اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [5] للشيخ : يوسف الغفيص
ويحصل كذلك لكثير من طلاب العلم الذين جالسوا العلماء والشيوخ، فتجد أن عندهم هذه القدرة، لكنهم ليسوا على أكثر من ذلك.
إذاً: هذا يسمى: ناظراً في أقوال الفقهاء، وليس هو مجتهداً ولا فقيهاً، وسيأتي الفرق بينه وبين الفقيه، وليس هو أيضاً كالعامي المقلد؛ لأنه -كما ذكرنا- يستطيع أن ينظر في أقوال الفقهاء، ثم يصل إلى اختيار يراه، وليس بالضرورة أن يكون هذا الاختيار اجتهاداً مطلقاً؛ بل هو اختيار حسب ما يقارب من الأدلة عنده.
المرتبة الأولى: من اجتمع له القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، أي: استكمل رتبة الناظر، مع معرفته بجمهور الأقوال في مذهب ما، كمذهب الشافعية مثلاً، فنجد أنه قد حفظ جمهور فروع الشافعية، وعرف أقوالهم، فإذا عرضت له مسألة من المسائل؛ سواء كانت في العبادات أو في المعاملات؛ نجد أنه يعرف أقوالهم فيها؛ إما لكونه قد حفظ متوناً في المذهب فعرف فروعهم، أو لأوجه أخرى من التحصيل العلمي، ولذلك لا يسأل عن مسألة -في الجملة- في فروع مذهب الشافعي إلا وأجاب عنها.
وهذا حال كثير من الفقهاء أتباع المذاهب الأربعة الذين جاءوا في عرض التاريخ، فهم يملكون القدرة العلمية، أي: يعرفون مصطلحات العلماء وعباراتهم، والمصطلحات الأساسية التي هي التأصيل العلمي الأول، وهي أصول علوم الآلة، فيعرفون التأصيل العلمي في علوم اللغة مثلاً، وفي أصول الفقه، وفي علم المصطلح، ونحوها من علوم الآلة.
المرتبة الثانية -وهي الأعلى-: من اجتمع له القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع معرفته بجمهور الأقوال في مذاهب الفقهاء، فهو ليس مختصاً بمذهب معين، كمذهب الحنفية أو الشافعية أو الحنابلة أو المالكية؛ بل إنه يعرف في أكثر المسائل أقوال الحنفية والشافعة والمالكية والحنابلة، ولا يلزم بالضرورة أن يسند الأقوال على التعيين، لكنه يعرف أن في المسألة ثلاثة أقوال أو نحو ذلك.
فهو لم يقتصر على مجرد القدرة العلمية على فهم أقوال الفقهاء، بل ويعرف أيضاً جمهور أقوال الفقهاء، وكذلك يمتاز بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة؛ لأن أخص امتياز في الاجتهاد هو فقه مفصل مقاصد الشريعة، وليس فقط معرفة مجمل القواعد، مثل: اليقين لا يزول بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، فإن هذه -كمعلومات- جمل تحفظ في مجلس.
وهذا الفقه بمفصل مقاصد الشريعة يتحصل من سعة المجموع العلمي عنده، ومن نظره في سائر العلوم، ويتحصل بدرجة أخص من طبيعته التي خلقه الله عليها، فإن بعض الناس لا توجد عنده ملكة على فهم المقاصد، إنما هو حامل فقه، وليس بفقيه فيه، والفقيه في لسان الشارع هو صاحب الاجتهاد، قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فالفقيه هنا من يحمل الفقه، لكن إذا كان فقيهاً فيه سمي في الاصطلاح: مجتهداً.
إذاً: المجتهد من استكمل رتبة الفقيه الثانية -العالية- مع امتيازه بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة، وهذه الملكة تتحصل بالمجموع العلمي، وبالطبع الذي خلقه الله عليه من القدرة.
