اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [27] للشيخ : يوسف الغفيص
أي أن العبد يعمل ما يسره الله سبحانه وتعالى له، كما في الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وقوله: (قد فرغ له) أي ما مضى به القدر.
قدر الله سبحانه وتعالى متعلق بكل شيء من الأحوال الكونية والأوامر الشرعية، فإن الأمر كله لله، والخلق كله لله، كما في قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] ، وقدره سبحانه متعلق بسائر أمره وخلقه.
قول أبي جعفر في مسألة الاستطاعة قول محقق؛ فإن لأهل الكلام قولين مشهورين في مسألة الاستطاعة، فمنهم من يقول: إن الاستطاعة تكون مع الفعل، ومنهم من يقول: إن الاستطاعة تكون قبل الفعل، وهذان القولان هما المشهوران عند المعتزلة والأشاعرة؛ والقول المحفوظ عند أهل السنة هو هذا التفصيل، وبهذا التفصيل يعلم أن الطحاوي رحمه الله مجانبٌ لمذهب الأشعرية؛ فإن عامة الأشعرية لا يقررون هذا المذهب.
وهذه جملة متعقبة في كلام الطحاوي، فإنه قال: (وأفعال العباد هي خلق الله) وهذا لا إشكال فيه، ولكنه قال: (وكسبٍ من العباد)، وقوله: (وكسب) هو من باب العطف، أي: فهي بخلق وكسب، فهذا التعبير بالكسب تعبير أشعري، وإن كان لفظ الكسب من حيث هو مستعمل في الكتاب وفي السنة أيضاً مثل قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [المدثر:38] ، وقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] ، فأفعال العباد سميت بالشرع أو في كلام الله سبحانه كسباً، لكن تسمية أفعال العباد كسباً على الاختصاص بهذا اللفظ وحده هو الطريقة التي استعملها أبو الحسن الأشعري ، وعامة أصحابه، ولهذا فإن تعبير المصنف هنا ليس بحسن.
ولو عبر المصنف بالعبارات المأثورة عن السلف لكان أولى، فلم يكن السلف يخصون هذا اللفظ بأفعال العباد، وإن كان أصله مستعملاً في كلام الله سبحانه وتعالى، ولكن الأشاعرة يطلقون أن أفعال العباد كسبٌ ويريدون بذلك أن العبد يفعل بإرادة مسلوبة التأثير، وبإرادة -كما يعبر بعضهم- يقع الفعل عندها لا بها.
فالقصد أن هذا موضع يتعقب فيه أبو جعفر الطحاوي لأنه خص ذلك بالكسب، وهذا التخصيص هو من أحرف الأشعرية في الأصل.
- قوله: (ولا يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون):
هذه جملة أشعرية صريحة، بل يقولها الغلاة من الأشاعرة، والحق أن الله سبحانه وتعالى كلف العباد ما يطيقون، وأما قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فإن الأمر ليس كذلك، بل تفضل سبحانه وتعالى ورفق بهم وكلفهم، مع أنهم يطيقون فوق ما كلفوا به، فالصلاة فرضت خمسين صلاةً، ثم راجع النبي صلى الله عليه وسلم ربه إلى أن جعلها الله سبحانه وتعالى خمس صلوات، وهذا إنما أطلقه والتزمه بعض أئمة الأشاعرة المتكلمين الذين غلوا في تقرير مسألة تكليف ما لا يُطاق، وهذه المسألة ما كان السلف يذكرونها.
بل إن تسمية أحكام الشريعة تكليفاً ليس مأثوراً عن أحدٍ من السلف، وهذا مما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: (صريح في القرآن أن الله سمى العمل تكليفاً، أو سمى التشريع تكليفاً، لكن أن تسمى سائر مسائل الشريعة الواجب منها والمستحب والمباح تكليفاً، وكذلك أن تكون المنهيات من باب التكليف فهذا الإطلاق إنما حدث في اصطلاح المتأخرين).
