اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الوصية الكبرى [2] للشيخ : يوسف الغفيص
وجعلهم أمة وسطًا، أي: عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم -بعد ذلك- بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم] .
ابتدأ المؤلف رحمه الله في مكاتبته بأصل عام، ثم دخل بعده إلى الكلام في طريقة عدي بن مسافر والتحول الذي طرأ فيها.
هذا الأصل العام الذي قد ضمنه جملته العامة هو تقرير المصنف لكون هذه الأمة هي الأمة الوسط، وأن أهل السنة والجماعة هم الوسط في فرق هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هي الوسط في الأمم.
تقريره لمسألة الوسطية في هذه الصفحات الأولى، وبين رحمه الله المقصود عنده بهذا المنهج، فهو من حيث ابتدأ بالمكاتبة قرر مسألة الوسطية، وهذا المقصود من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله يمكن أن نقول: إن تحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: اعتبار الوسطية من حيث العلم.
المسألة الثانية: اعتبار الوسطية من حيث العمل.
المسألة الثالثة: اعتبار الفقه لهذه الوسطية.
إذاً: اعتبار الوسطية العلمية بهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع.
والإجماع الذي يذكر هنا هو الإجماع المنضبط الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والقرون الثلاثة الفاضلة.
أما بعد ذلك فإن الغالب على ضبط الإجماع أنه يتعذر أو يتعثر، فإن الإجماع الممكن من حيث الانضباط هو إجماع القرون الثلاثة الفاضلة، أما بعد ذلك فإن الأمة انتشرت، والفقهاء كثروا، وتأخرت وسائل الاتصال في أكثر قرون الأمة، فصار ضبط الإجماع متعذراً في كثير من الأحوال.
إذاً: الإجماع المنضبط هو إجماع القرون الثلاثة الفاضلة، فإذا انضبط إجماعاً فإنه يكون قولاً لازماً تحرم مخالفته بمقتضى الأدلة الشرعية.
فعليه: يكون ميزان العمل في الإسلام هو ما مضى به الكتاب والسنة والإجماع، وأما أوجه العمل التي هي اجتهاد لبعض الفقهاء فهذه مبنية على السعة.
وأما أوجه العمل التي هي حادثة في الإسلام، فهذه لا ينبغي أن يبقى الناس على إلفها، وعليه يمكن أن نقول: إن العمل القائم في حال المسلمين ولا سيما في حال عامتهم اليوم ثلاثة أقسام:
الأول: عمل مبني على الإجماع، أي: معلوم بالإجماع كالصلوات الخمس، فهذا عمل مجمع عليه بين المسلمين فضلاً عن دلالة الكتاب والسنة عليه.
الثاني: عمل هو وجه من الاجتهاد لبعض الفقهاء، وهو إما عمل يتعلق ببعض العبادات المحكمة كالصلاة، مثل بعض الحركات في الصلاة كرفع اليدين وعدم رفعهما وكإشارة الأصبع في التشهد أو عدمها، وكوضع اليدين على الصدر أو عدم ذلك، وكالتورك وعدمه وما إلى ذلك.
أو أعمال منفكة عن عبادة معينة تقع بوحدها.
فأوجه العمل فيه بين الفقهاء الأصل فيه أنه على السعة ما دام أن هذا الخلاف خلاف معروف وتقدم معتبر.
الثالث: عمل مبتدع في الإسلام، وهذا هو الذي ينبغي أن يصرف الشأن في تصحيح أمر المسلمين فيه.
أما الوجه الثاني فلست أرى أنه من الحكمة أن يكثر مجادلة الناس فيما هو منه، حتى ولو كان المجادل يرى أن ما جادل به هو الأقرب إلى الدليل، فإن هذا تحته أمران:
الأمر الأول: أن هذا الأقرب للدليل إنما هو من حيث نظره، وقد لا يكون الأمر كذلك.
الأمر الثاني: أن من مضى على تقليد إمام معتبر يمكن أن ينبه إلى الأمر باختصار، وليس بوجه من الإلزام، أو أنه إذا لم يرجع عن ذلك فقد ترك السنة والجماعة أو ترك طريقة السلف أو ما إلى ذلك.
فما كان من الخلاف المعتبر المحقق فإن شأنه على الاحتمال، إنما الذي يصرف العامة عنه ويحذرون منه هو العمل المبتدع في الإسلام، الذي لم يذكره أئمة الفقهاء فضلاً عن وروده في الكتاب والسنة، وهذا أحواله متدرجة بوجه من البدعة الحادثة، ثم إلى بدعة مغلظة، ثم إلى وجه من الشرك، أو ما يقتضي مخالفة أصول الملة مما يقع عند القبور، وإن كنت أقول: إنه ليس بالضرورة أن كلَّ ما يقع عند القبور يكون شركاً، فقد يقع عند القبور ما هو من الشرك الأكبر، وقد يقع عندها ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عندها ما هو من البدع، وقد يقع عندها ما هو من أقوال الفقهاء الشاذة.
