اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [8] للشيخ : يوسف الغفيص
والقول في التمذهب يقع في مقامين:
ومن فوائده: أنه يقع ضد الفوضى العلمية، ولعل من الحكمة أن نقول: ضد الفوضى، وليس نقيض الفوضى؛ لأن الضد قد يعني أنه إذا ارتفع الضدان فيمكن أن توجد صورة ثالثة، فلا يقال: إنه لا يمكن في الوجود إلا التمذهب أو الفوضى، ومن لم يتمذهب فهو من أهل الفوضى، فإن هذا إغلاق؛ لأنه أولاً لم يقع عند السابقين بهذه الصورة، ثم إنه حتى بعد أن ظهرت المذاهب الأربعة كان هناك اختصاصات، كاختصاصات بعض أهل الحديث بفقه الحديث والتتبع لفقه المحدثين، والعناية به، وكذلك بعض المتمذهبين كثر خروجهم عن رأي المذهب في بعض المسائل، وكثر أخذهم بخلاف المعروف من المذهب في المصطلح.
إذاً: القول بأن من لم يتمذهب فهو من أهل الفوضى قول غير صحيح، لكن في أحيان كثيرة يكون التمذهب بديلاً عن الفوضى، وفي كثير من الأحوال تركه يؤدي إلى الفوضى، أما أنه يلزم من تركه الفوضى فهذا ليس شرطاً لازماً على الإطلاق.
نقول: الأصل شرعاً وعقلاً أن يُختار الأفضل والأقرب للسنة والأقرب للصواب.. وهذا متعذر، ولما كان متعذراً كان التعليق به وجهاً من التعصب، ومعنى ذلك: أن من يقول: إن مذهب الإمام أحمد أو مذهب الحنابلة هو أصح المذاهب بإطلاق، فإن هذا فيه تعصب، ومثله من يقول: مذهب الحنفية أو مذهب الشافعية أو المالكية أصح المذاهب، إذاً التفضيل المطلق لمذهب واحد من المذاهب الأربعة على غيره عند التحقيق أمر غير ممكن، ومن قال بذلك فهو اجتهاد عنده، وكما أن بعض الحنابلة يقدم مذهب الإمام أحمد ، فإن الشافعية يوجد فيهم من يرجح بالجملة مذهب الشافعي ، وهكذا في سائر المذاهب؛ بل إن الأصل في المتمذهبين أنهم ما تمذهبوا إلا لكونهم يرجحون المذهب على غيره.
إذاً: ليس هناك تفضيل مطلق منضبط علمياً عند سائر الفقهاء، أو كقواعد علمية صريحة منضبطة، إنما المحققون يعرفون التفضيل في أبواب معينة، فمثلاً: الإمام ابن تيمية من المحققين، مع أنه حنبلي إلا أنه يقول: وأصول مالك في البيوع والمعاملات أجود من غيره؛ لأنه أخذ فقه ذلك عن أعلم الناس بهذه المسائل في زمنه وهو سعيد بن المسيب . وإذا رجعنا إلى من قبل الأئمة الأربعة فسنجد أنهم يفضلون عطاء في المناسك، فإن فقه عطاء في المناسك من أجود الفقه، كذلك أيضاً قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام:145]، نجد أن المذاهب اختلفت فيها، فالحنابلة في المشهور من مذهبهم يحرمون ما استخبثته العرب، والشافعية في المشهور من مذهبهم يجعلون المناط على الضرر، والإمام مالك توسع في ذلك حتى إنه في مذهبه أحلت كثير من الحيوانات التي حرمت في جمهور المذاهب.
إذاً: التفضيل الممكن يكون في أبواب معينة، كأن يقال مثلاً: في باب المياه مذهب فلان أجود من مذهب فلان، وهذا يصل إليه المحققون، كـابن تيمية رحمه الله فإنه يستعمل هذا كثيراً، ومن قبله الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام يشير في بعض كلامه -كما في كتاب الأموال- إلى شيء من هذا.
ولما تعذر التفضيل المطلق فإن معيار الاختيار من أخصه قصد ما عليه أهل البلد، فمن نشأ في بيئةٍ حنبلية فالأولى له أن يتمذهب بمذهب الحنابلة، وفي البيئة الشافعية أو المالكية أو الحنفية كذلك؛ وذلك لمصالح شرعية بينة، من أخصها: أنه أضبط لعلمه؛ لأن ذلك المذهب كتبه منتشرة في ذلك المصر، والشيوخ الذين يدرسونه موجودون، وطرق التدريس له فيما بعد لحفظ العلم متاحة، وإذا أفتى به فإنه لا يفرق العامة ولا يلبس عليهم، وهكذا درج المتقدمون قبل هذه التمذهبات، فقد كان الإمام مالك رحمه الله في المدينة يحرص على فقه المدنيين، حتى إنه قدم عمل أهل المدينة وجعله حجة في بعض المسائل، فهذا من الفقه الفاضل، وهو نوع من الاقتداء الحسن، وما زال المسلمون سائرين عليه.
الترتيب العملي له وجهان:
الوجه الأول: إذا جاء من عارف فقيه فإن الترتيب بمعنى أنه يفقه أصول المذهب، فيفقه الحنفي درجة القياس في مذهب أبي حنيفة وأين يستعمل، كما أن الحنبلي يفقه درجة قول الصحابي وأين يستعمل، ويفقه المنطوق والمفهوم، وهل يعمل المذهب بالمفهوم أم لا؟ والمقصود: أنه يدرس أصول فقه المذهب، وذلك مثل تمذهب ابن عبد البر على مذهب الإمام مالك ، فليس تمذهبه مجرد أنه قرأ فروعاً متنية على فقيه مالكي؛ بل إنه يعرف أصول مذهب الإمام مالك ، فهذه الدرجة العالية في الترتيب العلمي للتمذهب أنه يقصد إلى فقه أصول المذهب، ومن باب أولى أن يأخذ بعد ذلك الفروع.
الوجه الثاني -وهو الشائع الآن عند كثير من المجالسين لفقهاء المذاهب في أمصار المسلمين-: أن بعض طلاب العلم لا يصل إلى أنه يعرف أصول المذهب بقدر ما هو يحفظ فروع المذهب على طريقةٍ معينة، فهذا أيضاً وجه من الترتيب العلمي.
فالترتيب العلمي قد يكون ترتيباً باعتبار أصول المذهب، وهذه حال الكبار من المتمذهبين، وقد يكون ترتيباً باعتبار الأخذ بفروع المذهب وإن لم يدخل في تفاصيل أصول المذهب.
فإذا أخذ التمذهب كترتيب علمي يبنى عليه ولا يترك بيّن الدليل من أجله، إنما كترتيب علمي ليعرف نظم المسائل ولينضبط قوله، فهذا كترتيب علمي لا يجوز إنكاره.
