إسلام ويب

توحيد الله تعالى في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته هو أقل ما يلزم العبد وأول ما يجب عليه أن يحققه، وبغير ذلك لا يقبل الله تعالى منه صرفاً ولا عدلاً.

الشرك في توحيد الربوبية شرك جزئي

موضوعنا حول مقدمة الكتاب في تقرير التوحيد، ومعرفة وحدانية الله سبحانه وتعالى، وسبب تسمية هذا العلم بالتوحيد، وأهمية هذا النوع من العلم، والتوحيد الذي دعت إليه الرسل، والتوحيد الذي أقر به المشركون، والتوحيد الذي يقرره أهل الكلام والمتصوفة ويدورون حوله.

ولا شك أن معرفة هذه الأنواع تكسب الإنسان رسوخاً في الإيمان؛ فإن من عرف هذه الأنواع امتلأ قلبه بالإيمان، ومتى امتلأ القلب بالإيمان وباليقين انبعثت الجوارح بالأعمال الصالحة وتورع المؤمن عن السيئات، هذه فائدة معرفة هذه العقيدة، أنها إذا رسخت في القلب صارت سبباً لاستكثار المؤمن صحيح العقيدة من الأعمال الصالحة وبعده عن السيئات، فاستحق بذلك ثواب الله.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك].

معنى هذا أن جميع الخلق يعترفون بتوحيد الربوبية، إلا بعض الأفراد أو بعض الطوائف، والذين ينكرونه إنما ذلك في الظاهر عناداً، كفرعون حيث قال: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، فهو في الباطن معترف بصدق موسى، كما في قوله: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الإسراء:102]

أما بقية الأمم فإنهم يعترفون بأن للوجود خالقاً، وهذا هو توحيد الربوبية، وأن هذا الكون مفتقر إلى من أوجده، وهذا هو توحيد الربوبية، وأن الموجد واحد، لكن هناك أنواع من الشرك في الربوبية جزئيات.

شرك المجوس الذين جعلوا الوجود صادراً عن اثنين، فجعلوا الخير من خلْق النور، وجعلوا الشرور من خلق الظلمة، أي: أنهم جعلوا خالقين: النور والظلمة، فهذا نوع من شركهم، ومع ذلك ما جعلوهما سواء، بل النور عندهم خير، والظلمة شريرة، وهذا شرك في الربوبية.

وهناك شرك آخر عند المعتزلة وإن لم يكن صريحاً، وهو أنهم يزعمون أن العباد يخلقون أفعالهم، وأن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، ولأجل هذا يسمون (مجوس هذه الأمة)، وهذا شرك منهم وإن كانوا يدعون أنه من باب تنزيه الله تعالى -في زعمهم- عن أن يخلق المعصية ويعاقب عليها، ولعله يأتينا إن شاء الله الرد عليهم في موضعه.

وهناك بعض من المشركين من الفلاسفة ومن المتصوفة ونحوهم يشركون في أنواع من الربوبية، وأقوالهم في ذلك غريبة لا ينبغي أن يلتفت إليها.

والحاصل أن جميع خلق الله -إلا النادر الشاذ- يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله.

انتظام العالم وإحكام خلقه دليل على وحدانية خالقه

قال رحمه الله: [فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس بيَّن القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور :

أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.

وإما أن يعلو بعضهم على بعض.

وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد وملك واحد ورب واحد لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه، كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان].

حين نتأمل الآيات التي جاءت في التدليل على توحيد الربوبية فإننا نجدها كثيرة، يقرر الله تعالى توحيد الربوبية، وذلك بذكر خلقه للمخلوقات، كقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى:29]، وكقوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان:10] إلى قوله: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] تقرير هذه الآيات للتوحيد يتبين منه أن هذا يراد به نتيجته، وهي أن من عرف أن الله تعالى واحداً في ربوبيته لم يعبد معه غيره، وقد ذكرنا أن ابن كثير قال عند تفسير قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] قال: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.

