اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [29] للشيخ : يوسف الغفيص
بعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى قول أهل السنة والجماعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر مقام أئمة السلف، وأن من الهدي المأثور حسن القول في هؤلاء الأئمة، والمصنف عبر هنا بعبارات فيها سعة، فقال: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين)، فإما أن يعني بالسابقين: الصحابة ومن بعدهم ممن اتبع الصحابة، وإما أن يعني بالسابقين: من أخذ عن الصحابة من التابعين ومن بعدهم في طبقة القرون الثلاثة الفاضلة، ولا يعني الصحابة لأنه قد ذكر الصحابة من قبل، ويعني بالتابعين: من اقتدى بأئمة السلف من أهل السنة والجماعة من أصحاب الأئمة، فهذا وهذا كلاهما مما يمكن أن يفسر به كلام المصنف.
إلا أن قوله: (ومن بعدهم من التابعين) إلخ، يدل على أن مراده من جاء بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وهم أتباع السلف من الفقهاء وأهل الحديث وغيرهم، وهذا التوجيه هو الأظهر في كلام المصنف؛ لأنه قد ذكر الصحابة من قبل.
أما أهل الأثر: فيراد بهم أهل الحديث، الذين يعتبرون الرواية ويستدلون بها ويشتغلون بها علماً.
وأما أهل الفقه والنظر فمراده بالفقهاء من يختص بهذا الاسم، وإن كانوا مقتدين مقتفين، إلا أنهم اشتغلوا بالفقه ولم يشتغلوا بالرواية على جهة العلم المختص، وهذا تقسيم شائع معروف، فإن من أهل العلم من غلب عليه الاشتغال بالرواية علماً، ومنهم من غلب عليه التفقه، وإن كان هؤلاء وهؤلاء يقال: إنهم من أهل الحديث باعتبار أنهم مقتفون متبعون، ولفظ الفقه تعبير شرعي مستعمل زمن الأئمة ومستعمل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة.
وكأن مراد المصنف بلفظ النظر، ليس اللفظ المذكور في القرآن، وإنما مراده بأهل النظر من اشتغل بهذا الوجه من التحصيل والاستدلال، وهذا المصطلح على هذا المعنى أضيف لكثير من علماء الكلام، والمتكلمون يسمون (أهل الكلام) ويسمون (النظار)، وإن كان مصطلح النظار أوسع من مصطلح المتكلمين، ولهذا يضاف إلى النظار كثيرٌ من الفقهاء، وكثيرٌ من الأصوليين إذ هم من اشتغلوا بالدلائل النظرية.
بخلاف المتكلمين، فهم من اشتغلوا بالدلائل الكلامية، فسائر المتكلمين يسمون نظاراً ولا يلزم أن سائر النظار يسمون متكلمين، ومع هذا فإن الأصل أن هذا الإطلاق لم يكن معروفاً في كلام الأئمة إلا بعد حدوث الفرق والأهواء ولاسيما بعد ظهور علم الكلام، فإن هذه التسمية لم تكن مضافة لأئمة السنة والجماعة في مرحلةٍ من مراحل التاريخ، إنما كانوا يعرفون بأهل الحديث، أو يعرفون بالفقهاء أو نحو ذلك من الأسماء المأثورة.
وأما (أهل النظر) فإنه من الأسماء المحدثة إذا أضيفت على هذا الوجه، ولو قال قائل: إن (أهل النظر) يفسر بما ذُكر على معنى النظر في القرآن، فيقال: حتى على هذا الوجه ليس مأثوراً، وما كان الصحابة يسمون أهل النظر ولا يسمون نظاراً، وإنما غلب هذا الاسم على من اشتغل بعلم الكلام أو انتحل شيئاً من طرقه.
وهذا يشير إلى مسألة نبَّه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر أصحاب الأئمة؛ فقد بين أنهم من جهة الأخذ بعلم الكلام ينقسمون إلى أقسام؛ فأما من اشتغل بعلم الكلام فهذا قسم بيِّن، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكر أن بعض الفضلاء من أصحاب الأئمة أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة ، كانوا يذمون البدع والأهواء وكانوا معرضين عن علم الكلام، فما كانوا يشتغلون به، وكانوا يرون أن طريق السلف والأئمة أهدى وأقوم، إلا أنهم يرون هذا الطريق الذي انتحله من انتسب إلى السنة والجماعة كـابن كلاب والأشعري طريقاً مصححاً في الجملة، وإن كان عندهم ليس راجحاً ولا فاضلاً.