هذا فضلاً عن تكليف ما لا يطاق، فإن هذه ما نطق بها السلف أصلاً، والعبد إنما يكلف ما يطيق، وهذا بالإجماع لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .
وهذه النتائج من مسائل تكليف ما لا يطاق، ومسائل التعديل والتجوير التي توجد في كتب الأصوليين، فضلاً عن كتب أصول الدين عند المتكلمين، هي في الغالب نتائج في مسألة القدر.
وهنا تنبيه: وهو أن هذه المسائل إذا ذكرت في كتب أصول الدين، يقول علماء الأشاعرة: هذا قول أصحابنا -يعنون الأشعرية-، والمعتزلة يقولون بأن هذا قول أصحابنا -يعنون المعتزلة- فيكون بيناً أن هذا قولٌ للمعتزلة وهذا قولٌ للأشاعرة، ولكن إذا ذكرت في كتب الأصول الكلامية، فمعلوم أن جمهور المتكلمين من الأصولين على طريقة أبي الحسن الأشعري هم من الشافعية، ومتكلمة الحنفية كثير منهم أو بعضهم على الاعتزال، فإذا ما ذكر معتزلة الحنفية هذه المسائل في مسائل أصول الفقه وقالوا: وقول أصحابنا كذا، فُهِم أن هذا مذهب الحنفية، في حين أن الغزالي أو الآمدي أو الرازي من أشعرية الشافعية إذا ذكروا هذه المسائل فقالوا: وقول أصحابنا، فيفهم أن هذا مذهب للشافعية.
فهذه المسألة التي حقيقتها خلاف بين المعتزلة والأشعرية قد تنصب في كتب أصول الفقه الكلامية خلافاً بين الحنفية والشافعية، والحقيقة أنها ليست كذلك، بل هي خلاف بين المعتزلة والأشاعرة، وليست خلافاً بين سائر الحنفية مع سائر الشافعية أو المالكية.
أما المسألة فمن أصلها غلط، وأما كونها تفسيراً لهذه الكلمة فكذلك هو غلط آخر، بل قوله صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى -كما في صحيح البخاري -: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قال: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) ، أي: أنه لا يكون شيء ولا تقع قوة من العبد ولا قدرة من العبد ولا تمكين من العبد إلا بقوة الله سبحانه وتعالى وحوله وطوله وتمكينه، فهذا من الاستعانة، وهذه أحد جمل الاستعانة، وأحد جمل التوحيد المحكمة، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من كنور الجنة.
قال: (نقول: لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحدٍ على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى).
أما أن هذا بمعونته وتيسيره وتوفيقه فهذا صحيح، وهذا انفكاك عن كونها تفسيراً لمسألة تكليف ما لا يطاق.
أي: سواء كان ذلك في أفعال العباد، أو غير أفعال العباد، فسائر ما يقع فإنه بمشيئة الله سبحانه وتعالى وحكمته.
قال: [غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً] .
هذه الجملة مرادها صحيح، لكن التعبير بها ليس له تمييز، إلا على توجيه أن مراده رحمه الله أن مشيئته سبحانه وتعالى هي النافذة، وأن مشيئة العباد تبع لها، فهذا صحيح، ولكن لو عبر بغير ذلك لكان أولى.
وهذا من التنزيه المجمع عليه بين المسلمين.
ذكر هذه المسألة في مسائل أصول الدين والاعتقاد ليس محكماً، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله يذهب هذا المذهب، وهذه المسألة فيها نزاع مأثورٌ عن السلف، إلا أن المصنف خصص فقال: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم)، وبهذا التخصيص يكون كلامه صحيحاً، فإن الإجماع عند السلف منعقد على أن الدعاء والصدقة تنفعان الميت؛ لما جاء في ذلك من الآثار الصريحة في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما ما عدا ذلك من القرب كقراءة القرآن فهي موضع نزاع بين السلف.