فمن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] فالله تعالى ما اتخذ من ولد؛ إذ لو كان له ولد - تعالى عن ذلك- لكان الولد يشارك أو يشابه أباه، والله منزه عن ذلك، (وما كان معه من إله) فلو كان معه إله لزاحمه في الخلق، وفي التدبير، وفي التصرف، وفي الملكية، وهذا معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق).

ومن المشاهد أن ملوك الدنيا يتنافسون، وكل منهم يحب أن يكون هو الأقوى وهو المسيطر، وقرأنا عن بعضهم أنه لما قتل قريباً له بسبب الملك قال: إن هذا من أحب الناس إلي ولكن الملك عقيم. يعني: لا أريد من يزاحمني في الملك. فإذا كان هذا في حق ملك من ملوك الدنيا فبطريق الأولى أن يقال: إن الله تعالى لا شريك له، فلو كان له شريك في الخلق والملك لزاحمه ولظهرت آثار هذه المزاحمة، وهو معنى قوله: ( إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ) يعني: لو كان معه آلهة لكان كل إله ينفصل عن الآخر بخلقه ويعتزل، ويحاول أن يكون له السيطرة، وأن يكون له العلو على الآخر، وأن يكون هو المتمكن.

وإذا نظرنا فيما حولنا فإذا الأمر منتظم، وإذا هذا الخلق وهذا العالم يسير على هيئة وحالة واحدة لا يختل، ولا يقع فيه تغير، وهذا أكبر دليل على أن الذي خلقه ليس له شريك، وأنه ليس له مزاحم وليس معه إله آخر، وإلا لذهب كل خالق أو كل إله بخلقه وانفصل كما يحصل من ملوك الدنيا، فإن ملوك الدنيا -كما هو مشاهد- كل منهم ينفصل في مملكته -مع أنها ملكية مؤقتة- وكل يدبر مملكته خاصة، بل كل يحاول التغلب على الآخر، وهذا ونحوه دليل على أن الخالق واحد.

وتسمى هذه الآية دليل تمانع، ودلالة التمانع يقول بها المتكلمون، فيستدلون على أن الخالق واحد بدلالة التمانع، فقالوا: لو كان للعالم خالقان متساويان فأراد أحدهما تحريك الجسم وأراد الآخر تسكينه، أو أراد أحدهما إحياءه وأراد الآخر إماتته فإما أن يحصل مراد واحد دون واحد، فيكون أحدهما قادراً والآخر عاجزاً، وإما أن يحصل مرادهما جميعاً وهو محال، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً وهو محال، فإذا حصل مراد واحد منهما فهو القاهر الغالب، والذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا خالقاً، وكذلك ما جاء في الآية، فلو كان معه إله لاستقل كل إله بما خلق (ولعلا بعضهم على بعض)، فلما لم يحصل ذلك دل على أن الخالق واحد.

إثبات توحيد الربوبية يلزم منه إثبات توحيد الألوهية

قال رحمه الله: [فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية].

يقول: إذا عرفنا توحيد الربوبية فإنه يلزم منه توحيد الإلهية، وقد ذكرنا أن بعض المشايخ يقولون في تقريرهم: اعرفوا الله بأفعاله ووحدوه بأفعالكم. وأفعال الله هي خلقه وتدبيره، فإنها هي الدلالة على معرفته، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته. فتعرف الله بأفعاله، (ووحدوه بأفعالكم) يعني: خصوه بعبادات، فهذه الآية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91] والآيات الأخرى تقرر توحيد الربوبية، وإذا استقر توحيد الربوبية أصبح دليلاً على توحيد الإلهية، أي أن الإله الخالق الرازق المدبر المتصرف في هذا الكون الذي يجري هذه الأشياء كما هي ويحيي ويميت، والذي ابتدع هذا الكون من غير سابق خلق لا شك أنه الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فيكون هذا دليلاً على توحيد العبادة.