ولقائل أن يقول: ما هو الدليل على ذلك؟ وهنا نرجع إلى قضية الدليل النصي والدليل الاستقرائي، ومن الدليل الاستقرائي: أن هذه المذاهب استقرت في القرن الرابع الهجري، وهذا لا يجادل فيه أحد، فمتى نقل أن أعياناً من العلماء المعتبرين قد صرحوا بتحريم التمذهب كترتيب علمي؟ أما كتقليد وتعصب وترك لظاهر الأدلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، ولا يحتاج أن ينقل عن فلان أو فلان من الناس، ولذلك فإن بعض من يحرمون التمذهب يقولون: قال ابن القيم كذا، مع أن ابن القيم حنبلي فما الذي كان ينكره وهو حنبلي؟ أو يقولون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن رجب كذا، مع أنهما حنبليان، فالتمذهب بمعنى التقليد والتدين والالتزام والاختصاصات والتعصبات، هذا المفهوم هو المخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، أما التمذهب كترتيب علمي مع عدم الإلزام به إلا من باب ترك الفوضى العلمية وما إلى ذلك، فهذا إلى القرن العاشر -فيما أعلم- لم يحفظ عن إمام معتبر أنه منع منه، إنما الذي صرح المتقدمون كالأئمة الأربعة أنفسهم والفقهاء من أصحابهم المحققين، كبعض الذين ذكروا في المصنفات التي ذمت التقليد والمقلدين وما إلى ذلك -الذي صرحوا بمنعه والتحذير منه هو التمذهب بمعنى التقليد والتعصب وتقديم المذهب على الدليل.. ونحو ذلك.
أما التمذهب كترتيب علمي فلم ينكر على هذا الوجه، بل إن جماهير علماء المسلمين في سائر بيئاتهم كانوا يتمذهبون على هذه المذاهب، مع أنهم درجات، فمنهم المحققون الذين انتظموا على فقه المذاهب بشكل صحيح، ومنهم دون ذلك.
ولذلك إذا ورد سؤال: هل التمذهب توسعة على المسلمين أم أنه تضييق عليهم؟ فيقال: فيه تفصيل: فإن اعتبر بالمفهوم الأول الشرعي المتعقل فهو توسعة على المسلمين، وإن اعتبر بالمفهوم الثاني التعصبي المضيق الذي يتجاهل القول الآخر مطلقاً، ويتجاهل ظاهر الدليل أحياناً إلى غيره، ويتكلف في إبعاد القول الثاني، وغير ذلك من أوجه الغلو التي حدثت في التاريخ، حتى كان بعض الشافعية لا يزوجون الحنفي -وإن كانوا يتمسكون بأن الحنفية لا يشترطون الولي في النكاح وما إلى ذلك، لكن هذه تعصبات زائدة- وحتى صار بعضهم يسأل: هل نصلي خلف الشافعي وهو يقنت في الصبح أم لا نصلي خلفه؟! فهذه التكلفات هي تضييق وليست توسعة على المسلمين.
هذه المسألة لها أربع صور:
فإذا كان حنفياً مثلاً فيخرج عن قول أبي حنيفة إلى قول أحد الأئمة الثلاثة مالك أو الشافعي أو أحمد .. وهكذا، فهذا الخروج يعتبر خروجاً لا بأس به، لكنه ليس مشتهراً عند الفقهاء المتمذهبين، والغالب عليهم أنهم يخرجون إلى أقوالٍ في مذاهبهم، فتجد أن المحققين من الحنابلة إذا رجحوا خلاف المشهور فإنهم يذكرون أن ما رجحوه هو رواية عن الإمام أحمد ، ولذلك يقول ابن تيمية -وهو من محققي الحنابلة-: إني تأملت المسائل التي ظاهر المذهب فيها عند الأصحاب يخالف الدليل فإذا عامتها يكون فيه عن أحمد رواية توافق ما عليه ظاهر الدليل. وهذا من باب الجمع في هذا المقام، وهو الخروج عن المذهب المعين إلى قول أحد الأئمة الأربعة، وهذا فيه سعة.
فإذا وجد في مسألة ما أن بعض المتقدمين من أئمة السلف ممن هم في درجة الأئمة الأربعة علماً وفقهاً واستفاضةً عند الأمة، كـالثوري مثلاً أو بعض أئمة الأمصار، بل بعضهم كان لهم مذاهب كـالليث بن سعد والأوزاعي ونحوهم، أو من قبل هؤلاء من التابعين -إذا وجد أن لهم قولاً يخالف أقوال الأئمة الأربعة، فهل الخروج عن المذاهب الأربعة إلى هذا القول جائز بشرطه أم أنه ممنوع من أصله؟
الجواب: هو جائز بشرطه؛ لأنه إذا قيل: إنه ممنوع، فيرد سؤال وهو: إذا اتفق الأئمة الأربعة على قول فهل يكون إجماعاً؟ إذا قيل: إنه إجماع، فسيكون لزوم قولهم من جهة كونه إجماعاً لا من جهة كونه قول الأئمة الأربعة، فتخصيصه بالأئمة الأربعة حقيقته وهم في الذهن؛ لأنه لا يقال في كل أقوال الأئمة الأربعة أنها مسائل إجماع، بل بعضها مسائل فيها إجماع وبعضها ليس فيه إجماع؛ فلا يسوغ أن تخص مسائل الإجماع باسم الأئمة الأربعة؛ لأنه لو ساغ ذلك لخصت بالأربعة الراشدين من الصحابة رضي الله عنهم.
أما إذا قيل: إنه لا يلزم أن يكون إجماعاً، فإذا لم يكن إجماعاً، والقول الآخر قول بين معروف لأئمة معتبرين من التابعين والأئمة الذين هم في درجة هؤلاء، فما الذي يمنع شرعاً وعقلاً أن يكون الصحيح -إمكاناً وليس جزماً- في هذا القول؟ ليس هناك شيءٌ يمنع من ذلك، لا من جهة الشرع ولا من جهة العقل، ومن المعلوم أن المتقدمين لم يكونوا يثربون على من خرج عن أقوال الأئمة الأربعة، أعني الخروج الذي هو بشرطه، وكذلك لم يكونوا ينتقدون الأقوال البينة غير الشاذة، فكذلك من خرج إلى تقليد ما لم ينتقد فلا ينتقد؛ لأنه لو كان منتقداً لكان الأولى بالانتقاد ذلك الذي قلده.
وقد حاول بعض الفقهاء كـابن رجب رحمه الله أن يجمع جملة الأقوال إلى أقوال الأئمة الأربعة، ولو وجد ما يخالف قول الأئمة الأربعة من الأقوال فهو من جنس جمع الصحابة للقرآن على مصحف واحد وترك ما عداه.
