اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الوصية الكبرى [9] للشيخ : يوسف الغفيص
فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح؛ مثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كـالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر] .
الحاكم الذي كان بمصر هو الحاكم العبيدي ؛ فإن العبيديين الذين بنوا القاهرة في مصر أسسوا كثيراً من الأحوال المعمارية والمدنية، حكموا مصر مائتي سنة، وهم على مذهب الباطنية، ثم انتهى أمرهم بمجيء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
والمقصود هنا: أن من يُتعصب له من الشيوخ قد تكون حاله المعروفة والمستفيضة أنه من الأولياء والصالحين وأهل الاقتداء، لكن الإشكال الأكثر أن يكون المقتدى به يظن فيه أنه من أهل الولاية والصلاح مع أن عنده انحرافاً عن السنة وأصول السنة والجماعة؛ ولذلك قال المصنف: (فيمن يعتقد فيه الصلاح كـالحلاج )؛ فإن الحلاج كان رجلاً مائلاً إلى التصوف الفلسفي، وله كلام في وحدة الوجود، ونقلت عنه أمور كثيرة وكتب على وجه من الانحراف في الديانة، فلم يكن رجلاً محمود الحال، وقد افتتن به كثير من العامة، لكن هذا الافتتان من العامة ببعض الخاصة المنحرفين عن أصول السنة وأصول الإسلام العامة، لا يجوز أن يحكم على المفتتنين بهذا المعين بالحكم الذي يحكم به على ذلك المعين؛ لأن العامي قد يظن فيه خيراً، وخاصة في باب التصوف؛ فإن الخفاء فيه كثير؛ لأن السر فيه كثير، واللغة فيه لغة تقوم على الرمز، حتى إن ابن تيمية رحمه الله كان يقول: "إني كنت وبعض الإخوة نقرأ في الفتوحات المكية لـابن عربي " مع أنه إذا قرأت في آخر كلام ابن تيمية وجدت ماذا يقول في ابن عربي ؛ وذلك لأن بعض كلام هؤلاء يكون مقبولاً، وبعضه يكون مجملاً، وبعضه قد لا يصل إليه العامة، فلا يلزم أن العوام يعطون حكم الخواص باطراد، بل نظرية الاتباع والقياس هذه إنما تقال في الأمور الكلية، كالقول: إن الانتساب لهذا الرجل بدعة، أما الحكم التفصيلي فإن كل معين يعطى حكماً تفصيلاً بحسب ما علم من حاله المعين، أما أن يقال: أتباع فلان كلهم على مذهب فلان وعلى حكم فلان، فهذا ليس بلازم.
[أو يونس القيني ونحوهم، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده].
في كلام بعض أهل العلم أن الرسل بعثوا بتوحيد الألوهية، وأن توحيد الألوهية حقيقته يتضمن القول في الربوبية، فمن لم يعبد الله سبحانه الخالق الرازق لم يحقق لا توحيد الألوهية ولا توحيد الربوبية.
لكن فقه توحيد الربوبية مهم، وهذا لا يعني التقصير في العناية بتوحيد الألوهية، لكن إنما كان مهماً لأنه هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وهو أصل الدين الذي هو التوحيد، والتوحيد واحد، وهو معرفة الله وإفراده بالعبادة، وتقسيم أهل العلم للتوحيد إنما هو من باب الترتيب العلمي.
فالتوحيد حقيقته الشرعية معرفة الله، كما يقول ابن تيمية : "التوحيد معرفة الله وعبادته" أي: إفراده بالعبادة" فقضايا توحيد الربوبية تخفى على كثير من العوام، وهناك مصطلحات يجب الابتعاد عنها؛ فمثلاً: مصطلح الولي مصطلح شرعي، ومصطلح العارف وإن كان مصطلحاً ليس منصوصاً عليه شرعاً، لكن شأنه مقارب الحال، فهو لا يحمل معنى بعيداً مخالفاً للشرع؛ لأن العارف من المعرفة، والمقصود بالمعرفة هنا المعرفة بالشريعة والحقائق الشرعية، فهو مصطلح فيه سعة إذا ما اقتصد في تفسيره.
لكن ظهرت مصطلحات في بعض أحوال السلوك؛ كمصطلح القطب والغوث، فهذه المصطلحات يجب أن يبتعد عنها الخاصة والعامة من المسلمين السالكين؛ لأن فيها إدخالاً لمسائل التأثيرات القومية لبعض الشيوخ، وإعطاءهم بعض هذه الخصائص، وهذا من أوجه الانحراف عن توحيد الربوبية.
الرابط بين مسألة الغلو والاقتصاد في السنة: هو أن دفع التعصب ودفع الغلو لا يجوز أن يكون بغلو مطابق، وهذا يفوت على كثير من العامة المتبعين للسنة، ويجعلهم يتعصبون أكثر لما هم عليه من الخطأ، فقد يكون بعض العوام من المسلمين ضل على هذا الوجه فأول ما يأتيه من يتكلم باسم السنة والدعوة للدليل تفاجأ بطبيعة خاصة عنده، إما ضيق في الخلق أو شدة في التعامل، أو غلظ في الإنكار أو مبالغة في التخطئة، أو أحياناً تصل الأمور إلى تكفير فيما لا يصل الأمر فيه إلى ذلك.