قال رحمه الله: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان ...إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب.

وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا].

هذه الآية في سورة الأنبياء لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] هي من أوضح الأدلة على توحيد العبادة، وفيها أنه إذا قدر أن فيهما آلهة إلا الله فإن كل إله أو كل خالق يدبر ما من شأنه أن يستطيعه، ويحرص على أن يتغلب على من إلى جانبه، فلا تنتظم هذه الأفلاك ولا هذه المخلوقات، بل يحصل فيها شيء من الخلل، ويحصل فيها شيء من الاضطراب، ومثل ذلك مشاهد، فإنه لو قدر أن هناك شريكين في أمر فكل منهما يحب أن يكون هو المسيطر وهو المتسلط، ولكان كل منهما يهمل الذي في جانب الآخر، فيقع الإهمال والاختلال، فلما رأينا الأمور منتظمة عرفنا أنه ليس فيهما آلهة إلا الله وحده.

قال رحمه الله: [وأيضاً فإنه قال : (لفسدتا)، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا، ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد].

الله تعالى يقول في هذه الآية: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ [الأنبياء:22]، وقد استنبط المؤلف أن هذه الآية دليل على إثبات توحيد الإلهية وليس توحيد الربوبية، فهو لم يقل: لو كان فيهما أرباب، ولا ملوك، ولا ملّاك، ولا خالقون. بل قال: (آلهة)، والإله هو المعبود المألوه كما سيأتي إن شاء الله.

وأيضاً فإن الله قال: (لو كان فيهما) ولم يقل: لو كان في الوجود. وهذا دليل على أنه بعد إيجادهما، والله قال: (لفسدتا)، ولم يقل: لم توجدا. فالآية تقرر توحيد الإلهية ولكنه متوقف على توحيد الربوبية.

فيخبر تعالى بأن الإلهية لا تصلح إلا لإله واحد وهو الله، وأن من جعل معه آلهة أخرى فإنه قد ضل، وقد أخبر الله بأن المشركين يجعلون معه آلهة، كقوله تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ [الأنعام:19]، ولكن تلك الآلهة آلهة مخلوقة ضعيفة لا يصلح أن تتخذ آلهة، وهذا في شرك الأولين، وكذا في شرك الآخرين، وإن كانوا لا يعترفون بتسميتها آلهة.

والحاصل أن الإلهية الحقة إنما هي للخالق وحده، وهذه الآية في توحيد الإلهية: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ [الأنبياء:22]، ولكن توحيد الإلهية مسبوق بتوحيد الربوبية، ولا يعترف العبد بتوحيد الإلهية إلا بعدما يعترف بتوحيد الربوبية.

تضمن توحيد الألوهية لتوحيد الربوبية دون العكس

قال رحمه الله: [وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى : أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال تعالى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، وقال تعالى : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:42]].

معنى كونه متضمناً لتوحيد الربوبية أنه لا يمكن أن يعترف بأن الإلهية الحقة لله تعالى وهو ينكر أن يكون هو رب العالمين، فمن اعترف بأن الله هو الإله الحق اعترف بأنه الخالق الرازق المدبر المتصرف، فتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الإلهية دون العكس؛ إذ ليس كل من اعترف بتوحيد الربوبية يعترف بالإلهية، فهناك من يعترف بتوحيد الربوبية ويشرك في توحيد الإلهية.

والحاصل أن هذه الآيات ونحوها تقرر توحيد الإلهية، ولكن عرفنا أنه مسبوق بتوحيد الربوبية ومتوقف عليه.

وتوحيد الربوبية يعرف بالأدلة والآيات والفطرة كما تقدم، ولكن توحيد الإلهية هو الذي يحتاج إلى أدلة، ويحتاج إلى بيان، ويحتاج إلى تعليم، ولهذا جاءت الرسل بالتعليم لتوحيد الإلهية، بأن يقولوا للناس: وحدوا الله بالدعاء، ووحدوه بالرجاء، ووحدوه بالاستعانة به، ووحدوه بالخوف منه، ووحدوه بالخشية، ولا تستعينوا بغيره، ولا تستغيثوا بسواه. إلى آخر أنواع العبادة، هذا هو توحيد الإلهية الذي يحتاج إلى تفصيل.