والخلاصة: أن الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة لقول معتبر -وليس لقول شاذ- عليه بعض فقهاء التابعين، أو بعض الأئمة المتبوعين كـالأوزاعي والليث والثوري ونحوهم، فهذا جائز شرعاً وعقلاً، ولا يمنعه إلا من فرض أحد أمرين:
الأول: أن الحق محصور في غير الإجماع، والثاني: أن الحق الذي في غير قول الأئمة الأربعة لا يجوز اتباعه.
تنبيه: نحن هنا لا نتكلم عمن يفتي بالمذاهب الأربعة، ويقول: أنا لا أفتي إلا بالمذاهب الأربعة، فإن هذا لا يمنع، ولا ينكر عليه، وقد درج كثير من الفقهاء على هذا المنهج، كـابن رجب وغيره، فقد كانوا لا يفتون بما خرج عن المذاهب الأربعة، لكن هناك فرق بين كونه لا يفتي بما خرج عن المذاهب الأربعة، وبين كونه يجعل هذا ديناً لازماً على المسلمين، فمن خرج عن قول الأئمة الأربعة أنكر عليه إنكاراً شديداً، فهذا يلزم عليه إما أن الحق محصور في معين من الأقوال، وهذا غير صحيح، وإما أن أقوالهم فقط هي الإجماع، وهذا أيضاً غير صحيح.
إذاً: الصواب أن الخروج عن المذاهب الأربعة إلى قول إمام متقدم يسوغ بشرطه، وقولنا: (يسوغ) أي: أنه جائز وليس بلازم، ولذلك فقد ذكرت أنه من التزم أنه لا يفتي بخلاف المذاهب الأربعة فهذا التزام لا بأس به، وإذا كنا نسوغ أن يفتي البعض بالمذهب الحنفي أو الحنبلي وحده، فمن باب أولى أن من التزم أن لا يخرج عن المذاهب الأربعة أنه لا بأس به، وأرى أنه منهج يصلح لكثيرين وأولى لكثيرين، لكن من وصل إلى درجة كبيرة من التحقيق والعلم، وفقه الأقوال المتقدمة، والتفريق بين الشاذ وخلافه، والخلاف المحفوظ وعدمه، وما هو على وفق الأدلة وما هو على خلاف الأدلة، فخرج في بعض المسائل عن قول الأئمة الأربعة إلى قول أئمة متبوعين كـالليث والأوزاعي أو من قبلهم من التابعين؛ فهذا مما يسوغ شرعاً وعقلاً، وقد درج عليه الكبار من المتقدمين فما أنكر عليهم، ولو أنكر عليهم لنقل.
وإذا كان لم ينكر على الفاعلين، فمن باب أولى أن لا ينكر على المقلدين، والمقلدون لم يوجدوا في هذا الزمن فقط، فإن الإمام الثوري مثلاً لما كان له رأي خالف فيه الجمهور، كان هناك أناس يقلدونه، فحيثما وجد القول يوجد من يقلده.
وقد يقول قائل: إن السبب في المنع أن أقوال الأئمة الأربعة تحررت فضبطت أصولهم الفقهية ونظم مذهبهم من أول الفقه إلى آخره.
فيقال: هل من شرط الأخذ بقول فقيه أن يعرف قوله في سائر المسائل؟ الجواب: لا، ولو شرط هذا الشرط لتعذر العمل بفقه الصحابة، فإنه لا يعرف كل فقه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يبلغنا إلا بعض فقههم، وكذلك الصحابة بلغ بعضهم عن بعض شيء ولم يبلغ البعض الآخر، فما يفقهه ابن عباس من فقه عمر أكثر مما يفقهه معاوية مثلاً، وما يفقهه الحسن بن علي من فقه أبيه علي أكثر مما يفقهه غيره من فقه علي ، فالتفاضل هنا موجود، فلا يشترط إذاً أنه لا يخرج إلا إلى مذهب قد انتظم من أوله إلى آخره.
ثم إننا نجد أن الأصول غير متفق عليها كأصول منضبطة عند الأئمة، فإذا نظرنا في أصول فقه الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وجدنا خلافاً في كثير من المسائل، وإذا جئنا إلى الفروع وقرأنا الإنصاف أو الفروع أو كتب المذاهب الأخرى؛ وجدنا أنهم يختلفون كثيراً في تحرير المذهب والجزم حينما تتعدد الروايات، وليس معنى هذا أننا نشكك في استقرار المذاهب أو وجودها، لكن المقصود أنه لا يلزم أننا لا نعمل إلا بقول إمام له مذهب متكامل من أوله إلى آخره أصولاً وفروعاً، فإن هذا الشرط لا أصل له عند السلف، ولا أصل له عند الخلف كلزوم أو وجوب.
ومن الأمثلة على ذلك: أن مذهب الثوري لم يضبط كله، فإذا قال الثوري : إن بعض جلود السباع طاهرة، فهذا قول محدد، فإذا وافقه ظاهر دليل فإنه يجوز العمل به، كذلك لما ظهر لـابن تيمية أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر طلقة واحدة على ظاهر حديث ابن عباس ، مع أنه خلاف الأئمة الأربعة، فإنه يجوز العمل به.
إذاً: الخروج إلى قول المتفقه المتأخر بنظره الخاص ولم يسبقه إلى ذلك إمام، هذا أيضاً يمنع.
المذهب الأول: لزوم الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة إذا عرض ظاهر دليل يقتضي المخالفة، وهذا الذي عرض به ظاهر الدليل قول محفوظ أو قول ثابت عن إمام متقدم، ومن أخص من انتصر لهذا المذهب الإمام أبو محمد ابن حزم ، بل إنه ربما خرج إلى ما هو أوسع من ذلك أحياناً، فإن ابن حزم يرى لزوم الخروج عن المذاهب.
وقد يقول قائل: إن ابن حزم لا يعتبر المذاهب أصلاً. فنقول: إن هذا الكلام ليس على إطلاقه، صحيح أنه قد تند من ابن حزم بعض الحروف والكلمات عند اشتداده في مقام الاحتجاج أو الرد على بعض الفقهاء، لكن هذه الكلمات إذا ندت منه فلا يلزم أنها تمثل منهجاً مطرداً فيحاكم قوله إليها، فإنه ربما ندت منه بعض الكلمات التي قد تشير إلى مثل هذا -أعني ترك الاعتبار المطلق- وهذا ليس وجهاً معروفاً له، إنما المقصود أنه ممن يرى لزوم الخروج عن المذاهب الأربعة إذا قضى ظاهر الدليل بذلك، والقول محفوظ عن إمام متقدم، إما أن يكون حفظه عن بعض المتقدمين، كأن يخرِّج بعض المسائل على فقه الصحابة -وهذا له أمثلة عنده- فإنه قد يخالف الأئمة الأربعة ثم يقول: وهذا الذي ذكرناه هو قول أبي بكر وعمر مثلاً، أو قول ابن مسعود ، أو غيرهم، فإنه كثير العناية بآثار الصحابة كما هو معروف في منهجه، وهذا في الجملة مما يحمد لـابن حزم -أعني العناية بآثار الصحابة- وإن كان فقهه لآثار الصحابة قد يتأخر في كثير من الموارد، فإنه ربما رأى آراءً ليست من مقتضى قولهم المعين.
