اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [6] للشيخ : يوسف الغفيص
ولقائل أن يقول: ما أهمية القول باعتبار القائلين مع أننا لم نتعبد بالقائلين؟! والجواب: أن ملاحظة حال القائلين يعتبر من أهم الأمور، والله سبحانه وتعالى قد عظم في القرآن الكريم اتباع سبيل المؤمنين، وليس هناك انفكاك بين الحق وبين أهله، ومما يؤكد ذلك قولنا: أهل السنة والجماعة، فالجماعة تتعلق بالأعيان، والسنة تتعلق بالأثر والوحي.
كإجماع فقهاء المسلمين بل إجماع المسلمين على وجوب الصلوات الخمس، وعلى أن الزكاة والصيام والحج فروض ومن أركان الإسلام، وإجماعهم على استقبال القبلة، وعلى أمور متعددة هي أكثر من ذلك بكثير، وهذه لا ينبغي أن يكون فيها مجال للتردد أصلاً؛ لأنها بينة بدهية قطعية.
كقول بعض الفقهاء: (إجماعاً) أو (اتفاقاً)، أو (لا نعلم فيه خلافاً)، مع أن العلماء يفرقون بين هذه الصيغ الثلاث، لكن الذي يهم هو مقصود المعاني، وقولنا: (من بعض الفقهاء)؛ لأنه لو استفيد من سائر الفقهاء لكان الإجماع المنضبط، وقولنا: (ولم ينضبط إثباتاً ولا نفياً)، الدليل على عدم انضباطه: عدم الاستفاضة لسائر الفقهاء، وكون المسألة ليست من الأصول البينة التي يعلم أن الإجماع فيها إجماع منضبط، وإن لم يصرح به فلان وفلان من الناس، فالانضباط يكون إما بالاستفاضة والتصريح من الأئمة والفقهاء، أو بأن تكون المسألة بينة، وإن كان الإجماع ربما صرح به فلان أو فلان ولم يصرح به الآخرون؛ لأنه بدهي من الدين.
ولا ينبغي التكثر في التردد في قبول القول المستفيض، فما دام أنه استفاض فإن المستفيض هو الصحيح حتى حكي فيه الإجماع.
وقولنا: (ولا نفياً)، أي: أنه لم يحفظ الخلاف ولم يحفظ الاتفاق، وهناك فرق بين حكاية الاتفاق، وبين حفظ الاتفاق وانضباطه، وهذا ما سنبينه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
(لآحاد) أي: لأعيان، كواحد أو اثنين أو ثلاثة ونحو ذلك، وقولنا: (ما حفظ)، أي: ما عرف وثبت فيه قول لآحاد، لكنه شاذٌ عن قول العامة من أئمة الأمصار، حتى إن بعض هؤلاء الأئمة قد يحكون الإجماع، وهذا ليس من شرط هذه المرتبة، فسواء حكي فيه الإجماع أو لم يحك فيه الإجماع، فإن المقصود هو أن قول عامة أئمة الأمصار على شيء وذهب واحد من العلماء إلى قول آخر، كقولهم مثلاً: لم يخالف في هذه المسألة إلا القاسم، أو لم يخالف إلا داود بن علي ، أو لم ينقل الخلاف إلا عن عطاء أو النخعي ، فإذا كان أئمة الأمصار -أعني أئمة الحجاز ومكة والمدينة وأئمة الشام وأئمة أمصار العراق البغداديين والكوفيين والبصريين وأئمة خراسان- إذا كان قد استفاض القول عنهم بمذهب واحد، ولكن حفظ عن بعض الآحاد -كالقاسم أو عروة أو داود بن علي - فيما بعد قول، فهذا القول يسمى قولاً شاذاً، وهذا هو الشاذ من أقوال الفقهاء.