افتقار سائر المخلوقات إلى الله يمنع من اتخاذها آلهة من دونه

قال رحمه الله: [وقال تعالى : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:42]، وفيها للمتأخرين قولان :

أحدهما : لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته.

والثاني: -وهو الصحيح المنقول عن السلف كـقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره-: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه كقوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل:19]، وذلك أنه قال: ( لو كان معه آلهة ) لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ [الإسراء:42]، وهم لم يقولوا : إن العالم له صانعان. بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء وقالوا : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] بخلاف الآية الأولى].

في تفسيره لهذه الآية لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:42] رجح أن السبيل هنا القربى، يعني: لو قدر أن هناك آلهة سوى الله لكانت تلك الآلهة تتقرب إلى الله، وتتوسل إليه وتبتغي السبيل إلى رضاه، وإذا كان كذلك فإن هذا هو الأولى بمن يتخذ تلك الآلهة.

وقد دل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:56-57] يخبر بأن أولئك الذين تدعونهم -أيها المشركون!- خير منكم؛ فإنهم يدعون الله تعالى ويتوسلون إليه بالأعمال الصالحة. والحاصل أن الآية صريحة بأنه ليس هناك آلهة غير الله، فلو كان هناك آلهة إلا الله لكانت تلك الآلهة تتقرب إلى الله وتبتغي الوسيلة إليه وتعبده وتوحده.

والصحيح أنها لا تصلح إذا كانت كذلك لأن تكون آلهة؛ إذ كيف يكون إلهاً من هو عبد لغيره؟ كيف يصلح أن يعبد من هو عابد لغيره؟ إذا كانت تعبد الله فما لك -أيها الإنسان- تعبدها؟ اعبد الذي هي تعبده وحده.

أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل

قال رحمه الله: [ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان : توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.

فالأول : هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول ( الحديد ) و( طه )، وآخر ( الحشر )، وأول ( الم تنزيل السجدة )، وأول ( آل عمران )، وسورة ( الإخلاص ) بكمالها، وغير ذلك.

والثاني : وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]و قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] وأول سورة ( تنزيل الكتاب ) وآخرها، وأول سورة ( يونس ) وأوسطها وآخرها، وأول سورة ( الأعراف ) وآخرها، وجملة سورة (لأنعام )].

مشهور عند الطلاب حتى الأطفال منهم أن أنواع التوحيد ثلاثة:

توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.

والشارح هنا ذكر أن التوحيد نوعان: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد.

وهذان النوعان يتضمنان الأقسام الثلاثة التي ذكرنا، فإن توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وتوحيد الإثبات هو توحيد الصفات، وتوحيد الطلب والقصد هو توحيد العبادة أو الإلهية، هذه أقسام التوحيد.

فتوحيد الربوبية هو توحيد المعرفة، أي: معرفة الله، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته التي يستدل بها على عظمة ذاته. وهذا النوع هو توحيد الذات أو إثبات الذات، ويسمى توحيد الربوبية.

أما توحيد الإثبات فهو توحيد الصفات، وهو اعتقاد أن كل صفة لله تعالى فإنه منفرد بها، لا يشبه غيره في شيء من صفاته، فيقال -مثلاً-: صفاته الذاتية كوجهه ويده وسمعه وبصره لا تشبه صفات المخلوقين، نوحده بها ونقول: إنها لائقة به.

وكذلك الصفات الفعلية، فيقال: إن الله يحب، ويرحم، ويغضب، ويرضى، ويكره، ويمقت، وإن الله استوى، ويجيء، وينزل كما أخبر، وهو في كل ذلك لا يشبهه أحد من خلقه، فهو منفرد بذلك وحده، هذا توحيد الصفات.