ومن المعلوم أن الصحابة تفاضلوا في فقههم وهم صحابة، فـمعاذ بن جبل كان فقيهاً في الحلال والحرام، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على امتياز معاذ في هذا الباب، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه حافظاً، لكنه لم يشتهر كاشتهار معاذ في الفقه، وابن مسعود رضي الله عنه كان فقيهاً في القرآن، وقد كان رضي الله عنه يقول -كما في الصحيح-: (لو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله أو قال: أفقه مني في كتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه)، وهذا من الثقة التي وصل إليها ابن مسعود في إدراكه لفقه القرآن وسعة علمه بذلك.. وهكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن هنا يتبين أن الاجتهاد ليس كلأً مباحاً، كل من تعلم شيئاً من العلم وأراد أن يكون مجتهداً، أو دفعه الجمهور إلى الاجتهاد تحول إلى مجتهد، وهذه هي المشكلة الواقعة اليوم في الأمة، ليس في مصر معين فقط؛ بل في عامة الأمصار، وفي أبواب أيضاً مختلفة، وهذا أمر ينبغي أن يتفطن له طلبة العلم، فلا يتقدم طالب العلم أكثر من المرحلة التي وصل إليها. فمثلاً: الناظر ليس هو الفقيه، والفقيه: هو الذي ينتصب للناس ليفتي في الحلال والحرام، والناظر ليس من حقه أن يفتي الناس ويجيب عن أسئلتهم وقضاياهم الدينية؛ لأن الإفتاء هو من اختصاص الفقيه، لكن ليس بالضرورة أنه هو الذي يفصل في النوازل، إنما يُسأل عن مسائل فقهية، فإن كان على مذهب معين أجاب بما قال فقهاء المذهب، وإن كان عالماً بجميع المذاهب أجاب بما يراه، وهذا يسمى فقيهاً برتبتيه، أما الناظر فهو الذي ينظر في مسائل معينة، وقد يعطي حكماً جيداً فيها، كما يحصل من بعض الباحثين الذين لديهم تحصيل علمي متميز في بحث معين، فهذا يسمى ناظراً، وله قدر من الاعتبار والاختصاص والامتياز كما هو الواقع اليوم.
إذاً: الاجتهاد ليس كلأً مباحاً لكل من رأى من نفسه القدرة العلمية، أو رأى ذلك له غيره، وبالمقابل فليس الاجتهاد نظرية مثالية متعالية، فأهل السنة والجماعة بل وجمهور المسلمين ليس عندهم مثاليات مطلقة تحت شروط شبه غائبة، أو شروط مثالية متعذرة التطبيق؛ لأن الأمة لا بد لها من إمام مجتهد على الأقل، فمن استكمل رتبة الفقيه الثانية، فكان عنده قدرة علمية على فهم أقوال الفقهاء والاختيار منها، مع علمه بجمهور الأقوال في المذاهب، وآتاه الله ملكة بمجموع علمي طلبه، وبطبع خلقه الله عليه من الفقه، فهذا هو المجتهد.
وهل من شروط المجتهد أن يكون ممن يمكنه الاجتهاد في كل المسائل؟
الجواب: من قال من الأصوليين: إن من شرطه أن يكون قديراً على الاجتهاد في كل المسائل، فهذا واهم؛ لأنه لم يوجد أحد في التاريخ كذلك، فكل إمام قد توقف في بعض المسائل، حتى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد توقفا في بعض المسائل، فليس هذا -إذاً- من شروط المجتهد، فإنه من المعلوم أنه إذا جاء المجتهد إلى المسألة التي يجتهد فيها فقد يتلكأ عن الاجتهاد فيها لسبب؛ إما لنقص في تصور المسألة، أو لأسباب أخرى.
أيضاً: المسألة التي يريد المجتهد الاجتهاد فيها لا شك أن من شرط اجتهاده فيها: أن يكون محيطاً بعلم هذه المسألة في الجملة، أما الإحاطة المطلقة فلا تشترط هنا، فمثلاً: إذا أراد أن يجتهد في مسألة في الحج فلابد أن يكون فقيهاً في أدلة الحج وأحاديثه وأحكامه؛ لأنه سيجتهد في بابه، فالمسألة التي يجتهد فيها لا بد أن يكون عالماً في الجملة بمفصل أدلتها، وهذا الشرط إنما يشترط في المسألة التي يراد أن يجتهد فيها، أما مسألة قد كفاه الفقهاء أمرها من قبل، وليست من النوازل ولا من عوارض الاجتهاد، فهذه مسألة يدرج فيها على طريقة من سبقه.