ومما ينبه إليه: أنه لا ينبغي في أكثر المجالس كمجالس الإفتاء وما إلى ذلك -وأقول: في أكثر المجالس وليس بالضرورة في كل المجالس- لا ينبغي في أكثر المجالس البعث للأقوال الشاذة، بل إن هجرها هو أولى، لكن أحياناً تحت نظام علمي عالٍ يقال: إن المسألة فيها قول لبعض الناس؛ وذلك لأجل أن يعذر في قول ذلك، وفي باب العذر هل مخالف الإجماع المنضبط كمخالف الإجماع غير المنضبط؟
الجواب: لا، ولذلك فإن الإجماع المنضبط، والإجماع غير المنضبط، وقول العامة الذي خالفه شاذ، الفرق بينها مهم من جهة المخالف، فإن مخالف الإجماع المنضبط حكمه شديد، ومخالفة الذي تحته دونه، ومخالفة قول العامة لقول شاذ هذا أقل، وهذا من الفقه البين.
ولذلك يقول ابن المبارك رحمه الله -وهذا من فقهه-: إني لأسمع الحديث فأكتبه وما بي أن أعمل به، ولا أن أحدث به، ولكن أجعله عدة إن عمل به أحد من أصحابي قلت: عمل بحديث. فنظام العذر يعتبر نظاماً فقهياً في الإسلام.
كأن يختص الحنفية عن جمهور الفقهاء والأئمة بمذهب، وهذا له أمثلة كثيرة، أو يختص الحنابلة بقول عن جماهير الفقهاء ونحو ذلك، أو يختص أهل مصر، كأن يقال: مذهب جماهير أئمة الأمصار على كذا إلا أئمة المدينة فلم يكونوا يستحبون هذا الفعل، أو لم يكونوا يرون لزوم ذلك، أو كانوا يحرمون ذلك الفعل، ونحو ذلك، وهذا أيضاً له أمثلته.
وقولنا: (يخالف الجماهير) قد يقول قائل: لماذا لا نقول: خالف الأئمة الأربعة أو جمهور الأئمة الأربعة؟
والجواب: أننا نتكلم عن مراتب القول الفقهي عند المتقدمين قبل أن يتعين أربعة دون غيرهم بمذاهب فقهية، أيضاً هؤلاء الأئمة الأربعة مع علو درجتهم لكن كان هناك مثلهم من أصحابهم كثير، بل وممن قبلهم، كأئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، وهذا هو ما يجعلنا نقول: يخالف الجماهير من أئمة الأمصار، فهذا ما حكمه؟ وكيف يتعامل معه؟
يقال: الأصل فقهاً أن يعظم قول الجمهور، فإن الجماهير من أئمة الأمصار إذا تواردوا على قول فهذا القول إن لم يكن راجحاً رجحاناً بيناً فهو قول قوي لا يجوز تضعيفه في أكثر الموارد، وأعني بالتضعيف هنا الإسقاط، والتعبير بكلماتٍ توحي بإسقاطه، كقول البعض: وأما القول الثاني فهو قول الجماهير من أئمة الأمصار، وهو قول لا دليل عليه، والتضعيف بهذا النظام يدل على وجود خلل في الحصيلة الفقهية عند بعض الناس.
فإذا توارد أئمة الأمصار ككبار المحدثين، وكبار أئمة الكوفة، وأئمة المدينة كـمالك ومن قبل مالك كـابن المسيب ، وأئمة مكة كـعطاء وأمثاله -إذا توارد هؤلاء الأئمة على حكم، فهذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إني استقرأت مسائل الشريعة فإذا القول الذي عليه جمهور الأئمة هو الصواب في الجملة. وهذا هو فقه الاستقراء، ثم علله بتعليل شرعي وهو عقلي من جهة فقال: لأنه يتعذر في الجملة أن يخفى الصواب من السنة والهدي على جمهور أئمة الأمصار ما بين فقهاء ومحدثين.