وذكر المصنف لهذه المسألة هنا ليس له مقصودٌ بين، فهو وإن لم يكن مما ينتقد لكنها ليست من مسائل العقيدة، ولهذا ترى أن كتب أصول الدين لا تذكرها، فلو قُررت في مسائل الإجماعات الفقهية لكان أولى، وإن كان قد يستثني أحياناً فيقال: إن طوائف من أهل البدع يخالفون في هذا الإجماع ولهذا تذكر هذه المسألة في أبواب العقيدة، ولكن لا يطرد هذا؛ لأن هذا يستلزم في إجماع فقهي عند السلف خالف فيه طوائف من أهل البدع؛ أن يدخل في هذه المسائل، والأمر ليس كذلك.
الدعاء من قدر الله، وهو سبب لحصول المقدور، وليس كما قال طوائف من الصوفية وبعض المتكلمين، إن الدعاء يقع على جهة التعبد المحض، أي أنه لا أثر له في حصول المقدور، وحجتهم في ذلك أنه قد سبقت الكتابة.
والجواب: أن يقال: نعم قد سبقت الكتابة، ولكن كما أن الله كتب المقدر أو المسبب فقد كتب السبب، فالدعاء هو سبب من الأسباب، كما أن صلاة العبد قد قدرها الله وكتبها، فكذلك دعاؤه قد قدره الله وكتبه، فكما أن الصلاة سبب لدخول الجنة، فكذلك الدعاء سبب لحصول المقدور والمدعو به.
أي: لأنه سبحانه وتعالى له الملك.
قال: [ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين] .
هذا مما ينبغي تأديب المسلمين بفقهه، ولاسيما في التعبيرات والألفاظ، كتعليق المشيئة على مشيئة العبد ومشيئة الرب، فمن شرك الألفاظ قول: (ما شاء الله وشئت) والحلف بغير الله، فإن الإنسان عند حلفه إنما يريد التعظيم، أو العزم ونحو ذلك من المقاصد، فيشيع في كثير من المسلمين الحلف بالنبي أو بالأمانة، أو بغير ذلك، فهذا مما ينبغي تأديب المسلمين في فقهه، وهذا من فقه التوحيد.
وهذه جملةٌ حسنة في كلام أبي جعفر ، وهي صريحة في مخالفة مذهب الأشعرية، فإن الأشاعرة لا يثبتون صفة الغضب والرضا، وإذا ذكروه فإنهم يتأولونه، فـالأشعري في بعض كتبه يذكر الغضب والرضا ولكن يتأول ذلك بالإرادة.
والإمام الطحاوي لما قال: (والله يغضب)؛ فإن الأصل في كلامه أنه يريد الحقيقة، ومن تأوله من الشراح الأشعرية بأن مراده إرادة الانتقام أو إرادة الإنعام فإن هذا يقال: إنه تأويل لكلام المصنف على خلاف ما أراد.
وكان ابن كلاب يثبت لله غضباً ورضا، ومن هنا فإن ابن كلاب أجود حالاً من الأشعري في الصفات، لكنه مع هذا يجعل الغضب الذي يثبته واحداً أزلياً كما يجعل الكلام واحداً أزلياً، ومن هنا فارق ابن كلاب السلف في صفة الرضا والغضب، وأما الأشعري فإنه دونه؛ حيث يتأول الغضب وما في معناه من الصفات على الإرادة، وإن كان الأشعري في الجملة أحسن حالاً من متأخري أصحابه؛ لأن الأشعري هو والمحققون من الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر ونحوه يفسرون ذلك بالإرادة، فيفسرونه بصفة، وأما المتأخرون ممن تأثر بالاعتزال كثيراً فإنهم يفسرون ذلك بالمفعولات على طريقة المعتزلة كـأبي هاشم الجبائي ونحوه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [27] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net