المذهب الثاني: المنع، فأصحاب هذا المذهب يمنعون الخروج عن المذاهب الأربعة مطلقاً، ويرون أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، بل يكون مدار الأقوال على هذه المذاهب، ومن أخص من تكلم عن هذا وضبطه ومال إليه الحافظ ابن رجب في رسالة له، مع أن الحافظ ابن رجب هو من أوسع المتأخرين علماً وأكثرهم عناية بآثار السلف، وهذا بين في الجزء الموجود من شرحه لصحيح البخاري المسمى: فتح الباري على صحيح البخاري ، ففيه تظهر عناية الحافظ ابن رجب بآثار السلف، ومقالات أئمة الحديث بخاصة، فهو كثير العناية كثير الفطنة كثير الضبط لمثل ذلك، ولكن له كلام في بعض رسائله أكد فيه هذا المعنى وهو: منع الخروج عن المذاهب الأربعة في القول الفقهي.
فهذان الإمامان -أعني الإمام أبا محمد ابن حزم صاحب طريقة الإلزام، والحافظ ابن رجب صاحب طريقة المنع- كلاهما من المحققين المتأخرين، وإن كان ابن رجب أجود منهجاً؛ لأنه اعتبر منهج الإمام أحمد على طريقة المحققين من أصحابه، فضلاً عن عنايته بالآثار، أما أبو محمد ابن حزم فهو وإن كان كثير العلم حسن الفقه، إلا أنه انتحل مذهب الظاهرية، ومذهب الظاهرية يتأخر في الرتبة عن مذاهب أئمة الفقهاء كالإمام أحمد والشافعي وأمثالهما.
ولكن مع ذلك فإن هذين الإمامين -أعني أبا محمد ابن حزم وابن رجب - هما من أكثر المتأخرين علماً وتحقيقاً، وإن كان هذا له طريقة وهذا له طريقة، ونجد أن أبا محمد ابن حزم واسع العلم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وبآثار الصحابة، وبمقالات الفقهاء، كثير العناية والأخذ بالسنة والهدي، وكذلك الحافظ ابن رجب واسع العلم بالآثار، فهما من الأئمة الكبار المتأخرين، ولـشيخ الإسلام ابن تيمية ثناء كبير على أبي محمد ابن حزم ، حتى إنه قال: إنه إذا كان في المسألة نزاع والراجح فيها مرتبط بصحة الحديث، أو بورود الحديث، فإن القول الذي يذهب إليه ابن حزم في الجملة أو في كثير من الموارد يكون هو الصواب.
وعليه نقول: إنه مع أن هذين الإمامين لكل منهما قول في هذه المسألة يخالف الآخر، فإن هذا لا يعني تأخراً في فقههما؛ بل يقال: إن طالب العلم لا ينبغي له أن يستغني عن كتب ابن حزم وكتب ابن رجب ، فهي من أجود كتب المتأخرين، وإن كانت كتب ابن حزم ينبغي أن لا يبتدئ فيها، وإنما يستعمل النظر فيها بعد أن تتبين له أصول العلوم وأصول القواعد العلمية، أما كتب ابن رجب فإنها أقرب إلى التأصيل.
ومذهب ابن حزم هذا يتابعه عليه جماعة، ولا سيما بعض من جاء في القرون المتأخرة من أصحاب الحديث، فإن بعضهم يستعملون هذه الطريقة، وهذا بين في طريقة بعض شيوخ الحديث المتأخرين.
ومذهب ابن رجب يسير عليه كثير من الفقهاء، وبعض المعاصرين يميلون إليه، أو يصححونه ويرجحونه.
وأنبه إلى أن القول بالإلزام أو بالمنع هو في الحقيقة يدور على أشخاص وليس رأياً عاماً، وإلا فإن من يريد أن يؤصل الأمور ببعض أوجه التأصيل الممكنة، ربما تطرق إلى ذهنه نتيجة أن الإلزام بالخروج هو مذهب العامة من أهل العلم؛ لأنه خروج إلى الدليل، وكذلك من يمنع ربما تحصل له بطريقة في نظره أن المنع هو مذهب الجمهور من الفقهاء، وقد يذكر أن العلماء أنكروا على فلان من أهل العلم لأنه خرج عن المذاهب في مسألة معينة.
فأقول: هذا لا ينبغي التسرع فيه، فالإلزام ليس منضبطاً كمذهب للجمهور من أهل العلم، كما أن المنع ليس منضبطاً، ولا يقال: هذا هو الذي درج عليه الفقهاء، وهذا هو المعروف عندهم، حتى إنهم شذذوا من خالفه؛ فإن هذا أيضاً فيه زيادة، نعم.. ربما يشذذون في مسائل معينة لأن هذه المسائل لها أحوال معينة عندهم، أما التنظير الذي نتكلم عنه الآن فهو كالتأصيل لهذه المسألة.
مثال ذلك: مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فربما قال بعضهم: إن العلماء أنكروا على شيخ الإسلام في هذه المسألة، فنقول: الإنكار ليس بالضرورة أنه فرع عن هذا الأصل، وبعض من تكلم في هذه المسألة -كـابن رجب - يقول: اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل طلاق الثلاث واحدة. فهو يرى أن هذا القول لا أصل له، وهذا اجتهاده، لكن الذي نتكلم عنه هو الخروج إلى قول معروف وليس إلى قول شاذ، فإنه إذا كان القول شاذاً أو لا أصل له؛ فهذا لا جدال في أنه لا يخرج إليه، إنما الكلام هنا عن مذهب معروف، إذا استقرأت في مصنفات الآثار وجدت له أصلاً معروفاً.
المذهب الثالث: أن الخروج عن المذاهب الأربعة سائغ، فليس لازماً وليس ممنوعاً؛ بل هو سائغ، ولكن بضوابط:
الضابط الأول: أن يكون الخروج إلى قول محفوظ بين وليس شاذاً، كأن يكون قول جماعة من التابعين أو قول بعض أئمة الشام، أو قول بعض كبار المحدثين، ونحو ذلك، وهذا من طرق العلم به النظر في المصنفات، كمصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة ، أو بعض كتب الخلاف المتقدمة؛ كاختلاف الفقهاء لـمحمد بن نصر المروزي ، ونحو ذلك، وقد يقول الإمام الترمذي أحياناً: هذا المذهب عليه أكثر أهل العلم.. وذهب طائفةٌ من أهل الحديث إلى كذا.. ثم تجد أن القول الذي وصفه بأن عليه أكثر أهل العلم هو مذهب الأئمة الأربعة فيما بعد، فمعناه أن الترمذي حفظ القول الآخر.