وتوحيد الذات هو الاعتقاد أن الله واحد بذاته ليس معه شريك في الخلق.

وتوحيد الإثبات هو اعتقاد أن الله واحد في صفاته لا يشبهه أحد من مخلوقاته في شيء من خصائص صفاته.

وقد اجتهد السلف رحمهم الله في تقرير توحيد الصفات، وما ذاك إلا لأنهم ابتلوا في زمانهم بمن أنكره أو بمن غلا في إثباته, فقد أنكره قوم -وسموهم الجهمية والمعتزلة- حيث نفوا صفات الله تعالى ذاتية كانت أو فعلية، وغلا فيه قوم -وسموهم المشبهة- حيث زادوا في الإثبات حتى جعلوا صفاته كصفات خلقه، فاجتهد السلف رحمهم الله في إثبات ذلك، وقرروه أتم تقرير، وكتبهم بحمد الله موجودة ميسرة، وهي الكتب التي سموها (كتب السنة)، أو (كتب التوحيد)، أو (كتب الإيمان)، أو (الاعتقاد)، أو (الأسماء والصفات)، أو ما أشبه ذلك من الأسماء، فإذا وجدت للسلف كتاباً باسم (كتاب السنة) فإنه يعني الصفات، أو وجدت كتاباً باسم (التوحيد) فإنه يعني توحيد الصفات، أو وجدت كتاباً باسم (الاعتقاد) فإنه يعني هذا الباب، أو وجدت كتاباً باسم (الأسماء والصفات) فإنه يعنى به هذا الأمر، أو وجدت كتاباً باسم (الإيمان) فإنه يعنى به هذا التوحيد.

وأما توحيد الطلب والقصد فهو توحيد الإلهية، ومعنى الطلب: السؤال. والقصد: التوجه بالقلب إلى الله، فالسؤال يسمى طلباً، وهو من حق الله، والسائل هو الذي يقول -مثلاً-: أسألك رضاك. أسألك ثوابك. أسألك جنتك. أسألك عطاءك. هذا توحيد في الطلب، والتوحيد في القصد أن يكون قلبه متوجهاً إلى ربه.

فهذا النوع يسمى التوحيد الطلبي، ويسمى التوحيد القصدي والتوحيد الإرادي؛ لأنه مراد من العباد، ويسمى التوحيد العملي؛ لأنه أعمال يعملونها، ويسمى توحيد الإلهية وتوحيد العبادة.

أما الأول فيسمى التوحيد العلمي والتوحيد الخبري؛ لأنه يعتمد على الأخبار، ويسمى التوحيد الاعتقادي؛ لأنه عقيدة يعتقدها الإنسان، ويسمى توحيد الصفات أو توحيد الذات أو توحيد الربوبية، فهذه كلها أسماء لتوحيد واحد.

فإذا قيل: ما هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي؟ فقل: هو توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية.

وإذا قيل: ما هو التوحيد الطلبي الإرادي القصدي العملي؟ فقل: هو توحيد العبادة.

والأدلة على ذلك كثيرة، فإن القرآن قد وضح ذلك كثيراً، فسورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وهو توحيد الأسماء والصفات.

وسورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] في التوحيد الطلبي القصدي الإرادي، وهو توحيد العبادة أو الإلهية، والسور الأخرى متضمنة لهذا ولهذا، فأول سورة الحديد في الأسماء والصفات، وكذلك آخر سورة الحشر، وكذا آيات كثيرة متفرقة في القرآن.

وأول سورة الأعراف وآخرها وغيرها من السور في التوحيد العملي الذي هو توحيد الطلب والقصد.

فإذا تأملنا هذه الآيات وجدناها تبين هذا النوع وتحث عليه وترغب فيه، فتدعو إلى معرفة توحيد الربوبية حتى يرسخ في القلب، ثم ينبعث معه أو منه توحيد العبادة حتى يكثر العبد من أنواع القربات والعبادات.

