذلك، فهذا غلط أيضاً ولا يقوله أحد من السلف، وإن نقل بعض المتأخرين في هذا الإجماع فهو إجماع غلط كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم..) وقوله: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه..) ، ولا يمكن أن يجتمع السلف على أن من أتى هذا البيت فقام قيام السنة، واقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم فما رفث ولا فسق وتعبد لله، ووجل قلبه، وأدى الأركان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تمام الإخلاص وتمام المتابعة، ولكن عنده بعض الكبائر السالفة أن كبائره لا تغفر، فهذا تضييق لرحمة الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن فقه السلف يقف مع هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .
فتكون الصلاة باعتبار أصل القيام بها مكفرة للصغائر إذا اجتنبت الكبائر؛ أما الكبائر فلا يتعلق تكفيرها بإقامة الصلاة حتى ولو لم تكن الإقامة التامة الموافقة لهدي النبوة من كل جهة، والتي ذكر الله عن أهلها أنهم في صلاتهم خاشعون، فلا يلزم أن كل عمل ذكره الشارع واجباً كان أو مستحباً يكفر الكبائر باطراد كما يكفر الصغائر.
فإنه لو قيل إن التكفير يقع بمجرد إقامة الصلاة ولو غير تامة، لصح الاعتراض عليه بهذا الحديث، فإن الحديث معارض لهذا الفهم تماماً.
ولكن إذا قيل إن الأعمال المكفرة يقع بها تكفير بعض الكبائر في بعض الأحوال، فإن هذا لا يكون معارضاً، ويمكن أن يقال: إن هذه الأعمال باعتبار أصولها، تكفر الصغائر، ولكن من حققها على وجه التمام، وكانت حالته في الجملة على قدر من الاستقامة والانقياد، ولكن كان معه يسير من الذنب والكبيرة، فإن هذه الأعمال تكون سبباً للتكفير.
ومن إجماع السلف أن الله قد يغفر لأهل الكبائر بغير سبب من العبد، فمن باب أولى أن يكفر عنه وأن يغفر له بسبب منه وهو الحسنة، فإن الله قال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) .
وإذا كان الله يغفر لبعض أهل الكبائر بسبب من غيرهم وهو دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، أو بشفاعة الشافعين، فيمكن أيضاً أن يغفر له بسبب من أعماله الصالحة، ومن عرف مقام الصلاة ومقام الحج، ومقام الجهاد، ومقام الصيام عند الله سبحانه وتعالى، عرف أنه يمكن أن يغفر بها ما هو من الكبائر، ألم يقل الله سبحانه كما في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به) .
فتعليق هذه الأمور على التوبة لا شك أنه تعليق ضيق، بل يقال: إن هذه الأعمال كفارات للصغائر، وقد يقع في هذه الأعمال كأصول الواجبات من الحج والجهاد والصيام والصلاة، ما هو مكفر لبعض الكبائر، وهذه أحوال لا تطرد، وإنما يختص الله سبحانه وتعالى برحمته وتوفيقه من يشاء من عباده.
قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم):
أما من مات منهم فقد أجمع السلف على أن من مات من الأبرار أو الفجار فإنه يصلى عليه، مهما كان فسقه، وإن كان الإمام ابن تيمية رحمه الله ذكر مقاماً -إنما أذكره ليفقه- قال: (ومن استفاض شره وظلمه وبغيه وعدوانه، فلو تخلف عن الصلاة عليه بعض الأعيان من الأئمة أو الأكابر حتى ينزجر الناس عن مثل هذا الظلم ويكفوا عنه، وحتى لا تكون حالته سنة لمن بعده، لكان هذا من الفقه الذي يقع في قدر من الاجتهاد المأذون فيه).
وهذه العبارة بينة في أن هذا لا يفعله الآحاد من الناس، وإنما قد يجتهد في مثل هذا المقام واحدٌ من الأكابر من أهل العلم والفقه،ومع هذا فإن مقام الموت ينبغي ألا يعزر الناس أو يؤدبوا في مثله، بل ينبغي أن تكون هذه المقامات محلاً لاجتماع قلوب المسلمين، والظلم قد يكف بغير هذا الوجه، وإنما ذكرت ذلك لأن البعض قد ينقل عن شيخ الإسلام أنه يجوز ترك الصلاة على من استحكم فسقه، ولم يكن هذا من رأيه البتة، بل يرى أن ترك الصلاة عليه من آحاد الناس من الفسق والتكلف الذي لم يأذن به الله، وفيه شبه بطريقة الخوارج والوعيدية.
أما إن كان هذا الفاجر ولياً للأمر: فإن الإجماع منعقد على أنه يصلى خلفه ولو كان فاسقاً، وأما إن كان من الآحاد فقد كره كثير من السلف الائتمام بالفاسق، وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد ، والمشهور عند متأخرة الحنابلة، وهو الذي يقررونه في كتب المذهب أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، وهذا لا يصح في مذهب أحمد ، بل المحقق في مذهبه عند متقدمي أصحابه أنه كان يكره الصلاة خلف الفاسق، إلا إن كان ولياً للمسلمين.
ولهذا صلى الإمام أحمد خلف المعتصم ، مع أن المعتصم أقل أحواله أنه فاسق، فإنه كان مظهراً لنشر البدعة والانتصار لها، وإن كان مقتدياً بأخيه، فإن أخاه ليس صاحب سنة حتى يقتدى به، وتعليله: حتى لا تسقط هيبة الخلافة..إلخ، ليس مسوغاً من جهة الشريعة، فمع فسق المعتصم إلا أن الإمام كان يرى الصلاة خلفه.