الضابط الثاني: أن يكون الخروج إلى قول إمام متقدم، ويخرج بهذا الضابط الخروج إلى قول فقيه متأخر أو معاصر خالف الأئمة، أو ليس له إمام في قول تكلم به والمسألة قد تكلم فيها، أما إذا كانت المسألة لم يُتكلم فيها فهذا له كلام آخر فيما يسمى: مسائل النوازل.
الضابط الثالث: أن يكون الذي يرى الخروج عن المذاهب عنده ظاهر الدليل.
الضابط الرابع: أن يكون الخروج عن المذاهب من فقيه عارف، فلا يجوز أن يتقحم فيه المبتدئ في طلب العلم ونحوه ممن لم يبلغ درجة الفقيه العارف.
فنقول: إن الأخذ بظاهر الدليل كأصل أمر لازم عند عامة الأئمة، وليس هناك خلاف معتبر في هذا الأصل كأصل مختص وحده، وهو أن الأخذ بظاهر الدليل لازم على جميع المكلفين، فإن هذا لا جدال فيه بين المتقدمين، إنما يقال: لما انتظمت المذاهب الأربعة بقول، مع ثبوت هذه المذاهب واستقرار طريقتها في الأمة قروناً متوالية، فإن الذي أسقط الإلزام هو اعتبار ممكن وليس اعتباراً لازماً؛ لأنه لو كان هذا الاعتبار لازماً لقلنا بالمنع، وهذا الاعتبار هو: أن تعيين ظاهر الدليل لا يخفى على الجمهور، وهذا كلام ممكن، ومن هنا قيل: إن الخروج ليس بلازم، وقيل: إنه ليس ممتنعاً.
وكما ذكر ابن تيمية رحمه الله: أنه استقرأ مسائل الشريعة فإذا القول الذي عليه الجمهور في الجملة هو الصواب، وهذا هو مقتضى الشرع والعقل، فإنه يمتنع شرعاً وعقلاً أن يتوارد أئمة الأمصار على ترك ظاهر الدليل، فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره، فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه غير مراد لحجةٍ عندهم.
وقد يقول البعض ولا سيما من يرون الإلزام كـابن حزم ، أو أصحاب الحديث المعاصرين، أو ممن قبلهم الذين يميلون إلى طريقة أهل الحديث -قد يقولون: إن القول بأن الظاهر لا يخفى على الجمهور هو إمكان وليس إلزاماً، ومجرد الإمكان لا يسلم، قالوا: لأن عندنا أمثلة ظاهر الدليل فيها يدل على حكم، ومذهب الأئمة الأربعة على حكم آخر، فيقال: فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه- أي: هذا الظاهر المعين- غير مراد لحجةٍ عندهم.
وقد يقول قائل: هل معنى هذا أننا نترك بعض الظاهر لمحض قول الجمهور؟ والجواب: أن هذا ليس هو المقصود، فنحن هنا نتكلم عن مسألة الإمكان، والذي يحقق ذلك هو الإجابة عن سؤال، وهو: هل الظاهر الذي يوجب الحكم هو النظر في معين أم النظر في المجموع؟ بمعنى: هل تعيين الظاهر يكون بالنظر في دليل واحد أم بالنظر في مجموع أدلة؟
نقول: يتعين بالنظر في مجموع أدلة، فإذا نظرت في دليل معين قلت: إن الظاهر خلاف قول الجمهور، ولكن إذا جمعت مجموع الأدلة تبين أن الجزم بأن قول الجمهور يخالف الظاهر فيه تأخر في الجملة، وذلك لأن الظاهر هو مجموع النظر في الدليل، وليس النظر المعين, وإلا فثمة اتفاق على الأخذ بالظاهر وترك أقوال الرجال، فإن السلف متفقون أن ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على أقوال الرجال، إلا أن يكون في المسألة إجماع، فيعلم حينئذ أن هذا ليس ظاهراً. فيقال إذاً: إن تعيين الظاهر لا يخفى على الجمهور، فإذا عرض ما ترك الجماهير ظاهره فهذا يمكن أن يكون دليلاً على كونه غير مراد؛ وذلك لأن الظاهر هو مجموع النظر وليس النظر المعين.
وهذا نؤصل به لعدم القول بالإلزام التي هي طريقة ابن حزم ، بمعنى: هل يسوغ لبعض أهل العلم أن يلتزم المذاهب ويقول: أنا لا أخرج في الفتوى والقول عن المذاهب الأربعة؟ نقول: إن ذلك يسوغ، فإذا اعترض عليه وقيل: كيف يسوغ وقد يترك لذلك ظاهراً؟ قيل: هو بنى على هذه الحجة وهي أن الجمهور لا يخفى عليهم الظاهر في الجملة، فإن عرض ما ظاهره الخفاء فإن مرده عنده يمكن أن يفسر بأن هذا الظاهر ليس مراداً؛ لأن الظاهر هو مجموع النظر وليس النظر المعين، وهذا المنهج لا أقول: إنه منهج لازم، ولكن أقول: إنه منهج ممكن.
ومن الأمثلة على ذلك: قول ابن عباس رضي الله عنهما كما في الصحيحين: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر)، فربما قال قائل: إن ظاهر الحديث يدل على جواز الجمع بدون عذر، وهذا حديث متفق على صحته، ولكن نقول: إن هذا التفسير للحديث ليس مراداً، ولذلك يقول الإمام الترمذي في الجامع: إن هناك أحاديث ترك العلماء العمل بها، وذكر منها حديث الجمع هذا، وحديث أن شارب الخمر يقتل في المرة الرابعة، والصواب أنه لا يقتل، وإن كان ابن تيمية يذهب إلى أنه هذا القتل راجع إلى تعزير الإمام، والصحيح أن الشرب لذاته لا يجوز فيه القتل، أما إذا تعلق بالشرب فساد في الأرض، مثل المتاجرات والترويجات وما إلى ذلك، فهذه مناطات أخرى، وأيضاً الأمر هنا يتعلق بالخمر، وأما هذه التي هي نوع من الخمر لكنها أصبحت نوع من الضرر السريع القاتل؛ كالمخدرات الحادة التي بدأت تنتشر ووفدت إلى بعض البلاد من بعض العوالم التي عدم فيها الانضباط، مثل الكوكايين والهروين ونحوها، فهذه أعلى حكماً في التقدير الشرعي من خمر النبيذ وخمر العنب وخمر التمر وما إلى ذلك، وهناك فروقات طبية وفروقات من جهات شتى مصنفة علمياً تثبت الفرق بين هذه وهذه، فلا يتساويان في الحكم.