فمثلاً: فيما يتعلق بالدعاء عند القبر، هناك رأي لبعض الفقهاء أنه يستحب أو يجوز أن يدعو الإنسان لنفسه عند القبر، لكن هذا القول قول شاذ يخالف مذهب جماهير الفقهاء المتقدمين، وكأنه يخالف إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إنما تبناه بعض أصحاب الفقهاء المتأخرين، فهذا من شاذ الأمر.
ولذلك نص بعض المحققين على أن هذا وإن جوزه بعض الفقهاء المتأخرين إلا أنه بدعة؛ لأنه لا معنى للدعاء عند القبر، وإنما الذي جاء به التخصيص هو الدعاء للميت صاحب القبر، أما دعاء الإنسان الزائر لنفسه فليس كذلك.
وقد يفعل عند القبر ما هو من البدع، كبعض الحركات والأحوال، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأكبر، وإن كان الفاعل له قد لا يكون عليماً بهذا.
ولهذا تعميم الأحكام على ما يقع عند القبور ليس له وجه، وكذلك وصف الأعيان بصفة مجملة، هذه ينبغي أن تبقى على إجمالها، أحياناً يقول البعض: فلان قبوري، وهذه الكلمة كلمة مجملة، قد يكون المقصود منها أنه يغفل عما هو من الشرك الأصغر، أو ما هو من الشرك الأكبر، أو ما إلى ذلك.
إذاً: تصحيح ما عليه أحوال المسلمين اليوم من الأخطاء في مسائل التعبد ولا سيما ما يقع عند القبور والمشاهد التي بعضها صحيح وبعضها مكذوب، هذا لا بد أن يكون أولاً بالحكمة والاعتدال؛ تقريباً للسنة ودعوة إلى النصوص وإلى صريح النصوص القاضية والملزمة للمؤمنين بترك هذه المنكرات وهذه المبتدعات.
وأن يكون باعتدال، وليس بما يحرك النفوس الجاهلة إلى التعصب لما هي عليه من الجهل.
الأصول والفروع هذه التسمية من حيث الاصطلاح تسمية شائعة في كلام الأصوليين، وفي كلام المتكلمين، وفي كلام الفقهاء بعامة، وهم يعنون بذلك أن الدين ينقسم إلى أصول وفروع.
وهذه التسمية لا شك أنها تسمية متأخرة، أي: أنها لم تظهر زمن النبوة ثم الصحابة ثم زمن الأئمة المتقدمين، بل بدأت بدايات من المصطلحات لما بدأ الاصطلاح وكثر، فتجد في كلام الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام أنه يسمي بعض المسائل فيقول: ما هو من الأصول في الدين وما هو من الفروع فيه، فاستعمل مصطلح الأصول ومصطلح الفروع.
هذا المثال هو تمثيل بـأبي عبيد ، وهو رد على ما يقوله بعض المتأخرين من أن هذه تسمية مبتدعة على سائر مقاصدها.
الوجه الأول: يذكر هذا التقسيم وهذه التسمية مقراً لها، وهذا مقتضى الشرع والعقل.
الوجه الثاني: يذكر هذا التقسيم معارضاً له، ولكن مقصوده بالمعارضة ليس الاصطلاح، إنما مقصوده بالمعارضة الحد الذي ذكره بعض أئمة المعتزلة، ومن نقل عنهم من المتكلمة الصفاتية لما قالوا: إن الأصول هي العلميات، والفروع هي العمليات، فهذا غلط؛ لأنه يستلزم أن تكون الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان من الفروع، وهذا خطأ؛ لأن مذهب السلف درج على أن العمل أصل في الإيمان.
أو معارضة لقول بعضهم: إن الأصول هي المسائل المعلومة بدليل السمع ودليل العقل، والفروع هي المسائل المعلومة بدليل السمع وحده، فإن هذا أيضاً حد غير صحيح؛ فإن هناك مسائل أصول لا تعرف إلا بدليل السمع، ككتابة الله سبحانه وتعالى لمقادير خلقه؛ فإنه لولا خبر الله ورسوله بها لما كان لأحد أن يبتدع بأن الله كتب مقادير الخلق، وكنزوله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا؛ فإنه لولا خبر النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لأحد أن يصل بعقله إلى أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا.