وأعني بالتصور هنا: التصور التطبيقي للمسألة، وفقه التطبيق يعتبر من أخص أبواب الفقه، فلابد من معرفة التطبيق الفعلي للمسألة المستدل عليها، ومن الأمثلة على ذلك: معرفة المصطلحات المعاصرة في المعاملات، كمصطلح: الإجار المنتهي بالتمليك ونحوه.
ولذلك نجد أن من أسباب اختلاف الفتوى: الاختلاف في التصور التطبيقي، أي: تصور الواقع، فمثلاً: قد يسأل بعض الناس الآن عبر نظم الاتصال عن حكم المساهمة في شركة من الشركات، فيقال له: ما طريقة هذه الشركة؟ أو يسأل ويقول: أريد أن أشتري من بنك معين بطريقة كذا، فيقال له: ما هي الطريقة؟ فيذكر طريقة معينة لو صدق تصوره فيها لقيل: إن هذا العقد أو هذه المعاملة جائزة بلا جدال، وقد يذكر شخص آخر تصوراً لو صدق تصوره لقيل: إن هذا من الحرام البين، وربما شخص ثالث يذكر تصوراً لو صدق تصوره لقيل: إن المسألة مما يقبل التردد والاجتهاد، فهي ليست بينة التحريم وليست بينة الإباحة.
ولذلك أنبه طلاب العلم الذين قد يجيبون عن بعض الفتاوى إلى أن لا يستعجلوا في إعطاء أحكام مطلقة بناءً على تصور من آحاد الناس، إلا إذا كان السائل أو المتكلم يتكلم عن معرفة، فإذا سأل عن حكم المساهمة في شركة ما، وقيل له: ما هي طريقتها؟ فيذكر ذلك بالتفصيل، ومن ثم يعطى حكماً معيناً، فإذا كان الواقع الفعلي يقود إلى التحريم حرم المجيب بناءً على التصور.
إذاً: التصور التطبيقي أمر مهم جداً، وهو يتعلق كثيراً بموضوع المعاملات.
ومن أهم ما يكون التصور فيه دقيقاً ومطلوباً: القضايا المتعلقة بالأقليات غير المسلمة، كمسألة كنيسة تباع أو تحول إلى مسجد، فهل يجوز أن تشترى الكنيسة وتبقى كما هي وتحول إلى مسجد، أم لا بد من إجراء تعديلات في بنائها وشكلها ونحو ذلك؟ وأحياناً تحتك بالقضية أمور معينة، كأن يقال: ما حكم منع إقامة مسجد في هذا المكان مثلاً؟ أو يسأل عن بنك أريد أن يحول إلى مسجد مع الإبقاء على جزء من البناية كبنك، فهل يجوز أن يكون هذا مجاوراً لهذا أم لا يجوز؟ ونحو ذلك من المسائل التي تحتاج إلى تصور دقيق.
ومما ينبه إليه في الأمور التطبيقية في التصورات -ولا سيما التصورات المستجدة-: أنه ينبغي أن يكتب التصور كتابة دقيقة من عارف به، حتى تكون الأحكام مناسبة للتصورات، لكن مشكلة كثير من الناس اليوم أن تصوراتهم تأتي تصورات ظنية، مع أن الواجب أن يكون التصور يقينياً، والحكم هو الذي قد نقول عنه: إنه حكم ظني، أما التصور فإنه ينبغي أن لا يختلف فيه كثيراً؛ لأنه شيء معين واقع، إلا إذا تعذر ذلك، وهذا باب آخر.
والمقصود هنا: نظر المستدل إلى رتبة المسألة من الشريعة.