فإذا رأيت جمهورهم قد تواردوا على قول فلابد أن يكون له إكبار وإجلال، ولا ينبغي أن تتخطى رقاب الأئمة إلا إلى فرجة بينة، وهذه الفرجة البينة لا يشاهدها الآحاد من المبتدئين في طلب العلم، بل لا يصل إليها إلا من وصل إلى درجة من العلم والفقه والسعة في النظر والتتبع.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا نلتزم بنظرية مقابلة وهي نظرية الإلزام بقول الجمهور، فإن الإلزام بقول الجمهور ليس عليه دليل، فليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة أنه يلزم العمل بقول الجمهور، والدليل على هذا: أن بعض الصحابة خالف جمهور الصحابة ولم يُنكر عليه، وكذلك بعض الأئمة خالف قول الجمهور، ولو كانت مخالفة الجماهير ممنوعةً لأنكروا عليه، ولم ينقل أنهم أنكروا على فلان أو فلان لأنه خالف الجماهير، بل كانوا يحفظون أقوالهم لكنهم قد لا يعملون بها.
فمثلاً: الإمام أحمد سئل عن الحائض إذا طهرت في وقت العصر أتصلي الظهر، أما أنها تصلي العصر فقط؟ فقال أحمد : تصلي الظهر، أي: تصلي العصر وتصلي الظهر، قيل: فما وجهه يا أبا عبد الله ؟ لأنه ليس هناك دليل صريح من السنة على هذا القول، فقال الإمام أحمد : عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن . فلم يحكم على قول الحسن بالشذوذ، ولم يطعن في الحسن ، لكن قال ذلك باستقرائه، وفقه الاستقراء اليوم شبه غائب، ولذلك لا ينبغي أن يتعجل الإنسان في الركض بين الأئمة، قال الإمام أحمد : عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن ، وما دام أن عامة التابعين يقولون به فأنا أقول به، وليس معنى هذا أن الإمام أحمد يريد أن يقول: لا أجد على هذا دليلاً؛ بل إن هناك دليلاً على هذه المسألة، فلو رجعنا إلى فقه النصوص لوجدنا أن الحائض من أهل الأعذار، والقاعدة الشرعية: أن الوقت في حق أهل الأعذار يتحد، وهذا له صور منصوصة في الشريعة، ومنها: جمع المسافر بين الصلوات، ونحو ذلك، وليس هذا من الأعذار التي يقصد منها التوسع الشرعي كما في الحج، فإنه يجمع بين الصلوات لحفظ الاشتغال بالذكر في المناسك، مع أن الصلاة عبادة حتى لو اشتغل بها في وقتها، ومع ذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفرغ للمنسك الخاص.
فمثل هذا التحصيل هو الدليل الذي كان التابعون يتواردون عليه، وهو أنهم فقهوا من الشريعة أن الوقت في حق أهل الأعذار يأتي على هذا الوجه.
بقيت هنا مسألة وهي: هل معنى ذلك أن قول الجمهور ملزم؟
والجواب: أن قول الجمهور ليس بملزم، فقد يجتهد مجتهد ويقول بغير قول الجمهور، كما حصل عند الصحابة، فقد اجتهد بعضهم بما خالف جمهورهم في بعض المسائل، وكما حصل من بعض الأئمة، ولو كان هذا ممنوعاً لما وجدت هذه الصورة؛ بل لأنكرت عند السلف وأصبحت من البدع والمحدثات التي ترد.
والمخالفة تكون بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون المخالف من أهل العلم والاعتبار في العلم، فيجتهد بخلاف قول الجمهور، كأن يأخذ بالقول البين لمذهب أو لمصر، وهذا لا جدال فيه، وهو شأن واسع، فإننا نجد أن فروع الحنفية خلاف قول الجمهور، وبعض فروع الحنابلة خلاف قول الجمهور، وبعض فروع المالكية وكذلك الشافعية خلاف قول الجمهور، ومع ذلك فهناك كثير من الفقهاء يأخذون بهذه الفروع التي تخالف الجماهير، فهذا فيه سعة على مثل هذا التقدير.
الوجه الثاني: أن يكون بعض العامة أو المبتدئين ربما قلد شيخه الذي هو بين يديه فسأله عن مسألةٍ فأفتاه بخلاف قول الجمهور، لكن إذا جئنا إلى نظام الإفتاء العام، بمعنى إفتاء العوام من الناس، أو إلى مسألة البحث العلمي، فيجب على المتكلم أن يترفق في اللغة والتعبير وأشياء كثيرة إذا خالف قول الجمهور.