ومن هذا ما قرره بعض أصحاب الأئمة من أن السلف إنما ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ المحدثة، كلفظ الجسم والجوهر والعرض ونحو ذلك، بل بعضهم يقول: ومثل هذا الذم معتبر بالمصلحة، قالوا: فإن المتأخرين لما كثر شقاق أهل البدع وكثر شرهم، كان لا بد لأهل السنة والجماعة من الاشتغال بهذه الطرق من باب دفع صول المخالفين، وعن هذا سوغ أبو حامد الغزالي مثلاً -مع أنه ليس من هذا الصنف بل هو منتحل لعلم الكلام مستعملٌ له- الاشتغال بعلم الكلام من هذا الوجه، قال أبو حامد في الإحياء: (وإن كان السلف ذموه إلا أن ذمهم له لحدوث ألفاظه، ومثل هذا الوجه من الذم قد يزول بالمصلحة)، وضرب مثلاً لذلك بما لو أن الكفار غزوا بلاد المسلمين فما تمكن المسلمون من ردهم إلا أن ينتحل بعض المسلمين ما هو من لباس الكفار أو ما هو من لغتهم إلى غير ذلك، فيرى أن هذا مما يتعلق بمسألة المصلحة.
فـأبو جعفر رحمه الله لم يعرف أنه اشتغل بعلم الكلام، ولكن فيما يظهر والله تعالى أعلم، أنه لم يكن ذاك المباين لسائر الطرق الكلامية، أعني أنه لم يكن له نزع بيّن في الرد أو إبطال طرق متكلمة الصفاتية، ولهذا لما ذكر من بعد القرون الثلاثة الفاضلة، قال: (أهل الفقه والنظر)، فجعل النظار يدخلون في هذا الاستعمال.
وقد يقول قائل: إن مراده بالنظر هنا ما هو مستعمل في كلام بعض الأصوليين، أي: أهل الفقه وأهل الأصول، وهذا صحيح، فالأصوليون الذين اشتغلوا بعلم أصول الفقه يسمون نظاراً في الجملة، لكن مع هذا فظاهر أن أبا جعفر رحمه الله ما كان يقصد إلى إسقاط وإبطال مذهب متكلمة الصفاتية بالتصريح، وإنما يستعمل في ذلك الجمل المجملة غالباً.
من فضل ولياً على نبي من الأنبياء فقد كفر؛ لأن هذا يخالف صريح القرآن وصريح السنة، ولم يقل ذلك أحدٌ من أهل الإسلام، إلا ما كان من شذاذ وغلاة بعض الصوفية، كبعض الاتحادية كـابن عربي مثلاً، فإنه في الفتوحات المكية -فضلاً عن كلامه في الفصوص- يذكر أن مقام الولاية أعظم من مقام النبوة، ولما ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجلٍ بنى بنياناً...) جعل النبي على لبنة فضة، وجعله هو على لبنة الذهب، وقال: (إن المراد بلبنة الفضة: من أخذ الأحكام الظاهرة، ومن أخذ العلم المكتوم وعلم السر، فهو لبنة الذهب)، وهلم جرا.
فمثل ابن عربي وأتباعه كـابن سبعين والتلمساني وأمثال هؤلاء الاتحادية، يطلقون مثل هذا الكلام، وهؤلاء متفلسفة، وليسوا مجرد صوفية عباد انحرفوا في بعض أوجه العبادة، فزادوا أو نقصوا أو غلوا في بعض أوجه الذكر والعبادة أو الصوم وما إلى ذلك، كما يقع فيه كثيرٍ من الصوفية؛ بل هؤلاء متفلسفة، وهم أئمة الباطنية.
ولـابن عربي كلام حسن في الفتوحات المكية، في ذكر بعض مقامات العبادة، أو ذكر بعض مقامات الإيمان، أو نحو ذلك، وكذلك ابن سينا له كلام حسن في بعض المقامات، ولكنه لا يكتفي به ولا يقف عليه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكنت -يعني بذلك أنه كان في أول عمره- مع إخوة لنا نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكية، ونقرأ في كلامه شيئاً حسناً مما ينفع السالك، حتى نظرنا حقيقة كلامه وما ذكره في الفصوص فتبين مذهبه، وأنه يقول بقول الاتحادية).
الأولى: التفريق بين الوجود والثبوت.
الثانية: مسألة العدم، وهل العدم شيء أو ليس بشيء؟ وهذه نظرية فلسفية معروفة قبل أرسطو ، بل إن الإمام ابن تيمية رحمه الله قال: (وقد وقع لي في كلام لـأرسطو ما هو من الرد على قوم من الفلاسفة قبله كانوا يقولون بوحدة الوجود).