وهذا يزيد الأمر تعصباً وإغلاقاً، ولذلك لا بد لدفع الغلو والتعصب الموجود والشائع عند كثير من عوام المسلمين اليوم لهذه الأوجه المحدثة في الإسلام، أن يكون ذلك اقتصاداً في السنة واتباعها والدعوة إليها.
إذاً: يدفع هذا التعصب بالاقتصاد في السنة؛ وإذا قيل: الاقتصاد في السنة فإنه يجمع معنيين:
المعنى الأول: هو اتباع السنة، وهذا يؤخذ من ذكر السنة.
المعنى الثاني: هو الفقه والاعتدال، وهذا تأخذه من كلمة الاقتصاد.
فمن يريد أن يصحح الغلو في مذهب آخر بغير السنة فلن يصل إلى نتيجة صحيحة، ومن يقصد إلى السنة لكن بغير اعتدال وحكمة واقتصاد فهذا ربما زاد الأمر سوءاً، ولو كانت أصوله العلمية أصولاً صحيحة؛ لأن الناس في التصحيح يحتاجون إلى علم، وهذا من المبادئ الأساسية، وليس من الآداب العامة، فإن بعض الناس لا يرى العلم إلا إذا قيل: قال الشافعي .. قال الحنفية.. قال فلان.. أي معرفة الفقه المقارن، والمذاهب العقدية والوصول إلى الآراء، وهذا سهل، لكن فقه الخلاف في العقيدة وفقه الخلاف في الفقه وفي أصول الفقه والسلوك هذا أمر مهم.
والناس في التصحيح يحتاجون إلى أمرين: الأخلاق والعلم، فإن الذي يأتي الناس بأخلاق بدون علم لا يصلح السماع منه؛ لأنه ينقلهم من خطأ إلى خطأ آخر، وهذا مثل ما يوجد في بعض الجماعات الدعوية الذين عندهم أخلاق لكن ما عندهم علم شرعي يقودهم إلى تحقيق السنة واتباع السلف، فتجدهم يدعون الناس بمجرد الطريقة الأخلاقية العامة، لكن لا يهمهم انتقلوا من أين إلى أين!
ومن يأتي أيضاً بالعلم وحده لا يفيد؛ لأن النفوس المتعصبة آلفة، والمشركون مع أنهم على جاهلية جهلاء إلا أن تعصبهم أغلق عندهم الحقيقة، مع أنها واضحة جلية، وفي ذلك يقول أبو طالب:
ولقد علمت بأن دين محمدمن خير أديان البرية دينا
وهذا ليس مقارنة للمسلمين اليوم بالجاهليين، لكن من باب الأولى، أي: إذا كان الجاهلي الذي يدرك أنه على جاهلية وعلى خرافة وعلى أسطورة، وعلى كفر، لكن حجته: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] فكيف بمن عنده أصول يدرك أنها من الإسلام، وأنه على جزء كبير من الإسلام؟!
ولذلك في أول مخاطبة لـشيخ الإسلام لهذه الطائفة قال: "قد منّ الله عليكم بالانتساب للإسلام، ثم يقول: منّ الله عليكم بالانتساب للسنة"، مع أن الذين خوطبوا بهذا الكلام لم يكونوا على طريقة عدي بن مسافر الأولى، بل هؤلاء قد دخلت عليهم كثير من الانحرافات.
فهكذا الفقه الأخلاقي للوصول إلى الحقيقة، والتصحيح، والدعوة إلى السنة، واتباع السلف رضي الله عنهم.
فالمقصود هنا: كما أنه يذم امتحان الناس بالانتساب إلى أسماء معينة، فيعاب امتحان الناس بالاعتداد بكلمات أو عدم الاعتداد بها، أو بالتزامها أو عدم التزامها.
فإن التعبير واسع، واللغة واسعة، فقد يأتي بعض الشيوخ وبعض طلبة العلم باصطلاح معين في تقرير وجه من الأصول أو من السنة أو ما إلى ذلك، فلا ينبغي أن يكون هذا الاصطلاح -حتى لو كان صحيحاً- أن يكون شعاراً ملزماً يفرق به بين صاحب السنة ومن ليس كذلك، ففرق بين قولك: إنه يستعمل، فهذا لا بأس به، وفرق بين قولك: إنه استعمال مشروع، فهذا أيضاً يتوسع فيه، وفرق بين قولك: إنه من ترك ما يتضمنه هذا المعنى فإنه ينكر عليه، فإن بعض الناس قد يوافق المعنى، لكنه لا ينسجم مع هذا الاصطلاح.
وهذا الفقه نجده في كلام أئمة السلف فإننا نجد جواباتهم متنوعة، فمنهم من يقول: السنة هدي الصحابة، فهل نقول: إن في كلامه نظراً؛ لأنه لم يقل: الكتاب والسنة وهدي الصحابة؟
الإمام أحمد يقول: "لا يتجاوز القرآن والحديث" فلم يذكر كلام الصحابة في هذه اللفظة.