والعلم بالتكافؤ هنا ليس علماً يقينياً، ولكن المقصود بالتكافؤ أنه لا يوجد فيه قول للجمهور فضلاً عما هو فوق ذلك، فنجد أن المحدثين مختلفون، وأن أئمة العراق مختلفون، وأن أئمة الأمصار مختلفون، فيكون الخلاف قد شاع واشتهر ولم ينضبط فيه مذهب للجمهور فضلاً عما هو فوق ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك: مسألة: أيفطر الصائم بالحجامة أم لا يفطر؟ فإذا استقرأنا المسألة وجدنا أن هناك تكافؤاً بين أئمة الأمصار المختلفين فيها، وإذا رجعنا لبعض المصنفات وجدنا أن الخلاف شائع في العراق والحجاز والشام وما إلى ذلك في هذه المسألة، ووجدنا أن ظواهر الأدلة في هذه المسألة كحديث شداد بن أوس : (أفطر الحاجم والمحجوم)-وهو أقوى ما يعتمد عليه من يجعل الحجامة مفطرة للصائم- وجدنا عليه بعض الإشكالات في الثبوت أو في فقه المتن، فما معنى أن الحاجم يفطر إذا كان المحجوم مفطراً للضعف والعلة؟ وهل هذا من باب التعبد؟ وهل يقطع الصوم بمحض علةٍ تعبدية لمثل هذا الوجه؟ وأليس الأصل في المفطرات أنها مبينة كالعلة؟ فترد مثل هذه السؤالات، وإذا جئنا إلى الدليل المقابل وجدنا أن المسالة فيها تكافؤ.
مثال آخر: حكم صلاة تحية المسجد في وقت النهي، فإن هذه المسألة فيها تكافؤ في أدلتها، حتى إن ابن تيمية كان على المذهب، ثم رجع إلى مذهب الشافعي في آخر عمره، وذكر نظرية العام المخصوص والعام المحفوظ في تطبيق الاستدلال، وحتى إن الشوكاني يقول: إنه تردد في هذه المسألة، في جزء له تكلم فيه عن المشتبه من العلم، حتى قال كلمة غريبة، قال: لعله قد يكون من الأنسب أن الإنسان لا يحرص على دخول المسجد في وقت النهي! وهذا الأمر ليس حلاً، لكن هذا مما يبين أحياناً درجة التردد في المسألة، وليس القصد هنا أن نجزم أن هذه المسألة أو تلك من المتكافئ، بل إن مسألة التكافؤ مسألة نسبية في الغالب.
والترجيح فيما تكافأت فيه أقوال الأئمة يكون بالتقريب ، ولا يجزم بترجيح قول على آخر، وإنما يقال مثلاً: وفي المسألة قولان لأهل العلم والأظهر كذا، أو والأقرب كذا، هذا إن كنت ناظراً في أدلتهم، وإن لم تكن ناظراً في أدلتهم وأنت على مذهب فقل: والمذهب عند الحنابلة كذا، وإن كنت من أهل الشافعية فقل: والمسألة فيها قولان والمذهب عند الشافعية كذا، ويوسع فيها على المسلمين، وقد كان مثل هذا الخلاف محل توسعة عند المتقدمين من الأئمة، والتوسعة الفقهية إذا كانت مضبوطة بقواعد الشريعة فإنها رحمة بالأمة، وليس معنى هذا أن المتكافئ من الخلاف يتخير فيه الناظرون فيه أو المقلدون بحسب الهوى، فليس في الإسلام تخير بمحض هوى النفس، بل إما تقليد للكبار، وإما اتباع للدليل. وهذان الوجهان هما الممكنان دون غيرهما.