وعليه فإن الصلاة خلف الفاسق: إن كان ولياً للأمر كأمير العامة ونحوه، فإن الصلاة خلفه تكون مشروعة، ومن الاقتداء الذي كان عليه السلف جمعاً للكلمة، وأما إن كان من آحاد الناس، فإن الصلاة خلفه صحيحة عند عامة السلف، ولكن كره بعض أئمة أهل الحديث الصلاة خلف الفاسق ولا سيما إذا كان إمام الحي، أي: إماماً راتباً، مع هذا كله فإنه إذا دخل المسجد، لا سيما بعد انقضاء جماعة الإمام الراتب، فوجد من عليه أمارة الفسق يصلي بقوم ممن لم تدركوا صلاة الإمام، فلا يجوز هنا بحال أن يتخلف عن الاقتداء به لما ظهر عليه من الفسق، بل يصلي خلفه، فإنه في هذه الحال ليس مختاراً لإمامته، ولا يصلي وحده، إلا إذا اجتهد على معنى آخر من الفقه، فإن الأئمة الثلاثة - مالكاً والشافعي وأبا حنيفة - لا يرون إعادة الصلاة في المسجد، بل المشهور في مذاهب الأئمة الثلاثة، أنه إذا صلى إمام الحي ودخل من دخل فإنهم يصلون فرادى.
بل حتى الحنابلة مع أنهم يرون إعادة الجماعة في المسجد إلا أن متأخريهم يقولون: إن مذهب أحمد أن ذلك مأذون فيه إلا مسجد مكة والمدينة، أي المسجد الحرام والمسجد النبوي قالوا: فإن إعادة الصلاة فيه جماعة مكروهة، ولهذا قالوا في مختصراتهم: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجد مكة والمدينة)، ولا شك أن هذا مذهب مرجوح، وأن الراجح هو أن صلاة الجماعة تعاد في أي مكان وتشرع في أي مكان، ولو صلى إمام الحي، وإن كان حديث: (من يتصدق على هذا) فيه كلام، فإن الاعتبار في هذه المسألة ليس بهذا الحديث، وإنما الاعتبار بعموم الأدلة التي شرعت صلاة الجماعة، فإنها أدلة ليس لها مخصص، وقد تتفق المذاهب الأربعة على قول ليس هو قول الجمهور من فقهاء السلف وأئمتهم، وهنا في مسألتنا هذه ظاهر مذهب أكثر السلف أنهم يرون إعادة الصلاة، وقد كانوا يصلون في رحالهم، ويصلون حيث أدركتهم الصلاة، وصلاة الجماعة مشروعة، بإجماع المسلمين، فلا يخص منها حال.
أي: لا نشهد لأحد من أهل القبلة بجنة أو نار، إلا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وتقدم أن هذا إجماع، وقال بعض أهل العلم من المتقدمين: يشهد لمن استفاض ذكره، وهذا مرجوح، والراجح أن هذا مقصورٌ على شهادته صلى الله عليه وسلم.
الشرك والكفر والنفاق، مستعملة في النصوص ويراد بها الأكبر، ويستعمل الكفر أو الشرك أو النفاق ويراد به ما دون ذلك مما يجتمع مع أصل الإيمان، ولهذا فإن السلف أجمعوا على أنه يجتمع في العبد طاعة ومعصية، خلافاً للخوارج والمعتزلة، وأجمع السلف خلافاً لجماهير المخالفين من المرجئة وغيرهم أنه يجتمع في العبد كفر وإيمان، ومرادهم بالكفر هنا الكفر الذي سماه الشارع كفراً وليس هو الكفر المخرج من الملة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة كما في الصحيح: (اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) ومثل هذا ليس كفراً أكبر بإجماع أهل العلم.
وأيضاً الشرك، كقوله صلى الله عليه وسلم مثلاً: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، فإن الحلف بغير الله لا يلزم أن يكون شركاً أكبر، فقد يكون شركاً أكبر، كحال الجاهليين عندما كانوا يحلفون باللات والعزى؛ لأنهم كانوا يعظمونها التعظيم الذي لا يجب إلا لله سبحانه وتعالى، وأما أهل القبلة والإسلام إذا حلف الواحد منهم بغير الله، فإنهم في الجملة يقعون في الشرك الأصغر، وأنهم لا يقصدون بذلك أن يعظموا غير الله كتعظيمهم لله.
مثلاً: سمى الشارع الكذب نفاقاً: (إذا حدث كذب) ، ولم يُسَمِّ قتل النفس نفاقاً، مع أن قتل النفس أعظم من الكذب، فلو اعتبرنا مسألة القدر، لقلنا من باب أولى أن يسمى قتل النفس نفاقاً، إلا أن الصفة قضاء شرعي لا يجوز الاجتهاد فيه، ولهذا لما ذكر صلى الله عليه وسلم النفاق، ذكر من الأعمال المخالفة ما هو مناسب لماهية النفاق، كالكذب والغدر والفجور في الخصومة، ونحو ذلك.
وأيضاً سمى إباق العبد كفراً، لكن لو أن العبد قتل نفسه ما سماه الشارع كفراً، مع أنه سمى مقاتلة المسلمين بعضهم لبعض كفراً كما قال في حديث أبي بكر وعمر : (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، ومن حديث ابن مسعود : (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ، وقتل النفس أعظم من قتل الغير، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيمن قتل نفسه: (خالداً مخلداً فيها أبداً) ، وإن كان هذا الحرف -أبداً- ليس محفوظاً كما ذكره الإمام الترمذي ، وإن أخرجه الشيخان.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [23] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net