بل هناك موجبات أوجبت عندهم هذه الأقوال، إما من الفلسفة المنقولة، أو ما هو مركب منها ومولد منها، كما هو شأن الغالب من المتكلمين، وإن كان هؤلاء مع هذا يستعملون كلمات من كلمات الشريعة، وينتسبون إلى الإسلام، فنظرية الجبر بصورتها الجبرية الغالية التي كان يقولها الجهم بن صفوان ، ونظرية القدر بصورتها الغالية التي كان يقولها غلاة القدرية الذين ينكرون علم الرب بما سيكون؛ هذه نظريات منقولة، وكانت نظريات فلسفية سابقة، والرازي وأمثاله من النظار الذين كتبوا في النظريات المتقدمة كانوا يذكرون هذا عن أقوام من الفلاسفة.
بل إن الرازي يقول: (إن فلاسفة فارس كانوا يذهبون إلى مذهب القدرية، حتى إنهم جعلوا الألعاب التي وضعوها -وذكر منها: لعبة الشطرنج- مبنية على مذهب القدر، قال: والفلاسفة من الهند كانوا مشتغلين بنظرية الجبر، قال: حتى أنهم لما وضعوا لعبة النرد وضعوها على طريقة الجبر) ذكر الرازي هذا في بعض كتبه ومنها (المطالب العالية).
ويجب أن يُعلم أن كل متشيع وكل متصوف يستعمل مثل هذا، فلا بد أنه متفلسف من وجه، وإن كان ظاهره التشيع أو التصوف، إلا أن ابن عربي لا يعرفه كثير من العامة، بل كثير من الناظرين لا يعرفون إلا أنه مجرد صوفي، كما أنهم يقولون -مثلاً- عن بعض العباد كـالجنيد بن محمد ، أو الفضيل بن عياض : إنه صوفي، فيجعلون مسالك الصوفية بها اشتملت عليه من أنواع من التعبد والعرفان قادتهم إلى مثل هذه الكلمات.
فبعض الفلاسفة كـأفلاطون ، حاول أن يركب، بل بدأ هذا التركيب من زمن سقراط ، ولهذا إذا قسموا الفلسفة قالوا: الفلسفة قبل السقراطية، والفلسفة بعد السقراطية، وكانت هناك محاولة للجمع أو التركيب بين العقل والنفس، والمقصود أن الفلسفة ليست مقصورة على النظريات العقلية، بل حتى كثير من النظريات العرفانية المقولة في الأحوال والتعبدات، وكيفية سلوك السالك ونحو ذلك، كثير منها إما أن يكون منقولاً وإما أن يكون متأثراً، وليس معنى هذا أن سائر الصوفية كذلك، بل يعلم أن جماهير الصوفية مع ما عندهم من البدع ليسوا على هذا الوجه الفلسفي، وإن كان يقع عندهم بدع وانحراف وغلط؛ لكن الذين يضافون إلى هذه المقامات هم فلاسفة الصوفية كمن ذكرت أسمائهم.
فالمقصود أن المصنف قال: (ولا نفضل أحداً من الأولياء) لهذا الموجب.
قوله: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم)؛ وهذا من أصول أهل السنة والجماعة، فإنهم يؤمنون بكرامات الأولياء، وجمهور المتكلمين لا يثبتون كرامات الأولياء، وموجب ذلك عندهم أنهم جعلوا دليل النبوة هو المعجزة، والمعجزة هي الآيات، ولا شك أنها دليل، بل قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ.. [الإسراء:101]، فلا شك أن هذه دلائل، لكن دليل النبوة ليس مقصوراً عليها، فلما جعل جمهور المتكلمين دليل النبوة مقصوراً على المعجزات منعوا كرامات الأولياء حتى لا تختلط الكرامة بالمعجزة.
ولا شك أن هذا مخالف حتى لنظام العقل؛ لأن الكرامة تكون لولي، ومعلوم أنه يمتنع على الولي أن يدعي النبوة، فلو ادعى النبوة، أو استعمل ما أوتي من الكرامة على نوع من الالتفات إلى شخصه، لكان هذا مسقطاً لولايته، إذ استعمل ما أوتيه من الكرامة على وجه من الغلط المخالف للسنة والشريعة، فمثل هذه الشبهة لا ينبغي الالتفات إليها.
فالقصد أن الولاية لا تستلزم الكرامة، فليس من شرط الولي أن يؤتى كرامة، بل الجماهير من الصحابة ما أوتوا كرامةً، ومن غلط كثير من أئمة الصوفية حتى بعض الفضلاء منهم، أنهم يلتفتون إلى طلب مقام الكرامة، وهذا الالتفات والتحري لا شك أنه لم يكن من هدي السلف الأول، ولم يكن من هدي الصحابة، وأئمة الإسلام من أهل العلم، بل هو مخالف للسنة والأثر.
وهذه الخوارق التي تقع لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توزن بميزان الشرع، فإن كانت لولي فإنها تسمى كرامةً، وإن كانت لغير ولي فهي من الخوارق الشيطانية.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [29] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net