وقد يقول قائل: أليس من فقه التيسير أن يتخير الناس ما شاءوا؟
فيقال: هناك فرق بين التيسير وبين هوى النفس، فإن الله سبحانه وتعالى جعل اليسر في الشريعة وجعل هوى النفس في الجاهلية، قال تعالى عن أهل الجاهلية: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23]، أما التيسير فهو حال الشريعة الإسلامية.
ومن هنا فقد يسيء البعض أحياناً الفهم ولا يفرق بين هوى النفس وبين التيسير، والقاعدة الشرعية نقول: المشقة تجلب التيسير، فإذا أشكل على المسلمين مسألة وفيها خلاف محفوظ، أي: مشتهر ومعروف، فلا ينبغي أن يضيق فيها؛ بل ينبغي أن يوسع على المسلمين فيها بأقوال الجماهير، وبالأقوال المتكافئة، وهذا ليس على إطلاقه، فإن العلم دائماً محكوم بقواعد؛ لأن الذي يوسع على المسلمين بأقوال الجماهير وبالمتكافئ من الأقوال هو فقيه، والفقيه لابد أن يكون عارفاً بالمصالح والمفاسد، فإذا اقتضت التوسعة بقول متكافئ في بيئة معينة فلا ينبغي أن يوسع في تلك المسألة.
مثال ذلك: المجتمع هنا -في السعودية- محافظ على ستر الوجه، ويرى أن ستر الوجه واجب، وهذا من حيث الأدلة هو الراجح الصحيح، فهل من الحكمة أن يأتي بعض الناس في هذا المجتمع ويقول: المسألة فيها خلاف، ويردد هذا في آذان العامة، ويقول: من باب التوسعة على المسلمين بالقول المتكافئ أو ما إلى ذلك؟ الجواب: لا؛ بل إن المصلحة الشرعية تقتضي أن لا يفتن العامة؛ لأن كثيراً من العوام ربما يتحرك تحت تأثير شيء من الهوى، وليس المقصود بذلك أهل البدع وأهل التيارات الفكرية الخطيرة، بل المقصود الآحاد من العامة الذي قد يتحرك تحت رغبة شخصية وهوى في النفس، إذاً: فقه المصالح والمفاسد يمنع بعض الناس عن التحديث ببعض الخلاف، وهذا هو ما جعل علياً رضي الله عنه يقول: "حدثوا الناس بما يعرفون"، وكما قال ابن مسعود : "ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، فحيث أدى التحديث بالخلاف إلى فتنة في مجتمع ما فلا ينبغي التحديث به.
إذاً: يوسع على العامة من المسلمين في أمصار الإسلام، وأينما وجد المسلمون حتى في غير أمصارهم يوسع عليهم، بأقوال الجماهير، وبالمتكافئ، ما لم يستلزم مفسدة, فإن الشريعة جاءت بدرء المفاسد وتحصيل المصالح.
وقد يقول قائل: إن التحديث بالخلاف فيه مصلحة. فيقال: نعم، قد يسمى مصلحة لكنها مصلحةٌ أحياناً تكون راجحة، وأحياناً تكون مرجوحة، فحيث كانت راجحة فحدث به، وحيث كانت مرجوحة لوجود مفسدةٍ أعلى فالفقه أن لا تحدث به.
وقد ذكرنا سابقاً قول الإمام مالك لما سأله رجل من أهل العراق عن مسألة وقال إنه على قول زيد بن ثابت ، فيقال له: يا هذا! إن أهل المدينة لا يعرفون إلا هذا القول فأين خلفت الأدب؟! وذلك حينما قال: إني من أهل العراق، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله على ما عرف عنه من الزهد والعبادة والورع وما إلى ذلك، لما سأله سائل عن مسألةٍ في الطلاق، فانصدم الرجل وما ظن أن الأمر يصل إلى أن زوجته تطلق منه، وشق عليه الأمر كثيراً، فراجع الإمام أحمد ، فلما اشتد في المراجعة قال له الإمام أحمد : يا هذا! هذه حلقة المدنيين. أي: من يتفقهون على بعض كلام أهل المدينة وهم في العراق، يعني أن هؤلاء سينقلون لك رأي أهل المدينة، ورأي أهل المدينة أنها لا تطلق، فالإمام أحمد لا يدين الله بهذا القول، فما أحب أن يفتيه به، فقال: يا هذا! هذه حلقة المدنيين. يعني اذهب إليهم وسيفتونك.