فمثلاً: مسألة وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع ما رتبتها من الشريعة؟ نقول: هذه المسألة ليست من بيّن الفروع التي انضبط عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها هدي بيّن، فهي من فروع الشريعة غير البيّنة عند الأئمة بحكم معين، فإذا كان كذلك فينبغي أن تعطى هذه الرتبة في الحكم، وطريقة الخلاف، والنظر إليها، وإمضاء الوقت فيها، واستعمال الأدلة عليها، وأن لا تكون مسألة عزماً فينصب الخلاف فيها نصباً، ويقطع القول فيها قطعاً، فتعطى من الرتبة ما هو أعلى من ترتبها.
وبالمقابل فكما أنه قد يعرض لبعض طلبة العلم أنهم يعلون الرتبة، فيتعثر الخلاف بين المسلمين بهذه الرتبة التي لم تكن عزماً عند المتقدمين من السلف إلى هذه الدرجة، فكذلك قد ينزل البعض أحياناً رتبة بعض المسائل الشرعية.
ولعل من المثال المناسب له في نظري: تساهل بعض طلاب العلم في قضايا الحج، فيرون أن من ترك واجباً ولو عمداً فيتوب ويستغفر وحجه صحيح! كذلك يقولون: لا يلزم الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس؛ فإنه سنة وليس بواجب، كذلك مسألة المبيت يرون أنه لا يلزم؛ لأن الناس في ضيق ومشقة، وكذلك يرون أن الرمي فيه سعة، فلو وكل غيره ليرمي عنه فلا بأس.. وهكذا!
وبهذه الإسقاطات قد ينتهي الحج خلال ثلاث ساعات أحياناً! وقد يقولون: إن هذا من باب التيسير على الناس، فيقال:إن التيسير ليس أمراً عقلياً محضاً؛ بل إذا ثبتت المشقة ثبت التيسير، وهذه المبادرات أحياناً تشتت الناس، وليس عليها أدلة بينة، فكيف يقال: إنه يحج ويترك ما شاء من الواجبات ثم يتوب ويستغفر وحجه صحيح، ولا إثم عليه ولا مؤاخذة ولا نقص في حجه؟! مع أنه كقاعدة شرعية: لا يوجد عبادة في الإسلام يسوغ فيها ترك العمد إلا بجبرانه. ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أجرى مسألة الجبران في المناسك بالدماء، وإذا كان الدم يشرع في المحظور الخارج عن ماهية العبادة، فمن باب أولى فيما هو من ماهية العبادة، وهذا هو التأصيل الذي ذكره بعض كبار الأئمة كـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه.
فلابد من فقه المسألة المستدل عليها من حيث الأصل، والأصل قد يكون أصلاً عاماً، مثل: الأصل في المعاملات الإباحة أو الحل، وقد يكون أصلاً خاصاً.
فإذا أخذت المسألة فينبغي أن يعرف الأصل في دائرة هذه المسألة، فإن كانت معاملة فيقال: الأصل العام هو الحل، وهناك أصل أخص من الأصل العام، فمثلاً: مسألة زكاة حلي النساء لها أصل في باب الزكاة، وهو: أن أموال القنية والارتفاق الشخصي لا زكاة فيها، كالسيارة المركوبة، والبيت المسكون، فمهما كانت قيمتها لا زكاة فيها بالإجماع، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسلم في داره ولا فرسه صدقة)، فهذا أصل في هذا الباب، ولا يمنع أن نخرج عن هذا الأصل، لكن مع استصحاب الأصل العام والأصل الخاص في الباب، وهذا يعتبر من أجود الفقه، ولا سيما فقه الأصول الخاصة؛ لأن فقه الأصول العامة قد يكون بيناً وينتهي بكلمات محدودة، لكن الأصول الخاصة في الأبواب تعتبر من أهم الأمور.
ولذلك فإن من التصور التطبيقي اعتبار البيئة، واعتبار عموم البلوى، والضرورات، والحاجيات، وأحياناً الأحكام التي تقبل العوارض في الإسلام وهي مبنية على شروط قد تتغير لسبب ما، كالجهاد مثلاً، فإنه يكون في حال مأذوناً فيه، ويكون في حال موقفاً بناءً على أحوال خاصة طارئة تحدث عند المسلمين، وما إلى ذلك.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [5] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net