إذاً: هذا مثال للظاهر الذي ترك العمل به، وأحياناً قد يكون هناك ظاهر لم يترك العمل به لكنه فسر بفقه معين، فقد يرى البعض أن الظاهر يقتضي فقهاً آخر، مثل حديث الخوارج المتفق عليه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فلم يفقه الصحابة من هذا الحديث أن المقصود به أنهم كفار، مع أنه قد قال بعض العلماء: إن هذا دليل على أن الخوارج كفار، وبعضهم يقول: الخوارج كفار بصريح السنة، ولكن يقال لهم: كيف تقولون ذلك مع أن الصحابة لم يفهموا هذا الفهم؟! ولا يقال: إن ذلك من باب درء الفتنة، فإنهم قد قاتلوهم وحصل القتال، فالحديث إذاً لا يدل على أنهم كفار.
ولذلك يقول ابن تيمية : إن هذا الحرف لا يفقه منه ذلك، ولو كان يفقه منه ذلك لفقهه الصحابة، فإن ظاهر مذهب الصحابة أنهم ليسوا كفاراً. إذاً: هذا مما يبين أن الظاهر هو مجموع النظر، فإن الصحابة لم يكفروهم بهذا الحرف؛ ولأنهم نظروا إلى ظاهر السنة في هذه المناطات.
نقول: هذا المنع فيه تكلف وزيادة، ولا أصل له، ولعله من نافلة القول أن نقول: إن المجوزين هم الأكثر من أهل العلم، ومن أخص المجوزين تقريراً وفعلاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهذا القول هو الأصل، وهو المقتضي إذا حقق بضوابطه، وأما القول بالمنع فكما سبق أنه يلزم عليه سؤال سبقت الإشارة إليه؛ وهو: هل اتفاق المذاهب الأربعة -حتى ولو فسر المذهب بالمذهب الاصطلاحي وليس المذهب المنصوص عن الإمام- هل اتفاقها هو الإجماع أم لا؟ إذا قيل: إن اتفاقها هو الإجماع، فستكون الحجة في منع الخروج عنها لكونها إجماعاً، وهذا لا جدال فيه، ولكن إثبات أن اتفاق هذه المذاهب الأربعة في آحاد المسائل باطراد هو الإجماع المتقدم عند السلف -هذا الإثبات دونه (خرط القتاد) كما يقال.
قد يجتهد مجتهد في مسائل معينة، كما اجتهد ابن رجب في مسألة أن طلاق الثلاث طلقة واحدة، وقال: إنها لا أصل لها، فهذا لا بأس به، لكن أن يقال ذلك في كل المسائل فهذا دونه خرط القتاد؛ بل إنه من الممكن، وقد وجد بالفعل أن هناك أقوالاً معروفة في المصنفات -كما أشرت إليه- وفي بعض كتب الخلاف المتقدم وبعض كتب المحدثين أقوال الأئمة معتبرين، وليست معروفة عند المذاهب الأربعة، لا يلزم أنها راجحة، ولكن تبقى أقوالاً محفوظة لا ينكر على من أخذ بها تحت الضوابط المتقدمة.
وإذا قيل: إن ذلك ليس إجماعاً، بل هو قول الجمهور، ولكن يلزم عدم الخروج عنه، فهذا إلزام لا دليل عليه من الشريعة، وما هو الذي جعله لازماً؟ إن التعليل بتعليلات ليست لازمة في الحقائق العلمية الكاملة كأن يقال: إن هذا يقود إلى الفوضى وما إلى ذلك، هذا نوع -إن صح التعبير- من الضبط الأخلاقي للعلم، ولذلك قلنا: إن الخروج لا بد له من ضوابط، فإذا قيل: إذا فتحنا هذا الباب خرج الناس إلى الشاذ وتخبطوا وما إلى ذلك، فيقال: هذا له ضوابط، ولا يجوز أن تصادر الحقائق العلمية لتخبط مجموعة من الناس ضدها.
فنظرية الإغلاق لوجود متخبطين هذه لا تتناها، وحتى لو أغلقت سيتخبط أناس.. وهكذا، فتحقيق الحقائق العلمية يكون من هذا الوجه، فإذا قيل: إنها ليست إجماعاً، فما هو الدليل على المنع من الخروج إلى قول معتبرين من المتقدمين وظاهر الدليل يوافقه؟ لا يوجد دليل، لا شرعي ولا عقلي، وأما فرض أنه لو كان هذا القول صحيحاً لعرفه الجمهور، فنقول: هذا فرض ممكن لكنه ليس بلازم؛ لأنه لو كان لازماً لوجد من طريقة المتقدمين أنهم يقصدون إلى أقوال الجماهير ولا يجتهدون بخلافها، ولوجد أن من طريقة المتقدمين التحذير مما خالف قول الجمهور، وهذا لا يحذرون منه على الإطلاق، وأما من يقول: إنهم قد حذروا من مخالفة قول الجمهور، ويذكر لذلك أمثلة، فالأمثلة حقيقتها ليست من هذا، فالإمام مالك أحياناً يحذر من قول الجمهور لأنه لم يبلغه إلا هذا القول مثلاً، ومن الأمثلة على ذلك: صيام الست من شوال، فإنه لم يحذر منه حقيقة، لكنه شبه أنكره، مع أن الجمهور على أن صيام الست من شوال مستحب.
وبطبيعة الحال فإن المذهب الشخصي قد يكون من جهة أوسع، كاختلاف الرواية عن الإمام أحمد بثلاث روايات كلها محفوظة، مع أن المذهب الاصطلاحي معتبر برواية واحدة، فمن هذا الوجه كان المذهب الشخصي أوسع، وباعتبار آخر نجد أن المذهب الشخصي يكون أضيق من المذهب الاصطلاحي، كتكميل المسألة وتكميل دليلها، وذكر الضوابط عليها، وما إلى ذلك، فهذا يحصله الأصحاب تارةً بالتخريج على أصول الإمام، وتارةً بالتخريج على فروعه.. ونحو ذلك.
إذاً: هناك فرق بين المذهب الاصطلاحي والمذهب الشخصي كما بيناه هنا.
كذلك مسألة الردة وأحكام المرتدين، وبعض ما يذكرونه في مسائل التطبيقات على مسائل الردة، فهذه تعتبر بالأصول العقدية، ولا يكفي فيها النظر في آحاد كلام الفقهاء المتأخرين.
لقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة، وربما غلا بعض الفقهاء كـأبي المعالي الجويني وأمثاله في إبطال قول الظاهرية، وأنهم لا يعدون من العلماء ولا من الفقهاء، وهذا فيه غلو وتكلف، بل الأصل أن قول داود بن علي قول معتبر، وأما آحاد مقالات الظاهرية فهل هي خلاف معتبر أو ليس معتبراً؟
يقال: كل مسألة من حيث الآحاد ينظر في مورد الإجماع المتقدم، وعلاقة هذه المسألة بالإجماع المتقدم، فإذا انفرد ابن حزم ببعض الرأي الذي ليس له فيه سلف، فيمكن أن يقال هنا: إنه لا يعتبر قوله، وأما إذا كان قول الظاهرية على أصل أو قول معروف عند المتقدمين، فهذا لا يسوغ إنكاره، والأئمة المتقدمون لم ينكروا جميعاً فقه داود بن علي ، إنما أخذوا عليه، وإن كانوا أخذوا عليه فقد أخذوا على غيره، فقد أخذوا على أهل الرأي كثيراً؛ بل إن الإمام أحمد ترك بعض كلام إسحاق بن إبراهيم ، مع أن الإمام أحمد من أقرب الناس إلى طريقة إسحاق ، ومع ذلك قال: إنا نترك بعض الرأي من كلام إسحاق . بل إن أبا عبيد ربما أثنى على بعض هذه الأقوال بشيء أكثر من ذلك، أي: الأقوال التي ذمها من ذمها.
فالمقصود: أنه لا يوجد عند المتقدمين إجماع على ترك فقه داود بن علي ، فما تفرع عن الأصول المعتبرة التي لا تخالف الإجماع ولا الأصول فهو مقبول، وما كان شاذاً أو خالف الإجماع فيترك ويرد.
وإما إذا فسر التمذهب بالتدين والتعصب، وترك العناية والأخذ بالسنن والآثار وما إلى ذلك، فهذا لا شك أن المسلمين لا يحتاجونه؛ لأن المسلمين يحتاجون إلى سنة نبيهم وليس إلى رأي فقيه بعينه، ولا نقول: إلى آراء الفقهاء، حتى لا نجعل تقابلاً بين السنة وآراء الفقهاء، وإنما نقول: وليس إلى رأي فقيه بعينه، فإذا كان التمذهب تعصباً فهو مذموم.
وكلامنا هنا إنما هو في ماهية الدليل وليس في حده الأصولي المعين، فنقول: الدليل في منهج المتقدمين والمحققين من المتأخرين -لأنه لا ينبغي الفصل المطلق بين المتقدمين والمتأخرين، وكأن المتأخرين انقلبوا انقلاباً كلياً على المتقدمين؛ بل لقد بقي في المتأخرين محققون، ولا يعني ذلك أنهم يبلغون إلى درجة المتقدمين، فمثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام ابن عبد البر والحافظ المزي .. هؤلاء محققون، لكن لا يعني ذلك أنهم صاروا كدرجة أئمتهم، لكنهم محققون في هذا الباب- فيقال: المنهج الذي عليه المتقدمون والمحققون من المتأخرين أن الدليل وجهان:
أحدهما: الدليل اللفظي المعين، وهو ما يقضي بالحكم على المسألة إذا نظرت فيه، كحديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فهذا الحديث قضى بحكم هذه المسألة المعنية.. ونحو ذلك.
ثانيهما: الدليل الاستقرائي، ومن خاصيته أنه دليل مركب، وهو محصل النظر في المقاصد والأصول -أي: مقاصد وأصول الشريعة- الخاصة والعامة.
إذاً: الاعتبار يكون بالسياق المركب وليس باللفظ المفرد المجرد، ونحن هنا لا نريد أن ننفي أهمية فقه الكلمات المجردة والمصطلحات المفردة، لكنها ليست وحدها هي التي تحكم، بل الذي يحكم هو السياق المركب.
ومما ينبه إليه هنا: أن السياق ليس نظماً رياضياً؛ لأنه من المعلوم أن الأصوليين كتبوا مسائل في فقه الألفاظ، فجعلوا للعموم صيغاً، وجعلوا قواعد فيما هو أكثر تردداً من ذلك، مثل قاعدة: الأمر للوجوب إلا إذا صرفه صارف، فلا ينبغي أن تؤخذ مثل هذه القاعدة أخذاً رياضياً تجريدياً، فإذا ورد أمر قيل مباشرة: واجب؛ لعدم وجود صارف نصي صريح في الصرف؛ لأن البعض لا بد أن يكون الصارف عنده دليلاً معيناً للصرف، وكذلك قاعدة: الأصل في النهي التحريم إلا بصارف.
ومن هنا فمن يأخذ هذه القواعد أخذاً تجريدياً نجد أنه يخرج أحياناً إلى أقوالٍ شاذة، وقد يخالف الإجماع وهو لا يدري، وليس معنى هذا أنه لا يقال: الأصل في الأمر الوجوب؛ فإن هذه القاعدة قد ذكرها المتقدمون كـالشافعي رحمه الله، فضلاً عمن جاء بعده، فلا بأس أن يقال -بل هو الصحيح-: أن الأصل في الأمر الوجوب، فهذه قاعدة لا جدال فيها ولا تردد، وإنما المقصود الفقه في مثل هذه القاعدة، فإذا قيل: الأصل في الأمر الوجوب إلا بصارف، فيقال: هذه القاعدة صحيحة إذا فقه الصارف.
مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عن صبغ الشيب وتغييره: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)، فقوله: (فخالفوهم) أمر، وليس في سياق مفرد فقط، بل أمر في ذكر مسألة ترك التشبه، فكأن هذه قد تكون قرينة تؤكد أن الأمر للوجوب، ومع ذلك فقد حكي الإجماع على أن تغيير الشيب ليس واجباً.
كذلك حديث: (صلوا في نعالكم فإن أهل الكتاب لا يصلون في نعالهم)، ومع ذلك لم يكن ذلك على الوجوب، كذلك السحور، قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (تسحروا فإن في السحور بركة)، وذكر أيضاً أنه فرق بين المسلمين وبين غير المسلمين فقال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)، ومع ذلك حكي الإجماع على أن السحور ليس واجباً.
وقد يقول قائل: ما هو الصارف هنا؟ فنقول: هنا يأتي فقه الاستقراء، ولذلك من أخذ هذه القاعدة وأراد طردها إلا أن يبين له صارف يراه ببصره معيناً على حدود علمه، أن يكون الصارف نصاً معيناً حرفاً صريحاً بالصرف، فهذا يقصر فقهه كثيراً.
هذا هو المدرك الأول، وهو: الفقه في لسان العرب، سواء في باب الخبريات، أو في باب الطلب، فالنصوص الخبرية مثل حديث: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فهذا نص خبري، فلأجل أن الصحابة يفقهون لسان العرب لم يفقهوا منه التكفير، والعرب قد تعبر بمثل هذه العبارات المغلظة لوجه ما، ولذلك لما فسد الذوق في فقه لسان العرب حصل الضلال في بعض مسائل أصول الدين.
والمقاصد العامة يسميها البعض: المقاصد الكلية، مثل المقاصد الشرعية الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها وهي: حفظ النفس والدين والمال والعرض والعقل، هذه لابد للنظر في الدليل المعين الذي سميناه (الدليل اللفظي) أن يستصحب الناظر الفقه في لسان العرب، وأن يستصحب الفقه في المقاصد الكلية.