بخلاف بعض الصفات التي يشهد العقل بها ابتداء، ككونه سبحانه وتعالى سميعاً بصيراً حياً قديراً، فإن هذه مسائل تعرف بالشرع وتعرف بالعقل, وإن كانت المسائل المعروفة بالسمع إذا ورد السمع بها فإن العقل لا يعارضها.
إذاً: القول بأن الإمام ابن تيمية رحمه الله رد تقسيم الدين إلى أصول وفروع أو أنكره هذا غير صحيح، بل في كلام شيخ الإسلام استعمال قديم للأصول والفروع، وهذا مقتضى العقل والشرع؛ لأن مسائل الشرع ليست وجهاً واحداً، وكلمة (فروع) ليس فيها إنتقاص لشيء من مسائل الشريعة؛ بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ما هو مقارب لهذا المعنى، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) والشاهد ما تفرد به مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام: (فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فإذا كان الشارع عبر بهذا التعبير واستعمل هذا اللفظ؛ فلفظ الأصول والفروع ليس بعيداً عن مثل هذا المقصود، فهو لا يوجب النقص.
فمسألة الأصول والفروع هذه تسمية واسعة إذا ما ضبطت بتفسير صحيح، فقيل: الأصول هي ما أجمع عليها الصحابة والأئمة في مسائل العلم والعمل، والفروع هي ما دون ذلك.
ففي العقل والشرع أن المسائل أحد وجهين:
إما مسألة مجمع عليها، وإما مسألة مختلف فيها.
فإذا رددنا مسائل الشريعة إلى القرون الثلاثة الفاضلة استطعنا أن نصل إلى أن هذه المسألة في القرون الثلاثة إما أن تكون مسألة مجمعاً عليها، وإما أن تكون مسألة قد اختلف فيها الصحابة والأئمة.
فما كان من المسائل المجمع عليها فهو أصل قدره على اللزوم، سواء كان الإجماع بوجه علمي، أو وجه عملي، فقد يكون إجماعاً علمياً، كأن يجمعوا على كون هذا العمل مستحباً، فعندما أجمعوا على كونه مستحباً هل صار فعله واجباً، أم أنه انعقد الإجماع على استحبابه؟ انعقد الإجماع على استحبابه، فلا يجوز لأحد أن يأتي بعد ذلك فيقول: إنه مباح وليس مستحباً، فيخفضه، ولا يسع أحداً بعد ذلك أن يقول: إنه واجب، فيرفعه عن قدره السابق.
فالمستحب من حيث الفعل يتعلق بفروع الشريعة، ولكن من حيث الجهة العلمية فيه يتعلق بمسألة الأصول، فمن أنكر أن هذا مشروع، كمن أنكر شريعة السواك، فإن إنكاره لهذا يتعلق بمسائل التصديق لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
أما إذا جئت إلى المستحبات من حيث التطبيق لها، بل وإلى كثير من الواجبات من حيث التطبيق لها، فهذه لا نسميها أصولاً، بل هي من باب الفروع، ولذلك قد يكون الشيء من جهته العلمية أصلاً، ومن جهته العملية التطبيقية فرعاً، وقد يكون الشيء من جهته العلمية والعملية أصلاً، وهذا كالصلاة؛ فإنها من جهة التصديق بوجوبها أصل، ومن جهة إقامتها هي أصل أيضاً.
والتشابه الذي أضيف إليه إضافة عامة هو التوافق، أي: أنه ليس فيه اختلاف، وهذا من خصائص كلام الله؛ ولذلك قال الله في مقام آخر: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فكلام الإنسان لابد أن يدخله خلاف، أما كلام الله فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكذلك الوحي المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالقرآن منه محكم ومتشابه من حيث الإضافة، أي: باعتبار تعلقه بالمكلفين، فبعضه محكم في فقه المكلفين، وبعضه يتشابه على المكلفين شأنه، فيكون متشابهاً؛ ولذلك فإن الذي فيه تشابه عند المكلفين: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] سواء قيل: إن الراسخين في العلم يعلمونه، أو قيل: إنهم لا يعلمونه، لكنهم يقولون في كلا الحالين: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
كذلك على المسلمين اليوم خاصتهم وعامتهم -ومصطلح الخاصة والعامة مصطلح لا بأس بالتعبير به، وإن كان مصطلحاً تكلم به بعض الصوفية، لكن الإمام الشافعي استعمله كثيراً، والخاصة هم أصحاب الفقه والإمامة والعلم، أو القصد إلى ذلك، والعامة هم دون ذلك -أن يعتنوا بمحكمات العلم ومحكمات العمل.