تضمن كل سور القرآن لنوعي التوحيد

قال رحمه الله: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.

فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] توحيد الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] توحيد مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] توحيد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد].

يقول: إن جميع القرآن يدور حول التوحيد، فالإخبار عن الله تعالى في قوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [الحشر:22] هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحشر:24] يعتبر توحيداً، لكنه توحيد الذات أو الربوبية.

كذلك نقول في الأوامر، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ [النساء:1] هذا توحيد، وهو توحيد عبادة؛ لأنه أمر بعبادة الله.

كذلك ما في القرآن من الأحكام، كالعبادات والصلوات والقربات هذه مكملات التوحيد وثمرات التوحيد، فإن العبد إذا علم أن الله هو الواحد عبده، فأمثلة العبادة هي الصلوات والصدقات والقربات، كذلك ما في القرآن من محظورات، ومن النهي عن المحرمات، والنهي عن الفواحش والمنكرات، فهذه اجتنابها يكمل التوحيد وفعلها ينقص ثواب التوحيد، فإن المعاصي تنقص ثواب التوحيد، فينهى عنها حتى يكمل التوحيد.

كما أن في القرآن قصصاً -كقصة نوح وقومه، وهود وقومه، وشعيب وقومه- يظهر فيها نجاة قوم لأجل التوحيد، وهلاك آخرين لأجل مخالفة التوحيد.

وفي القرآن ذكر الجنة وثوابها والدعوة إليها، والجنة هي ثواب أهل التوحيد، وفيه ذكر النار والعذاب والنكال والغضب وما أشبه ذلك عقوبة لأهل الشرك المبتعدين عن التوحيد.

والأمثلة التي ضربت في القرآن كلها لأجل تقرير التوحيد، مثل قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً [الحج:73] يعني: لا تدعوا إلا إلهاً واحداً، فإن هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تخلق ذباباً؛ لأنها هي في نفسها مخلوقة، وإلى جانب ذلك فهي أيضاً ضعيفة. فهذا في تقرير التوحيد.

ومثل قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ [الزمر:29] فيه تقرير التوحيد، فإن السلم هو الخالص، يقول: الذي يعبد الله تعالى هو مثل من يملك عبداً واحداً، والذي يعبد هذا وهذا وهذا لا شك أنه مثل العبد الذي بين شركاء، كل منهم ينتزعه لنفسه، وكل منهم يقول: أريده في خدمتي، وهم مع ذلك متشاكسون بينهم شيء من البغضاء وشيء من الاختلاف والجدال والاضطراب، ولا شك أن كل هذه الأمثلة تقرير للتوحيد.

فإذاً إن كانت الآيات قصصاً فهي في تقرير التوحيد، وإن كانت وعداً ووعيداً فهي في العقاب الذي يترتب على ترك التوحيد والثواب الذي يترتب على فعل التوحيد، وإن كانت أحكاماً وأوامر ونواهي وواجبات ومحرمات فهي من مكملات التوحيد أفعالاً أو صروفاً، وإن كانت أوامر بالعبادة ونحوها فهي أمثلة أنواع التوحيد، فأصبح القرآن دائراً على التوحيد، وذلك دليلٌ على أهميته.

ولأجل ذلك صار التوحيد شرطاً في قبول العبادات، فلا تقبل الصلاة إلا بشرط الإسلام، ولا تقبل الطهارة إلا بشرط الإسلام وهو التوحيد أصلاً، وكذا لا تقبل الصدقات ولا القربات ولا الصيام ولا الحج وما أشبه ذلك إلا إذا تقدمها شرط واحد وهو التوحيد.

والفاتحة -التي هي أكثر سورة نكررها في صلاتنا كل يوم- تفسيرها يدور حول التوحيد في أولها ووسطها وآخرها، وكذا بقية السور.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [4] للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

https://audio.islamweb.net