ودخل الإمام أحمد ذات يوم إلى دار بعض أصحابه، فوجد النبيذ في طرف الدار، فقال له بعض التلاميذ الذين كانوا معه: يا أبا عبد الله ! هذا النبيذ، أي: أنكر على الرجل، فقال: الرجل سلطان في داره، الكوفيون يفعلونه تديناً. أي: أن فقهاء الكوفة أحلوا النبيذ وأحلوا شربه، ويرون أنه مما أحل الله، فالدين أحله عندهم، ولاحظ قوله: الرجل سلطان في داره، فإن هذه مقدمة أساسية في الأخلاق العلمية.
إذاً: هذا الفقه هو الذي نقصده، وهو أنه لا يوسع على المسلمين لا بالشاذ ولا بالمنكر من الأقوال، وإنما بالأقوال المعروفة تحت قاعدة المصلحة.
وهذا مورده عند الفقهاء المتأخرين، وجمهوره لضبط رأي المذهب، وليس المراد هنا أن كل ما في كتب الفقهاء المتأخرين من هذه المرتبة، بل إن ما في كتب الفقهاء المتأخرين منه مسائل من المرتبة الأولى، ومن الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، لكن نجد أنه يكثر في كتب الفقهاء المتأخرين وخاصة الكتب التي عنيت بتحرير المذهب، وهذا في جميع المذاهب الأربعة، نجد أنه يكثر فيها ما هو من المرتبة السادسة.
فمثلاً: كتاب المغني لـأبي محمد ابن قدامة رحمه الله، نجد أنه يذكر الخلاف، ويذكر أن في المسألة مثلاً ثلاثة أقوال، ويذكر استدلال المذهب، وهنا نأخذ منه أموراً تتعلق إما بالقسم الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع أو الخامس، لكن إذا أخذنا الكتب التي عنيت بتحرير المذاهب مثل الفروع لـابن مفلح رحمه الله، نجد أنه يذكر المذاهب، وإن كان له طريقة رمزية بحروف معينة يرمز بها إلى الخلاف وإلى المذاهب الأربعة، فهو يذكر ذلك، لكن أحياناً ينصرف إلى تنبيهات يعين بها التحرير للمذهب، وقد نجد ذلك في متون بعض المذاهب التي وضعها المتأخرون.
فمثلاً: نجد في بعض متون الفقه عند المتأخرين قولهم: "ولا يرفع حدث رجل طهور يسيرٌ خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث"، فهذه التقييدات لتحرير القول، فخرج بكلمة (رجل) المرأة، وخرج باليسير الكثير، وخرج بكلمة (خلت) إذا لم تخلُ، وإذا خلت في بعضه دون بعضه، كما لو خلت في نصف الطهارة دون النصف الآخر، فهل يقال: خلت أم لا؟ وقولهم: خلت به امرأة لطهارة كاملة، بخلاف الطهارة غير الكاملة، وهذا ما يتعلق بكمال اختلائها به أو عدم ذلك، وخرج بقولهم: عن حدث، ما لو كان ذلك ليس عن حدث، كتجديد الطهارة، ونحو ذلك.
وهذه القيود في هذه الجملة بعضها لتعيين القول؛ لأنه من المعلوم أن مسألة: المرأة إذا خلت بالماء لطهارة فهل يتطهر به الرجل أو لا يتطهر؟ هذه المسألة مسألة خلافية موجودة، وهي من المراتب الأولى، لكن المقصود هنا: أن بعض هذه القيود ذكرها الماتن لتمييز القول عن القول الآخر، لكن بعض القيود تذكر من باب تحرير المذهب تحت اجتهاد معين، مثل الطهارة الكاملة والطهارة غير الكاملة، فلو خلت به لطهارة غير كاملة فإن هذا فيه تردد في المذهب، هذا هو المقصود من ذكر المسألة، وإلا فإن الأصل أن المسألة مسألة فقهية معروفة عند السلف.