وقد يقول قائل: هذا الكلام لا يطلع عليه إلا القليل، وأنت تقول: المسلمون، فهل نستطيع أن نصحح؟
فنقول: الإنسان أولاً مكلف أن يبدأ بنفسه ثم بمن يسمع صوته، ثم لماذا ظهرت الآن بعض المظاهر البدعية عند المسلمين وعليها ملايين من أهل الإسلام؟ لأن النفس البشرية -وننبه إلى أن فقه النفوس أمر مهم، فإن البعض -خاصة من السلفيين- يدرسون العلوم دراسة تجريبية، وهذا خطأ، فإن هناك مسائل لابد للإنسان أن يتعلم فقهها ليصل فيها إلى تصحيح نفسه وإلى طريقة مخاطبة الغير- فنقول: لأن النفس البشرية موصوفة بالظلم والجهل والضعف وما إلى ذلك، وهذا موجود في القرآن، وليس بالضرورة أن تذهب إلى كتب علم النفس، هذا في القرآن في صفات النفس البشرية، فإن الله لما ذكر النفس قال: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، فهذه الكلمات التي في توصيف النفس البشرية لا بد أن يكون طالب العلم فقيهاً فيها، ومع الأسف أنه أصبح العلم عن أحاديث الأحكام فقط، هذه هي أم العلم، وأما الباقي فإنها آداب، ولا تحتاج إلى عناية كبيرة!
مع أن هذا المنهج ظاهر في صنيع المحدثين الذي كتبوا في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم لم يصنفوا في الأحكام فقط، فقد صنف البخاري فاختار ما صح عنده لكن في سائر أبواب الدين، بل حتى إنه لم يبتدئ بكتاب العبادات، بل بدأ بما هو قبل ذلك: باب الوحي والعلم والإيمان، ولما صنف مسلم فعل كذلك، ولما صنف أصحاب السنن فعلوا كذلك، فكانوا يذكرون أحاديث أصول الدين أولاً، ثم يذكرون أبواب الفقه ومسائل الآداب والأخلاق في سائر مواردها التي نزلت بها.
بل إننا نجد ذلك في القرآن، فإن ذكر القصص وتفصيل القصص في القرآن هو لقصد العبرة، وليس كمعلومات مجردة، قال سبحانه وتعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، وهذه في أول السورة، وفي آخرها قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111]، ونجد أن قصة موسى عليه السلام ذكرت في أكثر من موضع في القرآن، مع أنها في كثير من هذه المواضع فيها تقارب؛ لأن هذه تعطي العابد والسالك وطالب العلم والمسلم والمؤمن منهجاً، والله سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بإخوانه الأنبياء، فما بالك بمن هو من أتباع الأنبياء واتباع هذا النبي، فهو أولى بهذا الاقتداء وهذا الفقه والتدبر لقصص الأنبياء، وأحوال النفس والإنسان وما إلى ذلك.
أحياناً بعض الشعراء يصل إلى معنى يعبر به عن مقصود، فالمتنبي يقول في شعر له:
خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب
وهذه حقيقة كثير من عامة المسلمين اليوم، فهو يقول: (خلقت ألوفاً لو رحلت من الصبا) أي: أنا في سن الشيب الآن، وكل إنسان في الشيب يقول: مات الشباب، لكن لو جاء قرار واضح أنه ستنقل الآن من عتبة الشيب إلى مرحلة الشباب وستصبح شاباً لانتقلت وما ترددت، لكن سألتفت إلى الشيب باكياً، فلماذا يبكي على الشيب؟ يقول: لأني ألفته، والإنسان من طبيعته أنه يألف.
فالناس هكذا العوائب النفسية هي التي تتسلط على كثير من عقول المسلمين اليوم، وهذا إن شاء الله سنخصص له درساً في فقه مسألة التقليد، والتعصب في مسائل السلوك وما إلى ذلك وكيف يصحح ذلك، وكيف يتجه العوام من المسلمين، لا أقول إلى طريقة زيد أو عمرو أو مذهب أحد، وإنما إلى هدي الكتاب والسنة والحكمة والموعظة الحسنة.
فمسألة المحكم والمتشابه ينبغي لطالب العلم دائماً أن يضعها في ذهنه، وأن يصرف جمهور وقته في محكم العلم والعمل، وأن لا يعطي المتشابه إلا قدراً يسيراً، أم أن يمضي طالب العلم كثيراً من وقته، ومن عمره أمام المجتمع وأمام الناس، وفي متشابه العلم، أو متشابه العمل، فهذه الحال نحن نحاول أن نصححها للعامة، لكن كيف نصححها للعامة وطلبة العلم هم يعيشونها في أنفسهم، بل إننا نجد أحياناً أن بعض العوام عنده من المحافظة على محكمات العمل أكثر مما عند كثير من طلبة العلم، ونحن لو تأملنا هدي السلف الأول، وأجل السلف الأول هم الصحابة؛ لوجدنا أن هديهم عامته -إذا لم يكن جميعه- في محكم العلم ومحكم العمل.