وبعضهم يذكر القرآن ولا يذكر السنة، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران:103] ... وهكذا.
فعندما يكون الذين يستعملون هذه الكلمات يتواردون على مقصود واحد، ومعنى واحد فهذا مما يوسع فيه.
لكن يكون الأمر مشكلاً حينما يقول القائل: القرآن، ويقف؛ لأنه لا يسلم بحجية السنة، فهذا لا يقال عنه: إنه استعمل كلمة استعملها الزهري من قبل؛ لأن هذا يختلف، فإننا إذا رجعنا إلى التضمن تحت كلمة الزهري وجدنا أن مقصوده بالقرآن ما جاء به القرآن، ومما جاء به القرآن اتباع النبي، ومما جاء به القرآن اتباع سبيل السابقين الأولين، فهذه كلمة جامعة.
وعليه: فوضع كلمات معينة كشعار منزل هي المعبرة عن منهج أهل السنة فقط، هذا ليس منهجاً صحيحاً، بل كل استعمال استعمله السلف فإنه يسوغ استعماله: كالكتاب والسنة والإجماع.. التمسك بالسنة.. التمسك بالأثر.. التمسك بالقرآن.. وهكذا.
أما من يكون عنده لحن في القول، وحينما يذكر القرآن يقصد بذلك: ترك فرضية السنة، أو حينما يقول: السنة ولا يقول: هدي الصحابة؛ وهو يشير بذلك إلى عدم الاعتداد بهدي الصحابة وفقههم فهذا باب آخر.
أما داخل منهج أهل السنة العام، ففرق بين القيود البيانية والقيود الشرعية اللازمة؛ فمثلاً: سهل بن عبد الله التستري لما قيل له: ما الإيمان؟ قال: الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة، فقيل له في ذلك، فقال: إذا لم يكن على السنة فهو بدعة. فهذا كلام صحيح، لكن كلمة (اتباع للسنة)، هل يلزم كل إمام قال: الإيمان قول وعمل ونية أن يقول: واتباع للسنة؟ الجواب: لا؛ لأن من يقول: الإيمان قول وعمل، لا يقصد دخول الأقوال البدعية.
فما دام أن المتكلم إمام من أهل السنة والجماعة، ويتكلم عن الإيمان في الكتاب والسنة، وهذا واضح من السياق، فاجعل هذا -إن صح التعبير على أقل تقدير- اجعله من باب: وحذف ما يعلم جائز، فإذا ضاقت بك الأمور فاجعل هذا من باب حذف المعلوم، وهو لسان معروف عند العرب، بل ومعروف حتى في القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أحياناً بعض أهل العلم يرى أن هناك تقصيراً في السنة أو في اتباع السلف، ونحو ذلك، فيذكر بعض هذه القيود، فنقول: هذا فقه، فإذا استدعى المقام أن يذكر هذا القيد فليذكر، وإذا استدعى المقام أنه لا يلزم ذكره، فلا يلزم ذكره، ومن لم يذكره وهو من أصحاب السنة لا ينكر عليه أو يقال أنه مخالف للسنة.
فالذي أقصده باختصار: أن امتحان الناس بالأسماء كما يقول ابن تيمية : لا أصل له، فكذلك امتحانهم بكلمات اختصت بفقيه أو عالم، امتحانهم بهذه الكلمات معصية، بل الناس يمتحنون بكلمات القرآن والسنة وما توارد عليه الإجماع، إلا إذا كان له كلام أو أحوال تنافي ما هو من السنة فهذا- كما أسلفت- باب آخر.
أما الذي قد يعرض أحياناً لبعض طلاب العلم فيكون له طريق معينة، وكلمات معينة يريد أن يجعلها شعاراً ملزماً، فقد تقبل في بيئة ولا تقبل في بيئة أخرى، ومن هنا ذكرت من أنواع فقه كلمات الكتاب والسنة والرد إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام.
من الأمور التي ختم بها الإمام ابن تيمية هذه الرسالة: مسألة أنواع من الغلو التي طرأت على كثير من أهل السلوك، وكما أشرت إلى أن هذا يتمثل إما في باب المعرفة والتصديقات، أو في باب توحيد الألوهية، وهذه هي التي يغلظ على من يدعو إليها، وهي فتنة العامة بما يخالف أصول التوحيد في ربوبية الله سبحانه وتعالى وألوهيته وعبوديته.
ثم ذكر الفتن التي تقع عند القبور، وما يلحق بذلك، فهذا أيضاً له أمثلة يمكن أن تقرأ في عرض كلامه.
إلى هنا نصل إلى نهاية التعليق على هذه الرسالة أو بعبارة أخرى: على منهج هذه الرسالة في مسائل السلوك والتعبد، وما دخلها من الإفراط أو التفريط أو الغلو في بعض الصور، وفقه التصحيح في هذا المقام، والله تعالى أعلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الوصية الكبرى [9] للشيخ : يوسف الغفيص
https://audio.islamweb.net