أيضاً يقصد بما لم ينضبط فيه وجه مما سبق: ما يتعلق بتحرير المذهب المعين، كاختلاف المتأخرين في رأي الإمام أحمد وتحريره، فنجد روايات متعددة في تحرير المذهب، ونحو ذلك، وهذا الاختلاف في تحرير المذهب هو من الفقه الافتراضي الذي ليس وافقاً، وهو ما قد يعبر عنه بعض الأصحاب بالمحتمل، فيقول: فإن فعل كذا فيحتمل كذا.
ولابد أن يعلم أنه لا تنبغي العناية بهذه التقييدات والتحريرات أكثر من اللازم، وليس هذا من باب التنقص من هذا الأمر، ولكن العناية بالرتب الأولى أولى، فلابد أن يعنى طالب العلم بالإجماع، وبما قارب الإجماع، وبما عليه العامة والجماهير، وبما اشتهر من الخلاف، أما أن تكون أكثر العناية منصبة على القسم السادس فهذا هو الذي لا يفضل شأنه، وأما أنه يحتاج إليه في بعض المسائل لتحريرات مقصودة فهذا باب آخر.
ومن المعلوم أنه ليست المشكلة أن يعلم ما هو بالضبط المذهب الحنبلي عند الحنابلة، أو ما هو بالضبط المذهب الشافعي عند الشافعية، فإن هذا الشأن فيه كثير من السعة، بمعنى أنه لو قيل: إن ما انضبط من أقوال الإمام أحمد تنسب إليه، وما لم ينضبط تقال عنه روايات في المسألة، والعبرة بدراسة المسألة كأقوال فقهية وأدلة عامة؛ لكان هذا المسلك أكثر سعةً وأكثر رحابةً وأكثر يقينية؛ لأنه مهما رجحت داخل المذهب وفي المسألة خلاف قوي في ضبط المذهب فلن تنتهي إلى شيء قاطع، لكن إذا قلت: إن مع الإمام أحمد أكثر من رواية، فإن هذا حكم أكثر يقينية، وأكثر اتساعاً وقبولاً.
ومما يدخل في ذلك: التفريع للمسألة بالعوارض، كمسألة غسل الجمعة أهو واجب أم مستحب؟ فنجد أن بعض أهل العلم يقول: غسل الجمعة فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب، الثاني: أنه مستحب، والقول الثالث وهو الصحيح الذي عليه المحققون وهو القول الوسط، وهو أنه إذا كانت فيه رائحة شديدة يتأذى منه الناس وما إلى ذلك فيجب عليه الغسل، وإلا فلا يجب، وقولهم: وسط، أي: بين قولين، وهذه ليست هي الوسطية الشرعية، وهذا القول الوسط في الحقيقة هو قول الجمهور، فإن الجمهور لما قالوا: إن غسل الجمعة ليس واجباً، لم يريدوا غسل الجمعة في حق من به رائحة يتأذى منه المسلمون حتى إنهم يكرهون مجالسته؛ بل إنهم يتكلمون عن أصل الحكم، فمثلاً: الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة لما قالوا: غسل الجمعة ليس واجباً، إذا سئلوا عن رجل به رائحة كريهة هل سيقولون: إنه ليس واجباً عليه؟! الجواب: لا، إذاً قول البعض بالقول الثالث وأنه هو الوسط إنما قيدوا ذلك بعارض فقط، وهذا فقه يستعمله البعض كتنبيه حتى لا يفهم قول الجمهور فهماً خطأً، وإذا كان الأمر كذلك فلا بأس به، لكن أن تتحول هذه إلى أقوال ثالثة وتكون هي الأقوال الوسط، وهي الأقوال التي عليها المحققون، فإن هذا لا ينبغي.. نعم. هذا قد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكره بعض المحققين، لكنهم يذكرونه من باب التنبيه فقط.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [6] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net