بل حتى الأسئلة التي هي نوع من المتشابه ما كان الصحابة يسألونها؛ ومن ذلك: أنه لما حدث رسول الله عليه الصلاة والسلام في مسألة كتابة العمل فقال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة أو من النار) لم يسأل كبار الصحابة: ففيم العمل؟ وإن كان قد سأل بعض من حضر من الصحابة، لكن هذا السائل لم يكن من أئمة وكبار الصحابة؛ بل لم يكن يمثل أيضاً أكثر الصحابة، ثم هذا السائل ليست هذه حاله على الدوام ولا على الغلبة، بل هي حال عرضت له، وكان سؤالاً يعرض لكثير من النفوس، لكن جمهور الصحابة ما سألوا، ولم يكونوا رضي الله عنهم تركوا السؤال لأنه لم يرد عندهم هذا السؤال؛ بل لأن من فقه حقائق الشريعة فقهاً مناسباً وتخلص من العوائد والتعصب والإلف والتقليد غير الشرعي؛ حصل له محكم العلم، ومحكم العمل، وصار يعيش فقهاً في نفسه، وطمأنينة وسكينة وما إلى ذلك.
فأنا أحببت أن أشير في هذه القواعد الثلاث إلى أن منهج الوسطية يقوم على ثلاثة أصول: العلم، والعمل، ثم النتيجة في الأصل الثالث. وهي مسألة فقه الأصول والفروع والفرق بينهما، وفقه المحكم والمتشابه، وأن ما يجب على طالب العلم أن يمضي عمره فيه هو محكم العلم ومحكم العمل، وأن يدعو الناس من باب أولى إلى المحكم في هذا والمحكم في ذاك.
والمصنف من أول الكلام بدأ يتكلم عن الوسطية، وأن هذه الأمة وسط بين الأمم، ومعنى الوسط أي العدول الخيار، ثم إن أهل السنة والجماعة وسط في طوائف هذه الأمة.
أما مسألة عدد طوائف هذه الأمة فالله أعلم بها، فقد جاءت الأحاديث الصحاح أن هذه الأمة يقع فيها افتراق؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) فدلت هذه النصوص، ودل الواقع التاريخي أيضاً أن هذه الأمة حصل فيها افتراق، وجاء في حديث مشهور في السنن والمسند: (وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين) فإذا صح هذا الحديث -كما هو مذهب كثير من الحفاظ- قيل: إن فرق هذه الأمة ثلاث وسبعين، وإذا لم يصح قيل: العدد الله أعلم به، وحتى لو صح الحديث -كما هو مذهب كثير من الحفاظ، واختيار المؤلف- فإن طريقة السلف أنهم لا يرون الاشتغال بتعيين هذه الطوائف الثنتين والسبعين الخارجة عن السنة، وحينما لم يشتغل السلف بهذا فإن هذا هو مقتضى الشرع ومقتضى العقل؛ لأن الإنسان لا يعلم ماذا بقي من أيام الله في هذه الفترة، فلربما أن كثيراً من هذه الفرق لم تحدث، وأنت إذا رجعت إلى الأسماء التاريخية إن اعتبرت أصولها قلت: هي أقل من ثنتين وسبعين، وإذا اعتبرت فروعها الزائدة عن الثلاث والسبعين إلى المئات، جزمت بأنها أكثر من ذلك، ومن هنا كان الفقه أن لا يجزم في التعيين، وإنما يسلم بأن هذا على السنة وهذا ليس على السنة.
فالمقصود أن المصنف تكلم في أول هذه الرسالة عن وسطية أهل السنة والجماعة باعتبارها مسائل، وقال: إن المحافظين على أصول العبادات: الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان، والحج، والزكاة، ويحافظون على الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته.. إلى آخر أركان الإيمان الستة، فلكونها مسائل بينة لم يسع الوقت للتعليق على كل واحدة منها بعينها إنما علق على المقصود بالوسطية، وأن الوسطية تنبني على هذه الأصول الثلاثة: أصل العلم، وأصل العمل، ثم الفقه في هذين الأصلين بالتفريق بين الأصول والفروع، والتفريق بين المحكم والمتشابه.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الوصية الكبرى [2] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net