ومن مقاصد الشارع الخاصة في هذا الباب: العفو عما يشق التحرز منه في باب الطهارة، ونحو ذلك.
فمثلاً: حفظ المال مقصد شرعي، وقاعدة: الأصل في المعاملات الحل أصل شرعي. فهذا نسميه مقصداً وهذا نسميه أصلاً.
ولما فات دليل الاستقراء أو كثير منه كثيراً من المتأخرين عرض لهم أحد مقامين:
المقام الأول: التجوز في إثبات التكليف بالتعليل الفقهي الذي ليس على أصل محقق محفوظ، وكأنه تعليل متكلف، مثل بعض تعليلات الفقهاء المتأخرين -ولا أقول جميع تعليلات الفقهاء المتأخرين- لكن أحياناً نجد أنهم يحرمون أو يغلقون بتعليل، وهذا التعليل ليس على أصل محقق حتى عند إمام المذهب، فإذا لم يجد ذلك الفقيه دليلاً لفظياً على حسب مصطلح الدليل اللفظي الذي ذكرناه، وليس هو من أهل فقه الاستقراء، فأحياناً يحرم أو يغلق بالتعليل.
وأنبه هنا إلى أن الإشكال ربما يتضح أكثر إذا كان هذا الفقيه يريد أن يستدل بقول إمام نقل قوله ولم ينقل دليله، فربما تكلف في الدليل له فجعل مبنى الحجة في قول الإمام تعليلاً، مع أن هذا التعليل قابل للإسقاط. وربما احتجوا بحديث ضعيف عند الإمام نفسه، أو بحديث بين الترك عند المحدثين، فمن ينظر في هذا الحديث أو تلك العلة يقول: إن مذهب الإمام أحمد والإمام الشافعي ضعيف؛ لأنه بني على حديث ضعيف أو على علة لا تقبل الاحتجاج، مع أنه من المعلوم أنه ليس كل ما قاله أحمد ذكر له دليلاً، فإن أقواله المنقولة أكثر من الأقوال التي نص فيها على الدليل، فضلاً عما خرج عن مذهبه إذا دخلنا في مصطلح المذهب الاصطلاحي.
إذاً: هذا التجوز في إثبات التكليف بالتعليل الفقهي يعرض إما في بعض الأقوال، أو في الاستدلال لقول الإمام، وهذا حال كثير من الفقهاء المتمذهبين، وهذا المنهج ليس منهجاً حكيماً وليس صواباً.
المقام الثاني: الإسقاط للتكليف باستصحاب أصل، فإن كان في العبادات قالوا: الأصل براءة الذمة، فلا يكلف الإنسان بوجوب واستحباب، وإن كان في المعاملات قالوا: الأصل الحل، وهذه الطريقة يميل إليها بعض أصحاب الحديث المتأخرين حين لا يجدون الدليل اللفظي، وليسوا من أهل فقه الاستقراء، فيصيرون إلى الإبراء خلافاً لبعض المتمذهبين من الفقهاء، وكيف يصيرون إلى الإبراء؟ كما إن أولئك يصيرون إلى التكليف بالتعليل القاصر، فهؤلاء يصيرون إلى الإبراء باستصحاب أصل، فإن كان المورد العبادات قيل: الأصل براءة الذمة.
ومن الأمثلة التي يمثل بها في نظر البعض: قول بعضهم: إن من ترك واجباً في الحج فليس عليه شيء؛ بل يتوب ويستغفر، فإن قيل له: لماذا؟ قال: الدليل عدم الدليل، فإن قيل له: فأثر ابن عباس : (من ترك نسكاً فليهرق دماً)؟ قال: هذا قول صحابي، وهو مما يمكن أن يقال بالرأي والقياس، وربما قال بعضهم: إن الصحابة قد اختلفوا، فقد سئل عمر بن الخطاب عمن ترك المبيت في مزدلفة فقال: (يمضي)، وهذا يدل على أن الصحابة لم يتفقوا على أن الواجب فيه دم.
وأقول: إن هذه طريقة ناقصة؛ لأنه ثبت أن عمر يذهب إلى أن المبيت بمزدلفة واجب، فربما أن هذا لا يراه واجباً وغيره يراه واجباً، والخلاف ليس على الأشياء المعينة في الحج، إنما الخلاف على الأصل، فإنه من المعلوم أن الفقهاء بل والصحابة اختلفوا في تعيين الواجبات، وإنما إذا تحقق أن هذا واجب فلم ينضبط عن الصحابة أو الأئمة التصريح بأنه لا شيء عليه.
والذي أقصده بهذا المثال هنا أن قول من يقول: من ترك واجباً فلا شيء عليه؛ لأن الأصل براءة الذمة، فما دام أنه ليس هناك دليل لفظي مبين من السنة فالأصل براءة الذمة، وإذا كانت معاملات قيل: ليس هناك دليل بين هنا فالأصل الحل في المعاملات.. وهكذا، هذا المنهج أيضاً ليس منهجاً حكيماً مستتماً، وكما أسلفت أنه يعرض لبعض من أراد ترك المذاهب والاختصاص بالسنن والحديث، والعناية بالسنن والحديث وجه فاضل، لكن هذه التطبيقات تتأخر عن مطابقة منهج المتقدمين.
وكذلك مما ينبه إليه: العناية بدليل الاستقراء، ومن أكثر الأئمة عناية بدليل الاستقراء الإمام الشافعي رحمه الله، فمن يقرأ في كتبه ككتاب الرسالة، أو في تطبيقاته في كتاب الأم بخاصة كتطبيقات على الفروع؛ يجد التحقق البين، وعناية الشافعي بالدليل اللفظي، ثم عنايته بطريقة التفسير، التفسير له بالمدارك، حتى إنه يصرح بذلك فيقول: وإنا إذا استقرأنا لسان العرب فإن العرب إذا قالت كذا وكذا فالمقصود كذا وكذا..، ويقول: من مقصد الشارع كذا، وجاءت أصول الشريعة بكذا.. وإنما ذكرت الشافعي ليس لاختصاصه عن مالك وأحمد وغيرهم؛ وإنما لأن الشافعي كتب كتابة بينة مفصلة في هذا، فتكون المشاهدة بينة أو ممكنة، فيتبين لك كيف كان الشافعي وأمثاله من المتقدمين يفقهون ذلك من حيث التطبيق، أما من حيث دليل الاستقراء فهذا أيضاً بين في طريقة حكم الأئمة على المسائل.
ولذلك ذكرنا سابقاً أنهم ربما تركوا العمل بظاهر حديث لاستقراء عندهم، وربما أخذوا ببعض الأصول أو أخذوا ببعض الحديث الفرد في مقام وتركوه في مقام آخر، هذا لكونه وافق الأصل فأخذوا به، وهذا لكونه عارض الأصل وليس إسناده بيناً فتركوه.. وهكذا.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام [8] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net